جاءنا الإذن فى موعده على شكل ومضة بنفسجية أطلقها برج المراقبة...على الفور ارتفعت البيضة ملساء الجدران دون أدنى صوت أو اهتزاز وقد حملتنا بداخلها..في ثانية واحدة وبمنتهى الليونة كنا قد تخطينا مدينة المليون ناطحة سحاب عاصمة مديرية وادي النطرون..وفى ثانية أخرى أشرفنا على حدود البحيرة الصناعية التي تم إيصالها غربا ببحيرة منخفض القطّارة.. متخذين اتجاه الجنوب رأسا..لكن بعد أربع دقائق انتهت ولم نحس بها كانت البيضة تنساب إلى قلب الصحراء الجاري استصلاحها وتحويلها لأرض تموج بالخضرة...
ثمانية عشر مقعدا مائيا مريحا استرخى عليها ستة عشر فردا من أسرة "النطروني".. أسرتنا.. وفردان غريبان هما الطبيبان المسئولان عن محتوى الناقوس.. وأما الناقوس ذو الانتفاخ الكروي من أعلاه ومادته البلاستيكية رائقة كالزجاج.. فقد استقر خلف مقصورة القيادة الآلية متقدما عن المقاعد.. وبداخله واحد من أحفاد النطروني..رقد بدوره على أريكة زئبقية في حين احتلت ثغره ابتسامة متحدية!
همهم نجاتي النطروني- وهو ابن عمة والدي - في الأذن البديلة التي أحملها على جانب رأسي :- يالها من فرحة ترتسم باتساعها على وجهه؟
أدرت عيني وركزتهما على الناقوس-..إلى داخله.. بالقطع علوي في قمة ابتهاجه.. يمسك جهاز الحاسب اليدوي ويباريه لعبة شطرنج الإلكترونات.. وبينما أصابعه الرفيعة على الأزرار تحاور رصيد الحاسب الوفير من المعلومات على صغر حجمه فقد لمحت عينيه شاردتين.. لامعتين.. تتعلقان بصورة عيدة.. لكنها ذات إيقاع بدا آسرا بالغ العذوبة على قسماته...
قلت مؤكدا: علوي شاب رائع.. أتنبأ له بالذيوع والشهرة لدى أواخر الألف الرابعة بعد الميلاد... غطت الكآبة جزءا من بياض عينى نجاتي...
- كان بمقدوري أن أسلك الطريق نفسه منذ مائة عام...
تساءلت: وفيم كان إحجامك؟
- بل ولم أحجمت أنت أيضا.. أظنك لن تتعلل بأن التجارب الأولية.. وحتى قرن مضى أو نحوه..
لم تكن مشجعة...
هززت رأسى: هكذا بالفعل!
تابع: ثم تلجأ للقول بأن أيا منا لم يكن مصابا بمرض عضال يقنع المسئولين بضرورة تبريد بدنه..
فتلك كانت المبرات آنذاك.. أما اليوم.. أما الآن.. فإن المقابل النقدي مرتفع للغاية...
كلام ناجي أقنعني فصمت.. وصمت بدوره أو تشاغل بمحاولة اختراق أستار ركام السحب خارج البيضة الطائرة.. عندئذ طوحت بصري تجاه كبير الأسرة. فرغلي النطروني.. الشاب ابن الثمانين ربيعا.. المغادر "ما تاباعوينا" منذ قرابة العام.. كان يجلس على المقعد الملاصق للناقوس.. متمايلا.. متأرجحا.. غير مستقر بالمرة.. يتفجر فمه الضيق بالكلمات. وثنايا جسده بالعافية.. وقسمات وجهه بالنشوى.. بالحياة...
وأزت كلمات رتيبة من حولنا "باق من الزمن أربعون دقيقة على محطة الوصول.. ما تاباعوينا"! ينما مالت على خصلات شعر ذهبية مزروعة فواحة العطر وملأت مجال الرؤية لدي شفتان طلاؤهما في ضياء الفيروز الفاتح....
- أو لم يكن الأجدر أن تعطيها له؟
حملقت في الخالة ريم النطروني القصيرة العفية رغم رصيد أعوام عمرها.. إنها إحدى المحظوظات من أسرتنا.. فقد أتاح لها ثراؤها تجربة الجمد مرات خمسا بلغ مجموعها مائة وخمسا وثمانين عاما... هتفت: آه.. ماذا؟
عادت تلح: ابنتك.. لماذا لا تلحق بهذا الشاب.. تشاركه مشواره وفيما بعد مرحلة تألقه... ابتسمت: لم يفتنا ذلك.. نحن..وهم.. لكن الحاسب القومي لتنظيم الارتباطات الزوجية حدد اختلافا جوهريا في المقومات الوراثية بين كل من علوي وعنايات ابنتي.. تصنيفها هي جاء مثبطا... تمتمت العمة ريم: خسارة...
قلت: لكنها ستجمد.. في يوم ما ستجمد.. هذه أمنيتها بعد أن تعالج.. فأنا وأثق من تأكيدات العلماء بقرب السيطرة على جميع المقومات الوراثية في البشر.. أجل.. لابد أن يفتح الباب على مصراعيه أمام التوصل إلى الفرد الكامل الخالي من عيوب النفس والجسد..
