كان – ولا يزال – ولع الناس في المغرب (بالطبوع) الأندلسية كبيرا جدا، - فهي سلوة الأنفاس وقوت الأرواح، وبهجة المجالس والأفراح – يقبل القوم عليها ويتهافتون على سماعها بشغف، ويتلذذون بأنغامها ويتناشدون أدوارها وموازينها و«صنائعها» بما فيها من موشحات وازجال، وتوشيحات وأقفال، فيسبحون في سماء فنها الساحر، ويرافقون ألحانها بحركات موقعة، وبنقرات خفيفة، وأصوات منخفضة شجية، تجعل منهم رفقاء المغنيين بدون أن يشعروا أحيانا، وينظمون على منوالها في بعض الظروف بكلام يوافق المقام.
غير أن هذا الولع أخذ يخف شيئا فشيئا منذ أوائل الربع الثاني من القرن الحالين فقد غزت الموسيقى الشرقية – واخص منها المصرية المتأثرة بالأوربية الحديثة – البيئات الاجتماعية المغربية عن طريق الأثير والأشرطة السينمائية، فكان مفعولها شديد الأثر بين جميع طبقات الشعب، فدخلت البيوت والأندية والمجتمعات العامة وانتشرت انتشارا عظيما، خصوصا بين الشيء الجديد وربات الخدور، فاقبلوا عليها لخفتها وسهولة التقاطها وانطباعها في الذهن.
فأهملت الموسيقى الأندلسية السامية، وظهرت في سمائها أخطار أخذت تهدد كيانها، فخاف هواة الفن وأنصاره على «الآلة» من الضياع، وفقد هذا التراث الفني الثمين الذي ورثوه أجداد كرام وحافظوا عليه جيلا بعد جيل.
فقام فريق من الغير على الموسيقى الأندلسية يدافعون عنها ويناضلون في سبيل أحيائها، واخذوا يعقدون الحلقات ويؤلفون الأجواق ويقيمون الحفلات ويتباحثون في الطبوع والموازين، «الصنائع» والألحان، ويجتهدون في ضبطها وتذليل صعابها بالدرس والتمرين ويعملون على مل شعت ما تفرق منها وجمع ما تشتت من أصولها وفروعها.
فكانت هذه المجالس والأندية الفنية مع الأجواق المختارة، النواة الأساسية والعامل الفعال لإنشاء مدرسة موسيقية في تطوان، غايتها: إحياء الفن الأندلسي والمحافظة عليه، فعلاقة هذه المدرسة تشجيعا كبيرا من أنصار الفن ومساعدان قيمة من السلطات، وأتت بثمار طيبة، ثم توسعت الفكرة بإنشاء قسم الأبحاث الموسيقية فكان دفه الأساسي: البحث والدرس والتنقيب، وجمع ما تفرق من الطبوع، وإلحاق بالأصول الفروع، ودراسة ما دخل عليها من تعديلات وزيادات وجمع ما تشتت من أمهات الألحان والأنغام، وتسجيلها وضبطها بالنوطة، وذلك محافظة على « الآلة» وصيانتها من الضياع مع مرور الزمن.
ولقد كان قديما يفاخر الموسيقي بأنه يحسن توقع صنعة أندلسية من نوبة ما، يجهلها بقية المغنيين ولا يعرف ميزانها إلا هو وحده، فيحفظها في صدوره ويبخل بها على رفقائه، فيموت « الفنان» ويدفن معه سر الصنعة والميزان.
فأمام هذا الخطر المحدق « بالآلة» قام على جنب الأجواق فريق من أنصارها وهواتها – من أشهر الموسيقيين الأوربيين – بالتنقيب والبحث عن مصادر جمال الموسيقى الأندلسية وأصولها فروعها ومشتقاتها وعمق غورها واتساع بحرها، ودرس مصطلحاتها وأسرارها وتسجيلها.
وقد كان الموسيقي الاسباني المشهور السنيور «بوستيلو» يقوم منذ ربع قرن بدراسات جدية حول هذا الموضوع، فجمع كثيرا من الطبوع والأنغام التي كانت متفرقة، وسجل البعض منها بالنوطة ووضع جدولا بالصنائع والموازين والألحان المفقودة، وحث أرباب الفن على الاجتهاد في البحث عنها. غير انه مع الأسف لم تنتشر أبحاث هذا لموسيقي العالم، إذا استثنينا منها بعض مقالات متفرقة وتقارير رسمية رفعت في ذلك العهد إلى السلطات المختصة.
