منذ العصر الجاهلي وهم يقولون: ما ترك الأول للآخر شيئا، وردد عنترة بن شداد البطل الشاعر هذا القول بأسلوب آخر ولكنه الشعر فقال:
هل غادر الشعراء من متردم = أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
انه يتساءل عما اذا كان الشعراء من قبله قد تركوا معنى من المعاني فلم يتطرقوا اليه في أشعارهم.
أين نحن الآن من موضوع مقالنا لهذا اليوم؟ وردا على هذا التساؤل فانني اقول انني كنت في شك من أن الشعر قد تناول كل شيء في الوجود، ولم يخطر ببالي غير ذلك حتى قرأت قصيدة أبي العلاء المعري التي تحدث فيها الى الديك، إذن فلم يبق شيء لم يرد في أشعار الشعراء، بل ان الشك لو دخل الى نفوسنا عن موضوع بعينه فاننا سوف نراه في شعر لم يسبق لنا الاطلاع عليه، وقديما قبل الشعر ديوان العرب، أي أنه هو السجل الذي يحوي كل شيء عن هذه الأمة ففيه أخبارها ومفاخرها، وهو يصور الأحداث التي مرت بها وطبيعة المجتمعات التي تتكون منها.
الديك من الطيور الداجنة المألوفة، التي تتم تربيتها في البيوت، فلا يخلو بيت في الماضي من واحد من الديوك نرى رأسه عاليا بين بضعة دجاجات وفي أوقات معينة يرفع صوته بالصباح فيستدل منه الناس على الأوقات، وهذا الطائر منتشر في جميع الأمصار، وان اختلف شكله قليلا بين مصر وآخر، فالديك الهندي له شكل يختلف عن شكل الديك المحلي الذي نراه في الكويت، وهو غير الديك الفيومي في مصر، وربما وجدنا اشكالا اخرى في الامكنة التي ذكرناها، ولكن ما يمكن ان يقال ان هذه الانواع من الديكة - كلها - يجمعها اسم واحد وهو: الديك، وانها ذات صفات عامة واحدة، وانها كلها داجنة، وقد ورد ذكر الديك في كتاب حياة الحيوان للدميري، فأورد المؤلف عنه حديثا طويلا ومما قاله عنه، ان الديك هو: ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة وتصغيره دويك وكنيته أبوحسان وأبوحماد وأبوسليمان وأبوعقبة وأبو مدلج وأبوالمنذر، وأبونبهان وأبويقظان وأبوبرائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه وينفشه الديك للقتال وقيل انه للديك خاصة ويسمى الأنيس والمؤانس ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده ولا يألف زوجة واحدة وهو أبله الطبيعة وذلك أنه اذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده الى دار أهله وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجة ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادرا واعظم ما فيه من العجائب معرفة الأوقات الليلية فيقسط اصواته عليها تقسيطا لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال أو قصر ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده فسبحان من هداه لذلك ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات.
ثم تحدث الدميري عن الديك في الحديث الشريف بغض النظر عن مدى صحته وفي الشعر، وفي الأخبار وبين موقف الشريعة منه من حيث جواز أكله فبين انه حلال لا حرمة في أن يؤكل، ثم ذكر خواص لحم الديك، وتحدث عن ودلالته في الأحلام، عند الرغبة في تفسير منام رآه أحدهم، وفيه ديك في هيئة من الهيئات، وهكذا.
وفي كتاب المستطرف في كل فن مستطرف للأبهيشي، حديث عن الديك ولكنه لم يكن طويلا كما فعل صاحب كتاب حياة الحيوان الذي ذكرناه آنفا، فقد كان الأبهيشي أكثر اختصارا وأقرب الى المعاني المطلوبة، ومما وصف به الديك قوله: وهو أبله الطبيعة، لانه اذا سقط من بيت اصحابه فانه لا يهتدي الى الرجوع اليه، وفيه من الخصال الحميدة ما لا يحصى.
نعرف من عنوان هذا المقال اننا سوف نتحدث عن أبي العلاء المعري، وعن الديك الذي تحدث عنه في احدى قصائده التي تدعى اللزوميات لانه الزم نفسه فيها بما لا يلزمه من حديث تشدده في ضبط قافية كل بيت منها، وردت القصيدة في ثمانية وأربعين بيتا في مصادر عدة، ولكنها وردت في كتاب: َشرح المختار من الزوميات ابي العلاء لابي محمد عبدالله بين محمد بن السيد البطليوسي اقل من ذلك، فهي في هذا الكتاب لا تزيد عن خمسة وعشرين بيتا، وقد اعترف صاحب الشرح بهذا النقص منذ البداية حين قال: وقال يصف الديك، وهي مقتطفة من قصيدة.
وينبغي أولا ان نتحدث عن الشاعر، ثم عن الاسمين الكريمين اللذين ذكرهما في بداية قصيدته التي جاء مطلعها كما يلي:
أيا ديك، عدت من أياديك صيحة = بعثت بها ميت الكرى وهو نائم
إذن فإن من المهم هنا ان نتحدث عن أبي العلاء المعري الشاعر الذي قال القصيدة، وعن الصحابي الجليل بلال بن رباح، والصحابي الجليل الآخر أوس بن مغير، وهما اللذان جاء ذكرهما في القصيدة.
وهذا هو التفصيل: أولا: أبوالعلاء المعري، وهو أحمد بن عبدالله بن سليمان، الشاعر الفيلسوف المتمكن من علوم اللغة، الأديب النابغة الشهير، كان من أعلام العصر العباسي، ولد في سنة 973م، وتوفي في سنة 1057م، وكانت وفاته في معرة النعمان، وهي بلدة سورية معروفة وقبره فيها يزار الى اليوم، وكان مكفوف البصر، ولزم بيته لا يفارقه في سنوات عمره الأخيرة، فجرى عليه لقب: رهين المحبسين، وذلك باعتبار كف بصره حبسا، ومكوثه في بيته حبسا آخر.
له شعر فوق الجيد، مطبوع في عدة طبعات ومنه سقط الزند واللزوميات، كما ان له مؤلفات متنوعة منها رسالة الغفران، مع عدد آخر من الكتب والرسائل البحثية، ونال شهرة كبيرة، فقد كان له عدد كبير من التلاميذ النابهين الذين اهتموا بتراثه الفكري ونشره.
ثانيا: بلال بن رباح مولى سيدنا أبي بكر الصديق، كان كما هو معروف مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر على ذلك لم يتوقف إلا بعد وفاة الرسول الكريم، وكان قد أسلم بمكة، وتعرض لعذاب شديد من قبل كفار قريش، الى ان اشتراه أبوبكر واعتقه، وعاش بلال بن رباح آخر العهد به في دمشق، ومات ودفن بها، وقبره معروف هنا الى اليوم.