"باق من الزمن عشرون دقيقة على محطة الوصول.. ماتاباعوينا"...
عاد نجاتي لتأوهاته...
- على أنني مازلت أتوجس من التبريد.... أحيانا أرى فيه غلطة حضارية كبرى...
- هة؟
وضع راحة كفه على ساقي.. ربت برفق...
- اسمع.. مع أن الكل أقبلوا عليه.. وعلى ما يذاع من حسناته.. فليس كله خيرا...
تعجبت: كلامك غريب!!
تقمص هيئة الذئب الذي عجز عن افتراس الفيل: لقد قضى التبريد كلية على روابطنا وتقاليدنا العائلية؟ واجهته غاضبا: لا.. كلمة الأسرة محيت من قاموس كوكبنا منذ أكثر من قرون ثلاثة من الزمان..وهو تاريخ يسبق عصر التبريد.. وكما تعلم فإن اندثار الروابط الأسرية نشأ أساسا عن النمو الرهيب لثورة التصنيع الغابرة وكذا نمو شبكة المواصلات العالمية في أواخر القرن الواحد والعشرين.. أما الازدياد السكاني الرهيب قبل أن يحدد النسل إجباريا على مستوى العالم أخيرا فكان الدافع للهجرة المحمومة عبر كوكبنا وبعدئذ عبر كواكب مجموعتنا الشمسية.. أشياء من هذا القبيل هي السبب.. وليس التبريد...
حاول الاعتراض.. لفظ كلمة "لكن" مرتين.. ومع كلٍ صممت على المضي في إطلاق كلماتي النارية... - ويكفيني هدف واحد للدلالة على عظم التبريد.. إنه مد للحياة وتجديد لعناصر الجسد... إنه الحلم الذي تحقق وتوّج منجزات العصر بأكمله..
تدخلت العمة ريم بصوتها المجلجل: أصبت.. فقد كان لاكتشاف كنوز التبريد وقع بعيد... بل مذهل.. على مختلف أنشطة البشر وأفكارهم...
تحمست واحدة من حفيدات النطروني الحسناوات.كانت تجلس إلى يمين العمة ريم..
قالت في حماس دافق: بمقدوري أن أعدد لكم كنوز التبريد التي تقصدونها.. مد الحياة باختراقها أزمنة لم تكن تطولها مع تجديد الحيوية الجسدية.. التعلم وتلقي المعلومات أثناء سبات الجمد.. العلاج عبر الزمن.. التاريخ واقعيا.. السفر بين الكواكب.. الهرب من كوارث الطبيعة وأهوال الحروب.. اتقاء المجاعات والأوبئة.. الحفاظ على العلماء والنوابغ وذوي الطاقات المميزة.. وتلك البدعة الحديثة السياحة والهجرة عبر الحضارات..عبر المستقبل..
وتعالى صوت يقول: "محطة الوصول ماتاباعوينا..محطة الوصول ماتاباعوينا"...
رحت أحملق شاردا فيما حولي والبيضة تحط بنا في يسر على الشريط الممغنط الذي انطلق يسحبها بركابها صاعدا جانب الجبل الصخري نحو قمته.. في حين اختفت البيضات الست المرافقات عن بصري.. ولاحقني سؤال داخلي طالما اعترضني...
"ترى.. هل حقيقة.. قد أوشكنا أن نتغلب على الموت بحيث لا تكون النهاية لوجود البشر.. وأن دوام الشباب بديل آمن يمكن أن نناله على الدوام؟؟ ". تتالت كلمات مسجلة ينطقها صوت يعتريه الاختناق..
"محطة الوصول ماتاباعوينا.. هو اختصار لاسم المقر الأبدي لتبريد الأجساد البشرية بأسفل العوينات.. ويقع المقر لدى نقطة التقاء الحدود المصرية السودانية الليبية جنوب محطة الإقلاع في وادي النطرون بألفي كيلومتر.."
دون توقع أظلم الجو بالخارج.. كانت البيضة قد سحبت على الشريط المتحرك الى داخل الجبل.. دقائق عاد بعدها الضياء يخطف البصر.. كانت البيضة تنزلق الآن هابطة بنا إلى جوف الصخر وسط صفوف متراصة من بؤرات الفسفور شديدة الإضاءة وفي ألوان تتحول من الأخضر الباهت إلى الأصفر الفاقع وبالعكس.. واجتذبني منظر الممر ببؤراته المتلألئة عما يلقيه الصوت من معلومات عن الجبل ومحتواه فقد قرأت عنهما الكثير.... ورحت أخاطب نفسي بصوت لم أنتبه إلى علوه وأنا قابع في مقعدي.. أستشعر مع اتجاه البيضة إلى أسفل بتيار لذيذ من البهجة يتسلل لأعماق صدري... اختيار موفق.. أن يجعلوا قلب الجبل النائي عن العمران..وأسفل كتله الصماء التي لا تؤثر فيها أعتى القنابل النووية.
.مستودعا للحفاظ على أجسادنا الهاجعة، المستسلمة، عبر سنوات الجمد.....
