فى أول نوفمبر من عام 1929، صدر العدد الأول من مجلة (المجلة الجديدة)، كان «نجيب محفوظ» فى السابعة عشرة من عمره، اشترى نسخة من المجلة وقرأها من غلافها لغلافها، أعجبته المجلة، وافتتن بكتابات «طه حسين» و «أحمد الصاوى محمد» و «سلامة موسي» و «أحمد زكى أبو شادي»، ولكى يضمن قراءتها مطلع كل شهر، قرر أن يشترك
كان اشتراك «نجيب محفوظ» هو أول اشتراك يصل المجلة، لذا فبعد أيام قليلة تلقى رسالة من صاحب المجلة ومحررها «سلامة موسي» يقول له فيها: (إننى أعتبرك من أصدقاء المجلة).
«نجيب محفوظ» كان فيه بعض الطموح، ولم يرضه أن يكون من أصدقاء المجلة فقط، كان يريد أن يكون واحدا من الذين يكتبون فيها، مثله مثل «طه حسين»، وبالرغم من أنه كان وقتها فى السابعة عشرة من عمره، ومازال طالبا فى المرحلة الثانوية، فإنه بدأ يرسل إلى المجلة مقالاته فى العلوم الاجتماعية وقصصه القصيرة، «سلامة موسي» عندما تسلم هذه المقالات وتلك القصص، وقرأها، تيقن من أن كاتبها كبير السن، فهذه النظرة العميقة للأمور الفلسفية التى تبدو واضحة للعيان، وتلك الحصيلة اللغوية التى تخطف الألباب فى قصصه، كل ذلك وغيره، لا يتأتى إلا لأصحاب التجارب الكبيرة فى الكتابة، لذا بمجرد أن تسلم المقالات والقصص، قرر نشرها تباعا.
«نجيب محفوظ» لما رأى اسمه يجاور أسماء الكتاب الكبار، تيقن من طريقه، وعرف خطاه، وقرر أن خطاه لا بد أن تبتدئ من مكتب مجلة (المجلة الجديدة)، فقرر زيارة صاحب المجلة ومحررها الذى لم يكن يخطر بباله قط أن كاتب المقالات والقصص طالب ثانوى نحيل، ولما جلس إليه، وناقشه، عرف أنه أمام موهبة من نوع فريد، فتبناه، وحدد له موعدا أسبوعيا يتقابلان فيه فى المجلة.
فى إحدى هذه الجلسات، أسر له «نجيب محفوظ» بأنه يحلم بكتابة رواية. اندهش «سلامة موسي» من هذه الفكرة الجريئة، وقال له بحسم: لا.
سأله «نجيب محفوظ»: ولم؟.
بهدوء شديد، وبحزم كبير أجابه: الكاتب الروائى فى مجتمعاتنا، لا بد أن يكون أزهريا.
وقام من على مكتبه، وجلس فى مواجهة «نجيب محفوظ»، وشرح له وجهة نظره فى توضيح تام:
الرواية لابد أن يكون للمرأة فيها مكان كبير، ودور أساسي، فهى الناسج الحقيقى للحدث الدرامي، وهى المحرك الأبرز للأحداث التى تجذب القارئ، وتجعله مشدودا إلى خاتمة الحدوتة، وسواء أكانت الرواية عاطفية أو اجتماعية أو حتى سياسية، لابد أن تحتل المرأة فيها المكان الأبرز، ولا بد أن تطل على القارئ إطلالاتها الأخاذة، أما فى مجتمعنا العربي، فالمرأة مهمشة تماما، ولا دور لها، وليس أمام الكتاب إلا أن يقلدوا الروايات الأوروبية، أما الروائى الأزهري، فلن يكون متأثرا بالثقافة الأوروبية، وبالتالي، فيمكنه أن ينقل لنا الفكرة العربية الخالصة للمرأة، كما هى فى الواقع، لا كما يتخيلها الكتاب المطلعون على الثقافات الأخري. لكن «نجيب محفوظ» لم يقتنع.