ثالثا: أوس بن معير، كنيته أبومحذورة، وهو من الصحابة المعروفين، وقد تولى مهمة الأذان مع سيدنا بلال، واختلف في اسمه، فقال بعضهم انه: سمرة، ولكن كثيرين من ذوي العلم أكدوا أنه الاسم الأول هو: أوس.
وكما ورد ذكر الديك في شعر أبي العلاء المعري بأسلوبه الراقي المعبر لغويا وفلسفيا عن وشؤون كثيرة من شؤون الحياة، والصور لاحساسات هذا الشاعر الفذ، فإن الديك لم يغب عن بال شعراء الكويت المحدثين فهذا هو شاعرنا عبدالله سنان محمد السنان يتحدث عن هذا الطائر العجيب بحديث غير الحديث الذي أورده المعري، وبطريقة تختلف كثيرا عنه، فهو يميل في أبياته هذه التي سنذكرها الى المزاح، تاركا الجد خلفه، وسوف نجد فيما قال اشارة الى موقف الدجاج وعلى رأسهم الديك من بني آدم ذلك ان الديك معرض للنحر أمام زوجته الدجاجة وامام صغاره منها، ومن هنا تبدأ الحكاية:
بالأمس نادى للعبادة قوقو = واليوم مزق جسمه المرقوق
لم ترحم السكين كبرة سنه = والموت يرقب حوله ويحيق
كان الخيار بأن تمرقق زوجه = فأبى القضاء وفاته التوفيق
فبكته والهة وصاح صغارها = وخبا الترنم واختفى التصفيق
ذو حلة بيضاء خضب لونها = وجمال نضرتها الدم المدفوق
فتناقلت أخباره، جاراته = في الحي واجتمعوا وحل الضيق
فتبادلوا الآراء فيما بينهم = والباب دون غريمهم مغلوق
وتشاوروا فيما رأوه وأعلنوا = أن ابن آدم حبه تلفيق
نلهو ونأكل من فئات يمينه = وكأنه بر بنا وشفيق
وهو المخادع والذي اشهى له = من كل شيء لحمنا المسلوق
فلنبتعد عنه ونهجر داره = هربا فليس لرأينا تعليق
إن ابن آدم ثعلب قد ضمنا = بيد تسيل دماءنا وتريق
ومن الجلي هنا ان نجد ديك أبي العلاء المعري مختلفا عن ديك عبدالله سنان محمد، فديك هذا الاخير قد وقع في مأساة من مآسي الدهر، عندما وقع بين يدي من لم يرحمه، فقضى عليه بالسكين نحرا، وترك وراءه دجاجة ثكلى، وافراخا يعاني كل واحد منهم ألم اليتم، وكان ذلك في الوقت الذي نجد فيه ديك ابي العلاء ممدوحا بما كان يقوم به كل يومن ايقاظ للصلاة فجرا، وتنبيه الى قدوم اليوم الجديد، واكثر من ذلك فان المعري يشبه ديكه بمؤذنيين شهيرين هما الصحابيان بلال بن رباح واوس ابن معير ابو محذورة اللذان اشتهرا برفع الاذان ايام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والديك معروف في الكويت منذ زمن قديم، وتدور حوله حكايات وامثال، ثم انه يدخل في العاب الاطفال ولا يمر يوم من الايام دون ان يجري ذكره، وذلك لسب ما يلي:
أ- الديك يوقظ الناس لصلاة الفجر، فكنا نرى الفريج كله يصبح باصوات الديكة في ذلك الوقت، حتى يتنبه الناس الى ميعاد الصلاة، وهناك من الديكة ما نجده ينهض في الهزيم الاول من الليل فيرفع صوته بالنداء قبل وقت الصلاة بمدة طويلة وهذا النداء كان يسمى -قديما- اذان البايرات، لان بعض الرجال يتركون زوجاتهم وحيدات لكي يسهروا خارج المنازل، ثم يعودون في هذا الوقت وعندما يحس الديك بحركة دخول الرجل الى بيته فانه يظن ان النهار قد اقبل فيبادر الى رفع صوته مناديا، وقد سمي هذا النداء: اذان البايراتن لان رجالهن كانوا قد تركوهن فصار حالهن كالبضاعة البايرة التي لا مشتر لها.
بـ ومن ألعاب الاطفال التي يرد فيها ذكر الديك لعبة يتم اداؤها على ساحل البحر، وذلك يكون عندما تجتمع مجموعة من الصغار للسباحة في البحر قريبا من الشاطئ، فأننا نرى بعضهم يتحدى بعضاً فيخبطون سطح الماء بايديهم، حتى اذا برزت نتيجة لذلك بعض الفقاعات الكبيرة، فانهم يستعدون لها بان يقوموا بتفجيرها باصابع ايديهم، وهم يقولون: الديك او الدجاجة، فالذي يصيب الفقاعة اصابة كاملة فانه يكون قد صنع صنع الديك، وهو الفائز في اللعبة وان لم يستطع تفجيرها فقد صار عمله هو عمل الدجاجة، واصبح خاسرا للعبة.
جـ- اما ما ورد في الامثال الشعبية ما ذكر فيه الديك فقد استمعنا الى هذه الامثال:
1- يضرب المثل ببيضة الديك للشيء نادر الحدوث، ومع ان من المفهوم ان الديك لا يبيض اصلا، فان بعض الناس يظن انه قد يبيض بيضة واحدة في كل سنة، ولذا فانه اذا ما مر بهم ذكر شيء نادر المثال قالوا: هذا مثل بيضة الديك في السنة مرة.
2- وضربوا من الامثال قولهم عن المرأة التي تستحي من مواجهة بنات جنسها ولا تستحي من مواجهة الرجال: حيا مرخه تنكشف للديك واتغطي عن الفرخة.
3- ومن الامثال قولهم: رجل الديك تجيب الديك ومعنى ذلك ان رجل الديك تدل عليه.
4- ومن الامثال -ايضا- قولهم: يا ماكل الديك على راسك ريشه ويضرب هذا المثل في حالة رجل سرق، وترك ما يدل على سرقته، فان هذا الرجل سرق الديك وطبخه واكله ولكنه -لسوء حظه- ابقى ريشة من ريش الديك المسروق على رأسه فدلت على عمله السيء، ومن اجل ذلك اهتدى اليه صاحب الديك.
هذه الامثال الاربعة دارجة في اللهجة الكويتية منذ مدة طويلة وقد وردت في كتاب: الامثال الكويتية المقارنة الذي ألفه الاستاذ احمد البشر الرومي.
وختاما لما قد مضي فان ما يثير الاعجاب من الشعر الحديث ان نقرأ بعض الآبيات مما كتبه الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل في قصيدة له عنوانها الكوخ التي وردت في ديوانه الشهير: أغاني الكوخ وهو اول ديوان صدر له.
