وأخيراً نصل معاً، أو أصل وحدي، إلى الناحية المظلمة من علي محمود طه، شاعرنا الرقيق النابه، بعد أن جد بنا المسير
تلك الناحية المظلمة التي لا يجيد كثير من القراء الظالمين أن يبصروا إلا فيها. . . وهي ناحية تسهل الكتابة فيها أكثر مما تسهل الكتابة وتسلسل في الناحية المقابلة. . . الناحية المشرقة الزاهية. . . التي تعنى بالحسنات، أضعاف ما تعنى بالسيئات. . .
من السهل جداً يا صديقي القارئ، سواء أكنت ناقماً أم راضياً، أن يتناول الإنسان أحسن الأعمال الأدبية فيردها سوءاتٍ كلها. . . ومن السهل جداً أن يغمض الإنسان عينيه عن أمجاد الكاتب أو الشاعر، فلا يرى إلا ظلمات يتدجى بعضها فوق بعض. . . وقد عاهدت نفسي ألا أقع في هذا الظلم الأدبي الصارخ وأنا أنقد أحداً من أعز الناس على أدبائنا المصريين. . . بل أدبائنا العرب أجمعين، فرب ثناء يصادف محله، فكون تزكية للعبقرية الكامنة التي تستحق الثناء وتستأهله. . . ويكون سبباً في أن تفعل هذه العبقرية الأفاعيل. . . ورب قدح ظالم لا خير فيه، يسميه صاحبه نقداً وما هو بنقد، لكنه سم يسري في بنيان نهضتنا فيثبط الهمم، ويفت في العزائم، ويحطم الآمال. . . وكم كنت أتمنى ألا أكتب هذا المقال في نقد علي محمود طه. . . لأني مهما اجتهدت في تلقف ما أنقده به، وآخذه عليه، فلن أفوز إلا بهنات هينات لا يمكن أن تنال مطلقاً من شاعريته التي نضجت، أو من فنه الذي اكتمل
وربما تركت أكثر دواوينه، فلا أعرض لها إلا من بعد، وفي مناسبات قليلة، حينما أضطر إلى ضرب الأمثال للملاحظات التي أسوقها فيما يلي. . . ربما تركت أكثر دواوينه إذن. . . لأفرغ لمنظومته (أشباح وأرواح). . . تلك المنظومة التي كان من العسير على فهمي الضيق أن يلم بها، بالرغم مما كنت أقيم به من قراءة الأساطير، ومصاحبة هوميروس وأبولونيوس وفرجيل وأبي العلاء وابن شهيد ودانتي وملتون، وطول مداعبة خيالي لأخيل وبتروكلوس وأوديسيوس وأجاكس وهكتور وباريس، وإينياس وابن القارح، وزهير بن نمير، وبياتريس، وعيسى بن مريم، وهذه النخبة الساحرة من أبطال الإلياذة والأوديسة والإلياذة، ورسالة الغفران، والزوابع والتوابع، والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .
فمالي قرأت هذه الروائع كلها وفهمتها على وجهها ثم أجدني غبياً أشد الغباء حين أتناول هذه الأرواح والأشباح فلا أستطيع أن أبلعها. . . نله أن أهضمها، ولا أستطيع أن أطير مع الشاعر البق المحبوب في تلك الجواء التي لم أتبين ألا زوردية هي، أم هي ظلمات في ظلمات في ظلمات!
يخبرنا الشاعر في المقدمة أنه تجرد من طيفه، (أو أن روحه انسدقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة. . . وكأنه بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق أن عاشت فيه عند بعثها الأول، وأنه وجد نفسه في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفس في هذا الجو طليقاً حراً لا تقيده بيئة ولا عقيدة، ولا يحد من حريته حذر أو اتهام، وأنه أرسل بصره في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا به في ختام قصيدته لا نزال في ذات الطريق لم يصل إلى غاية، ولم نوف على نهاية. . .) ويخبرنا أنه سمع حواراً في عالم الأسرار والأقدار يجري بين حوريات من صواحب الفن ورباته، هن: سافو وبليتيس وتابيس. . . ثم هرمز. . . أو هرميس كما سماه الشاعر. . . يحكم بينهن. . .