بعد فترة، عرض عليه أول رواية يكتبها. كانت فى أربع كراسات، الكراستان الأوليان كل منهما تضم ثلاثة فصول، بينما الكراستان الأخريان تضمان سبعة فصول، وبعد أن قرأها «سلامة موسي»، ردها لصاحبها ردا طيبا، وهو يقول له: الرواية فيها جهد حسن، وفيها أسلوب طيب، لكنها لا تصلح للنشر.
أخذها «نجيب محفوظ»، وقام بتمزيقها.
بعد عامين كاملين، كتب «نجيب محفوظ» رواية ثانية، كانت فى سبع كراسات، كل كراسة فيها فصلان، والرواية كانت تتحدث عن رجل مهتم بلعبة كرة القدم، وحياته كلها محصورة فى الملاعب، حتى أنه أهمل أمر أسرته، وانغمس تماما فى الملاعب، إلى أن أفاق على كارثة من نوع درامى مؤثر.
الحقيقة أن «نجيب محفوظ» فى ذلك الوقت كان لاعب كرة قدم حريفا جدا فى العباسية كلها، حتى أن أصحابه كانوا ينتظرون أن ينضم لفريق المختلط أو السكة أو الجزيرة، وهو لأنه كان صديقا للاعب «عبد الكريم صقر»، فقد كان يفضل النادى الأهلي، وقد استوحى أحداث روايته تلك من شخصيات حقيقية كان يلعب معها فى فريق العباسية، وكتب على غلاف الكراسة الأولى بخط كوفى منمق:اللاعب العاشق رواية مصرية تأليف: «نجيب محفوظ».
«سلامة موسى» تفرغ بالفعل لقراءة الرواية، ولاحظ أن ثمة موهبة حقيقية تكمن بين السطور، لكنها بحاجة للصقل، وقرر أن يكون حازما معه، لذلك، ما إن جلس إليه «نجيب محفوظ»، مشوقا لأن يعرف رأى أستاذه، حتى ابتدره «سلامة موسي» متسائلا:
لماذا تتسرع هكذا فى وصف الأحداث؟.
قبل أن يرد التلميذ النجيب، واصل المعلم كلامه بهدوء:
اسمع يا بني، لا شك أنك موهوب، ولا شك أن أحداث هذه الرواية أكثر نضجا من سابقتها، لكنها هى أيضا لا تصلح للنشر.
حملها «نجيب محفوظ»، ولما قابله بائع بطاطا، أعطاها له فى سبع كراريسها ليبيع فيها للطلاب والعشاق والجائعين الفقراء.
بعد سنتين أخريين، جلس «نجيب محفوظ» أمام أستاذه، وقدم له رواية ثالثة، كانت هذه المرة فى ثلاثة كشاكيل، فى كل كشكول أربعة فصول، ودون أن يتكلم، تركها له ومضي. كانت الرواية تتحدث عن الحياة فى ريف مصر، وتصف علاقات الرجل الريفى بالزروع والحيوانات والمسجد، وتصف بعض علاقات الفلاحين ببعض النسوة قليلات الأدب، وتتكلم عن فضيلة العمل والصحيان مبكرا للذهاب إلى الحقل، وفيها وصف دقيق للبيوت المتلاصقة، والأسقف البوص، كانت الرواية تحمل اسم «حياة بسيطة».
بعد مرور شهر كامل، ذهب التلميذ ليستطلع رأى الأستاذ، كان الأستاذ واضحا جدا فى كلامه، وحادا بعض الشيء، إذ بمجرد أن جلس بجواره، حتى نظر له وبادره بسؤال: قل لى يا «نجيب»، هل أنت ذهبت إلى الريف من قبل؟.
بصدق رد عليه «نجيب محفوظ»:لا.
سلم له كشاكيله الثلاثة، وأكمل كلامه: سأنصحك نصيحة عليك أن تعمل بها طيلة حياتك، إن كنت راغبا فى التفرد، لا تكتب عن شيء لا تعرفه. «نجيب محفوظ» وصل إلى بيته فى حالة متناهية من الإحباط.