وفي هذه الابيات نستمع الى الشاعر وهو يتحدث عن الديك وقد استيقظ مبكرا لكي يؤدي واجبه كما هي عادته، وقد صادر يصيح صباح الصباح، ولقد كان في ذلك الكوخ بعض النيام الذين بدأ النوم في مفارقة جفونهم استعدادا ليوم جديد، وها هو الشاعر محمود حسن اسماعيل في ابياته التي اشاربها الى هذا الموقف:
واستيقظوا والكوخ في غفلة = ما دار فيه بالمنى دائر
يلقي عليه الديك انشودة = غنى بها إصباحه السافر
كأنه ينعي ممات الدجي = ونعشه فوق الربى سائر
او انه يشدو لعرس السما = ونورها ضافي السنا طافر
او انه يسمع ركب الملا = كذا يديل الاول الاخر
ان نشيدا ينشده هذا الديك امام اولئك الذين استيقظوا وشيكا في الصباح الباكر، هو ارجوزته التي يودع بها الليل ويستقبل النهار فرحا بقدومه.
وكان امير الشعراء احمد شوقي يقدم للصغار اناشيد تصلح لهم، وتسهل عليهم قراءتها ويكون فهمها قريبا من تناول اذهانهم، وهذا أحد الاناشيد التي قدمها من هذا النوع وهو يتضمن حكاية عن الثعلب والديك، ومن المعروف ان الثعلب يجيد الخداع، وهو يحاول اقتناص الدواجن باية وسيلة يقدر عليها، ومن ذلك استعماله المكر الذي تميز به، وتفوق فيه على جميع الحيوانات، وانشودة الثعلب التي كتبها احمد شوقي ووردت في ديوانه تعتبر مثالا واضحا لذلك، وقد قال الشاعر منها هذه الابيات:
برز الثعلب يوما = في شعار الواعظينا
فمشى في الارض يهدي = ويسب الماكرينا
ويقول الحمد لله = إله العالمينا
يا عباد الله توبوا = فهو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير ان العيش = عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن = لصلاة الصبح فينا
فأتى الديك رسول = من امام الناسكينا
عرض الامر عليه = وهو يرجو ان يلينا
فاجاب الديك عذرا = يا اضل المهتدينا!
بلّغ الثعلب عني = عن جدودي الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن = دخل البطن اللعينا
انهم قالوا وخير القول = قول العارفينا
مخطئ من ظن يوما = ان للثعلب دينا!
إذن فان للديك حديثا في الادب العربي قديمه وجديده وانه مذكور في التراث الشعبي الكويتي، وقد لاحظنا ذلك فيما قدمناه من نماذج، ولكن ما نود الاشارة اليه اخيرا هو ان هذا الذي قدمناه ليس كل ما يمكن عن هذه الطائر الجميل، فهناك -دائما- ما يمكن ان يقال.
القصيدة التي نحن بصدد استعراضها هنا تتحدث عن الديك وتستغرب ابياتها كلها الحديث عنه وامتداحه وذكر ما يقوم به كل يوم منذ الصباح الباكر لايقاظ الناس وكأنه مؤذن للصلاة وقد شبهه المعري بالصحابيين الجليلين بلال بن رباح واوس ابن معير، اللذين كانا يؤديان الآذان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الرغم من تخصيص الشاعر هذه القصيدة الطويلة للحديث عن الديك، وما يقوم به من عمل صالح فانه يختمها بامور اخرى جنح فيها الى الحكمة التي عودنا على الاتيان بمثلها.
وهنا نتساءل: ما الذي دفع بأبي العلاء حتى يخصص قصيدة من قصائده الكبار المهمة للحديث الى الديك؟ ونحن اذا قرأنا ما قاله في هذا المجال فإننا سوف نعرف السبب في ذلك، فهو معجب اشد الاعجاب بهذا الطائر الجميل، مغرم بصوته العالي، محب لدأبه وحرصه على ايقاظ الناس لدرجة جعلته يصعد الى مصاف المؤذنين وقد ذكر ابو العلاء اسمي اثنين من المؤذنين.
وأي من المؤذنين هما؟ انهما بلال بن رباح واوس بن معير اللذان كانا يؤذنان لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حين يتوجه الى صلاته، ويوقظان المسلمين في ذلك الوقت المبكر الذي بزغت فيه شمس الاسلام.
وحتى نقوم باستعراض هذه القصيدة بما يشف عن مقاصدها، فإننا ينبغي ان نقوم بتجزأتها الى اجزاء بحسب تسلسل ابياتها مع معانيها.
وهي هكذا....
تتكون قصيدة الديك من ثماني فقرات تحتوي كل فقرة منها على موضوع بذاته. وهذا بيان ذلك:
تتكون الفقرة الأولى من أربعة أبيات هي مطلع القصيدة، وفيها ينادي المعري الديك قائلاً له: يا ديك إن أياديك كثيرة وفضلك عميم ومعروف منذ أمد طويل. وقد عد الناس من أياديك عليهم هذه الصيحة التي تطلقها في كل صباح فتبعث بها ميت الكرى.
لقد هتفت فظنك الناس أحد مؤذني رسول الله بلال بن رباح أو أوس بن معير، كان الديك واقفاً في المملة يرفع أذانه وكأنه صوت من الماضي، والناس يقولون: لعل بلالاً قد هبَّ من بعد رقدته الطويلة، بعد أن بلي جسده في الأرض إثر دفنه.
ويضيف إلى ذلك قوله: نعم المؤذن بلال بن حمامة (وحمامة أُمُّهُ) يذكرنا به وبصوته الذي يشبه سجع الحمام هذا الديك الصائح.
وتتكون الفقرة الثانية من أحد عشر بيتا يتوجه الشاعر خلالها إلى الديك بالحديث، واصفاً إياه بكل وصف طيب قائلاً له: لك أخلاق عالية على خلاف ما يبدو من أفعال النِّكس (الرديء السيئ الخلق) وفيك غيرة على دجاجاتك تصون بها كرائمهن وتبعد عنهن كل طامع بهن، وفيك جود يفيض على تلك الدجاجات، حتى ولو لم تمطر السماء. لأنك تبحث في الأرض عن الطعام مهما كان الأمر ومهما بذلت من جهد، فإذا عثرت على القوت قدمته لهنَّ.
وإذا اتصف العاجزون بالهزائم أمام أعدائهم، فإنك تزدان بما توجهه إلى أعدائك من طعن رافضاً أن يحل في محلك أحد من أبناء الديكة. والحب الذي تهتم بتقديمه لهن لا يعوض بالدر الثمين، ولا أحد يلومك فيما تفعل.