فلو أن هذا هو الذي يقرأه الإنسان في تلك المنظومة الغريبة لهان الأمر ولما اتهمت نفسي بالبلادة وفهمي بالغباء. . . لكنني أقرأ من هذه المنظومة هذه المقطوعة العجيبة الشائقة (حواء) فأجد قلباً يجيد وصف المرأة. هذه الجنة التي زان بها الله وجه الحياة. . . وأجد هذا القلب يعترف بالله وبالأقدار، وذلك حيث يقول:
قضى الله أن تُغوىَ الخالدين ... وتُغرىَ بالمجد عشاقها
وحيث يقول في ختام المنظومة:
من الخير والشر إلهامها ... وما هو إلا القديم السماعْ
فدع للسماء تصاريفها ... فقد أذن البعث بعد انقطاعْ
وهي أبيات يرددها صوت من السماء. . . فأين هو هذا الانطلاق من البيئة والعقيدة؟ وأين هو طريق أفلاطون ومثله العليا؟! أقول لك الحق يا صديقي على! إني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك. . . ورأيي فيك هو الذي أعلنته في كلماتي السابقة حينما دافعت عنك.
ودفعت عنك ما يظنه الناس فيك، وما تظنه أنت بنفسك من البعثرة بين الزهر والخمر، وبين أطياف سافو وأفروديت وتاييس وبليتيس. . .
على أنني لست أدري لماذا تستأثر بخيالك أشباح اليونان الغابرة، ولماذا نسيت في هذه الأشباح والأرواح مصر الخالدة الحاضرة؟ فهل رأيت كيف لم تستطع الانسلاخ من الشرق العزيز الحبيب حين هتف بك هذا الصوت من السماء في آخر المنظومة، فردك إلى وادي الوحدانية المؤمنة، وأقصاك عن الأولمب الوثني ذي الآلهة المتعددة، وذلك حينما قلت:
أم الشك آذنني بالصرا ... ع أم حل بي غضب المنتقمْ
فجلجل في أذنيك - أو أوحى إليك. . . بأن تدع للسماء تصاريفها. . .
ولكن. . . لا غبار عليك، فلست أول مفتون بجمال الميثولوجيا اليونانية التي ظلت أحقاباً وأحقاباً مصدراً لإلهام الشعراء. . . ولعلك جاعل لمصر نصيباً في غير هذه المنظومة إن شاء الله.
هذا من حيث الموضوع. . . أما من حيث الشكل فالنقد أيسر ما يجري به قلم الناقد. . . ولعل أول ما يلفت النظر في سياق أشباح وأرواح هو طريقة الانتقال هذه من مقطوعة إلى مقطوعة، ومن حوار إلى حوار. . . ولو كانت المنظومة تمثيلية لما كان ثمة موضع لمؤاخذة. ولكن المنظومة قصة خيالية، فلماذا لم تنظم هذه الكلمات الانتقالية التي كتبت بالمداد الأحمر، مع أنها تصور مناظر خلابة كهذه الكلمات التي مهج بها لمقطوعة (الحية الخالدة)، والكلمات الواردة في صفحة 64 التي يقول فيها: (هرمز ينظر إلى غمائم بيض) قريبة وكأنه يترقب شيئاً والتي في صفحة 65 والتي في صفحة 78 التي تصور انشقاق الغمامة عن الشاعر في موقف اضطراب. . . . . .