والتقط أحد الطبيبين الكلمات المتواترة على شفتي..وهو الأكبر سنا والأرفع بدنا..فوجه إليّ الحديث بينما يحرك ذراعيه وساقيه مبعدا عنه عناء الجلوس بلا حراك طوال طيران البيضة...
- بالطبع يتحتم توخي أقصى درجات الأمان ضد الكثير من الأخطار.. مثل الأعطال التي تلحق بالأجهزة والمعدات.. والأخطار الطبيعية.. والأهم ضد أعمال التخريب أو محاولات الاختطاف والقتل والتشويه...
أخيرا توقفت البيضة.. سكنت حركتها نهائيا...ووجدتنى وبقية أفراد أسرة النطروني خارجها.. نستنشق عطر الياسمين المنتشر في أعماق الجبل دون أن ندري مصدره.. أما الناقوس بمحتواه الآدمي فقد تسلمته عربة كهربائية وحملته إلى ما وراء باب فولاذي يشبه أبواب خزائن البنوك.. بينما عبرنا نحن الواحد تلو الآخر بابا مجاورا واطئ المدخل.. تتركز على جانبيه عدسات البحث عن الأسلحة والمتفجرات وجميع أدوات القتل!!
وضمتنا آخر الأمر أوسع قاعات كوكبنا الأرض...كانت رحبة..عالية الجدران.. شاهقة السقف بكيفية لا تصدق..وقد شطرها حاجز من لدين شفاف إلى نصفين عملاقين..الأول لمحنا فيه الناقوس يحتضن علوي النطروني تجاوره قامتا الطبيبين بعد أن ارتديا زيين واقيين.. والثاني احتللناه نحن...
الأرضية لدنة.. حانية.. يغطيها بساط نجيلي أنبت صناعيا على قوام من ألياف تربة القمر.. والجدران رائقة الأحمرار في لون الورد.. ملساء.. أما السقف فهو مشيد على هيئة قبة سامقة تملؤها آيات رآنية كتبت بالخط الإلكتروني على نمط كوفي مندثر.. وفيما عدا الستة عشر جسدا نطرونيا لم يكن نصف القاعة يضم قطعة أثاث واحدة أو شيئا قائما على الإطلاق.. الحال نفسه تيقنته في الجانب الآخر للقاعة.. أجساد علوي ثم الطبيبين ثم الفضاء المتسع...
لكن على غير توقع.. منا على الأقل.. تحولت مساحة نصف متر مربع بالجدار الأيسر لنصف لقاعة الثاني إلى ما يشبه شاشة تليفزيون.. أضيئت من عدم.. واتضح عبرها وجه صارم عرفت في الحال أنه للطبيب العالم كريم الصبّاحي المشرف على "ماتاباعوينا" بجميع ما تضمه من أجهزة متطورة وأسرار دفينة! تطلع الطبيب العالم من داخل الإطار المضيء نحو الشاب الواقف قبالته.. تأمل علوي النطروني طويلا وقد كساه التعب واللامبالاة.. ثم أدار وجهه نحونا وألقى نظرة عبر الحاجز على جماعتنا.. مخاطبا علوي في لهجة جادة:
"السيد علوي نصر الدين النطروني (مصري) السن ثلاثون عاما. بعد أن قدّم قوائم (المايكرو) المطلوبة. عن شهاداته وخبراته وهواياته. وكذا قوائم بما أجري على بدنه وعقله ونفسه من فحوص وتحاليل واختبارات. وما أرفق من تقارير تختص بتاريخ أسرته وعدد من جمد منهم سابقا ولاحقا. وبعد ان أتم الحاسب المركزي دراسة ذلك جميعه وواءم عناصر ثروته. ومن ثم عرضت نتائج الدراسة على اللجنة العليا المختصة بالمقر"...
رسم الطبيب العالم ابتسامة تقليدية على وجهه...
"فباسم اللجنة أعلن سلامة إجراءات التقدم للماتاباعوينا. وبذا قبل طلبك وتم قيدك بسجلاتنا. وعليه فقد تحدد - وقد جهز بدنك طيلة المائة ساعة الماضية بالعقاقير المشعة وبموجات ما تحت الصوت - البدء اليوم في تجميد كامل جسدك ياسيد علوي نصر الدين النطروني. في تمام الرابعة عشرة ظهرا حسب التوقيت المحلي لجبل العوينات. تحت الرقم المسلسل 3184444 ف"... لوى الطبيب العالم عنقه في لفتة حادة نحونا وقد زادت ابتسامته طولا وعرضا..ورفع حاجبه ومط شفته:
"الساعة الآن الثالثة عشرة. بقى على بدء سريان التبريد أو ما نطلق عليه علميا لحظة التوقيت الكربوجينى ساعة زمان أخرى. أيها السادة.. لممثلون لأسرة النطروني..يسرني أن أترك لكم ابنكم لتحتفلوا بوداعه بالكيفية التي ترونها خلال الدقائق المتبقية"...
اختفت صورة الطبيب العالم.. وتحول سطح الحائط إلى سابق عتامته. وعاد السكون. عاد صمت الكون كله. ما الذي عليّ أن أصفه بعد ذلك...
