يقول أدونيس : “الشعر رؤيا بفعل ،و الثورة فعل برؤيا “ومن هنا فهو يوضح الجدل بين الشعر و الثورة و ما في الشعر من شوق إلى الحياة المتحركة المتصاعدة ،و ما في الثورة من نار الإلهام الشعري ،ومن هذا المنطلق تبرز أهمية بدر شاكر السياب كواحد من أبرز أعلام الحركة الشعرية المعاصرة بوجهها الثوري ،و هنا تنزل قصيدته “أنشودة المطر “من مجموعته التي تضم أشهر قصائده ، و التي ألفها في فترة كان وضع العراق متأزما على جميع الأصعدة ،
إثر استقالة رئيس الوزراء فاضل الجمالي و فشله في الإصلاحات الزراعية والاجتماعية و قد زاد شقاء الشعب حدته
فيضان دجلة الذي هدد بغداد في ربيع 1954 م ، و آلم السياب أن يرى مثل هذا الشقاء في بلاده و تذكر أيام ضياعه و تشرده في الكويت و فقره وهو بعيد عن العراق ، فاضطرم الحنين في أعماقه إلى ربوع بلاده و إذا بقصيدة تتولد عن قريحته ، تختلف عن قصائده هي أنشودة المطر ، نشرها في مجلة الآداب جوان 1954م و نشرت سنة 1960م ضمن المجموعة ، جاء في مقدمتها كلمة للسياب يقول فيها :”إنها من وحي أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي ” .
إن أنشودة المطر ، تندرج ضمن النصوص التي تنتمي إلى الحقل الوجداني ، و فيها عمق المعاني الوطنية بربطه بين الحبيبة و الوطن ، كما صورت تداعيات السياب المستوحاة من ذاكرة الحب و الطفولة و من ذكريات الغربة و النضال .
بنيت قصيدة أنشودة المطر على مجموعة من الحركات المتداخلة ، ينبني هيكلها الخارجي على تسع مقطوعات ،
و ينبني هيكلها الداخلي على ثلاث علاقات : علاقة الشاعر بالحبيبة ثم علاقة الشاعر بالأم ،و أخيرا علاقة الشاعر بالوطن ، و تدور القصيدة حول محور واضح تدور حوله كل المعاني ،وهو كلمة مطر عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة في نسيج النص ، يربط بين الحبيبة التي يخصبها المطر و بين الأم التي استحالت إلى عنصر من عناصر الطبيعة
و بين الوطن العراق الذي تحوله إلى خصوبة .
إن كلمة مطر منبع حركة مسترسلة تنبض منها المعاني و تنمو و منها ينسج الشاعر أحاسيسه و يتواصل في الزمان .
و كلمة مطر طاقة صوتية توزعت توزيعا متنوعا و بأشكال مختلفة ، بصورة مثلثة الإيقاع تردد ست مرات كلازمة كبرى ، و بصورة ثنائية تردد مرتين كلازمة متوسطة تردد خمسا و ثلاثين مرة و بصورة مفردة الإيقاع تردد ثلاث عشرة مرة كلازمة صغرى .
فالشاعر أحدث تنويعات على كلمة مطر و قد أضفى هذا الترديد على القصيدة جوا طقوسيا أو قداسيا يوحي بابتهالات الشاعر في حضرة أنثى ،و هنا تكشف كلمة مطر دلالتها الرمزية ، أبرزه النقاد و ربطوه بتموز و بعشتار رمز الخصب عند الكلدانيين ،و نلاحظ ارتفاع الشاعر بدلالة الماء لم يبق في مفهومه الضيق كعنصر من عناصر الطبيعة بل جعله عبارة ذات طاقة سحرية تعطي دفقها الشعري في القصيدة .
و بدخول كلمة مطر في شبكة من العلاقات مع بقية المفردات اكتسبت إمكانات متعددة من الدلالات تتظافر جميعا لتوحي بمفهوم الثورة ، كما جاءت هذه الكلمة على لسان الأطفال و على لسان الصياد و على لسان المهاجرين و في صوت الرحى و على لسان الشاعر و في ترجيع الصدى ، والمطر فعل تغيير في الطبيعة و في النفس .
تنفتح القصيدة بمطلع غزلي يحدد فيه الشاعر عنصر الزمن ، وقت السحر ، زمن فاصل بين الموت والحياة بين الظلام و النور ، زمن التردد بين منزلتين الأمل و اليأس ، حالة من القلق و التوتر .