أنتم لا تعرفون ما يتمتع به «نجيب محفوظ» من قوة وصلابة وإصرار، نزل إلى المكتبة، واشترى أوراقا من النوع المفرود المسطر، كان قد كبر، وأصبح فى السادسة والعشرين من عمره، وكان فكره قد نضج، وقراءاته قد اتسعت، وكان قد وقع فى غرام مصر القديمة.
ما إن انتصف عام 1938، حتى حمل «نجيب محفوظ» مخطوطة روايته الجديدة، ووضعها دون أى كلام على المنضدة أمام «سلامة موسى».
أمسك «سلامة موسى» بالأوراق، وقرأ على جلدة الغلاف الأول: أبناء خوفو رواية تاريخية تأليف: «نجيب محفوظ».
كان من المفترض أن يذهب إليه «نجيب محفوظ» بعد ثلاثة أسابيع، أو بعد شهر على الأكثر، لكنه كان خائفا من ردة فعل الأستاذ، فقد جربه مرة ومرة ومرة، وكلما نوى أن يتوجه إليه، تخونه خطواته، فيعود أدراجه من حيث أتي، حتى أتاه خطاب مسوجر من «سلامة موسى»، يهنئه على روايته البديعة، ويزف له خبر نيته نشرها.
لم يذهب إليه «نجيب محفوظ» ماشيا، بل طائرا كالطائر، ونظر إلى عينيْ أستاذه، فرآه مبتسما وفرحانا، وهو يقول له:الآن أنت بدأت طريقك، روايتك مكتملة البناء، ثرية الأحداث، واستدرك قائلا: اسم الرواية فقط، فى حاجة إلى تغيير، ففيه تقريرية ومباشرة.
«نجيب محفوظ» كان مستعدا فورا بالعنوان البديل، فقال له: ما رأيك فى (حكمة فرعون)؟.
وقف الأستاذ، وهو يقول: لا.
ودار حول المكتب دورة كاملة، وقال: سيكون اسمها (عبث الأقدار).
وصدرت الرواية بالفعل كان غلافها أحمر، وكان اسم المؤلف واضحا وضوحا لا تخطئه العين، وأرسلها الأستاذ إلى المشتركين، وأعطى بقية النسخ لـ «نجيب محفوظ».
حملها فى عربة حنطور، كانت خمسمائة نسخة، ولم يكن يدرى ماذا يفعل بها، سارت به العربة فى شوارع كثيرة، حتى أن العربجى الذى يضرب الحصان بكرباجه قال له أكثر من مرة: لقد مررنا من هذا الشارع من قبل.
فى أحد هذه الشوارع المحيطة بميدان لاظوغلى، قرأ «نجيب محفوظ» يافطة مكتوب عليها (مكتبة الوفد الأدبية، لصاحبها (حنفى العريان»)، فأوقف العربجي، وهبط من العربة ليتفاهم مع «حنفى العريان» هذا على أن يبيع له الخمسمائة نسخة، وكان الاتفاق ينص على أن سعر النسخة الواحدة خمسة قروش، أربعة منها لصاحب المكتبة، وقرش واحد للمؤلف، ورضى «نجيب محفوظ» بهذا الاتفاق. فى هذه الأثناء ميّل عليه أحد أصدقائه، وأخبره أن السيد «حنفى العريان» يبيع رواية (عبث الأقدار) بعشرين قرشا.
«نجيب محفوظ» من النوع الذى لا يحب أن يترك حقه، فاتجه من فوره إلى مكتبة الوفد الأدبية، ووجد جميع نسخ روايته قد نفدت، وطالب المعلم «حنفي» بحقه، وبعد مماطلة، وحلفان بالطلاق، كرمش الرجل فى يد «نجيب محفوظ» خمسة جنيهات.
