سوق الهرج في البصرة ... والشيخ هاشم الجواهري ، في مكتبته الصفراء يتحدث من خلال لحيته البيضاء عن البرزخ الذي تعيش فيه الأرواح قبل يوم الحساب وعن حوريات الجنة ولكن الشاب النحيف الجالس قبالته لا يستمع إليه . فأولى به أن يعرف كيف يعيش الأحياء في هذه الأرض .
وأبناء الريف يحملون معهم إلى المدينة زاد الشتاء المطل .. وزاد ليالي الشتاء ألف ليلة وليلة وقصة عنترة ، والمقداد والمياسة ، والشيخ الملتحي لا يتساهل في أسعار الكتب ... ومهدي عيسى الصقر ، يتطلع في وجوههم ويحلم بقصص يكتبها هو لهؤلاء وعن هؤلاء .
أبطال قصصه يبحثون عن الحب خلال بحثهم الدؤوب عن الخبز ... عن الحب الذي لا يكلف مالاً ولا وقتا ، عن حب يومي كالخبز اليومي . هذا « حنتوش » في ذلك الحي المظلم المزدحم بصرائف الطين ، المعروضة للبيع ليس في جيبه غير درهم . واستقبلته امرأة ذاوية بابتسامة لا روح فيها « أهلا بالشباب . تفضل » فيسأل « أول بيش ؟ » وحين تقول «درهمين » يحدق حنتوش فيها فلا يجد ما يغري سوى بياض بشرتها ويساومها وتساومه حتى تقول « سبعين أي ابن الحلال أكو واحدة تنطيك نفسها بأقل من سبعين فلس ؟ » وهذا « علي » الحلاق يشيع رأس الفتى ذي الشعر اللامع المصفف حتى يختفي في الزحام ، ثم يلتف إلى الصغير الذي كان ينظف بلاط الدكان مما تساقط عليه من شعر الزبون .
ويسأل « ليش تأخرت اليوم ؟ » فيرفع كاظم عينيه في شيء من الخوف ، ويجيب « أبوي ضرب أمي » ويثير هذا الجواب فضول الحلاق ، فلا يسأل عن العلاقة بين تأخر الصبي وبين ضرب أبيه لأمه ، وحين يعرف أن « هندال » ضرب زوجته لأنه كان سكران ... يسترسل في حلم طويل ، يتمنى فيه ويشتهي ، ويتذكر .. وتلح صورة أم كاظم عليه ، جسدها المكتنـز ، والخرق الصغير في ثوبها الرث يكشف عن لحم كالحليب ، شدت إليه عيونه . كان قد اضطر إلى استبقاء كاظم في الدكان إلى ما بعد الثامنة ليلا ... فجاءت أمه قلقة تسأل عنه والليلة ، الليلة سيستبقي الصغير إلى ما بعد الثامنة علّها تأتي ...
وحتى « عوفي » الذي يقبع هو وخرافه الخمسة في ظلمة الليل والضباب في انتظار « قطار الحمل » ... حتى « عوفي » يبحث عن الحب في أثناء انتظاره للقطار . جاء قطار الركاب ، ووقف في المحطة . وكانت العربة التي أمامه من عربات الدرجة الأولى ومن خلف زجاج النافذة تراءى لعوفي وجه فتاة فاتنة .. وعوفي يحدق فيها بشراهة . وصرخ القطار ، فتنبه عوفي وراح يشبع نظره من هذه الحسناء...
ومهدي عيسى الصقر مخلص لفنه لا يكتب إلا وهو ممتلئ أن أشخاص قصصه هم الذين يفرضون عليه أن يكتب كأنهم ينضجون من أعماقه فيوشك ان يختنق إن لم يكتب . وهو يعيش كل لحظة من حياته يقرأ ويلتقط ، ويختزن التجارب والملامح ، والأحاديث والعواطف .
كان منذ بضع سنوات يملك دكانا صغيرا يبيع الأقمشة فيه ويكتب القصص فيه أيضا . كان الزبون ، في نظره نموذجا بشريا قد يصبح بطلا لقصة ... وليس مشتريا لم يكن يصبر على مساومة الزبائن ، إلا الذين يخمن من مظاهرهم ، ان فيهم زادا يتزود منه القصاص فيه لا التاجر ، وخسر تجارته ولكنه ربح نماذج لقصص منها ما ظهر ومنها ما سيظهر ذات يوم .