لقد كان هوميروس بارعاً جداً في مثل هذه الانتقالات. . . لقد كان ينطق أخيل مثلاً بكلام، فإذا انتهى أخيل وأراد خصمه هكتور أن يتكلم، تجلت عبقرية هوميروس في وصف أثر كلمات أخيل في نفس خصمه، وفي نفوس الطرواديين. . . فإذا تكلم هكتور وفرغ من كلامه، مهد هوميروس للمنظر الذي يلي بشعر يعتبر من غرر الإلياذة الخالدة. وكذلك كان يصنع في الأوديسة. ومنظر انشقاق الغمامة عن الشاعر هو منظر تصويري مبتكر، فكيف يكون خيال شاعرنا الرقيق الموهوب أكثر عبقرية من تعبيره الكلامي؟ ولماذا لم يلبس هذا المنظر حلته البهية السنية من شعر علي محمود طه البهي السني؟ لماذا؟. . . لماذا هذه السرعة في الإخراج؟
ولقد تغنيت طويلاً بحسن اختيار الشاعر لبحوره وقوافيه ولكني لاحظت مع ذلك أنه كان ينام أحياناً عن اختيار هذه البحور، وينام عنها ملء أجفانه. وكان حين يصنع ذلك يرسل كلاماً لا هو بالشعر فتحمد موسيقاه، ولا هو بالنثر فتحمل هجيراه: ومن ذلك هذا الكلام الذي تقوله حوريتنا ربة الريح الغربية في أغنية الرياح الأربع ص 73:
أنا ريح الغرب ... بنت الآباد
أنا همس القلب ... أنا رجع الشادي
أنا رمز الحب ... في هذا الوادي
ثم هذا الكلام الذي يقوله ماتوكا العبد الأسود ص 95:
مائدة حافلة ... كثيرة الأغراء
جاءت بها قافلة ... تدلف من سيناء
فأين موسيقا علي محمود طه وأين غناؤه وألوانه في هذا الكلام؟ وقل مثل هذا في ذلك النشيد الذي يهرف به باتوزيس ص 33
واحسبني قد انزلقت برغمي إلى أعمق أعماق الناحية المظلمة من علي محمود طه، وعلى الرغم مني. . . ولذلك فأنا أوثر أن أعبر هذه الظلمات القليلة في سرعة خاطفة، لأن أنوار الشاطئ الآخر المتلألئة تجذبني في قوة وعنف. . .
فمما اصطدمت به في تلك الظلمات انتقال الشاعر في كلام المتحدث الواحد من بحر إلى بحر، كما يقول ماتوكا (ص96):
هو عند الشاطئ يستقصي ... نبأ ويسائل ركبانا
إن شاء سيدي أمر ... أرفع هاتيك الستر
ولست أجري لماذا لم ينظم البيت الثاني من المتدارك كالذي قبله؟ فإن اعتذر بأن البيت القاني كان فاتحة كلام جديد، فما أظنه حرياً بباتوزيس الشاعر أن يجري وراء ماتوكا الخادم في بحر يستفتحه له!
ومن ذلك قول أزمردا ص 40 أقيم في قصر؟ وقيم القصور؟
وطوع سلطاني هذي البحور؟
ويمضي في النظم على هذا الميزان، ومن تلك القافية، ثم تراه يغير الميزان ويبقى على القافية فيقول:
يثير أهواء الحسان الحورْ
حتى تُرى في ظله المنشورْ
يحملها إلى الغد المقدورْ؟
ولست أدري ما ذنب هذه المصاريع الثلاثة الأخيرة لتشذ عن موسيقا المصاريع العشرة التي سبقتها؟
ومما صدمني في هذه الظلمات القليلة بعض الانحرافات (النحوية) التي لا أسيغها، ولا أحسب أن لغتنا العربية تسيغها. . .
فمن ذلك إفراد فعلاء التي تصف جمعاً إذا كانت فعلاء هذه صفة لونية. . . فالغرف الحمراء ص 36 خطأ في رأيي، والصحيح أن يقال (الغرف الحمر) ولا داعي مطلقاً إلى تحدي الناس جميعاً بأن يوردوا مثالاً واحداً أفردت فيه فعلاء اللونية إذا وصفت جمعاً من قرآن أو كلام جاهلي أو إسلامي. . . ولن يقبل عذر معتذر بأن أعلام كتابنا يستعملون ذلك اليوم
ومن الانحراف النحوي أيضاً قول الشاعر (لا زال) ص 48 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع أدري معنى (إضطرح) ص 49 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع الشاعر في هذه الغلطة الذائعة فيقول: الأسى الداوي مكان المدوي (الملاح التائه ص 80)
على أن هذا كله ليس شيئا في مفاتن شاعرنا الرقيق العبقري الموهوب، الذي أصبح لسانا من ألسنة مصر الحديثة تدخره لمجدها وتنطوي عليه حناياها.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 554
بتاريخ: 14 - 02 - 1944
تلك الناحية المظلمة التي لا يجيد كثير من القراء الظالمين أن يبصروا إلا فيها. . . وهي ناحية تسهل الكتابة فيها أكثر مما تسهل الكتابة وتسلسل في الناحية المقابلة. . . الناحية المشرقة الزاهية. . . التي تعنى بالحسنات، أضعاف ما تعنى بالسيئات. . .