وهكذا انتشر الستة عشر فردا من عائلة النطروني في شبه دائرة وقد أمسك كل واحد منهم وأنا معهم.. بأرغونه (الترانزستور) في قبضته اليسرى.. بينما يعزف على دوائره الإلكترونية الحسّاسة بأصابع يمناه.. نغما جماعيا.. موحدا... لتعم القاعة بنصفيها موسيقى شجية.. آسرة...
وفي الجانب المواجه لنا.. فيما وراء الحاجز.. انفلت علوى بدوره يقفز قفزات إيقاعية عالية.. رشيقة.. كأنه يسبح في الهواء ليقبل الملائكة عبر النجوم.. في حين أخذت حناجرنا تنشد في زهو وحبور على إيقاع النغم المنساب مجسما متعمقا الى أغوار الروح...
في النهاية تناول كبيرنا فرغلي النطروني من جيبه زجاجة مثمنة الأضلاع. تحوى سائلا عكر البياض.. وأيقنا على الفور أنها مياه عين حلوان المعدنية الرابعة..التي اكتشفت قريبا عام 2077.. ودارت الزجاجة المثلجة من يد ليد علينا.. ليرشف كل منا جرعة في صحة العزيز علوي النطروني وحظه الهانىء..وقد أخذ هذا يلوح لنا من بعيد...
حتى سمعنا رنين جرس غليظ متواصل يعلن تمام الرابعة عشرة.. لحظتها اقترب الطبيبان من علوي.. كلماه.. خلعا عنه ملابسه الخارجية وأبقيا فقط الرداء الجلدي الذي يضغط على عنقه وإلى فخذيه.. أغرقه الطبيبان بعدئذ برذاذ مزرق.. بينما برز عدد آخر من الرجال بالأردية الواقية نفسها .. وبرزت كذلك العربة الكهربائية وعليها تابوت معدني...
وقام الرجال برفع جسد علوي الفارع وأسكنوه تابوته وقد حمل عين الرقم: 3184444 ف.. وبعناية ورفق أحكموا إغلاق غطاء التابوت.. وضغطوا الأزرار.. فأزت الأجهزة.. ليتحول علوي نصر الدين النطروني في طياته إلى قالب من الصقيع لن يفك أسرة إلا بعد ألف عام...
أي في عام 3365 ميلادية...
بعد نحو ثماني عشرة دقيقة تالية. والبيضة الطائرة تحتوينا ثانية في عمق جسمها الانسيابي.آخذة طريق العودة إلى مدينة المليون ناطحة سحاب بمديرية وادي النطرون. ملت على الطبيب رفيع القامة وقد جاءت جلسته إلى جواري.. وسألته بعصبية...
- وبعد سنوات الأسر الإرادي هذه؟؟
قطب جبينه: لا شك مزيدا من الاستمتاع بالحياة الممتدة وأيضا مزيدا من اللجوء لأسر الجمد.. مرات ومرات ومرات.. لقد انفتحت الآفاق وامتدت المعطيات ربما إلى ما لا نهاية... عضضت شفتي لسفلى: وبعد مليون عام؟
- ماذا تقصد!
ملت عليه وتمتمت: بعد أن يتمادى العمر أو الزمن بالكائن البشري.. بعد أن يتوقف جسده عن مزيد من الاستجابة.. فيهرم.. ولا تعود إمكانات الهرب في أجهزة التبريد تفيده.. تنجده.. عندئذ فما الحل؟ خفض الطبيب عينيه بالرقائق المكبرة الملصقة على حدقتيهما..وتشاغل بمداعبة سلسلة في يده...
- إذا كان الهدف الرئيسي للتبريد في الماضي هو مجرد الحفاظ على الأجساد من التلف.. وفي الحاضر هو دوام الشباب والحيوية.. فإن رغبة الإنسان في إطالة عمره أو في التعلق بالحياة لن تتوقف.. تريد إجابة لما بعد استنفاد إمكانات التبريد.. حسن... ولو أننا لم نصل إلى نهاية الطريق..فإني أعلن أن لأفكار تزداد تألقا..وتفجرا..بل هناك اتجاهات مجنونة لإيجاد استعدادات بديلة لإطالة الحياة أو مقاومة الموت..مثل الأجهزة الإلكترونية التي تزرع داخل الجسم لتعوض نواحي العجز والقصور فيه...
صرخت في وحشية: مازلت أصر على سؤالي.. ما العاقبة في النهاية. في آخر المطاف.. بعد أقصى مرات التبريد وغير التبريد.. بعد كل شيء؟؟؟
حملق في وجهي ببلاهة.. وراح يحرك وجهه يمنة ويسارا زائغ النظرات...
أخيرا نطق في بساطة ووضوح طفولي...
- الختام هو الختام..لا خلاف عليه.. في تقديري أنه ما يجب أن تنهى به حياة كل كائن حي.. ورغما عن انطلاقات العقل البشري مهما نما ذكاؤه...
- ولو بعد مليون........
