جدي مُفكِّر يقدُّره الناس جميعاً، وكنت أحب أن أقرأ أعماله في صغري. وعندما تخرجت من المدرسة الثانوية، تقدمت على الفور لامتحانات القبول في الكليات الأدبية، حتى أصبح مثل جدي في المستقبل، مُفكِّراً. إلا أن جدي قطَّب حاجبيه قائلاً: “علامَ تريد أن تصبح مُفكِّراً؟ فلتتقدم لامتحانات الكليات العلمية، درس شيئاً واقعياً بعض الشيء”.
لم أستمع إلى نصيحة جدي، وفي النهاية اتخذت مقعداً لي في قاعة محاضرات الجامعة، ودرست الفلسفة. وبدأت في قراءة المؤلفات القديمة والحديثة، الصينية والأجنبية. وعندما تعمقت في القراءة، اكتشفت بألم: أن جدي شخص بلا أي فِكر، وأن مؤلفاته جميعها، ما هي إلا إعادة لأفكار الآخرين ولكن بأسلوبه.
إن أهم جزء في السنة الرابعة من الجامعة هي كتابة بحث التخرج، ففكرت بالكتابة عن جدي وكأن قوة خفية دفعتني لذلك، وأسميت البحث (مُفكِّر بلا فِكر). عندما نظرت إلى ذلك العنوان، أصبت أنا نفسي بالذعر. أخذت خطة البحث وأعطيتها للأستاذ المشرف ليقرأها. لم يكمل الأستاذ القراءة حتى قفز قائلاً: “هل جُننت! إذا تجرأت وقدّمت هذا البحث، فلن أعترف بك أيها الطالب”.
إنني شخص له عقل، كيف يمكنكَ أن تُتاجر فقط بأفكار الأخرين ولا يحق لك أن تُعبِّر عن وجهة نظرك؟ أكملت كتابة بحت (مُفكِّر بلا فِكر) سراً. وبعد انتهائي منه، اخترت لنفسي اسم (شياو دينغ)، وأرسلته إلى بضعة مجلات. حتى وافقت المجلة الثامنة على نشره. وما أن نُشِر المقال، حتى أثار ضجة في الحال، دعمني بعض الناس، ودافع الكثيرون عن جدي، وبدأت مناظرة بين الطرفين. ومن الطبيعي أن أكون في المقدمة، وقد كانت هناك أوقات، كنت أكتب فيها مقالاً كل يوم لأشارك في ذلك الجدل. كنت أعلم جدي جيداً، وكان كل مقال أكتبه يضرب موطن ضعف عنده، ويجعل المؤيدين له تثور ثائرتهم. وما أن هدأ الجدل، حتى اتصل بي والدي، وقال إن جدي يود رؤيتي، وطلب مني العودة إلى المنزل على الفور.
عُدتُ إلى المنزل مضطراً، وكان جدي في مكتبه، فقال، “أيها الصديق شياو دينغ، تفضل بالدخول”.
دخلت مكتب جدي، وسألته بقلق شديد: “جدي، كيف علمت أنني هو شياو دينغ؟”
“إن هاتفي على وشك الانفجار من كثرة المكالمات، لم يكن صعباً ألَّا أعرف!” كان جدي يجلس على كرسي من الطراز القديم، وقد نحف كثيراً، وتغضنت تجاعيد وجهه للغاية. أما نظرته فكانت تختلف عن السابق أيضاً، وكأن مشعلين بقيا متقدين لمدة ثمانين عاماً أضحت شعلتهما تخمد شيئاً فشيئاً. جدي الذي كان دائماً وأبداً قوياً، أصبح في لمح البصر ذلك العجوز المسكين. وبدا واضحاً، أن الصديق “شياو دينغ” قد وجَّه له ضربة عنيفة.
قال جدي: “سأُريك شيئاً”. نهض جدي من على الكرسي، إلا أنه تمايل، وترنَّح في مشيته. أسندت جدي بسرعة، ولم أكن أتوقع أنه خفيف هكذا، فلم أبذل مجهوداً كبيراً حتى أرفعه من على الأرض.
قلت بحزن: “جدي، إنك هزيل للغاية”.
أشار جدي إلى صندوق أعلى خزانة الكتب وقال: “اجلب ذلك الصندوق”.
داخل الصندوق مخطوطات جدي، تملأه بأكمله. أخرج جدي بعضاً منها وأعطاني إياها قائلا: “اقرأ ذلك”.
تناولت المخطوطات على مضض، وقلت بفتور: “حسناً، سآخذها معي وأقرأها في غرفتي”.
قرأ جدي أفكاري: “اقرأها الآن”.
لا يوجد هناك مخرج، اضطررت مُكرهاً على قراءة مخطوطات جدي. وما لم يكن متوقعاً، أنها تختلف تماماً عن مؤلفاته، ما بين سطورها نظرة نفاذة ومعرفة حقيقية، أشياء لم يذكرها أحد من قبل. وكلما قرأت كلما شعرت بالإعجاب، وفي النهاية قلت مستسلماً: “جدي، إنك عظيم للغاية!”