من السهل جداً يا صديقي القارئ، سواء أكنت ناقماً أم راضياً، أن يتناول الإنسان أحسن الأعمال الأدبية فيردها سوءاتٍ كلها. . . ومن السهل جداً أن يغمض الإنسان عينيه عن أمجاد الكاتب أو الشاعر، فلا يرى إلا ظلمات يتدجى بعضها فوق بعض. . . وقد عاهدت نفسي ألا أقع في هذا الظلم الأدبي الصارخ وأنا أنقد أحداً من أعز الناس على أدبائنا المصريين. . . بل أدبائنا العرب أجمعين، فرب ثناء يصادف محله، فكون تزكية للعبقرية الكامنة التي تستحق الثناء وتستأهله. . . ويكون سبباً في أن تفعل هذه العبقرية الأفاعيل. . . ورب قدح ظالم لا خير فيه، يسميه صاحبه نقداً وما هو بنقد، لكنه سم يسري في بنيان نهضتنا فيثبط الهمم، ويفت في العزائم، ويحطم الآمال. . . وكم كنت أتمنى ألا أكتب هذا المقال في نقد علي محمود طه. . . لأني مهما اجتهدت في تلقف ما أنقده به، وآخذه عليه، فلن أفوز إلا بهنات هينات لا يمكن أن تنال مطلقاً من شاعريته التي نضجت، أو من فنه الذي اكتمل
وربما تركت أكثر دواوينه، فلا أعرض لها إلا من بعد، وفي مناسبات قليلة، حينما أضطر إلى ضرب الأمثال للملاحظات التي أسوقها فيما يلي. . . ربما تركت أكثر دواوينه إذن. . . لأفرغ لمنظومته (أشباح وأرواح). . . تلك المنظومة التي كان من العسير على فهمي الضيق أن يلم بها، بالرغم مما كنت أقيم به من قراءة الأساطير، ومصاحبة هوميروس وأبولونيوس وفرجيل وأبي العلاء وابن شهيد ودانتي وملتون، وطول مداعبة خيالي لأخيل وبتروكلوس وأوديسيوس وأجاكس وهكتور وباريس، وإينياس وابن القارح، وزهير بن نمير، وبياتريس، وعيسى بن مريم، وهذه النخبة الساحرة من أبطال الإلياذة والأوديسة والإلياذة، ورسالة الغفران، والزوابع والتوابع، والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .
فمالي قرأت هذه الروائع كلها وفهمتها على وجهها ثم أجدني غبياً أشد الغباء حين أتناول هذه الأرواح والأشباح فلا أستطيع أن أبلعها. . . نله أن أهضمها، ولا أستطيع أن أطير مع الشاعر البق المحبوب في تلك الجواء التي لم أتبين ألا زوردية هي، أم هي ظلمات في ظلمات في ظلمات!
يخبرنا الشاعر في المقدمة أنه تجرد من طيفه، (أو أن روحه انسدقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة. . . وكأنه بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق أن عاشت فيه عند بعثها الأول، وأنه وجد نفسه في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفس في هذا الجو طليقاً حراً لا تقيده بيئة ولا عقيدة، ولا يحد من حريته حذر أو اتهام، وأنه أرسل بصره في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا به في ختام قصيدته لا نزال في ذات الطريق لم يصل إلى غاية، ولم نوف على نهاية. . .) ويخبرنا أنه سمع حواراً في عالم الأسرار والأقدار يجري بين حوريات من صواحب الفن ورباته، هن: سافو وبليتيس وتابيس. . . ثم هرمز. . . أو هرميس كما سماه الشاعر. . . يحكم بينهن. . .