يوازن في قصصه بين العالم الداخلي والعالم الخارجي فهو يجمع في قصصه القصيرة بين طريقتي دستوفسكي وتولستوي في كتابة الرواية ولكنه لا يهتم بوصف ملامح أبطاله الخارجية وانما يقصر اهتمامه على وصف حركاتهم ، والاطار الذي يتحركون فيه ولعل هذه حسنة من حسناته ، وليس عيوبه لأنه لا يترك المجال مفتوحا أمام القارئ ليختار الملامح التي يريدها لهذا البطل أو ذاك ، بعد أن عرف مهنته ومنـزلته الاجتماعية ، وأسلوبه في التحدث ..
وبعد أن عرف انفعالاته وردود أفعال الآخرين إزاءه .
أكثر شخصياته من الفئة الريفية الفقيرة النازحة إلى مدن يراها هؤلاء القرويون مدنا بالقياس إلى الريف .. أو من عمال المدن
ويكتب عن تجاربه هو أحيانا ، فيكون البطل من الطبقة الوسطى ، من سكان المدينة وبما اجتذبته حياة اللهو فيها فترة من حياته ، ولكن الريفي كامن في أعماقه في النهاية ... وتنتصر الحياة الزوجية المستقرة ، بين بكاء الأطفال وضجيجهم الحلو هذه هي الحياة التي يعرفها القرويون ويؤثرونها أكثر مما يعرفها ويؤثرها أبناء المدينة .
والحوار في قصصه تبعا لهذا باللغة الدارجة إذا كان الأبطال من الفئة الأولى ، وبلغة هي بين العامية والفصحى ، إذا كانوا من الفئة الثانية ، ومهدي عيسى الصقر متمكن من السيطرة على الحوار ... فهو ينبض بدفء الحياة ولا تشعر فيه بتكلف ولا اصطناع ، فلنقرأ هذا المقطع من قصة الضباب :
« ويدس عوفي يده في جيب سترته الممزقة ويخرج بضعة دنانير هي ثمن الخراف الخمسة التي باعها في المدينة ويعد النقود للمرة العاشرة وتنظر إليه « نوفة » من طرف الكوخ وتحك بأظافرها الطويلة رأسها الاشعث ، ثم تسأله
ـ عوفي موش تريد تبيع الهايشة ؟
ـ ولج الهايشة نافعتنا نبيعها ونسكت ؟ شلون ؟
ـ اذا ما تبيعها يكتلها الغطار مثل ما كتل هايشة بيت زاير فرهود »
ولنقرأ بعد ذلك ، هذا المقطع من « بكاء الأطفال » انه يود لو قام القطار قبل موعده لتهدأ قليلا لكن ابنه لا يزال يبكي ، فالتفت إلى زوجته :
ـ اشغليه بحق السماء
ـ بماذا اشغله
ـ ضعيه على صدرك
ـ قلت لك ليس فيه لبن
ـ اعلم ذلك ، دعيه يمتص لعله يسكت .
ـ والى متى ؟
ـ إلى أن ينقطع نفسه ، أو ينقطع نفسي
لم يصدر مهدي عيسى الصقر سوى مجموعة واحدة من قصصه هي « مجرمون طيبون» التي طبعت عام 1954 . في هذه المجموعة تسع قصص كانت أحسنها « الطفل الكبير » و «الضباب » و « عواء الكلاب » و « هندال » و « بكاء الأطفال » و « الطفل الكبير» أحسن هذه القصص الخمس وفي هذه المجموعة قصتان فاشلتان هما « مجرمون طيبون » و « القطيع القلق » .
وندرك من التسلسل الزمني لقصص هذه المجموعة ومن القصص التي نشرها في مجلتي «الآداب » و « الأديب » بعد صدورها ، ان هذا القصاص النابغ يتطور بسرعة عجيبة .
ومهدي الصقر ، يعد من بين كتاب القصة القصيرة اليوم في العالم العربي كله .
ويعكف مهدي الصقر الآن على كتابة قصة طويلة « رواية » قضى أربع سنوات من حياته وهو يعيش مع أشخاصها وتدور حوادثها في « الفاو » في أقصى جنوب العراق ، حيث تتصارع بقايا الحياة القروية مع طلائع حياة المدينة ، التي تغزوها مع النفط وعماله .