قاطعني صاغرا : ولو بعد مليار عام.. صدقني.. فالإنسان لا يمل مغالطة نفسه تحت مسميات علمية لا حصر لها ولعبات تقنية هي هباء بر نظام الكون وجبروته...
وعادت البيضة تختفي من جديد في طيات السحابة البرتقالية.. بينما تمطر صناعيا على أرض جدباء أسفلها..
نهاد شريف
مجلة العربي نوفمبر 1992
ثمانية عشر مقعدا مائيا مريحا استرخى عليها ستة عشر فردا من أسرة "النطروني".. أسرتنا.. وفردان غريبان هما الطبيبان المسئولان عن محتوى الناقوس.. وأما الناقوس ذو الانتفاخ الكروي من أعلاه ومادته البلاستيكية رائقة كالزجاج.. فقد استقر خلف مقصورة القيادة الآلية متقدما عن المقاعد.. وبداخله واحد من أحفاد النطروني..رقد بدوره على أريكة زئبقية في حين احتلت ثغره ابتسامة متحدية!
همهم نجاتي النطروني- وهو ابن عمة والدي - في الأذن البديلة التي أحملها على جانب رأسي :- يالها من فرحة ترتسم باتساعها على وجهه؟
أدرت عيني وركزتهما على الناقوس-..إلى داخله.. بالقطع علوي في قمة ابتهاجه.. يمسك جهاز الحاسب اليدوي ويباريه لعبة شطرنج الإلكترونات.. وبينما أصابعه الرفيعة على الأزرار تحاور رصيد الحاسب الوفير من المعلومات على صغر حجمه فقد لمحت عينيه شاردتين.. لامعتين.. تتعلقان بصورة عيدة.. لكنها ذات إيقاع بدا آسرا بالغ العذوبة على قسماته...
قلت مؤكدا: علوي شاب رائع.. أتنبأ له بالذيوع والشهرة لدى أواخر الألف الرابعة بعد الميلاد... غطت الكآبة جزءا من بياض عينى نجاتي...
- كان بمقدوري أن أسلك الطريق نفسه منذ مائة عام...
تساءلت: وفيم كان إحجامك؟
- بل ولم أحجمت أنت أيضا.. أظنك لن تتعلل بأن التجارب الأولية.. وحتى قرن مضى أو نحوه..
لم تكن مشجعة...
هززت رأسى: هكذا بالفعل!
تابع: ثم تلجأ للقول بأن أيا منا لم يكن مصابا بمرض عضال يقنع المسئولين بضرورة تبريد بدنه..
فتلك كانت المبرات آنذاك.. أما اليوم.. أما الآن.. فإن المقابل النقدي مرتفع للغاية...
كلام ناجي أقنعني فصمت.. وصمت بدوره أو تشاغل بمحاولة اختراق أستار ركام السحب خارج البيضة الطائرة.. عندئذ طوحت بصري تجاه كبير الأسرة. فرغلي النطروني.. الشاب ابن الثمانين ربيعا.. المغادر "ما تاباعوينا" منذ قرابة العام.. كان يجلس على المقعد الملاصق للناقوس.. متمايلا.. متأرجحا.. غير مستقر بالمرة.. يتفجر فمه الضيق بالكلمات. وثنايا جسده بالعافية.. وقسمات وجهه بالنشوى.. بالحياة...
وأزت كلمات رتيبة من حولنا "باق من الزمن أربعون دقيقة على محطة الوصول.. ما تاباعوينا"! ينما مالت على خصلات شعر ذهبية مزروعة فواحة العطر وملأت مجال الرؤية لدي شفتان طلاؤهما في ضياء الفيروز الفاتح....
- أو لم يكن الأجدر أن تعطيها له؟
حملقت في الخالة ريم النطروني القصيرة العفية رغم رصيد أعوام عمرها.. إنها إحدى المحظوظات من أسرتنا.. فقد أتاح لها ثراؤها تجربة الجمد مرات خمسا بلغ مجموعها مائة وخمسا وثمانين عاما... هتفت: آه.. ماذا؟
عادت تلح: ابنتك.. لماذا لا تلحق بهذا الشاب.. تشاركه مشواره وفيما بعد مرحلة تألقه... ابتسمت: لم يفتنا ذلك.. نحن..وهم.. لكن الحاسب القومي لتنظيم الارتباطات الزوجية حدد اختلافا جوهريا في المقومات الوراثية بين كل من علوي وعنايات ابنتي.. تصنيفها هي جاء مثبطا... تمتمت العمة ريم: خسارة...
قلت: لكنها ستجمد.. في يوم ما ستجمد.. هذه أمنيتها بعد أن تعالج.. فأنا وأثق من تأكيدات العلماء بقرب السيطرة على جميع المقومات الوراثية في البشر.. أجل.. لابد أن يفتح الباب على مصراعيه أمام التوصل إلى الفرد الكامل الخالي من عيوب النفس والجسد..
"باق من الزمن عشرون دقيقة على محطة الوصول.. ماتاباعوينا"...
عاد نجاتي لتأوهاته...
- على أنني مازلت أتوجس من التبريد.... أحيانا أرى فيه غلطة حضارية كبرى...