موضوع الغزل في هذه القصيدة عينا الحبيبة حشد فيهما الشاعر الطبيعة بزمانها و بمكانها يأشجارها و بعمرانها ،
بليلها و بنهارها ، خرج فيهما عن صورة العينين التقليدية إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فيها الحبيبة بالطبيعة ،
و بهذا يعلن المطلع عن طابع القصيدة الوجداني ، و تبدأ الحركة بالعينين فتنشأ ساكنة سكونا كليا ساعة الميلاد،
ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبيعية فتشهد تحولات كثيرة ( تورق الكروم . ترقص الأضواء. تنبض النجوم )
و يأتي الخطاب الشعري دفقا من المعاني ،و حشدا من الصور تتنامي شيئا فشيئا ، وتتولد صورة العينين : غايتا نخيل ساعة السحر ، صورة رومنسية توحي بالهدوء و السكينة ، والصورة الثانية لشرفتين ينأى عنهما القمر ، صورة توحي بحركة الفعل تنأى و بمفهوم البعد في القصائد التقليدية و لكن التعبير عنه جاء بأسلوب جديد اعتمد على الإيحاء .
و صورة ثالثة ، تجلت في ابتسام العينين ،ربطها الشاعر بحركة الطبيعة ، و كأن الحياة مصدرها عيني الحبيبة ، كما يوحي فعل ابتسم بالسعادة التي تتحقق بفضل حركة العينين ، هذه الصور حسية بصرية تساهم الحركة تدريجيا في تشكيلها و نحتها .
و عناصر الطبيعة تتجمع في العين على أساس اعتبار العين محل البصر و وسيلة الرؤيا و النفاذ إلى عناصر الوجود .
و عناصر الطبيعة تخص العراق ، غابات نخيل فتتطلع الرؤيا نحو الوطن الحبيب .
و ينطلق الخطاب في القسم الأول من القصيدة في اتجاه أول ،من الشاعر إ لى الحبيبة ، يصور فيه أثر الضباب في نفسه ، معبرا عن حزنه بالبكاء ، ويعود بنا فعل ” تستفيق ” إلى ذاكرة الشاعر ،يصوغها في شكل ومضات واقعية
تمتزج بالمسار الغنائي الإنشادي ، وتسمه بنبرة واقعية ، و تجعله يكشف عن المتناقضات .
و نتساءل عن المعنى الذي حمله الشاعر لإنشاد الأطفال للمطر ؟ و للإجابة نكتفي بالإشارة إلى أننا نستطيع أن
نأخذ كلمتي الأطفال و العصافير في معناهما الحقيقي و تظل الوحدة مع ذلك موحية نتيجة الصورة التي ترسمها و ما تخلفه من أبعاد تخييلية لكن الرمز يسحب على الكلمتين فتوحي الأولى بتجدد الحياة ،و طفولة العالم البريء ،و تدل الثانية على الحرية والانطلاق ، ومن هنا يتمكن الشاعر من استدراج السامع و يحمله في رحلة ذهنية ،داخل عالم الدلالات المتنوعة .
و نحن أمام هذا التركيب الإنشادي ،كأننا بالشاعر يقص علينا أنشودة الأناشيد ، رابطا بين همومه والعالم الخارجي
و ينغلق القسم الأول باللازمة جعلها الشاعر على لسان الأطفال ،لأنه ربط بين واقعه و ماضيه و أسس التقابلية بين حاضره المليء بالقلق و الحزن ،و طفولته السعيدة مؤكدا حنينه إلى الماضي ، كما نلاحظ جملة من التداعيات
بين الشاعر و ذاته ،فيقع المزج بينه و طفولته و قدسية المطر .
أما القسم الثاني في القصيدة ،يتغير فيه عنصر الزمن : ” تثاءب المساء ” ، زمن يؤدي به الشاعر معنى الحزن و يتدرج بنا عن طريق التداعي ، فيصلنا صوت الشاعر من أعماق الذكرى المنبثقة من طبقة الوعي السفلي ،و تحتل تداعيات الشاعر المنبثقة من ذاكرة الطفولة حيزا مهما في سلسلة التداعيات و تصدر عنها أغلب الومضات الواقعية النابعة من الماضي ، ويتقابل القسم الثاني مع القسم الأول ، فالطفولة فيه تنشد الفرح ، و في الثاني يتكثف معنى الحزن عن طريق ذكرى الموت ، كما أن الذاكرة لا تبني أحداثا منسقة في الزمان حسب مسار منطقي ، إنما تصدر من مخزون الألم و الحرمان .