فلو أن هذا هو الذي يقرأه الإنسان في تلك المنظومة الغريبة لهان الأمر ولما اتهمت نفسي بالبلادة وفهمي بالغباء. . . لكنني أقرأ من هذه المنظومة هذه المقطوعة العجيبة الشائقة (حواء) فأجد قلباً يجيد وصف المرأة. هذه الجنة التي زان بها الله وجه الحياة. . . وأجد هذا القلب يعترف بالله وبالأقدار، وذلك حيث يقول:
قضى الله أن تُغوىَ الخالدين ... وتُغرىَ بالمجد عشاقها
وحيث يقول في ختام المنظومة:
من الخير والشر إلهامها ... وما هو إلا القديم السماعْ
فدع للسماء تصاريفها ... فقد أذن البعث بعد انقطاعْ
وهي أبيات يرددها صوت من السماء. . . فأين هو هذا الانطلاق من البيئة والعقيدة؟ وأين هو طريق أفلاطون ومثله العليا؟! أقول لك الحق يا صديقي على! إني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك. . . ورأيي فيك هو الذي أعلنته في كلماتي السابقة حينما دافعت عنك.
ودفعت عنك ما يظنه الناس فيك، وما تظنه أنت بنفسك من البعثرة بين الزهر والخمر، وبين أطياف سافو وأفروديت وتاييس وبليتيس. . .
على أنني لست أدري لماذا تستأثر بخيالك أشباح اليونان الغابرة، ولماذا نسيت في هذه الأشباح والأرواح مصر الخالدة الحاضرة؟ فهل رأيت كيف لم تستطع الانسلاخ من الشرق العزيز الحبيب حين هتف بك هذا الصوت من السماء في آخر المنظومة، فردك إلى وادي الوحدانية المؤمنة، وأقصاك عن الأولمب الوثني ذي الآلهة المتعددة، وذلك حينما قلت:
أم الشك آذنني بالصرا ... ع أم حل بي غضب المنتقمْ
فجلجل في أذنيك - أو أوحى إليك. . . بأن تدع للسماء تصاريفها. . .
ولكن. . . لا غبار عليك، فلست أول مفتون بجمال الميثولوجيا اليونانية التي ظلت أحقاباً وأحقاباً مصدراً لإلهام الشعراء. . . ولعلك جاعل لمصر نصيباً في غير هذه المنظومة إن شاء الله.
هذا من حيث الموضوع. . . أما من حيث الشكل فالنقد أيسر ما يجري به قلم الناقد. . . ولعل أول ما يلفت النظر في سياق أشباح وأرواح هو طريقة الانتقال هذه من مقطوعة إلى مقطوعة، ومن حوار إلى حوار. . . ولو كانت المنظومة تمثيلية لما كان ثمة موضع لمؤاخذة. ولكن المنظومة قصة خيالية، فلماذا لم تنظم هذه الكلمات الانتقالية التي كتبت بالمداد الأحمر، مع أنها تصور مناظر خلابة كهذه الكلمات التي مهج بها لمقطوعة (الحية الخالدة)، والكلمات الواردة في صفحة 64 التي يقول فيها: (هرمز ينظر إلى غمائم بيض) قريبة وكأنه يترقب شيئاً والتي في صفحة 65 والتي في صفحة 78 التي تصور انشقاق الغمامة عن الشاعر في موقف اضطراب. . . . . .