- هة؟
وضع راحة كفه على ساقي.. ربت برفق...
- اسمع.. مع أن الكل أقبلوا عليه.. وعلى ما يذاع من حسناته.. فليس كله خيرا...
تعجبت: كلامك غريب!!
تقمص هيئة الذئب الذي عجز عن افتراس الفيل: لقد قضى التبريد كلية على روابطنا وتقاليدنا العائلية؟ واجهته غاضبا: لا.. كلمة الأسرة محيت من قاموس كوكبنا منذ أكثر من قرون ثلاثة من الزمان..وهو تاريخ يسبق عصر التبريد.. وكما تعلم فإن اندثار الروابط الأسرية نشأ أساسا عن النمو الرهيب لثورة التصنيع الغابرة وكذا نمو شبكة المواصلات العالمية في أواخر القرن الواحد والعشرين.. أما الازدياد السكاني الرهيب قبل أن يحدد النسل إجباريا على مستوى العالم أخيرا فكان الدافع للهجرة المحمومة عبر كوكبنا وبعدئذ عبر كواكب مجموعتنا الشمسية.. أشياء من هذا القبيل هي السبب.. وليس التبريد...
حاول الاعتراض.. لفظ كلمة "لكن" مرتين.. ومع كلٍ صممت على المضي في إطلاق كلماتي النارية... - ويكفيني هدف واحد للدلالة على عظم التبريد.. إنه مد للحياة وتجديد لعناصر الجسد... إنه الحلم الذي تحقق وتوّج منجزات العصر بأكمله..
تدخلت العمة ريم بصوتها المجلجل: أصبت.. فقد كان لاكتشاف كنوز التبريد وقع بعيد... بل مذهل.. على مختلف أنشطة البشر وأفكارهم...
تحمست واحدة من حفيدات النطروني الحسناوات.كانت تجلس إلى يمين العمة ريم..
قالت في حماس دافق: بمقدوري أن أعدد لكم كنوز التبريد التي تقصدونها.. مد الحياة باختراقها أزمنة لم تكن تطولها مع تجديد الحيوية الجسدية.. التعلم وتلقي المعلومات أثناء سبات الجمد.. العلاج عبر الزمن.. التاريخ واقعيا.. السفر بين الكواكب.. الهرب من كوارث الطبيعة وأهوال الحروب.. اتقاء المجاعات والأوبئة.. الحفاظ على العلماء والنوابغ وذوي الطاقات المميزة.. وتلك البدعة الحديثة السياحة والهجرة عبر الحضارات..عبر المستقبل..
وتعالى صوت يقول: "محطة الوصول ماتاباعوينا..محطة الوصول ماتاباعوينا"...
رحت أحملق شاردا فيما حولي والبيضة تحط بنا في يسر على الشريط الممغنط الذي انطلق يسحبها بركابها صاعدا جانب الجبل الصخري نحو قمته.. في حين اختفت البيضات الست المرافقات عن بصري.. ولاحقني سؤال داخلي طالما اعترضني...
"ترى.. هل حقيقة.. قد أوشكنا أن نتغلب على الموت بحيث لا تكون النهاية لوجود البشر.. وأن دوام الشباب بديل آمن يمكن أن نناله على الدوام؟؟ ". تتالت كلمات مسجلة ينطقها صوت يعتريه الاختناق..
"محطة الوصول ماتاباعوينا.. هو اختصار لاسم المقر الأبدي لتبريد الأجساد البشرية بأسفل العوينات.. ويقع المقر لدى نقطة التقاء الحدود المصرية السودانية الليبية جنوب محطة الإقلاع في وادي النطرون بألفي كيلومتر.."
دون توقع أظلم الجو بالخارج.. كانت البيضة قد سحبت على الشريط المتحرك الى داخل الجبل.. دقائق عاد بعدها الضياء يخطف البصر.. كانت البيضة تنزلق الآن هابطة بنا إلى جوف الصخر وسط صفوف متراصة من بؤرات الفسفور شديدة الإضاءة وفي ألوان تتحول من الأخضر الباهت إلى الأصفر الفاقع وبالعكس.. واجتذبني منظر الممر ببؤراته المتلألئة عما يلقيه الصوت من معلومات عن الجبل ومحتواه فقد قرأت عنهما الكثير.... ورحت أخاطب نفسي بصوت لم أنتبه إلى علوه وأنا قابع في مقعدي.. أستشعر مع اتجاه البيضة إلى أسفل بتيار لذيذ من البهجة يتسلل لأعماق صدري... اختيار موفق.. أن يجعلوا قلب الجبل النائي عن العمران..وأسفل كتله الصماء التي لا تؤثر فيها أعتى القنابل النووية.
.مستودعا للحفاظ على أجسادنا الهاجعة، المستسلمة، عبر سنوات الجمد.....
والتقط أحد الطبيبين الكلمات المتواترة على شفتي..وهو الأكبر سنا والأرفع بدنا..فوجه إليّ الحديث بينما يحرك ذراعيه وساقيه مبعدا عنه عناء الجلوس بلا حراك طوال طيران البيضة...