ثم برز العالم الموسيقي الفرنسي المشهور « الكسي شوطان» بأبحاثه الدقيقة ونشر مع النوطة «ميزان البسيط» من نوبة العشاق، وجدولا قيما في الموسيقى المغربية، فكان عمله هذا مساهمة فعالة في دراسات الموسيقى الأندلسية. وكان قبل ذلك قد نشر العلامة الإسباني المعروف والمستشرق الجليل( ضون خوليان ريبيرا) أبحاثه القيمة في الموسيقى العربية والأندلسية، وكذلك العلامة الفرنسي المشهور « البارون ردولف درلانجه» قد نشر أبحاثا دقيقة ودراسات قيمة في الموضوع وقد سلك طريقة بعض العلماء الباحثين وطرقوا بدراساتهم الدقيقة هذا الموضوع، منهم العلامة « جيل روانه» فقد نشر عدة أبحاث في دائرة المعارف الموسيقية « لافنينياك» حول الموسيقى العربية والإفريقية والأندلسية، ونشر أيضا العلامة الإنجليزي «جورج فارمر» عدة أبحاث في هذا الموضوع.
ثم جاء حضرة الباحثة الفاضل، العالم الفرنسيسكاني المحترم(الاب باترسينيو غرسيا)، وساهم مساهمة فعالة في دراسات الموسيقى الأندلسية، فحقق ونقب وضبط بعض طبوعها بالنوطة مع تعليقات وشروح وافية، ونشر سنة 1941كتابه المشهور « الموسيقى الإسبانية الإسلامية بالمغرب» وكان قد شارك قبل هذا التاريخ في المؤتمر الأول للموسيقى المغربية المنعقد بفاس من 6 إلى 10 ماي سنة 1939، ونشر كتابه «صدى المغرب» ولا يزال حضرة ( الاب باتروسيبنيو) يواصل بنشاط أبحاثه في هذا الميدان، ثم قام حضرة الموسيقى العالم والبحاثة المعروف( ضون اركاديو دي لاريا بالاثنين) بدراسات وأبحاث واسعة النطاق استغرقت عدة سنوات جمع في خلالها كثيرا من درر كنوز هذا الفن وسجل قسما منها بالنوطة بعد درسها وتنسيقها ومقابلتها بالموسيقى الأوربية، ولا يزال هذا البحاثة يتابع أبحاثه بهمة لا تعرف الملل، فقد وجد أثناء دراسته الموسيقى الأندلسية – كما صرح لنا – بحرا عظيما من الفن السامي، عميق إقرار، متشعب التيارات متماسك الدائرات، متفرع الشعاب والأحواض، غير أنها تصب جميعها في محيط واحد كبير منسجم، يحتاج الباحث أعماقه ودرس قيمة جواهره وتمييز درره والاستفادة من كنوزه وتذوق فنونه.
فإن الموسيقى الأندلسية – وهي غنية جدا بألحانها وأنغامها، منسجمة التأليف – تدل على نضوج فني عظيم نتيجة مجهودات وأعمال عدة قرون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من دقة ومرونة وكمال، فهي طويلة النفس، محكمة الحلقات، متناسقة الموازين، دقيقة الصنائع، متماسكة الأنغام، لطيفة الوقع والتأثير على من يتذوقها ويدرك أسرار جمالها.
وإنه لينذر أن نجد معزوفات أوربية مهما سمت في الفن أن تحكيها أو تجاريها في طول النفس واتساع المجال الفني ودقة التركيب والأوزان، فإن اقرب المعزوفات إليها«السونيت» من حيث تعدد أقسامها وتنوع أنغامها وطول النفس الموسيقى واتساع المجال الفنين فكل نوبة أندلسية هي معزوفة تامة قائمة بذاتها، ومؤلف فني كامل الفصول والأجزاء، تام الألحان والأنغام بجميع مقدماتها وتواليها، وتوشياتها وأقفالها وخرجاتها، لا يدرك سر جمالها وروعتها إلا من تعمق في دراستها وتبحر في فنونها، فقد بهرت بغناها أساتذة الفن من الباحثين الأوربيين الذين اقبلوا على دراستها بتعمق، حيث اظهروا إعجابهم بها وبسمو روعتها ولطف ألحانها التي نضجت في وقت كانت فيه الموسيقى الأوربية عبارة عن مواد خادمة متراكمة بدون صقل وتنظيم، إذا استثنينا من ذلك بعض قطع وأناشيد غريغورية قبل أن تتأثر بالموسيقى السكسونية، وذلك قبل النهضة الموسيقية الأوربية بكثير.