إنك تلقى للمنفضات (الدجاج) النواصع كأنهن اللآلئ التوائم المستخرجات من قعر البحر، حتى ليظن من يراها أنها من بيض النعام لكبر حجمها. وهذا البيض موضوع بين الصرائم (وهي جمع صريمة والصريمة شجرة برية).
وإنك لتؤثر بالقوت حليلتك (زوجتك) وهي شيمة لم يتعودها الناس. وكأنك في هذه الحالة الجمل المرافق لنياقه التي وضعت عليها الخزائم، وهي مطيعة له.
إن دجاجاتك في إحدى حالتين، هما: اللمح بالعيون، أو الاغضاء، وعدم رفع البصر إليك، وكأنهن ضرائر اشتعل بينهن الخصام، وهنَّ من ألوان عدة فمنهن السود الحوالك والحمر.
وأما الفقرة الثالثة فهي مكونة من أربعة أبيات، يصف الشاعر فيها الديك وصفاً دقيقاً، وكأنه يراه، مع أن هذا الشاعر مكفوف البصر، وهذا جزء من عبقرية أبي العلاء المعري، يقول في وصف الديك:
عليك ثياب خاطها الله قادراً = بها رئمتك العاطفات الروائمُ
وتاجُك معقود كأنك هُرمُزٌ = يُباهي به أملاكه ويوائم
وعينك سقط ماخَبَا عند قِرَّةٍ = كلمعة برق مالها الدهرَ شائمُ
وما قُرِّبت يوماً إلى موقد لها = إذا قُرِّبَتْ للموفدين الهشائمُ
(الروائم: العاطفات، الهشائم: قطع الأشجار المهشَّمةِ للوقود)
وتتكون الفقرة الرابعة من بيتين اثنين يوجه بهما قوله إلى الديك: إنك أيها الديك قد ورثت عملك هذا وهو (التذكير) منذ أمد بعيد (من قبل جرهم). الذين كانوا في جزيرة العرب ثم بادوا قبل أن تحل محلهم القبائل العربية المعروفة.
إنك أيها الديك منذ زمن طويل وأنت من دعائم الدين، لا تتخلى عنه حتى ولو قلقت الدعائم بين يدي حامله.
وأما الفقرة الخامسة فيتحدث الشاعر فيها عن مكانة الديك في نفسه ويبين حرصه عليه، فيقول: إنك لو كنت لي لم أذبحك، ولم أرتح لصائم أن يتناولك في إفطاره. وأنا أرفض أن يغلى لك ماء فتوضع فيه حتى تنضج فتفسد حلتك التي لبستها منذ عصور:
ولو كنت لي ما أُرهفت لك مُدْيَةٌ = ولا رام إفطاراً باكلك صائمُ
ولم يُغْل ماء كي تُمَزَّق حُلَّةُ = هدتك بأسناها العصور القدائمُ
إنك لو كنت في ملكي لما تركت أحداً يجعلك تتعرض لنار الطبخ ولا للتقطيع من أجل الأكل. ولسوف تلقى عندي الخير كله، كما تجد الإكرام والبر. أنت عندي محسوب كطفل ينتفي عنه قول السوء وفعله. فإن الله سبحانه وتعالى الذي كتب الجرائم ساخطاً على المخطئين لم يكتب عليك شيئاً منها. فما عليك إلا أن ترد حوض الحياة إذا ابتعدت عنه النفوس الحوائم (التي تحوم حول الشرور).
فعش سعيداً بين الأخيار، وأنت ناعم مرتاح البال بعيشة تخلد فيها، وهي عيشة لم تنلها السمائم من الطير (السمائم: ضرب من الطير دون القطا في الخلقة).
والفقرة السادسة، يعود فهيا أبو العلاء إلى طبيعته فيلسوفاً ينظر إلى الأمور بصورة مختلفة عن الصورة التي يراها بها الناس.
إن للناس على اختلاف آرائهم حول أمور الدنيا أحوالاً ثلاثة: وهي ليست إلا أقوال يرددونها إيماناً بها. فالقول الأول جزاء على أمر ما، والقول الثاني فيه تهاون. وآخر الأقوال ما لا خير فيه.
إن من يأتي من بعدنا فإنه سوف يُشبهنا ويضارعنا في كل أمورنا، ونحن نمضي على علاتنا، وندأب في عملنا كما نفعل منذ البداية.
وكل امرئ منا يدعو نفسه إلى الزهد عندما يخلو إليها، ولكنه لا يجد عنده عزيمة صادقة تصح على ذلك. فأين أفر من زمني وأهله، وقد مضى هذا الزمن بالشر في كل مكان.
إن الأمور -على كل حال- مضطربة، ولا أمل في إصلاحها، ومع ذلك الذي ذكر، والتشاؤم الذي أداه فإن المعري يبدأ الفقرة السابقة بقوله: إن قلبه أبى إلا حب الدنيا التي يرمز لها عند القدماء بقلب أم دفر، ويقارن بين قوله هذا وما قاله أبو الأسود الدؤلي:
أبا القلب إلا أم عمر وَحُبَّها = عَجوزاً ومن يُحببْ عجوزاً يُفَنَّدِ
ونحن نشير هنا إلى بيت المعري الذي يقول فيه:
أبى القلب إلا أمَّ دَفْرٍ كما أبى = سوى أُمِّ عمرو موجعُ القلب هائم
وهذه الدنيا عند أبي العلاء هي المنتهى، وهي المشتهى، وله فيها أمنيات محلها فوق السها علوا بحيث أبرى عظائم الأمور دونها، ونحن في هذه الدنيا لا يرانا أحد إلا ونحن في تحاسد عليها، ويرى قلوبنا وهي ممتلئة بالأحقاد، وهذه الأحقاد كلها قد استقرت في أحشائنا، حتى تركتنا جماجم فارغة لا تدرك شيئاً. وصارت أيامنا منطلقة كالابل بلا أزمة تمسك بها، أو كالخيل لم توضع على أفواهها الشكائم.
لقد نسي الناس حسن العهود، ووجوب الوفاء، ولم يعد لهم ما يذكرهم بشيء.. وآخر بيت في هذه الفقرة هو:
وتمضي بنا الساعات مُضْمرةً لنا = قبيحا على أن الوجوه وسائمُ
نَمَمْنَ بما يخفيه حَيٌّ ومِّيتٌ = وَمِنْ شَرِّ أفعالِ الأنام النَّمائمُ
أما في ختام حديثنا عن هذه القصيدة فإننا نشير هنا إلى ملاحظات لابد من ذكرها، وهي أن الشاعر قد قسم قصيدته إلى قسمين؛ الأول منهما عند الديك، مدحاً ووصفاً بل وتاريخاً والقسم الثاني لا علاقة له بالديك إلا أن يكون قد استوحى منه الأفكار التي رصفها في هذا القسم من القصيدة، حيث عاد المعري إلى الفلسفة وإلى الحديث عن النفس وميولها، وعن دنياه التي كان يعيشها.