* نشرت في جريدة الشعب (العراقية )، العدد : 3869 / 29 حزيران / 1957 ـ العدد الاسبوعي .
وأبناء الريف يحملون معهم إلى المدينة زاد الشتاء المطل .. وزاد ليالي الشتاء ألف ليلة وليلة وقصة عنترة ، والمقداد والمياسة ، والشيخ الملتحي لا يتساهل في أسعار الكتب ... ومهدي عيسى الصقر ، يتطلع في وجوههم ويحلم بقصص يكتبها هو لهؤلاء وعن هؤلاء .
أبطال قصصه يبحثون عن الحب خلال بحثهم الدؤوب عن الخبز ... عن الحب الذي لا يكلف مالاً ولا وقتا ، عن حب يومي كالخبز اليومي . هذا « حنتوش » في ذلك الحي المظلم المزدحم بصرائف الطين ، المعروضة للبيع ليس في جيبه غير درهم . واستقبلته امرأة ذاوية بابتسامة لا روح فيها « أهلا بالشباب . تفضل » فيسأل « أول بيش ؟ » وحين تقول «درهمين » يحدق حنتوش فيها فلا يجد ما يغري سوى بياض بشرتها ويساومها وتساومه حتى تقول « سبعين أي ابن الحلال أكو واحدة تنطيك نفسها بأقل من سبعين فلس ؟ » وهذا « علي » الحلاق يشيع رأس الفتى ذي الشعر اللامع المصفف حتى يختفي في الزحام ، ثم يلتف إلى الصغير الذي كان ينظف بلاط الدكان مما تساقط عليه من شعر الزبون .
ويسأل « ليش تأخرت اليوم ؟ » فيرفع كاظم عينيه في شيء من الخوف ، ويجيب « أبوي ضرب أمي » ويثير هذا الجواب فضول الحلاق ، فلا يسأل عن العلاقة بين تأخر الصبي وبين ضرب أبيه لأمه ، وحين يعرف أن « هندال » ضرب زوجته لأنه كان سكران ... يسترسل في حلم طويل ، يتمنى فيه ويشتهي ، ويتذكر .. وتلح صورة أم كاظم عليه ، جسدها المكتنـز ، والخرق الصغير في ثوبها الرث يكشف عن لحم كالحليب ، شدت إليه عيونه . كان قد اضطر إلى استبقاء كاظم في الدكان إلى ما بعد الثامنة ليلا ... فجاءت أمه قلقة تسأل عنه والليلة ، الليلة سيستبقي الصغير إلى ما بعد الثامنة علّها تأتي ...
وحتى « عوفي » الذي يقبع هو وخرافه الخمسة في ظلمة الليل والضباب في انتظار « قطار الحمل » ... حتى « عوفي » يبحث عن الحب في أثناء انتظاره للقطار . جاء قطار الركاب ، ووقف في المحطة . وكانت العربة التي أمامه من عربات الدرجة الأولى ومن خلف زجاج النافذة تراءى لعوفي وجه فتاة فاتنة .. وعوفي يحدق فيها بشراهة . وصرخ القطار ، فتنبه عوفي وراح يشبع نظره من هذه الحسناء...
ومهدي عيسى الصقر مخلص لفنه لا يكتب إلا وهو ممتلئ أن أشخاص قصصه هم الذين يفرضون عليه أن يكتب كأنهم ينضجون من أعماقه فيوشك ان يختنق إن لم يكتب . وهو يعيش كل لحظة من حياته يقرأ ويلتقط ، ويختزن التجارب والملامح ، والأحاديث والعواطف .
كان منذ بضع سنوات يملك دكانا صغيرا يبيع الأقمشة فيه ويكتب القصص فيه أيضا . كان الزبون ، في نظره نموذجا بشريا قد يصبح بطلا لقصة ... وليس مشتريا لم يكن يصبر على مساومة الزبائن ، إلا الذين يخمن من مظاهرهم ، ان فيهم زادا يتزود منه القصاص فيه لا التاجر ، وخسر تجارته ولكنه ربح نماذج لقصص منها ما ظهر ومنها ما سيظهر ذات يوم .