بعد حصوله على جائزة نوبل، مر «نجيب محفوظ» على كبرى قصرر النيل، وتذكر الجنيهات الخمسة، وتذكر (عبث الأقدار)، تلك الرواية التى كان عليه أن يتدرب على ثلاث روايات قبل أن يكتبها.
كان اشتراك «نجيب محفوظ» هو أول اشتراك يصل المجلة، لذا فبعد أيام قليلة تلقى رسالة من صاحب المجلة ومحررها «سلامة موسي» يقول له فيها: (إننى أعتبرك من أصدقاء المجلة).
«نجيب محفوظ» كان فيه بعض الطموح، ولم يرضه أن يكون من أصدقاء المجلة فقط، كان يريد أن يكون واحدا من الذين يكتبون فيها، مثله مثل «طه حسين»، وبالرغم من أنه كان وقتها فى السابعة عشرة من عمره، ومازال طالبا فى المرحلة الثانوية، فإنه بدأ يرسل إلى المجلة مقالاته فى العلوم الاجتماعية وقصصه القصيرة، «سلامة موسي» عندما تسلم هذه المقالات وتلك القصص، وقرأها، تيقن من أن كاتبها كبير السن، فهذه النظرة العميقة للأمور الفلسفية التى تبدو واضحة للعيان، وتلك الحصيلة اللغوية التى تخطف الألباب فى قصصه، كل ذلك وغيره، لا يتأتى إلا لأصحاب التجارب الكبيرة فى الكتابة، لذا بمجرد أن تسلم المقالات والقصص، قرر نشرها تباعا.
«نجيب محفوظ» لما رأى اسمه يجاور أسماء الكتاب الكبار، تيقن من طريقه، وعرف خطاه، وقرر أن خطاه لا بد أن تبتدئ من مكتب مجلة (المجلة الجديدة)، فقرر زيارة صاحب المجلة ومحررها الذى لم يكن يخطر بباله قط أن كاتب المقالات والقصص طالب ثانوى نحيل، ولما جلس إليه، وناقشه، عرف أنه أمام موهبة من نوع فريد، فتبناه، وحدد له موعدا أسبوعيا يتقابلان فيه فى المجلة.
فى إحدى هذه الجلسات، أسر له «نجيب محفوظ» بأنه يحلم بكتابة رواية. اندهش «سلامة موسي» من هذه الفكرة الجريئة، وقال له بحسم: لا.
سأله «نجيب محفوظ»: ولم؟.
بهدوء شديد، وبحزم كبير أجابه: الكاتب الروائى فى مجتمعاتنا، لا بد أن يكون أزهريا.
وقام من على مكتبه، وجلس فى مواجهة «نجيب محفوظ»، وشرح له وجهة نظره فى توضيح تام:
الرواية لابد أن يكون للمرأة فيها مكان كبير، ودور أساسي، فهى الناسج الحقيقى للحدث الدرامي، وهى المحرك الأبرز للأحداث التى تجذب القارئ، وتجعله مشدودا إلى خاتمة الحدوتة، وسواء أكانت الرواية عاطفية أو اجتماعية أو حتى سياسية، لابد أن تحتل المرأة فيها المكان الأبرز، ولا بد أن تطل على القارئ إطلالاتها الأخاذة، أما فى مجتمعنا العربي، فالمرأة مهمشة تماما، ولا دور لها، وليس أمام الكتاب إلا أن يقلدوا الروايات الأوروبية، أما الروائى الأزهري، فلن يكون متأثرا بالثقافة الأوروبية، وبالتالي، فيمكنه أن ينقل لنا الفكرة العربية الخالصة للمرأة، كما هى فى الواقع، لا كما يتخيلها الكتاب المطلعون على الثقافات الأخري. لكن «نجيب محفوظ» لم يقتنع.