د. يعقوب يوسف الغنيم
هل غادر الشعراء من متردم = أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
انه يتساءل عما اذا كان الشعراء من قبله قد تركوا معنى من المعاني فلم يتطرقوا اليه في أشعارهم.
أين نحن الآن من موضوع مقالنا لهذا اليوم؟ وردا على هذا التساؤل فانني اقول انني كنت في شك من أن الشعر قد تناول كل شيء في الوجود، ولم يخطر ببالي غير ذلك حتى قرأت قصيدة أبي العلاء المعري التي تحدث فيها الى الديك، إذن فلم يبق شيء لم يرد في أشعار الشعراء، بل ان الشك لو دخل الى نفوسنا عن موضوع بعينه فاننا سوف نراه في شعر لم يسبق لنا الاطلاع عليه، وقديما قبل الشعر ديوان العرب، أي أنه هو السجل الذي يحوي كل شيء عن هذه الأمة ففيه أخبارها ومفاخرها، وهو يصور الأحداث التي مرت بها وطبيعة المجتمعات التي تتكون منها.
الديك من الطيور الداجنة المألوفة، التي تتم تربيتها في البيوت، فلا يخلو بيت في الماضي من واحد من الديوك نرى رأسه عاليا بين بضعة دجاجات وفي أوقات معينة يرفع صوته بالصباح فيستدل منه الناس على الأوقات، وهذا الطائر منتشر في جميع الأمصار، وان اختلف شكله قليلا بين مصر وآخر، فالديك الهندي له شكل يختلف عن شكل الديك المحلي الذي نراه في الكويت، وهو غير الديك الفيومي في مصر، وربما وجدنا اشكالا اخرى في الامكنة التي ذكرناها، ولكن ما يمكن ان يقال ان هذه الانواع من الديكة - كلها - يجمعها اسم واحد وهو: الديك، وانها ذات صفات عامة واحدة، وانها كلها داجنة، وقد ورد ذكر الديك في كتاب حياة الحيوان للدميري، فأورد المؤلف عنه حديثا طويلا ومما قاله عنه، ان الديك هو: ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة وتصغيره دويك وكنيته أبوحسان وأبوحماد وأبوسليمان وأبوعقبة وأبو مدلج وأبوالمنذر، وأبونبهان وأبويقظان وأبوبرائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه وينفشه الديك للقتال وقيل انه للديك خاصة ويسمى الأنيس والمؤانس ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده ولا يألف زوجة واحدة وهو أبله الطبيعة وذلك أنه اذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده الى دار أهله وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجة ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادرا واعظم ما فيه من العجائب معرفة الأوقات الليلية فيقسط اصواته عليها تقسيطا لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال أو قصر ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده فسبحان من هداه لذلك ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات.
ثم تحدث الدميري عن الديك في الحديث الشريف بغض النظر عن مدى صحته وفي الشعر، وفي الأخبار وبين موقف الشريعة منه من حيث جواز أكله فبين انه حلال لا حرمة في أن يؤكل، ثم ذكر خواص لحم الديك، وتحدث عن ودلالته في الأحلام، عند الرغبة في تفسير منام رآه أحدهم، وفيه ديك في هيئة من الهيئات، وهكذا.
وفي كتاب المستطرف في كل فن مستطرف للأبهيشي، حديث عن الديك ولكنه لم يكن طويلا كما فعل صاحب كتاب حياة الحيوان الذي ذكرناه آنفا، فقد كان الأبهيشي أكثر اختصارا وأقرب الى المعاني المطلوبة، ومما وصف به الديك قوله: وهو أبله الطبيعة، لانه اذا سقط من بيت اصحابه فانه لا يهتدي الى الرجوع اليه، وفيه من الخصال الحميدة ما لا يحصى.
نعرف من عنوان هذا المقال اننا سوف نتحدث عن أبي العلاء المعري، وعن الديك الذي تحدث عنه في احدى قصائده التي تدعى اللزوميات لانه الزم نفسه فيها بما لا يلزمه من حديث تشدده في ضبط قافية كل بيت منها، وردت القصيدة في ثمانية وأربعين بيتا في مصادر عدة، ولكنها وردت في كتاب: َشرح المختار من الزوميات ابي العلاء لابي محمد عبدالله بين محمد بن السيد البطليوسي اقل من ذلك، فهي في هذا الكتاب لا تزيد عن خمسة وعشرين بيتا، وقد اعترف صاحب الشرح بهذا النقص منذ البداية حين قال: وقال يصف الديك، وهي مقتطفة من قصيدة.
وينبغي أولا ان نتحدث عن الشاعر، ثم عن الاسمين الكريمين اللذين ذكرهما في بداية قصيدته التي جاء مطلعها كما يلي:
أيا ديك، عدت من أياديك صيحة = بعثت بها ميت الكرى وهو نائم
إذن فإن من المهم هنا ان نتحدث عن أبي العلاء المعري الشاعر الذي قال القصيدة، وعن الصحابي الجليل بلال بن رباح، والصحابي الجليل الآخر أوس بن مغير، وهما اللذان جاء ذكرهما في القصيدة.
وهذا هو التفصيل: أولا: أبوالعلاء المعري، وهو أحمد بن عبدالله بن سليمان، الشاعر الفيلسوف المتمكن من علوم اللغة، الأديب النابغة الشهير، كان من أعلام العصر العباسي، ولد في سنة 973م، وتوفي في سنة 1057م، وكانت وفاته في معرة النعمان، وهي بلدة سورية معروفة وقبره فيها يزار الى اليوم، وكان مكفوف البصر، ولزم بيته لا يفارقه في سنوات عمره الأخيرة، فجرى عليه لقب: رهين المحبسين، وذلك باعتبار كف بصره حبسا، ومكوثه في بيته حبسا آخر.
له شعر فوق الجيد، مطبوع في عدة طبعات ومنه سقط الزند واللزوميات، كما ان له مؤلفات متنوعة منها رسالة الغفران، مع عدد آخر من الكتب والرسائل البحثية، ونال شهرة كبيرة، فقد كان له عدد كبير من التلاميذ النابهين الذين اهتموا بتراثه الفكري ونشره.
ثانيا: بلال بن رباح مولى سيدنا أبي بكر الصديق، كان كما هو معروف مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر على ذلك لم يتوقف إلا بعد وفاة الرسول الكريم، وكان قد أسلم بمكة، وتعرض لعذاب شديد من قبل كفار قريش، الى ان اشتراه أبوبكر واعتقه، وعاش بلال بن رباح آخر العهد به في دمشق، ومات ودفن بها، وقبره معروف هنا الى اليوم.