استغرقت قراءة مخطوطات جدي أسبوعاً بالكامل حتى انتهيت منها. إنَّ جدي مُفكر حقيقي.
مخطوطات جيدة كهذه، لماذا لم تنشرها إلى الآن؟ أصابتني الحيرة، فابتسم جدي بفتور وقال: “السبب الذي جعلني حياً إلى الآن، هو بالضبط لأني لم أنشر هذه المخطوطات. لقد كتبتها لنفسي، وأنت الوحيد الذي قرأها. “أن تضع نتاج حياتك كله في صندوق وأن تعيش بهذه الطريقة، ما الفرق إذاً بين ذلك وبين الموت؟ لم أهتم بمعارضة جدي للأمر، يجب أن أنشر تلك المخطوطات بأي حال من الأحوال. ولهذا تنازل جدي مضطراً وقال: “حسناً، لكن دعني أعدِّلها مرة واحدة. “في مساء ذلك اليوم، جلس جدي في مكتبه يُعدِّل المخطوطات، ولم يخرج حتى صباح اليوم التالي. خشيت أن يكون قد أصابه التعب، فذهبت لأطمئن عليه. حين فتحت باب المكتب، تسمرت ذعراً. كان جدي جالساً على الكرسي، وأمامه كومة من رماد الورق، ويده تمسك بمخطوطة لم تُحرق بعد”. يا جدي، لِمَ أحرقت المخطوطات؟” سألتُ عدة مرات، إلا أنَّه لم يرد. فتحسست جبينه، كان بارداً، لقد توفي جدي منذ ساعات. جَمعتُ رماد الورق الموجود على الأرض ووضعته في الصندوق، وأقفلته جيداً، تلك هي أفكار مُفكِّر لم يجرؤ أن يُطلِعَ أحداً عليها.
يانغ هان قوانغ
عضو في رابطة كتاب قوانغشي، نائب رئيس جمعية قوانغشي للقصة القصيرة جداً. يعمل الآن في اتحاد أدباء مقاطعة مينغ شان. بدأ الكتابة الإبداعية منذ عام 1987، ونشر العديد من القصص القصيرة والنصوص النثرية في عدد من الدوريات والمجلات الصينية: (مجلة القارئ) و(مختارات من القصة القصيرة). وحصل ثلاثون عملاً من أعماله على جوائز أدبية مختلفة في الصين. وقصة (الأفكار المحفوظة في صندوق) حازت على الجائزة الأولى في الدورة التاسعة للقصة القصيرة جداً على مستوى الصين عام 2011.
* نشرت القصة في جريدة أخبار الأدب – 11مايو 2014
** نقلا عن:
الأفكار المحفوظة في صندوق
لم أستمع إلى نصيحة جدي، وفي النهاية اتخذت مقعداً لي في قاعة محاضرات الجامعة، ودرست الفلسفة. وبدأت في قراءة المؤلفات القديمة والحديثة، الصينية والأجنبية. وعندما تعمقت في القراءة، اكتشفت بألم: أن جدي شخص بلا أي فِكر، وأن مؤلفاته جميعها، ما هي إلا إعادة لأفكار الآخرين ولكن بأسلوبه.
إن أهم جزء في السنة الرابعة من الجامعة هي كتابة بحث التخرج، ففكرت بالكتابة عن جدي وكأن قوة خفية دفعتني لذلك، وأسميت البحث (مُفكِّر بلا فِكر). عندما نظرت إلى ذلك العنوان، أصبت أنا نفسي بالذعر. أخذت خطة البحث وأعطيتها للأستاذ المشرف ليقرأها. لم يكمل الأستاذ القراءة حتى قفز قائلاً: “هل جُننت! إذا تجرأت وقدّمت هذا البحث، فلن أعترف بك أيها الطالب”.
إنني شخص له عقل، كيف يمكنكَ أن تُتاجر فقط بأفكار الأخرين ولا يحق لك أن تُعبِّر عن وجهة نظرك؟ أكملت كتابة بحت (مُفكِّر بلا فِكر) سراً. وبعد انتهائي منه، اخترت لنفسي اسم (شياو دينغ)، وأرسلته إلى بضعة مجلات. حتى وافقت المجلة الثامنة على نشره. وما أن نُشِر المقال، حتى أثار ضجة في الحال، دعمني بعض الناس، ودافع الكثيرون عن جدي، وبدأت مناظرة بين الطرفين. ومن الطبيعي أن أكون في المقدمة، وقد كانت هناك أوقات، كنت أكتب فيها مقالاً كل يوم لأشارك في ذلك الجدل. كنت أعلم جدي جيداً، وكان كل مقال أكتبه يضرب موطن ضعف عنده، ويجعل المؤيدين له تثور ثائرتهم. وما أن هدأ الجدل، حتى اتصل بي والدي، وقال إن جدي يود رؤيتي، وطلب مني العودة إلى المنزل على الفور.