و في هذا القسم ربط الشاعر بين الجو الممطر الموحي بالكآبة و بين كآبة الطفل اليتيم و عمق حزنه بسؤاله ، وهنا
يضمن الشاعر الخطاب الشعري مضمونا قصصيا : قصة يتمه واصطدامه بالموت ، كما صور الشاعر معاملة الكبار للصغار في قضية الموت فهم لا يصرحون بها و لو همسا ، و يضمن الشاعر قصة الصياد الحزين الذي يلعن المياه و المطر ليضيف مأساة جديدة دون أن يصرح بها فنفهم أن المطر تحولت إلى مصدر شقاء بعد أن كانت مصدر سعادة
و يتدرج الشاعر في رسم علامات الحزن في الوجود ، فيبدؤها بحزن الطفولة المصدومة بالموت و يربطها بحزن الصياد الشقي و بحزنه ، فتبدو معاناته المكثفة ، و تبرز صورة المطر المتناقضة و يتوجه الشاعر إلى كل الذوات و يصبح الخطاب مرثية تكسبه لغة المراثي لونا قاتما ( دموع _ لحود _تنشج _المزاريب ) .
و يستعيد الشاعر في هذا القسم طيف الحبيبة ، يبوح لها بحزنه بسبب المطر ، و يستعيد جملة من الأحداث كان فيها غريبا بعيدا عن وطنه ، يصوغها في شكل ذكريات و في نفس تفجعي و يتحول الخليج إلى رمز يجسد فيه الشاعر معنى الغربة و الضياع و يساهم الصدى في تعميق غربته صدى يرجعه الخليج كالنشيج و يضاعف الاستفهام حزنه ،و يأتي خطاب الشاعر مترجرجا مثل الدموع يؤديه كاف التشبيه :(كالدم المراق ، كالجياع ، كالحب ، كالأطفال كالموتى ) ضرب من الاختناق أو ما يشبه الاحتضار .
في القسم الثالث يتحول السياب من ذاكرة الغريب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع في العراق ، ويوظف كلمة العراق توظيفا سياسيا واضحا و يتدرج في تعرية واقع وطنه و يحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعي و السياسي ،و يربط بين المطر و بين جوع الفقراء الدائم و يتفاءل بالثورة التي تهب الحياة لكل الناس .
و هنا يصور المأساة الجماعية من خلال نشيد المهاجرين ، نلمس عمق الفاجعة ، فالجوع دائم رغم خصوبة الأرض
و الرحى لا تطحن حبا بل تطحن الحجر ،و التمر الرديء و في دورا نها تدعو إلى الثورة و تظهر مرة أخرى ثنائية الحياة والموت و تتحول تجربة الشاعر من بعدها الذاتي إلى بعد إنساني أعمق ، لتعانق جرح الإنسان في كل زمان و في كل مكان ويصبح الخطاب الشعري احتجاجا على لسان المضطهدين للتعبير عن تطلعاتهم ولتحقيق حياة فضلى
و بلوغ إنسانيتهم كما لعبت الأصوات دورا هائلا في التعبير عن الثورة ، إذ خلقت جوا حماسيا مكثفا أداه صوت الرحى و نداء الشاعر و أصوات المهاجرين ،و زاد الشاعر هذا الواقع إيقاعا دراميا بتضمينه قصة الغريق المجسدة
لمأساة الإنسان و صراعه مع الطبيعة .
قصيدة أنشودة المطر ،جاءت في شكل ابتهال ، مزج فيها الشاعر بين الغنائية الحالمة و بين الواقعية الحادة ، و جاء فيها الرمز على جملة من الثنائيات منها : الحياة و الموت _الذات و الموضوع _الجفاف و الخصب _الظلام و النور _الحزن والفرح . و يبرز صوت الشاعر مبتهلا في حضرة عشتار الهة الخصب و العطاء ، ربة الطبيعة والحياة المتجددة و التي تستمد صفاتها من عناصر الطبيعة . كما لعب الرمز دور الرابط الأساسي لجميع العلاقات ، فتبنى
الحركة من الأنثى رمز الطبيعة إلى الأم و من الأم إلى العراق إلى الخليج ، إلى المطر ، حلقة دائرية تمثل دورة الحياة .
و نهض الرمز بوظيفة أخرى هامة في كسر خط الغنائية الرومنسية الحالمة و خلق حركة انفعالية توحي بنغم تفجعي
يبرز عمق المفارقات المتجذرة في عمق الوجود المجسدة للصراع الإنساني في جل مظاهره .
إن الرمز في قصيدة أنشودة المطر ،كسر هندسة القصيدة التقليدية ، و جعل بنيتها تجمع بين الشعر والغناء و القصة
و الخطاب الباطني و تستقطب موضوعات متعددة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي و تنفصل عما يسمى في النقد
بالغرض و تجعل الحياة بكل مفارقاتها غرضها الرئيسي .