ثالثا: أوس بن معير، كنيته أبومحذورة، وهو من الصحابة المعروفين، وقد تولى مهمة الأذان مع سيدنا بلال، واختلف في اسمه، فقال بعضهم انه: سمرة، ولكن كثيرين من ذوي العلم أكدوا أنه الاسم الأول هو: أوس.
وكما ورد ذكر الديك في شعر أبي العلاء المعري بأسلوبه الراقي المعبر لغويا وفلسفيا عن وشؤون كثيرة من شؤون الحياة، والصور لاحساسات هذا الشاعر الفذ، فإن الديك لم يغب عن بال شعراء الكويت المحدثين فهذا هو شاعرنا عبدالله سنان محمد السنان يتحدث عن هذا الطائر العجيب بحديث غير الحديث الذي أورده المعري، وبطريقة تختلف كثيرا عنه، فهو يميل في أبياته هذه التي سنذكرها الى المزاح، تاركا الجد خلفه، وسوف نجد فيما قال اشارة الى موقف الدجاج وعلى رأسهم الديك من بني آدم ذلك ان الديك معرض للنحر أمام زوجته الدجاجة وامام صغاره منها، ومن هنا تبدأ الحكاية:
بالأمس نادى للعبادة قوقو = واليوم مزق جسمه المرقوق
لم ترحم السكين كبرة سنه = والموت يرقب حوله ويحيق
كان الخيار بأن تمرقق زوجه = فأبى القضاء وفاته التوفيق
فبكته والهة وصاح صغارها = وخبا الترنم واختفى التصفيق
ذو حلة بيضاء خضب لونها = وجمال نضرتها الدم المدفوق
فتناقلت أخباره، جاراته = في الحي واجتمعوا وحل الضيق
فتبادلوا الآراء فيما بينهم = والباب دون غريمهم مغلوق
وتشاوروا فيما رأوه وأعلنوا = أن ابن آدم حبه تلفيق
نلهو ونأكل من فئات يمينه = وكأنه بر بنا وشفيق
وهو المخادع والذي اشهى له = من كل شيء لحمنا المسلوق
فلنبتعد عنه ونهجر داره = هربا فليس لرأينا تعليق
إن ابن آدم ثعلب قد ضمنا = بيد تسيل دماءنا وتريق
ومن الجلي هنا ان نجد ديك أبي العلاء المعري مختلفا عن ديك عبدالله سنان محمد، فديك هذا الاخير قد وقع في مأساة من مآسي الدهر، عندما وقع بين يدي من لم يرحمه، فقضى عليه بالسكين نحرا، وترك وراءه دجاجة ثكلى، وافراخا يعاني كل واحد منهم ألم اليتم، وكان ذلك في الوقت الذي نجد فيه ديك ابي العلاء ممدوحا بما كان يقوم به كل يومن ايقاظ للصلاة فجرا، وتنبيه الى قدوم اليوم الجديد، واكثر من ذلك فان المعري يشبه ديكه بمؤذنيين شهيرين هما الصحابيان بلال بن رباح واوس ابن معير ابو محذورة اللذان اشتهرا برفع الاذان ايام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والديك معروف في الكويت منذ زمن قديم، وتدور حوله حكايات وامثال، ثم انه يدخل في العاب الاطفال ولا يمر يوم من الايام دون ان يجري ذكره، وذلك لسب ما يلي:
أ- الديك يوقظ الناس لصلاة الفجر، فكنا نرى الفريج كله يصبح باصوات الديكة في ذلك الوقت، حتى يتنبه الناس الى ميعاد الصلاة، وهناك من الديكة ما نجده ينهض في الهزيم الاول من الليل فيرفع صوته بالنداء قبل وقت الصلاة بمدة طويلة وهذا النداء كان يسمى -قديما- اذان البايرات، لان بعض الرجال يتركون زوجاتهم وحيدات لكي يسهروا خارج المنازل، ثم يعودون في هذا الوقت وعندما يحس الديك بحركة دخول الرجل الى بيته فانه يظن ان النهار قد اقبل فيبادر الى رفع صوته مناديا، وقد سمي هذا النداء: اذان البايراتن لان رجالهن كانوا قد تركوهن فصار حالهن كالبضاعة البايرة التي لا مشتر لها.
بـ ومن ألعاب الاطفال التي يرد فيها ذكر الديك لعبة يتم اداؤها على ساحل البحر، وذلك يكون عندما تجتمع مجموعة من الصغار للسباحة في البحر قريبا من الشاطئ، فأننا نرى بعضهم يتحدى بعضاً فيخبطون سطح الماء بايديهم، حتى اذا برزت نتيجة لذلك بعض الفقاعات الكبيرة، فانهم يستعدون لها بان يقوموا بتفجيرها باصابع ايديهم، وهم يقولون: الديك او الدجاجة، فالذي يصيب الفقاعة اصابة كاملة فانه يكون قد صنع صنع الديك، وهو الفائز في اللعبة وان لم يستطع تفجيرها فقد صار عمله هو عمل الدجاجة، واصبح خاسرا للعبة.
جـ- اما ما ورد في الامثال الشعبية ما ذكر فيه الديك فقد استمعنا الى هذه الامثال:
1- يضرب المثل ببيضة الديك للشيء نادر الحدوث، ومع ان من المفهوم ان الديك لا يبيض اصلا، فان بعض الناس يظن انه قد يبيض بيضة واحدة في كل سنة، ولذا فانه اذا ما مر بهم ذكر شيء نادر المثال قالوا: هذا مثل بيضة الديك في السنة مرة.
2- وضربوا من الامثال قولهم عن المرأة التي تستحي من مواجهة بنات جنسها ولا تستحي من مواجهة الرجال: حيا مرخه تنكشف للديك واتغطي عن الفرخة.
3- ومن الامثال قولهم: رجل الديك تجيب الديك ومعنى ذلك ان رجل الديك تدل عليه.
4- ومن الامثال -ايضا- قولهم: يا ماكل الديك على راسك ريشه ويضرب هذا المثل في حالة رجل سرق، وترك ما يدل على سرقته، فان هذا الرجل سرق الديك وطبخه واكله ولكنه -لسوء حظه- ابقى ريشة من ريش الديك المسروق على رأسه فدلت على عمله السيء، ومن اجل ذلك اهتدى اليه صاحب الديك.
هذه الامثال الاربعة دارجة في اللهجة الكويتية منذ مدة طويلة وقد وردت في كتاب: الامثال الكويتية المقارنة الذي ألفه الاستاذ احمد البشر الرومي.
وختاما لما قد مضي فان ما يثير الاعجاب من الشعر الحديث ان نقرأ بعض الآبيات مما كتبه الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل في قصيدة له عنوانها الكوخ التي وردت في ديوانه الشهير: أغاني الكوخ وهو اول ديوان صدر له.