بعد فترة، عرض عليه أول رواية يكتبها. كانت فى أربع كراسات، الكراستان الأوليان كل منهما تضم ثلاثة فصول، بينما الكراستان الأخريان تضمان سبعة فصول، وبعد أن قرأها «سلامة موسي»، ردها لصاحبها ردا طيبا، وهو يقول له: الرواية فيها جهد حسن، وفيها أسلوب طيب، لكنها لا تصلح للنشر.
أخذها «نجيب محفوظ»، وقام بتمزيقها.
بعد عامين كاملين، كتب «نجيب محفوظ» رواية ثانية، كانت فى سبع كراسات، كل كراسة فيها فصلان، والرواية كانت تتحدث عن رجل مهتم بلعبة كرة القدم، وحياته كلها محصورة فى الملاعب، حتى أنه أهمل أمر أسرته، وانغمس تماما فى الملاعب، إلى أن أفاق على كارثة من نوع درامى مؤثر.
الحقيقة أن «نجيب محفوظ» فى ذلك الوقت كان لاعب كرة قدم حريفا جدا فى العباسية كلها، حتى أن أصحابه كانوا ينتظرون أن ينضم لفريق المختلط أو السكة أو الجزيرة، وهو لأنه كان صديقا للاعب «عبد الكريم صقر»، فقد كان يفضل النادى الأهلي، وقد استوحى أحداث روايته تلك من شخصيات حقيقية كان يلعب معها فى فريق العباسية، وكتب على غلاف الكراسة الأولى بخط كوفى منمق:اللاعب العاشق رواية مصرية تأليف: «نجيب محفوظ».
«سلامة موسى» تفرغ بالفعل لقراءة الرواية، ولاحظ أن ثمة موهبة حقيقية تكمن بين السطور، لكنها بحاجة للصقل، وقرر أن يكون حازما معه، لذلك، ما إن جلس إليه «نجيب محفوظ»، مشوقا لأن يعرف رأى أستاذه، حتى ابتدره «سلامة موسي» متسائلا:
لماذا تتسرع هكذا فى وصف الأحداث؟.
قبل أن يرد التلميذ النجيب، واصل المعلم كلامه بهدوء:
اسمع يا بني، لا شك أنك موهوب، ولا شك أن أحداث هذه الرواية أكثر نضجا من سابقتها، لكنها هى أيضا لا تصلح للنشر.
حملها «نجيب محفوظ»، ولما قابله بائع بطاطا، أعطاها له فى سبع كراريسها ليبيع فيها للطلاب والعشاق والجائعين الفقراء.
بعد سنتين أخريين، جلس «نجيب محفوظ» أمام أستاذه، وقدم له رواية ثالثة، كانت هذه المرة فى ثلاثة كشاكيل، فى كل كشكول أربعة فصول، ودون أن يتكلم، تركها له ومضي. كانت الرواية تتحدث عن الحياة فى ريف مصر، وتصف علاقات الرجل الريفى بالزروع والحيوانات والمسجد، وتصف بعض علاقات الفلاحين ببعض النسوة قليلات الأدب، وتتكلم عن فضيلة العمل والصحيان مبكرا للذهاب إلى الحقل، وفيها وصف دقيق للبيوت المتلاصقة، والأسقف البوص، كانت الرواية تحمل اسم «حياة بسيطة».
بعد مرور شهر كامل، ذهب التلميذ ليستطلع رأى الأستاذ، كان الأستاذ واضحا جدا فى كلامه، وحادا بعض الشيء، إذ بمجرد أن جلس بجواره، حتى نظر له وبادره بسؤال: قل لى يا «نجيب»، هل أنت ذهبت إلى الريف من قبل؟.
بصدق رد عليه «نجيب محفوظ»:لا.
سلم له كشاكيله الثلاثة، وأكمل كلامه: سأنصحك نصيحة عليك أن تعمل بها طيلة حياتك، إن كنت راغبا فى التفرد، لا تكتب عن شيء لا تعرفه. «نجيب محفوظ» وصل إلى بيته فى حالة متناهية من الإحباط.