- بالطبع يتحتم توخي أقصى درجات الأمان ضد الكثير من الأخطار.. مثل الأعطال التي تلحق بالأجهزة والمعدات.. والأخطار الطبيعية.. والأهم ضد أعمال التخريب أو محاولات الاختطاف والقتل والتشويه...
أخيرا توقفت البيضة.. سكنت حركتها نهائيا...ووجدتنى وبقية أفراد أسرة النطروني خارجها.. نستنشق عطر الياسمين المنتشر في أعماق الجبل دون أن ندري مصدره.. أما الناقوس بمحتواه الآدمي فقد تسلمته عربة كهربائية وحملته إلى ما وراء باب فولاذي يشبه أبواب خزائن البنوك.. بينما عبرنا نحن الواحد تلو الآخر بابا مجاورا واطئ المدخل.. تتركز على جانبيه عدسات البحث عن الأسلحة والمتفجرات وجميع أدوات القتل!!
وضمتنا آخر الأمر أوسع قاعات كوكبنا الأرض...كانت رحبة..عالية الجدران.. شاهقة السقف بكيفية لا تصدق..وقد شطرها حاجز من لدين شفاف إلى نصفين عملاقين..الأول لمحنا فيه الناقوس يحتضن علوي النطروني تجاوره قامتا الطبيبين بعد أن ارتديا زيين واقيين.. والثاني احتللناه نحن...
الأرضية لدنة.. حانية.. يغطيها بساط نجيلي أنبت صناعيا على قوام من ألياف تربة القمر.. والجدران رائقة الأحمرار في لون الورد.. ملساء.. أما السقف فهو مشيد على هيئة قبة سامقة تملؤها آيات رآنية كتبت بالخط الإلكتروني على نمط كوفي مندثر.. وفيما عدا الستة عشر جسدا نطرونيا لم يكن نصف القاعة يضم قطعة أثاث واحدة أو شيئا قائما على الإطلاق.. الحال نفسه تيقنته في الجانب الآخر للقاعة.. أجساد علوي ثم الطبيبين ثم الفضاء المتسع...
لكن على غير توقع.. منا على الأقل.. تحولت مساحة نصف متر مربع بالجدار الأيسر لنصف لقاعة الثاني إلى ما يشبه شاشة تليفزيون.. أضيئت من عدم.. واتضح عبرها وجه صارم عرفت في الحال أنه للطبيب العالم كريم الصبّاحي المشرف على "ماتاباعوينا" بجميع ما تضمه من أجهزة متطورة وأسرار دفينة! تطلع الطبيب العالم من داخل الإطار المضيء نحو الشاب الواقف قبالته.. تأمل علوي النطروني طويلا وقد كساه التعب واللامبالاة.. ثم أدار وجهه نحونا وألقى نظرة عبر الحاجز على جماعتنا.. مخاطبا علوي في لهجة جادة:
"السيد علوي نصر الدين النطروني (مصري) السن ثلاثون عاما. بعد أن قدّم قوائم (المايكرو) المطلوبة. عن شهاداته وخبراته وهواياته. وكذا قوائم بما أجري على بدنه وعقله ونفسه من فحوص وتحاليل واختبارات. وما أرفق من تقارير تختص بتاريخ أسرته وعدد من جمد منهم سابقا ولاحقا. وبعد ان أتم الحاسب المركزي دراسة ذلك جميعه وواءم عناصر ثروته. ومن ثم عرضت نتائج الدراسة على اللجنة العليا المختصة بالمقر"...
رسم الطبيب العالم ابتسامة تقليدية على وجهه...
"فباسم اللجنة أعلن سلامة إجراءات التقدم للماتاباعوينا. وبذا قبل طلبك وتم قيدك بسجلاتنا. وعليه فقد تحدد - وقد جهز بدنك طيلة المائة ساعة الماضية بالعقاقير المشعة وبموجات ما تحت الصوت - البدء اليوم في تجميد كامل جسدك ياسيد علوي نصر الدين النطروني. في تمام الرابعة عشرة ظهرا حسب التوقيت المحلي لجبل العوينات. تحت الرقم المسلسل 3184444 ف"... لوى الطبيب العالم عنقه في لفتة حادة نحونا وقد زادت ابتسامته طولا وعرضا..ورفع حاجبه ومط شفته:
"الساعة الآن الثالثة عشرة. بقى على بدء سريان التبريد أو ما نطلق عليه علميا لحظة التوقيت الكربوجينى ساعة زمان أخرى. أيها السادة.. لممثلون لأسرة النطروني..يسرني أن أترك لكم ابنكم لتحتفلوا بوداعه بالكيفية التي ترونها خلال الدقائق المتبقية"...
اختفت صورة الطبيب العالم.. وتحول سطح الحائط إلى سابق عتامته. وعاد السكون. عاد صمت الكون كله. ما الذي عليّ أن أصفه بعد ذلك...
وهكذا انتشر الستة عشر فردا من عائلة النطروني في شبه دائرة وقد أمسك كل واحد منهم وأنا معهم.. بأرغونه (الترانزستور) في قبضته اليسرى.. بينما يعزف على دوائره الإلكترونية الحسّاسة بأصابع يمناه.. نغما جماعيا.. موحدا... لتعم القاعة بنصفيها موسيقى شجية.. آسرة...