و نلاحظ حركة التداعيات التي تصلنا عبر صوت الشاعر الذي يحملنا من الحاضر إلى الماضي ثم يربط الحاضر بالمستقبل ، ثم يتحرك صوته من الغور إلى السطح و من الذات إلى الواقع الخارجي و تفصح ذاكرة الشاعر عن مخزونها في شكل ومضات واضحة ، تنبثق من ذاكرة الطفل و من ذاكرة الغريب اللاجئ و من ذاكرة المناضل المقموع ،و هذه التداعيات بمثابة الأساس الذي تتكئ عليه القصيدة و قد ظهرت في شكل صور تتوالد فصار
النص تراكما من الصور ، أولها صور تنبني على التشبيه وهي طريقة تحصر الصورة في مجرد وظيفة الوصف
أما الصور التي بناها الشاعر على الطباق فقد استطاعت أن تبرز المفارقة الكامنة في عمق الحياة .
و يبدو التناغم بين الصورة و الموسيقى الداخلية ، فنلاحظ كثرة الأصوات المتضمنة لحرف الشين ، المؤدية لوشوشة صوت المطر ، و بعض الصور أداها الشاعر بأسلوب الجناس و الطباق و الوسائل البلاغية القديمة و بهذا التلوين من التصوير ، تخرج قصيدة أنشودة المطر عن التصنيف الكلاسيكي إذ الصورة فيها وحدة بنائية محورية توحي بالأفكار و تلح عليها، وارتكز إيقاع القصيدة الداخلي على أسلوب التعاود وهو أهم عواملها فقد تكررت كلمة : مطر : 35 مرة و كلمة خليج : 7 مرات ،و كلمة الردى :5 مرات و كلمة العراق : 5 مرات . و تكرار جملة ( ياواهب … ) و ( في كل قطرة مطر ) و تكرار اللازمتين الأولى تختص بالمدى و الثانية تتعلق بالمطر و عموما فإن طابع العبارة يغلب عليها طابع الماء : (نهر .مجداف .يغرق . بحر .سحاب . غيوم .مطر . قطرة خليج .. الخ ).
إن ما يمكن الإشارة إليه أن إثراء القصيدة بالبناء القصصي الدرامي بلغ أقصاه في أنشودة المطر ،وقد ألغت رومنسية الماضي بشكل غير واضح و رسمت الخطوط الكبرى للقصيدة العربية المعاصرة مجسدة قلق البحث
و التجديد في أفق مستقبلها .
و لعلنا نتساءل عن توظيف بدر شاكر السياب للأسطورة في هذه القصيدة ، وللإجابة لابد من الإشارة أن قصائده السابقة لم تكن الأسطورة فيها دائما قادرة على الالتحام العضوي لما جاء فيها من ثقل في التوظيف و لما كانت الألغاز فيها واردة لتضليل الرقابة ، ولكنه في قصيدة “أنشودة المطر “،أم ديوانه المسمى بها ابتكر فيها رمزا خاصا
به هو “المطر “، جعله يلف النص و يتغلغل في جسده ، له شحنة دلالية ثرية وهو العمود الذي انطلاقا منه تتفرع القصيدة في اتجاهين ، اتجاه اسطوري واتجاه واقعي .
كما نسجل كيف تناول السياب موضوع الخصب في الطبيعة فقد وثب به وثبة عبقرية و حمل المطر رمز الثورة الاجتماعية التي يريد أن تتفجر في العراق ،و كيف جسد بإيقاع صوت المطر صورة درامية في المفارقات بين الخير
و الشر و المجاعة و الاخضرار ، لقد جعل السياب كلمة مطر رمزا أفرغ فيه معاناته و رؤياه .
إن الأبعاد الأسطورية في القصيدة أهم مفاتيح فضاء المعنى و الالمام بأسطورة الخصب الأساسية ، أسطورة أدونيس و عشتروت ، فضاء دلالي تتجدد منه دورة الحياة ، و تنبع منه جل العلاقات : علاقة الابن بأمه _علاقة الأنثى بالطبيعة _علاقة الفصول بالموت و الميلاد _علاقة الصياد بالماء _علاقة الغريق باللؤلؤ _ علاقة الماء بالماء في دورته _علاقة الذكر بالأنثى علاقة الوطن بالأرض الأم عشتروت _علاقة الشاعر بالمجتمع _
إن الأسطورة عالم لخلق فضاء الصورة و البنية الأسطورية عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته .و أنشودة المطر رمز الأمل و الانتصار على القمع و البوار ،و الأسطورة فيها عالم لخلق فضاء الصورة و بنيتها عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته و جمع حقلها الدلالي تجربة السياب السياسية و الاجتماعية و الذاتية و الرؤيا الشعرية التحديثية
ورغم ما فيها من أصداء شعر أليوت و من أساطير الخصب البابلية و الكنعانية بشكل عام تبقى إنجازا باهرا من إنجازات الشعر العربي في الخمسينات .