أنتم لا تعرفون ما يتمتع به «نجيب محفوظ» من قوة وصلابة وإصرار، نزل إلى المكتبة، واشترى أوراقا من النوع المفرود المسطر، كان قد كبر، وأصبح فى السادسة والعشرين من عمره، وكان فكره قد نضج، وقراءاته قد اتسعت، وكان قد وقع فى غرام مصر القديمة.
ما إن انتصف عام 1938، حتى حمل «نجيب محفوظ» مخطوطة روايته الجديدة، ووضعها دون أى كلام على المنضدة أمام «سلامة موسى».
أمسك «سلامة موسى» بالأوراق، وقرأ على جلدة الغلاف الأول: أبناء خوفو رواية تاريخية تأليف: «نجيب محفوظ».
كان من المفترض أن يذهب إليه «نجيب محفوظ» بعد ثلاثة أسابيع، أو بعد شهر على الأكثر، لكنه كان خائفا من ردة فعل الأستاذ، فقد جربه مرة ومرة ومرة، وكلما نوى أن يتوجه إليه، تخونه خطواته، فيعود أدراجه من حيث أتي، حتى أتاه خطاب مسوجر من «سلامة موسى»، يهنئه على روايته البديعة، ويزف له خبر نيته نشرها.
لم يذهب إليه «نجيب محفوظ» ماشيا، بل طائرا كالطائر، ونظر إلى عينيْ أستاذه، فرآه مبتسما وفرحانا، وهو يقول له:الآن أنت بدأت طريقك، روايتك مكتملة البناء، ثرية الأحداث، واستدرك قائلا: اسم الرواية فقط، فى حاجة إلى تغيير، ففيه تقريرية ومباشرة.
«نجيب محفوظ» كان مستعدا فورا بالعنوان البديل، فقال له: ما رأيك فى (حكمة فرعون)؟.
وقف الأستاذ، وهو يقول: لا.
ودار حول المكتب دورة كاملة، وقال: سيكون اسمها (عبث الأقدار).
وصدرت الرواية بالفعل كان غلافها أحمر، وكان اسم المؤلف واضحا وضوحا لا تخطئه العين، وأرسلها الأستاذ إلى المشتركين، وأعطى بقية النسخ لـ «نجيب محفوظ».
حملها فى عربة حنطور، كانت خمسمائة نسخة، ولم يكن يدرى ماذا يفعل بها، سارت به العربة فى شوارع كثيرة، حتى أن العربجى الذى يضرب الحصان بكرباجه قال له أكثر من مرة: لقد مررنا من هذا الشارع من قبل.
فى أحد هذه الشوارع المحيطة بميدان لاظوغلى، قرأ «نجيب محفوظ» يافطة مكتوب عليها (مكتبة الوفد الأدبية، لصاحبها (حنفى العريان»)، فأوقف العربجي، وهبط من العربة ليتفاهم مع «حنفى العريان» هذا على أن يبيع له الخمسمائة نسخة، وكان الاتفاق ينص على أن سعر النسخة الواحدة خمسة قروش، أربعة منها لصاحب المكتبة، وقرش واحد للمؤلف، ورضى «نجيب محفوظ» بهذا الاتفاق. فى هذه الأثناء ميّل عليه أحد أصدقائه، وأخبره أن السيد «حنفى العريان» يبيع رواية (عبث الأقدار) بعشرين قرشا.
«نجيب محفوظ» من النوع الذى لا يحب أن يترك حقه، فاتجه من فوره إلى مكتبة الوفد الأدبية، ووجد جميع نسخ روايته قد نفدت، وطالب المعلم «حنفي» بحقه، وبعد مماطلة، وحلفان بالطلاق، كرمش الرجل فى يد «نجيب محفوظ» خمسة جنيهات.
بعد حصوله على جائزة نوبل، مر «نجيب محفوظ» على كبرى قصرر النيل، وتذكر الجنيهات الخمسة، وتذكر (عبث الأقدار)، تلك الرواية التى كان عليه أن يتدرب على ثلاث روايات قبل أن يكتبها.