وفي الجانب المواجه لنا.. فيما وراء الحاجز.. انفلت علوى بدوره يقفز قفزات إيقاعية عالية.. رشيقة.. كأنه يسبح في الهواء ليقبل الملائكة عبر النجوم.. في حين أخذت حناجرنا تنشد في زهو وحبور على إيقاع النغم المنساب مجسما متعمقا الى أغوار الروح...
في النهاية تناول كبيرنا فرغلي النطروني من جيبه زجاجة مثمنة الأضلاع. تحوى سائلا عكر البياض.. وأيقنا على الفور أنها مياه عين حلوان المعدنية الرابعة..التي اكتشفت قريبا عام 2077.. ودارت الزجاجة المثلجة من يد ليد علينا.. ليرشف كل منا جرعة في صحة العزيز علوي النطروني وحظه الهانىء..وقد أخذ هذا يلوح لنا من بعيد...
حتى سمعنا رنين جرس غليظ متواصل يعلن تمام الرابعة عشرة.. لحظتها اقترب الطبيبان من علوي.. كلماه.. خلعا عنه ملابسه الخارجية وأبقيا فقط الرداء الجلدي الذي يضغط على عنقه وإلى فخذيه.. أغرقه الطبيبان بعدئذ برذاذ مزرق.. بينما برز عدد آخر من الرجال بالأردية الواقية نفسها .. وبرزت كذلك العربة الكهربائية وعليها تابوت معدني...
وقام الرجال برفع جسد علوي الفارع وأسكنوه تابوته وقد حمل عين الرقم: 3184444 ف.. وبعناية ورفق أحكموا إغلاق غطاء التابوت.. وضغطوا الأزرار.. فأزت الأجهزة.. ليتحول علوي نصر الدين النطروني في طياته إلى قالب من الصقيع لن يفك أسرة إلا بعد ألف عام...
أي في عام 3365 ميلادية...
بعد نحو ثماني عشرة دقيقة تالية. والبيضة الطائرة تحتوينا ثانية في عمق جسمها الانسيابي.آخذة طريق العودة إلى مدينة المليون ناطحة سحاب بمديرية وادي النطرون. ملت على الطبيب رفيع القامة وقد جاءت جلسته إلى جواري.. وسألته بعصبية...
- وبعد سنوات الأسر الإرادي هذه؟؟
قطب جبينه: لا شك مزيدا من الاستمتاع بالحياة الممتدة وأيضا مزيدا من اللجوء لأسر الجمد.. مرات ومرات ومرات.. لقد انفتحت الآفاق وامتدت المعطيات ربما إلى ما لا نهاية... عضضت شفتي لسفلى: وبعد مليون عام؟
- ماذا تقصد!
ملت عليه وتمتمت: بعد أن يتمادى العمر أو الزمن بالكائن البشري.. بعد أن يتوقف جسده عن مزيد من الاستجابة.. فيهرم.. ولا تعود إمكانات الهرب في أجهزة التبريد تفيده.. تنجده.. عندئذ فما الحل؟ خفض الطبيب عينيه بالرقائق المكبرة الملصقة على حدقتيهما..وتشاغل بمداعبة سلسلة في يده...
- إذا كان الهدف الرئيسي للتبريد في الماضي هو مجرد الحفاظ على الأجساد من التلف.. وفي الحاضر هو دوام الشباب والحيوية.. فإن رغبة الإنسان في إطالة عمره أو في التعلق بالحياة لن تتوقف.. تريد إجابة لما بعد استنفاد إمكانات التبريد.. حسن... ولو أننا لم نصل إلى نهاية الطريق..فإني أعلن أن لأفكار تزداد تألقا..وتفجرا..بل هناك اتجاهات مجنونة لإيجاد استعدادات بديلة لإطالة الحياة أو مقاومة الموت..مثل الأجهزة الإلكترونية التي تزرع داخل الجسم لتعوض نواحي العجز والقصور فيه...
صرخت في وحشية: مازلت أصر على سؤالي.. ما العاقبة في النهاية. في آخر المطاف.. بعد أقصى مرات التبريد وغير التبريد.. بعد كل شيء؟؟؟
حملق في وجهي ببلاهة.. وراح يحرك وجهه يمنة ويسارا زائغ النظرات...
أخيرا نطق في بساطة ووضوح طفولي...
- الختام هو الختام..لا خلاف عليه.. في تقديري أنه ما يجب أن تنهى به حياة كل كائن حي.. ورغما عن انطلاقات العقل البشري مهما نما ذكاؤه...
- ولو بعد مليون........
قاطعني صاغرا : ولو بعد مليار عام.. صدقني.. فالإنسان لا يمل مغالطة نفسه تحت مسميات علمية لا حصر لها ولعبات تقنية هي هباء بر نظام الكون وجبروته...
وعادت البيضة تختفي من جديد في طيات السحابة البرتقالية.. بينما تمطر صناعيا على أرض جدباء أسفلها..
نهاد شريف
مجلة العربي نوفمبر 1992