ريم العيساوي-تونس
* عن الناقد العراقي
إثر استقالة رئيس الوزراء فاضل الجمالي و فشله في الإصلاحات الزراعية والاجتماعية و قد زاد شقاء الشعب حدته
فيضان دجلة الذي هدد بغداد في ربيع 1954 م ، و آلم السياب أن يرى مثل هذا الشقاء في بلاده و تذكر أيام ضياعه و تشرده في الكويت و فقره وهو بعيد عن العراق ، فاضطرم الحنين في أعماقه إلى ربوع بلاده و إذا بقصيدة تتولد عن قريحته ، تختلف عن قصائده هي أنشودة المطر ، نشرها في مجلة الآداب جوان 1954م و نشرت سنة 1960م ضمن المجموعة ، جاء في مقدمتها كلمة للسياب يقول فيها :”إنها من وحي أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي ” .
إن أنشودة المطر ، تندرج ضمن النصوص التي تنتمي إلى الحقل الوجداني ، و فيها عمق المعاني الوطنية بربطه بين الحبيبة و الوطن ، كما صورت تداعيات السياب المستوحاة من ذاكرة الحب و الطفولة و من ذكريات الغربة و النضال .
بنيت قصيدة أنشودة المطر على مجموعة من الحركات المتداخلة ، ينبني هيكلها الخارجي على تسع مقطوعات ،
و ينبني هيكلها الداخلي على ثلاث علاقات : علاقة الشاعر بالحبيبة ثم علاقة الشاعر بالأم ،و أخيرا علاقة الشاعر بالوطن ، و تدور القصيدة حول محور واضح تدور حوله كل المعاني ،وهو كلمة مطر عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة في نسيج النص ، يربط بين الحبيبة التي يخصبها المطر و بين الأم التي استحالت إلى عنصر من عناصر الطبيعة
و بين الوطن العراق الذي تحوله إلى خصوبة .
إن كلمة مطر منبع حركة مسترسلة تنبض منها المعاني و تنمو و منها ينسج الشاعر أحاسيسه و يتواصل في الزمان .
و كلمة مطر طاقة صوتية توزعت توزيعا متنوعا و بأشكال مختلفة ، بصورة مثلثة الإيقاع تردد ست مرات كلازمة كبرى ، و بصورة ثنائية تردد مرتين كلازمة متوسطة تردد خمسا و ثلاثين مرة و بصورة مفردة الإيقاع تردد ثلاث عشرة مرة كلازمة صغرى .
فالشاعر أحدث تنويعات على كلمة مطر و قد أضفى هذا الترديد على القصيدة جوا طقوسيا أو قداسيا يوحي بابتهالات الشاعر في حضرة أنثى ،و هنا تكشف كلمة مطر دلالتها الرمزية ، أبرزه النقاد و ربطوه بتموز و بعشتار رمز الخصب عند الكلدانيين ،و نلاحظ ارتفاع الشاعر بدلالة الماء لم يبق في مفهومه الضيق كعنصر من عناصر الطبيعة بل جعله عبارة ذات طاقة سحرية تعطي دفقها الشعري في القصيدة .
و بدخول كلمة مطر في شبكة من العلاقات مع بقية المفردات اكتسبت إمكانات متعددة من الدلالات تتظافر جميعا لتوحي بمفهوم الثورة ، كما جاءت هذه الكلمة على لسان الأطفال و على لسان الصياد و على لسان المهاجرين و في صوت الرحى و على لسان الشاعر و في ترجيع الصدى ، والمطر فعل تغيير في الطبيعة و في النفس .
تنفتح القصيدة بمطلع غزلي يحدد فيه الشاعر عنصر الزمن ، وقت السحر ، زمن فاصل بين الموت والحياة بين الظلام و النور ، زمن التردد بين منزلتين الأمل و اليأس ، حالة من القلق و التوتر .