وفي هذه الابيات نستمع الى الشاعر وهو يتحدث عن الديك وقد استيقظ مبكرا لكي يؤدي واجبه كما هي عادته، وقد صادر يصيح صباح الصباح، ولقد كان في ذلك الكوخ بعض النيام الذين بدأ النوم في مفارقة جفونهم استعدادا ليوم جديد، وها هو الشاعر محمود حسن اسماعيل في ابياته التي اشاربها الى هذا الموقف:
واستيقظوا والكوخ في غفلة = ما دار فيه بالمنى دائر
يلقي عليه الديك انشودة = غنى بها إصباحه السافر
كأنه ينعي ممات الدجي = ونعشه فوق الربى سائر
او انه يشدو لعرس السما = ونورها ضافي السنا طافر
او انه يسمع ركب الملا = كذا يديل الاول الاخر
ان نشيدا ينشده هذا الديك امام اولئك الذين استيقظوا وشيكا في الصباح الباكر، هو ارجوزته التي يودع بها الليل ويستقبل النهار فرحا بقدومه.
وكان امير الشعراء احمد شوقي يقدم للصغار اناشيد تصلح لهم، وتسهل عليهم قراءتها ويكون فهمها قريبا من تناول اذهانهم، وهذا أحد الاناشيد التي قدمها من هذا النوع وهو يتضمن حكاية عن الثعلب والديك، ومن المعروف ان الثعلب يجيد الخداع، وهو يحاول اقتناص الدواجن باية وسيلة يقدر عليها، ومن ذلك استعماله المكر الذي تميز به، وتفوق فيه على جميع الحيوانات، وانشودة الثعلب التي كتبها احمد شوقي ووردت في ديوانه تعتبر مثالا واضحا لذلك، وقد قال الشاعر منها هذه الابيات:
برز الثعلب يوما = في شعار الواعظينا
فمشى في الارض يهدي = ويسب الماكرينا
ويقول الحمد لله = إله العالمينا
يا عباد الله توبوا = فهو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير ان العيش = عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن = لصلاة الصبح فينا
فأتى الديك رسول = من امام الناسكينا
عرض الامر عليه = وهو يرجو ان يلينا
فاجاب الديك عذرا = يا اضل المهتدينا!
بلّغ الثعلب عني = عن جدودي الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن = دخل البطن اللعينا
انهم قالوا وخير القول = قول العارفينا
مخطئ من ظن يوما = ان للثعلب دينا!
إذن فان للديك حديثا في الادب العربي قديمه وجديده وانه مذكور في التراث الشعبي الكويتي، وقد لاحظنا ذلك فيما قدمناه من نماذج، ولكن ما نود الاشارة اليه اخيرا هو ان هذا الذي قدمناه ليس كل ما يمكن عن هذه الطائر الجميل، فهناك -دائما- ما يمكن ان يقال.
القصيدة التي نحن بصدد استعراضها هنا تتحدث عن الديك وتستغرب ابياتها كلها الحديث عنه وامتداحه وذكر ما يقوم به كل يوم منذ الصباح الباكر لايقاظ الناس وكأنه مؤذن للصلاة وقد شبهه المعري بالصحابيين الجليلين بلال بن رباح واوس ابن معير، اللذين كانا يؤديان الآذان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الرغم من تخصيص الشاعر هذه القصيدة الطويلة للحديث عن الديك، وما يقوم به من عمل صالح فانه يختمها بامور اخرى جنح فيها الى الحكمة التي عودنا على الاتيان بمثلها.
وهنا نتساءل: ما الذي دفع بأبي العلاء حتى يخصص قصيدة من قصائده الكبار المهمة للحديث الى الديك؟ ونحن اذا قرأنا ما قاله في هذا المجال فإننا سوف نعرف السبب في ذلك، فهو معجب اشد الاعجاب بهذا الطائر الجميل، مغرم بصوته العالي، محب لدأبه وحرصه على ايقاظ الناس لدرجة جعلته يصعد الى مصاف المؤذنين وقد ذكر ابو العلاء اسمي اثنين من المؤذنين.
وأي من المؤذنين هما؟ انهما بلال بن رباح واوس بن معير اللذان كانا يؤذنان لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حين يتوجه الى صلاته، ويوقظان المسلمين في ذلك الوقت المبكر الذي بزغت فيه شمس الاسلام.
وحتى نقوم باستعراض هذه القصيدة بما يشف عن مقاصدها، فإننا ينبغي ان نقوم بتجزأتها الى اجزاء بحسب تسلسل ابياتها مع معانيها.
وهي هكذا....
تتكون قصيدة الديك من ثماني فقرات تحتوي كل فقرة منها على موضوع بذاته. وهذا بيان ذلك:
تتكون الفقرة الأولى من أربعة أبيات هي مطلع القصيدة، وفيها ينادي المعري الديك قائلاً له: يا ديك إن أياديك كثيرة وفضلك عميم ومعروف منذ أمد طويل. وقد عد الناس من أياديك عليهم هذه الصيحة التي تطلقها في كل صباح فتبعث بها ميت الكرى.
لقد هتفت فظنك الناس أحد مؤذني رسول الله بلال بن رباح أو أوس بن معير، كان الديك واقفاً في المملة يرفع أذانه وكأنه صوت من الماضي، والناس يقولون: لعل بلالاً قد هبَّ من بعد رقدته الطويلة، بعد أن بلي جسده في الأرض إثر دفنه.
ويضيف إلى ذلك قوله: نعم المؤذن بلال بن حمامة (وحمامة أُمُّهُ) يذكرنا به وبصوته الذي يشبه سجع الحمام هذا الديك الصائح.
وتتكون الفقرة الثانية من أحد عشر بيتا يتوجه الشاعر خلالها إلى الديك بالحديث، واصفاً إياه بكل وصف طيب قائلاً له: لك أخلاق عالية على خلاف ما يبدو من أفعال النِّكس (الرديء السيئ الخلق) وفيك غيرة على دجاجاتك تصون بها كرائمهن وتبعد عنهن كل طامع بهن، وفيك جود يفيض على تلك الدجاجات، حتى ولو لم تمطر السماء. لأنك تبحث في الأرض عن الطعام مهما كان الأمر ومهما بذلت من جهد، فإذا عثرت على القوت قدمته لهنَّ.
وإذا اتصف العاجزون بالهزائم أمام أعدائهم، فإنك تزدان بما توجهه إلى أعدائك من طعن رافضاً أن يحل في محلك أحد من أبناء الديكة. والحب الذي تهتم بتقديمه لهن لا يعوض بالدر الثمين، ولا أحد يلومك فيما تفعل.
إنك تلقى للمنفضات (الدجاج) النواصع كأنهن اللآلئ التوائم المستخرجات من قعر البحر، حتى ليظن من يراها أنها من بيض النعام لكبر حجمها. وهذا البيض موضوع بين الصرائم (وهي جمع صريمة والصريمة شجرة برية).