وقد صرح لي أحد أقطاب هذا الفن بعد أن درس «الآلة» وفنها وأسرارها عدة سنوات، قائلا: إنني ابتدأت الآن افهم وأتذوق الموسيقى الأندلسية، وكل يوم يزداد شغفي بها، وكل بحث أقوم به في هذا الميدان يظهر لي درة جديدة من درر كنوز فنونها الرائعة.
* دعوة الحق ع/9
غير أن هذا الولع أخذ يخف شيئا فشيئا منذ أوائل الربع الثاني من القرن الحالين فقد غزت الموسيقى الشرقية – واخص منها المصرية المتأثرة بالأوربية الحديثة – البيئات الاجتماعية المغربية عن طريق الأثير والأشرطة السينمائية، فكان مفعولها شديد الأثر بين جميع طبقات الشعب، فدخلت البيوت والأندية والمجتمعات العامة وانتشرت انتشارا عظيما، خصوصا بين الشيء الجديد وربات الخدور، فاقبلوا عليها لخفتها وسهولة التقاطها وانطباعها في الذهن.
فأهملت الموسيقى الأندلسية السامية، وظهرت في سمائها أخطار أخذت تهدد كيانها، فخاف هواة الفن وأنصاره على «الآلة» من الضياع، وفقد هذا التراث الفني الثمين الذي ورثوه أجداد كرام وحافظوا عليه جيلا بعد جيل.
فقام فريق من الغير على الموسيقى الأندلسية يدافعون عنها ويناضلون في سبيل أحيائها، واخذوا يعقدون الحلقات ويؤلفون الأجواق ويقيمون الحفلات ويتباحثون في الطبوع والموازين، «الصنائع» والألحان، ويجتهدون في ضبطها وتذليل صعابها بالدرس والتمرين ويعملون على مل شعت ما تفرق منها وجمع ما تشتت من أصولها وفروعها.
فكانت هذه المجالس والأندية الفنية مع الأجواق المختارة، النواة الأساسية والعامل الفعال لإنشاء مدرسة موسيقية في تطوان، غايتها: إحياء الفن الأندلسي والمحافظة عليه، فعلاقة هذه المدرسة تشجيعا كبيرا من أنصار الفن ومساعدان قيمة من السلطات، وأتت بثمار طيبة، ثم توسعت الفكرة بإنشاء قسم الأبحاث الموسيقية فكان دفه الأساسي: البحث والدرس والتنقيب، وجمع ما تفرق من الطبوع، وإلحاق بالأصول الفروع، ودراسة ما دخل عليها من تعديلات وزيادات وجمع ما تشتت من أمهات الألحان والأنغام، وتسجيلها وضبطها بالنوطة، وذلك محافظة على « الآلة» وصيانتها من الضياع مع مرور الزمن.
ولقد كان قديما يفاخر الموسيقي بأنه يحسن توقع صنعة أندلسية من نوبة ما، يجهلها بقية المغنيين ولا يعرف ميزانها إلا هو وحده، فيحفظها في صدوره ويبخل بها على رفقائه، فيموت « الفنان» ويدفن معه سر الصنعة والميزان.
فأمام هذا الخطر المحدق « بالآلة» قام على جنب الأجواق فريق من أنصارها وهواتها – من أشهر الموسيقيين الأوربيين – بالتنقيب والبحث عن مصادر جمال الموسيقى الأندلسية وأصولها فروعها ومشتقاتها وعمق غورها واتساع بحرها، ودرس مصطلحاتها وأسرارها وتسجيلها.
وقد كان الموسيقي الاسباني المشهور السنيور «بوستيلو» يقوم منذ ربع قرن بدراسات جدية حول هذا الموضوع، فجمع كثيرا من الطبوع والأنغام التي كانت متفرقة، وسجل البعض منها بالنوطة ووضع جدولا بالصنائع والموازين والألحان المفقودة، وحث أرباب الفن على الاجتهاد في البحث عنها. غير انه مع الأسف لم تنتشر أبحاث هذا لموسيقي العالم، إذا استثنينا منها بعض مقالات متفرقة وتقارير رسمية رفعت في ذلك العهد إلى السلطات المختصة.