موضوع الغزل في هذه القصيدة عينا الحبيبة حشد فيهما الشاعر الطبيعة بزمانها و بمكانها يأشجارها و بعمرانها ،
بليلها و بنهارها ، خرج فيهما عن صورة العينين التقليدية إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فيها الحبيبة بالطبيعة ،
و بهذا يعلن المطلع عن طابع القصيدة الوجداني ، و تبدأ الحركة بالعينين فتنشأ ساكنة سكونا كليا ساعة الميلاد،
ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبيعية فتشهد تحولات كثيرة ( تورق الكروم . ترقص الأضواء. تنبض النجوم )
و يأتي الخطاب الشعري دفقا من المعاني ،و حشدا من الصور تتنامي شيئا فشيئا ، وتتولد صورة العينين : غايتا نخيل ساعة السحر ، صورة رومنسية توحي بالهدوء و السكينة ، والصورة الثانية لشرفتين ينأى عنهما القمر ، صورة توحي بحركة الفعل تنأى و بمفهوم البعد في القصائد التقليدية و لكن التعبير عنه جاء بأسلوب جديد اعتمد على الإيحاء .
و صورة ثالثة ، تجلت في ابتسام العينين ،ربطها الشاعر بحركة الطبيعة ، و كأن الحياة مصدرها عيني الحبيبة ، كما يوحي فعل ابتسم بالسعادة التي تتحقق بفضل حركة العينين ، هذه الصور حسية بصرية تساهم الحركة تدريجيا في تشكيلها و نحتها .
و عناصر الطبيعة تتجمع في العين على أساس اعتبار العين محل البصر و وسيلة الرؤيا و النفاذ إلى عناصر الوجود .
و عناصر الطبيعة تخص العراق ، غابات نخيل فتتطلع الرؤيا نحو الوطن الحبيب .
و ينطلق الخطاب في القسم الأول من القصيدة في اتجاه أول ،من الشاعر إ لى الحبيبة ، يصور فيه أثر الضباب في نفسه ، معبرا عن حزنه بالبكاء ، ويعود بنا فعل ” تستفيق ” إلى ذاكرة الشاعر ،يصوغها في شكل ومضات واقعية
تمتزج بالمسار الغنائي الإنشادي ، وتسمه بنبرة واقعية ، و تجعله يكشف عن المتناقضات .
و نتساءل عن المعنى الذي حمله الشاعر لإنشاد الأطفال للمطر ؟ و للإجابة نكتفي بالإشارة إلى أننا نستطيع أن
نأخذ كلمتي الأطفال و العصافير في معناهما الحقيقي و تظل الوحدة مع ذلك موحية نتيجة الصورة التي ترسمها و ما تخلفه من أبعاد تخييلية لكن الرمز يسحب على الكلمتين فتوحي الأولى بتجدد الحياة ،و طفولة العالم البريء ،و تدل الثانية على الحرية والانطلاق ، ومن هنا يتمكن الشاعر من استدراج السامع و يحمله في رحلة ذهنية ،داخل عالم الدلالات المتنوعة .
و نحن أمام هذا التركيب الإنشادي ،كأننا بالشاعر يقص علينا أنشودة الأناشيد ، رابطا بين همومه والعالم الخارجي
و ينغلق القسم الأول باللازمة جعلها الشاعر على لسان الأطفال ،لأنه ربط بين واقعه و ماضيه و أسس التقابلية بين حاضره المليء بالقلق و الحزن ،و طفولته السعيدة مؤكدا حنينه إلى الماضي ، كما نلاحظ جملة من التداعيات
بين الشاعر و ذاته ،فيقع المزج بينه و طفولته و قدسية المطر .
أما القسم الثاني في القصيدة ،يتغير فيه عنصر الزمن : ” تثاءب المساء ” ، زمن يؤدي به الشاعر معنى الحزن و يتدرج بنا عن طريق التداعي ، فيصلنا صوت الشاعر من أعماق الذكرى المنبثقة من طبقة الوعي السفلي ،و تحتل تداعيات الشاعر المنبثقة من ذاكرة الطفولة حيزا مهما في سلسلة التداعيات و تصدر عنها أغلب الومضات الواقعية النابعة من الماضي ، ويتقابل القسم الثاني مع القسم الأول ، فالطفولة فيه تنشد الفرح ، و في الثاني يتكثف معنى الحزن عن طريق ذكرى الموت ، كما أن الذاكرة لا تبني أحداثا منسقة في الزمان حسب مسار منطقي ، إنما تصدر من مخزون الألم و الحرمان .
و في هذا القسم ربط الشاعر بين الجو الممطر الموحي بالكآبة و بين كآبة الطفل اليتيم و عمق حزنه بسؤاله ، وهنا
يضمن الشاعر الخطاب الشعري مضمونا قصصيا : قصة يتمه واصطدامه بالموت ، كما صور الشاعر معاملة الكبار للصغار في قضية الموت فهم لا يصرحون بها و لو همسا ، و يضمن الشاعر قصة الصياد الحزين الذي يلعن المياه و المطر ليضيف مأساة جديدة دون أن يصرح بها فنفهم أن المطر تحولت إلى مصدر شقاء بعد أن كانت مصدر سعادة
و يتدرج الشاعر في رسم علامات الحزن في الوجود ، فيبدؤها بحزن الطفولة المصدومة بالموت و يربطها بحزن الصياد الشقي و بحزنه ، فتبدو معاناته المكثفة ، و تبرز صورة المطر المتناقضة و يتوجه الشاعر إلى كل الذوات و يصبح الخطاب مرثية تكسبه لغة المراثي لونا قاتما ( دموع _ لحود _تنشج _المزاريب ) .