يوازن في قصصه بين العالم الداخلي والعالم الخارجي فهو يجمع في قصصه القصيرة بين طريقتي دستوفسكي وتولستوي في كتابة الرواية ولكنه لا يهتم بوصف ملامح أبطاله الخارجية وانما يقصر اهتمامه على وصف حركاتهم ، والاطار الذي يتحركون فيه ولعل هذه حسنة من حسناته ، وليس عيوبه لأنه لا يترك المجال مفتوحا أمام القارئ ليختار الملامح التي يريدها لهذا البطل أو ذاك ، بعد أن عرف مهنته ومنـزلته الاجتماعية ، وأسلوبه في التحدث ..
وبعد أن عرف انفعالاته وردود أفعال الآخرين إزاءه .
أكثر شخصياته من الفئة الريفية الفقيرة النازحة إلى مدن يراها هؤلاء القرويون مدنا بالقياس إلى الريف .. أو من عمال المدن
ويكتب عن تجاربه هو أحيانا ، فيكون البطل من الطبقة الوسطى ، من سكان المدينة وبما اجتذبته حياة اللهو فيها فترة من حياته ، ولكن الريفي كامن في أعماقه في النهاية ... وتنتصر الحياة الزوجية المستقرة ، بين بكاء الأطفال وضجيجهم الحلو هذه هي الحياة التي يعرفها القرويون ويؤثرونها أكثر مما يعرفها ويؤثرها أبناء المدينة .
والحوار في قصصه تبعا لهذا باللغة الدارجة إذا كان الأبطال من الفئة الأولى ، وبلغة هي بين العامية والفصحى ، إذا كانوا من الفئة الثانية ، ومهدي عيسى الصقر متمكن من السيطرة على الحوار ... فهو ينبض بدفء الحياة ولا تشعر فيه بتكلف ولا اصطناع ، فلنقرأ هذا المقطع من قصة الضباب :
« ويدس عوفي يده في جيب سترته الممزقة ويخرج بضعة دنانير هي ثمن الخراف الخمسة التي باعها في المدينة ويعد النقود للمرة العاشرة وتنظر إليه « نوفة » من طرف الكوخ وتحك بأظافرها الطويلة رأسها الاشعث ، ثم تسأله
ـ عوفي موش تريد تبيع الهايشة ؟
ـ ولج الهايشة نافعتنا نبيعها ونسكت ؟ شلون ؟
ـ اذا ما تبيعها يكتلها الغطار مثل ما كتل هايشة بيت زاير فرهود »
ولنقرأ بعد ذلك ، هذا المقطع من « بكاء الأطفال » انه يود لو قام القطار قبل موعده لتهدأ قليلا لكن ابنه لا يزال يبكي ، فالتفت إلى زوجته :
ـ اشغليه بحق السماء
ـ بماذا اشغله
ـ ضعيه على صدرك
ـ قلت لك ليس فيه لبن
ـ اعلم ذلك ، دعيه يمتص لعله يسكت .
ـ والى متى ؟
ـ إلى أن ينقطع نفسه ، أو ينقطع نفسي
لم يصدر مهدي عيسى الصقر سوى مجموعة واحدة من قصصه هي « مجرمون طيبون» التي طبعت عام 1954 . في هذه المجموعة تسع قصص كانت أحسنها « الطفل الكبير » و «الضباب » و « عواء الكلاب » و « هندال » و « بكاء الأطفال » و « الطفل الكبير» أحسن هذه القصص الخمس وفي هذه المجموعة قصتان فاشلتان هما « مجرمون طيبون » و « القطيع القلق » .
وندرك من التسلسل الزمني لقصص هذه المجموعة ومن القصص التي نشرها في مجلتي «الآداب » و « الأديب » بعد صدورها ، ان هذا القصاص النابغ يتطور بسرعة عجيبة .
ومهدي الصقر ، يعد من بين كتاب القصة القصيرة اليوم في العالم العربي كله .
ويعكف مهدي الصقر الآن على كتابة قصة طويلة « رواية » قضى أربع سنوات من حياته وهو يعيش مع أشخاصها وتدور حوادثها في « الفاو » في أقصى جنوب العراق ، حيث تتصارع بقايا الحياة القروية مع طلائع حياة المدينة ، التي تغزوها مع النفط وعماله .
* نشرت في جريدة الشعب (العراقية )، العدد : 3869 / 29 حزيران / 1957 ـ العدد الاسبوعي .