وإنك لتؤثر بالقوت حليلتك (زوجتك) وهي شيمة لم يتعودها الناس. وكأنك في هذه الحالة الجمل المرافق لنياقه التي وضعت عليها الخزائم، وهي مطيعة له.
إن دجاجاتك في إحدى حالتين، هما: اللمح بالعيون، أو الاغضاء، وعدم رفع البصر إليك، وكأنهن ضرائر اشتعل بينهن الخصام، وهنَّ من ألوان عدة فمنهن السود الحوالك والحمر.
وأما الفقرة الثالثة فهي مكونة من أربعة أبيات، يصف الشاعر فيها الديك وصفاً دقيقاً، وكأنه يراه، مع أن هذا الشاعر مكفوف البصر، وهذا جزء من عبقرية أبي العلاء المعري، يقول في وصف الديك:
عليك ثياب خاطها الله قادراً = بها رئمتك العاطفات الروائمُ
وتاجُك معقود كأنك هُرمُزٌ = يُباهي به أملاكه ويوائم
وعينك سقط ماخَبَا عند قِرَّةٍ = كلمعة برق مالها الدهرَ شائمُ
وما قُرِّبت يوماً إلى موقد لها = إذا قُرِّبَتْ للموفدين الهشائمُ
(الروائم: العاطفات، الهشائم: قطع الأشجار المهشَّمةِ للوقود)
وتتكون الفقرة الرابعة من بيتين اثنين يوجه بهما قوله إلى الديك: إنك أيها الديك قد ورثت عملك هذا وهو (التذكير) منذ أمد بعيد (من قبل جرهم). الذين كانوا في جزيرة العرب ثم بادوا قبل أن تحل محلهم القبائل العربية المعروفة.
إنك أيها الديك منذ زمن طويل وأنت من دعائم الدين، لا تتخلى عنه حتى ولو قلقت الدعائم بين يدي حامله.
وأما الفقرة الخامسة فيتحدث الشاعر فيها عن مكانة الديك في نفسه ويبين حرصه عليه، فيقول: إنك لو كنت لي لم أذبحك، ولم أرتح لصائم أن يتناولك في إفطاره. وأنا أرفض أن يغلى لك ماء فتوضع فيه حتى تنضج فتفسد حلتك التي لبستها منذ عصور:
ولو كنت لي ما أُرهفت لك مُدْيَةٌ = ولا رام إفطاراً باكلك صائمُ
ولم يُغْل ماء كي تُمَزَّق حُلَّةُ = هدتك بأسناها العصور القدائمُ
إنك لو كنت في ملكي لما تركت أحداً يجعلك تتعرض لنار الطبخ ولا للتقطيع من أجل الأكل. ولسوف تلقى عندي الخير كله، كما تجد الإكرام والبر. أنت عندي محسوب كطفل ينتفي عنه قول السوء وفعله. فإن الله سبحانه وتعالى الذي كتب الجرائم ساخطاً على المخطئين لم يكتب عليك شيئاً منها. فما عليك إلا أن ترد حوض الحياة إذا ابتعدت عنه النفوس الحوائم (التي تحوم حول الشرور).
فعش سعيداً بين الأخيار، وأنت ناعم مرتاح البال بعيشة تخلد فيها، وهي عيشة لم تنلها السمائم من الطير (السمائم: ضرب من الطير دون القطا في الخلقة).
والفقرة السادسة، يعود فهيا أبو العلاء إلى طبيعته فيلسوفاً ينظر إلى الأمور بصورة مختلفة عن الصورة التي يراها بها الناس.
إن للناس على اختلاف آرائهم حول أمور الدنيا أحوالاً ثلاثة: وهي ليست إلا أقوال يرددونها إيماناً بها. فالقول الأول جزاء على أمر ما، والقول الثاني فيه تهاون. وآخر الأقوال ما لا خير فيه.
إن من يأتي من بعدنا فإنه سوف يُشبهنا ويضارعنا في كل أمورنا، ونحن نمضي على علاتنا، وندأب في عملنا كما نفعل منذ البداية.
وكل امرئ منا يدعو نفسه إلى الزهد عندما يخلو إليها، ولكنه لا يجد عنده عزيمة صادقة تصح على ذلك. فأين أفر من زمني وأهله، وقد مضى هذا الزمن بالشر في كل مكان.
إن الأمور -على كل حال- مضطربة، ولا أمل في إصلاحها، ومع ذلك الذي ذكر، والتشاؤم الذي أداه فإن المعري يبدأ الفقرة السابقة بقوله: إن قلبه أبى إلا حب الدنيا التي يرمز لها عند القدماء بقلب أم دفر، ويقارن بين قوله هذا وما قاله أبو الأسود الدؤلي:
أبا القلب إلا أم عمر وَحُبَّها = عَجوزاً ومن يُحببْ عجوزاً يُفَنَّدِ
ونحن نشير هنا إلى بيت المعري الذي يقول فيه:
أبى القلب إلا أمَّ دَفْرٍ كما أبى = سوى أُمِّ عمرو موجعُ القلب هائم
وهذه الدنيا عند أبي العلاء هي المنتهى، وهي المشتهى، وله فيها أمنيات محلها فوق السها علوا بحيث أبرى عظائم الأمور دونها، ونحن في هذه الدنيا لا يرانا أحد إلا ونحن في تحاسد عليها، ويرى قلوبنا وهي ممتلئة بالأحقاد، وهذه الأحقاد كلها قد استقرت في أحشائنا، حتى تركتنا جماجم فارغة لا تدرك شيئاً. وصارت أيامنا منطلقة كالابل بلا أزمة تمسك بها، أو كالخيل لم توضع على أفواهها الشكائم.
لقد نسي الناس حسن العهود، ووجوب الوفاء، ولم يعد لهم ما يذكرهم بشيء.. وآخر بيت في هذه الفقرة هو:
وتمضي بنا الساعات مُضْمرةً لنا = قبيحا على أن الوجوه وسائمُ
نَمَمْنَ بما يخفيه حَيٌّ ومِّيتٌ = وَمِنْ شَرِّ أفعالِ الأنام النَّمائمُ
أما في ختام حديثنا عن هذه القصيدة فإننا نشير هنا إلى ملاحظات لابد من ذكرها، وهي أن الشاعر قد قسم قصيدته إلى قسمين؛ الأول منهما عند الديك، مدحاً ووصفاً بل وتاريخاً والقسم الثاني لا علاقة له بالديك إلا أن يكون قد استوحى منه الأفكار التي رصفها في هذا القسم من القصيدة، حيث عاد المعري إلى الفلسفة وإلى الحديث عن النفس وميولها، وعن دنياه التي كان يعيشها.
د. يعقوب يوسف الغنيم