لقد كان هوميروس بارعاً جداً في مثل هذه الانتقالات. . . لقد كان ينطق أخيل مثلاً بكلام، فإذا انتهى أخيل وأراد خصمه هكتور أن يتكلم، تجلت عبقرية هوميروس في وصف أثر كلمات أخيل في نفس خصمه، وفي نفوس الطرواديين. . . فإذا تكلم هكتور وفرغ من كلامه، مهد هوميروس للمنظر الذي يلي بشعر يعتبر من غرر الإلياذة الخالدة. وكذلك كان يصنع في الأوديسة. ومنظر انشقاق الغمامة عن الشاعر هو منظر تصويري مبتكر، فكيف يكون خيال شاعرنا الرقيق الموهوب أكثر عبقرية من تعبيره الكلامي؟ ولماذا لم يلبس هذا المنظر حلته البهية السنية من شعر علي محمود طه البهي السني؟ لماذا؟. . . لماذا هذه السرعة في الإخراج؟
ولقد تغنيت طويلاً بحسن اختيار الشاعر لبحوره وقوافيه ولكني لاحظت مع ذلك أنه كان ينام أحياناً عن اختيار هذه البحور، وينام عنها ملء أجفانه. وكان حين يصنع ذلك يرسل كلاماً لا هو بالشعر فتحمد موسيقاه، ولا هو بالنثر فتحمل هجيراه: ومن ذلك هذا الكلام الذي تقوله حوريتنا ربة الريح الغربية في أغنية الرياح الأربع ص 73:
أنا ريح الغرب ... بنت الآباد
أنا همس القلب ... أنا رجع الشادي
أنا رمز الحب ... في هذا الوادي
ثم هذا الكلام الذي يقوله ماتوكا العبد الأسود ص 95:
مائدة حافلة ... كثيرة الأغراء
جاءت بها قافلة ... تدلف من سيناء
فأين موسيقا علي محمود طه وأين غناؤه وألوانه في هذا الكلام؟ وقل مثل هذا في ذلك النشيد الذي يهرف به باتوزيس ص 33
واحسبني قد انزلقت برغمي إلى أعمق أعماق الناحية المظلمة من علي محمود طه، وعلى الرغم مني. . . ولذلك فأنا أوثر أن أعبر هذه الظلمات القليلة في سرعة خاطفة، لأن أنوار الشاطئ الآخر المتلألئة تجذبني في قوة وعنف. . .
فمما اصطدمت به في تلك الظلمات انتقال الشاعر في كلام المتحدث الواحد من بحر إلى بحر، كما يقول ماتوكا (ص96):
هو عند الشاطئ يستقصي ... نبأ ويسائل ركبانا
إن شاء سيدي أمر ... أرفع هاتيك الستر
ولست أجري لماذا لم ينظم البيت الثاني من المتدارك كالذي قبله؟ فإن اعتذر بأن البيت القاني كان فاتحة كلام جديد، فما أظنه حرياً بباتوزيس الشاعر أن يجري وراء ماتوكا الخادم في بحر يستفتحه له!
ومن ذلك قول أزمردا ص 40 أقيم في قصر؟ وقيم القصور؟
وطوع سلطاني هذي البحور؟
ويمضي في النظم على هذا الميزان، ومن تلك القافية، ثم تراه يغير الميزان ويبقى على القافية فيقول:
يثير أهواء الحسان الحورْ
حتى تُرى في ظله المنشورْ
يحملها إلى الغد المقدورْ؟
ولست أدري ما ذنب هذه المصاريع الثلاثة الأخيرة لتشذ عن موسيقا المصاريع العشرة التي سبقتها؟
ومما صدمني في هذه الظلمات القليلة بعض الانحرافات (النحوية) التي لا أسيغها، ولا أحسب أن لغتنا العربية تسيغها. . .
فمن ذلك إفراد فعلاء التي تصف جمعاً إذا كانت فعلاء هذه صفة لونية. . . فالغرف الحمراء ص 36 خطأ في رأيي، والصحيح أن يقال (الغرف الحمر) ولا داعي مطلقاً إلى تحدي الناس جميعاً بأن يوردوا مثالاً واحداً أفردت فيه فعلاء اللونية إذا وصفت جمعاً من قرآن أو كلام جاهلي أو إسلامي. . . ولن يقبل عذر معتذر بأن أعلام كتابنا يستعملون ذلك اليوم
ومن الانحراف النحوي أيضاً قول الشاعر (لا زال) ص 48 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع أدري معنى (إضطرح) ص 49 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع الشاعر في هذه الغلطة الذائعة فيقول: الأسى الداوي مكان المدوي (الملاح التائه ص 80)
على أن هذا كله ليس شيئا في مفاتن شاعرنا الرقيق العبقري الموهوب، الذي أصبح لسانا من ألسنة مصر الحديثة تدخره لمجدها وتنطوي عليه حناياها.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 554
بتاريخ: 14 - 02 - 1944