و يستعيد الشاعر في هذا القسم طيف الحبيبة ، يبوح لها بحزنه بسبب المطر ، و يستعيد جملة من الأحداث كان فيها غريبا بعيدا عن وطنه ، يصوغها في شكل ذكريات و في نفس تفجعي و يتحول الخليج إلى رمز يجسد فيه الشاعر معنى الغربة و الضياع و يساهم الصدى في تعميق غربته صدى يرجعه الخليج كالنشيج و يضاعف الاستفهام حزنه ،و يأتي خطاب الشاعر مترجرجا مثل الدموع يؤديه كاف التشبيه :(كالدم المراق ، كالجياع ، كالحب ، كالأطفال كالموتى ) ضرب من الاختناق أو ما يشبه الاحتضار .
في القسم الثالث يتحول السياب من ذاكرة الغريب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع في العراق ، ويوظف كلمة العراق توظيفا سياسيا واضحا و يتدرج في تعرية واقع وطنه و يحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعي و السياسي ،و يربط بين المطر و بين جوع الفقراء الدائم و يتفاءل بالثورة التي تهب الحياة لكل الناس .
و هنا يصور المأساة الجماعية من خلال نشيد المهاجرين ، نلمس عمق الفاجعة ، فالجوع دائم رغم خصوبة الأرض
و الرحى لا تطحن حبا بل تطحن الحجر ،و التمر الرديء و في دورا نها تدعو إلى الثورة و تظهر مرة أخرى ثنائية الحياة والموت و تتحول تجربة الشاعر من بعدها الذاتي إلى بعد إنساني أعمق ، لتعانق جرح الإنسان في كل زمان و في كل مكان ويصبح الخطاب الشعري احتجاجا على لسان المضطهدين للتعبير عن تطلعاتهم ولتحقيق حياة فضلى
و بلوغ إنسانيتهم كما لعبت الأصوات دورا هائلا في التعبير عن الثورة ، إذ خلقت جوا حماسيا مكثفا أداه صوت الرحى و نداء الشاعر و أصوات المهاجرين ،و زاد الشاعر هذا الواقع إيقاعا دراميا بتضمينه قصة الغريق المجسدة
لمأساة الإنسان و صراعه مع الطبيعة .
قصيدة أنشودة المطر ،جاءت في شكل ابتهال ، مزج فيها الشاعر بين الغنائية الحالمة و بين الواقعية الحادة ، و جاء فيها الرمز على جملة من الثنائيات منها : الحياة و الموت _الذات و الموضوع _الجفاف و الخصب _الظلام و النور _الحزن والفرح . و يبرز صوت الشاعر مبتهلا في حضرة عشتار الهة الخصب و العطاء ، ربة الطبيعة والحياة المتجددة و التي تستمد صفاتها من عناصر الطبيعة . كما لعب الرمز دور الرابط الأساسي لجميع العلاقات ، فتبنى
الحركة من الأنثى رمز الطبيعة إلى الأم و من الأم إلى العراق إلى الخليج ، إلى المطر ، حلقة دائرية تمثل دورة الحياة .
و نهض الرمز بوظيفة أخرى هامة في كسر خط الغنائية الرومنسية الحالمة و خلق حركة انفعالية توحي بنغم تفجعي
يبرز عمق المفارقات المتجذرة في عمق الوجود المجسدة للصراع الإنساني في جل مظاهره .
إن الرمز في قصيدة أنشودة المطر ،كسر هندسة القصيدة التقليدية ، و جعل بنيتها تجمع بين الشعر والغناء و القصة
و الخطاب الباطني و تستقطب موضوعات متعددة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي و تنفصل عما يسمى في النقد
بالغرض و تجعل الحياة بكل مفارقاتها غرضها الرئيسي .