ثم برز العالم الموسيقي الفرنسي المشهور « الكسي شوطان» بأبحاثه الدقيقة ونشر مع النوطة «ميزان البسيط» من نوبة العشاق، وجدولا قيما في الموسيقى المغربية، فكان عمله هذا مساهمة فعالة في دراسات الموسيقى الأندلسية. وكان قبل ذلك قد نشر العلامة الإسباني المعروف والمستشرق الجليل( ضون خوليان ريبيرا) أبحاثه القيمة في الموسيقى العربية والأندلسية، وكذلك العلامة الفرنسي المشهور « البارون ردولف درلانجه» قد نشر أبحاثا دقيقة ودراسات قيمة في الموضوع وقد سلك طريقة بعض العلماء الباحثين وطرقوا بدراساتهم الدقيقة هذا الموضوع، منهم العلامة « جيل روانه» فقد نشر عدة أبحاث في دائرة المعارف الموسيقية « لافنينياك» حول الموسيقى العربية والإفريقية والأندلسية، ونشر أيضا العلامة الإنجليزي «جورج فارمر» عدة أبحاث في هذا الموضوع.
ثم جاء حضرة الباحثة الفاضل، العالم الفرنسيسكاني المحترم(الاب باترسينيو غرسيا)، وساهم مساهمة فعالة في دراسات الموسيقى الأندلسية، فحقق ونقب وضبط بعض طبوعها بالنوطة مع تعليقات وشروح وافية، ونشر سنة 1941كتابه المشهور « الموسيقى الإسبانية الإسلامية بالمغرب» وكان قد شارك قبل هذا التاريخ في المؤتمر الأول للموسيقى المغربية المنعقد بفاس من 6 إلى 10 ماي سنة 1939، ونشر كتابه «صدى المغرب» ولا يزال حضرة ( الاب باتروسيبنيو) يواصل بنشاط أبحاثه في هذا الميدان، ثم قام حضرة الموسيقى العالم والبحاثة المعروف( ضون اركاديو دي لاريا بالاثنين) بدراسات وأبحاث واسعة النطاق استغرقت عدة سنوات جمع في خلالها كثيرا من درر كنوز هذا الفن وسجل قسما منها بالنوطة بعد درسها وتنسيقها ومقابلتها بالموسيقى الأوربية، ولا يزال هذا البحاثة يتابع أبحاثه بهمة لا تعرف الملل، فقد وجد أثناء دراسته الموسيقى الأندلسية – كما صرح لنا – بحرا عظيما من الفن السامي، عميق إقرار، متشعب التيارات متماسك الدائرات، متفرع الشعاب والأحواض، غير أنها تصب جميعها في محيط واحد كبير منسجم، يحتاج الباحث أعماقه ودرس قيمة جواهره وتمييز درره والاستفادة من كنوزه وتذوق فنونه.
فإن الموسيقى الأندلسية – وهي غنية جدا بألحانها وأنغامها، منسجمة التأليف – تدل على نضوج فني عظيم نتيجة مجهودات وأعمال عدة قرون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من دقة ومرونة وكمال، فهي طويلة النفس، محكمة الحلقات، متناسقة الموازين، دقيقة الصنائع، متماسكة الأنغام، لطيفة الوقع والتأثير على من يتذوقها ويدرك أسرار جمالها.
وإنه لينذر أن نجد معزوفات أوربية مهما سمت في الفن أن تحكيها أو تجاريها في طول النفس واتساع المجال الفني ودقة التركيب والأوزان، فإن اقرب المعزوفات إليها«السونيت» من حيث تعدد أقسامها وتنوع أنغامها وطول النفس الموسيقى واتساع المجال الفنين فكل نوبة أندلسية هي معزوفة تامة قائمة بذاتها، ومؤلف فني كامل الفصول والأجزاء، تام الألحان والأنغام بجميع مقدماتها وتواليها، وتوشياتها وأقفالها وخرجاتها، لا يدرك سر جمالها وروعتها إلا من تعمق في دراستها وتبحر في فنونها، فقد بهرت بغناها أساتذة الفن من الباحثين الأوربيين الذين اقبلوا على دراستها بتعمق، حيث اظهروا إعجابهم بها وبسمو روعتها ولطف ألحانها التي نضجت في وقت كانت فيه الموسيقى الأوربية عبارة عن مواد خادمة متراكمة بدون صقل وتنظيم، إذا استثنينا من ذلك بعض قطع وأناشيد غريغورية قبل أن تتأثر بالموسيقى السكسونية، وذلك قبل النهضة الموسيقية الأوربية بكثير.
وقد صرح لي أحد أقطاب هذا الفن بعد أن درس «الآلة» وفنها وأسرارها عدة سنوات، قائلا: إنني ابتدأت الآن افهم وأتذوق الموسيقى الأندلسية، وكل يوم يزداد شغفي بها، وكل بحث أقوم به في هذا الميدان يظهر لي درة جديدة من درر كنوز فنونها الرائعة.
* دعوة الحق ع/9