عُدتُ إلى المنزل مضطراً، وكان جدي في مكتبه، فقال، “أيها الصديق شياو دينغ، تفضل بالدخول”.
دخلت مكتب جدي، وسألته بقلق شديد: “جدي، كيف علمت أنني هو شياو دينغ؟”
“إن هاتفي على وشك الانفجار من كثرة المكالمات، لم يكن صعباً ألَّا أعرف!” كان جدي يجلس على كرسي من الطراز القديم، وقد نحف كثيراً، وتغضنت تجاعيد وجهه للغاية. أما نظرته فكانت تختلف عن السابق أيضاً، وكأن مشعلين بقيا متقدين لمدة ثمانين عاماً أضحت شعلتهما تخمد شيئاً فشيئاً. جدي الذي كان دائماً وأبداً قوياً، أصبح في لمح البصر ذلك العجوز المسكين. وبدا واضحاً، أن الصديق “شياو دينغ” قد وجَّه له ضربة عنيفة.
قال جدي: “سأُريك شيئاً”. نهض جدي من على الكرسي، إلا أنه تمايل، وترنَّح في مشيته. أسندت جدي بسرعة، ولم أكن أتوقع أنه خفيف هكذا، فلم أبذل مجهوداً كبيراً حتى أرفعه من على الأرض.
قلت بحزن: “جدي، إنك هزيل للغاية”.
أشار جدي إلى صندوق أعلى خزانة الكتب وقال: “اجلب ذلك الصندوق”.
داخل الصندوق مخطوطات جدي، تملأه بأكمله. أخرج جدي بعضاً منها وأعطاني إياها قائلا: “اقرأ ذلك”.
تناولت المخطوطات على مضض، وقلت بفتور: “حسناً، سآخذها معي وأقرأها في غرفتي”.
قرأ جدي أفكاري: “اقرأها الآن”.
لا يوجد هناك مخرج، اضطررت مُكرهاً على قراءة مخطوطات جدي. وما لم يكن متوقعاً، أنها تختلف تماماً عن مؤلفاته، ما بين سطورها نظرة نفاذة ومعرفة حقيقية، أشياء لم يذكرها أحد من قبل. وكلما قرأت كلما شعرت بالإعجاب، وفي النهاية قلت مستسلماً: “جدي، إنك عظيم للغاية!”
استغرقت قراءة مخطوطات جدي أسبوعاً بالكامل حتى انتهيت منها. إنَّ جدي مُفكر حقيقي.
مخطوطات جيدة كهذه، لماذا لم تنشرها إلى الآن؟ أصابتني الحيرة، فابتسم جدي بفتور وقال: “السبب الذي جعلني حياً إلى الآن، هو بالضبط لأني لم أنشر هذه المخطوطات. لقد كتبتها لنفسي، وأنت الوحيد الذي قرأها. “أن تضع نتاج حياتك كله في صندوق وأن تعيش بهذه الطريقة، ما الفرق إذاً بين ذلك وبين الموت؟ لم أهتم بمعارضة جدي للأمر، يجب أن أنشر تلك المخطوطات بأي حال من الأحوال. ولهذا تنازل جدي مضطراً وقال: “حسناً، لكن دعني أعدِّلها مرة واحدة. “في مساء ذلك اليوم، جلس جدي في مكتبه يُعدِّل المخطوطات، ولم يخرج حتى صباح اليوم التالي. خشيت أن يكون قد أصابه التعب، فذهبت لأطمئن عليه. حين فتحت باب المكتب، تسمرت ذعراً. كان جدي جالساً على الكرسي، وأمامه كومة من رماد الورق، ويده تمسك بمخطوطة لم تُحرق بعد”. يا جدي، لِمَ أحرقت المخطوطات؟” سألتُ عدة مرات، إلا أنَّه لم يرد. فتحسست جبينه، كان بارداً، لقد توفي جدي منذ ساعات. جَمعتُ رماد الورق الموجود على الأرض ووضعته في الصندوق، وأقفلته جيداً، تلك هي أفكار مُفكِّر لم يجرؤ أن يُطلِعَ أحداً عليها.
يانغ هان قوانغ
عضو في رابطة كتاب قوانغشي، نائب رئيس جمعية قوانغشي للقصة القصيرة جداً. يعمل الآن في اتحاد أدباء مقاطعة مينغ شان. بدأ الكتابة الإبداعية منذ عام 1987، ونشر العديد من القصص القصيرة والنصوص النثرية في عدد من الدوريات والمجلات الصينية: (مجلة القارئ) و(مختارات من القصة القصيرة). وحصل ثلاثون عملاً من أعماله على جوائز أدبية مختلفة في الصين. وقصة (الأفكار المحفوظة في صندوق) حازت على الجائزة الأولى في الدورة التاسعة للقصة القصيرة جداً على مستوى الصين عام 2011.
* نشرت القصة في جريدة أخبار الأدب – 11مايو 2014
** نقلا عن:
الأفكار المحفوظة في صندوق