و نلاحظ حركة التداعيات التي تصلنا عبر صوت الشاعر الذي يحملنا من الحاضر إلى الماضي ثم يربط الحاضر بالمستقبل ، ثم يتحرك صوته من الغور إلى السطح و من الذات إلى الواقع الخارجي و تفصح ذاكرة الشاعر عن مخزونها في شكل ومضات واضحة ، تنبثق من ذاكرة الطفل و من ذاكرة الغريب اللاجئ و من ذاكرة المناضل المقموع ،و هذه التداعيات بمثابة الأساس الذي تتكئ عليه القصيدة و قد ظهرت في شكل صور تتوالد فصار
النص تراكما من الصور ، أولها صور تنبني على التشبيه وهي طريقة تحصر الصورة في مجرد وظيفة الوصف
أما الصور التي بناها الشاعر على الطباق فقد استطاعت أن تبرز المفارقة الكامنة في عمق الحياة .
و يبدو التناغم بين الصورة و الموسيقى الداخلية ، فنلاحظ كثرة الأصوات المتضمنة لحرف الشين ، المؤدية لوشوشة صوت المطر ، و بعض الصور أداها الشاعر بأسلوب الجناس و الطباق و الوسائل البلاغية القديمة و بهذا التلوين من التصوير ، تخرج قصيدة أنشودة المطر عن التصنيف الكلاسيكي إذ الصورة فيها وحدة بنائية محورية توحي بالأفكار و تلح عليها، وارتكز إيقاع القصيدة الداخلي على أسلوب التعاود وهو أهم عواملها فقد تكررت كلمة : مطر : 35 مرة و كلمة خليج : 7 مرات ،و كلمة الردى :5 مرات و كلمة العراق : 5 مرات . و تكرار جملة ( ياواهب … ) و ( في كل قطرة مطر ) و تكرار اللازمتين الأولى تختص بالمدى و الثانية تتعلق بالمطر و عموما فإن طابع العبارة يغلب عليها طابع الماء : (نهر .مجداف .يغرق . بحر .سحاب . غيوم .مطر . قطرة خليج .. الخ ).
إن ما يمكن الإشارة إليه أن إثراء القصيدة بالبناء القصصي الدرامي بلغ أقصاه في أنشودة المطر ،وقد ألغت رومنسية الماضي بشكل غير واضح و رسمت الخطوط الكبرى للقصيدة العربية المعاصرة مجسدة قلق البحث
و التجديد في أفق مستقبلها .
و لعلنا نتساءل عن توظيف بدر شاكر السياب للأسطورة في هذه القصيدة ، وللإجابة لابد من الإشارة أن قصائده السابقة لم تكن الأسطورة فيها دائما قادرة على الالتحام العضوي لما جاء فيها من ثقل في التوظيف و لما كانت الألغاز فيها واردة لتضليل الرقابة ، ولكنه في قصيدة “أنشودة المطر “،أم ديوانه المسمى بها ابتكر فيها رمزا خاصا
به هو “المطر “، جعله يلف النص و يتغلغل في جسده ، له شحنة دلالية ثرية وهو العمود الذي انطلاقا منه تتفرع القصيدة في اتجاهين ، اتجاه اسطوري واتجاه واقعي .
كما نسجل كيف تناول السياب موضوع الخصب في الطبيعة فقد وثب به وثبة عبقرية و حمل المطر رمز الثورة الاجتماعية التي يريد أن تتفجر في العراق ،و كيف جسد بإيقاع صوت المطر صورة درامية في المفارقات بين الخير
و الشر و المجاعة و الاخضرار ، لقد جعل السياب كلمة مطر رمزا أفرغ فيه معاناته و رؤياه .
إن الأبعاد الأسطورية في القصيدة أهم مفاتيح فضاء المعنى و الالمام بأسطورة الخصب الأساسية ، أسطورة أدونيس و عشتروت ، فضاء دلالي تتجدد منه دورة الحياة ، و تنبع منه جل العلاقات : علاقة الابن بأمه _علاقة الأنثى بالطبيعة _علاقة الفصول بالموت و الميلاد _علاقة الصياد بالماء _علاقة الغريق باللؤلؤ _ علاقة الماء بالماء في دورته _علاقة الذكر بالأنثى علاقة الوطن بالأرض الأم عشتروت _علاقة الشاعر بالمجتمع _
إن الأسطورة عالم لخلق فضاء الصورة و البنية الأسطورية عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته .و أنشودة المطر رمز الأمل و الانتصار على القمع و البوار ،و الأسطورة فيها عالم لخلق فضاء الصورة و بنيتها عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته و جمع حقلها الدلالي تجربة السياب السياسية و الاجتماعية و الذاتية و الرؤيا الشعرية التحديثية
ورغم ما فيها من أصداء شعر أليوت و من أساطير الخصب البابلية و الكنعانية بشكل عام تبقى إنجازا باهرا من إنجازات الشعر العربي في الخمسينات .
ريم العيساوي-تونس
* عن الناقد العراقي