أولاً ـ يمكن القول بصفة عامة إن الفكر العربي الحديث ظل لأجيال تحت تأثير الفلسفة المثالية الأوروبية بمختلف اتجاهاتها، وأن تأثره بالتيار الآخر، المادي الوضعي، والمادي الجدلي على الأخص، جاء محدوداً وعلى نطاق فردي، أو جماعي صغير، حتى وقت متأخر زمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
ويعود ذلك إلى سببين: أولهما سيطرة فكر الدولتين المحتلتين، فرنسا وبريطانيا، بنزعاته المثالية وعدائه للمادية الجدلية (الماركسية)، على الثقافة المحلية الجديدة في الشرق العربي، وثانيهما النفور الكامن في الثقافة الإسلامية التقليدية من الإتجاه المادي ونتائجه اللادينية أو الإلحادية.
(ثم إن التطور الطبيعي بحد ذاته كان يقتضي انفتاح الفكر العربي على أوليات الثقافة الأوروبية واتجاهاتها الأقدم والأكثر رسوخاً وتأثيراً، وأن يستوعبها كي يصبح قادراً فيما بعد، على تقبل اتجاهاتها الأكثر جدة وتطرفاً وبعداً عن خلفيته الإيمانية. وهو تقبل يعتمد حصوله أيضاً على درجة من التطور الاجتماعي وظهور طبقات وفئات مهيأة لاستيعابه وتبنيه).
فطه حسين على سبيل المثال بدأ بمنهج الشك الديكارتي في بحث ((في الشعر الجاهلي)). والشك الديكارتي في حقيقته وتحليله النهائي شك منهجي وليس شكاً اعتقادياً فلسفياً، لأن ديكارت ذاته تجاوزه بعد تطبيقه منهجياً وعاد إلى ثنائية الروح والجسد، وأكد أولوية الإيمان منضوياً بذلك تحت الإتجاه المثالي الأوروبي الجديد الذي غداً عَلَماً من أعلامه.
وأقصى ما وصلت إليه مادية طه حسين تأثره بالفكر الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي دركهايم (1858 ـ 1917) الذي درس على يديه. ودركهايم ليس مادياً بالمفهوم الجدلي أو الوضعي الخالص، ولكه أخضع قيم الدين والأخلاق في دراسته للمجتمع للتطور التاريخي الواقعي ورد مصدر تلك القيم إلى الوجدان الاجتماعي وذهب إلى أن الجماعة تكون معتقداتها.
ومحمد حسين هيكل تأرجح بين المادية الوضعية العقلانية لأوغست كونت (1798 ـ 1857) الذياهتم لفترة من الوقت بنقل أفكاره إلى العربية، وبين إيمانية جان جاك روسو (1712 ـ 1778) وبحثه عن الديانة الطبيعية الإنسانية المؤمنة والقائمة على شعور القلب ويقينه العفوي، وقام بتأليف كتاب عنه.
وفي النهاية اندمج الاتجاهان لديه في توفيقية العقل والإيمان حيث وازن بين المادية والمثالية، مع تغليب ضمني للثانية في إطار الإيمان الإسلامي الذي تحول إليه.
أما العقاد فقد وقف موقفاً عدائياً تجاه المادية، وخاصة فرعها الديالكتيكي الماركسي، ونقدها نقداً لاذعاً وعنيفاً. أما تأثره بالفلاسفة المثاليين فاكن جلياً وعميقاً ومتعدد الأوجه. ولأن العقاد أغزر المفكرين التوفيقيين المحدثين إنتاجاً، وأكثرهم تعرضاً لمناحي التوفيق المستجد في مختلف جوانبه ومشكلاته (بغض النظر عن مدى أصالة توفيقه ووجاهة حججه واتساقها) ـ فإن فكره يصلح نموذجاً لدراسة كيفية اللقاء والتأثر والتفاعل بين التوفيقية العربية والمثالية الأوروبية.
ويرى شوقي ضيف أن من جملة أسباب غموض العقاد في أسلوبه قراءاته للفلاسفة الالمان من أمثال شوبنهور ونيتشه وكانت. ويحاول عثمان أمين من جهة أخرى أن يثبت بأن العقاد تابع كانط في فلسفته في التفريق بين عالم الظاهرات وعالم الأشياء في ذاتها.
ويرى آخرون أن موقف العقاد من المرأة لا يختلف بقليل أو كثير عن موقف شوبنهور منها.
وفي البحث الذي أفرده الدكتور محمد البهي ـ وهو مفكر توفيقي متخصص ـ لدراسة الفكر الإسلامي الحديث نجد أنه يقسم نطاق المعرفة والفكر إلى قسمين متصارعين متواجهين: جانب الفلسفات المادية الوضعية من جهة، وجانب الدين والفلسفة المثالية من ناحية أخرى، ويرى أن بين الدين والفلسفة المثالية ما يشبه المطابقة في القضايا الأساسية، وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها إبراهيم اللبان في كتابه الفلسفة والمجتمع الإسلامي، كما تقدم.
وبذلك يمكن القول إن عنصر الفلسفة المثالية يمثل همزة الوصل على النطاق الفكري بين المعتقد الإسلامي والعقل الأوروبي الحديث، وإن التوفيقية هي المجال الأبرز للقاء بين الجانبين.
ثانياً ـ هذه الأفكار المثالية الإيمانية الوافدة، هل لها ((مدخل شرعي)) لكي تنفذ إلى داخل نطاق الإسلام، وتلتحم به، وتصبح جزءاً منه؟ وهل لما يدعو إليه إبراهيم اللبان من ((تجديد ديني عام)) و ((ثورة فكرية)) و ((حركة عقلية))، مبررات إسلامية ذاتية؟ هذه الأسئلة تطرح قضية ((الإصلاح الديني)) في الإسلام، ومدى فهم التوفيقية الجديدة لهذه الضرورة، ونوع موقفها منها.
تتردد في التراث الإسلامي، الديني ـ السياسي، فكرة انتظار المهدي ـ ونشير إليها بالمعنى الإسلامي العام المتداول لدى مختلف الفرق الذي سيظهر يوماً ما ليملأها عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، وليزيل التحريف الذي أصاب الدين.
وهو قد يجمع بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، نظراً لالتحام الجانبين في الإسلام، كما تجسد ذلك مثلاً في حياة محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، السنية المالكية.
غير أن ظاهرة المهدي وإن ارتبطت بفكرة الإصلاح والثورة فهي بعيدة عن مفهوم التجديد العقلي والثورة الفكرية، لأنها بطبيعتها فكرة إيمانية إلهامية يعتمد ظهورها، حسب المعتقد، على اإرادة الإلهية ويعتمد محتواها ومضمونها على بصيرة المهدي وكراماته الغيبية.
لذا فقد انتشرت هذه الظاهرة في الأطراف الإسلامية البعيدة عن فعل المؤثرات العقلية. إنها تعبر عن تجديد الإيمان لذاته بذاته، أي بفعل إيماني خارق لا بنظر عقلي أو اجتهادي إرادي بشري.
ومن الغريب أننا لا نجد في التاريخ الإسلامي قيام مصلح دنيوي يرجع إلى العقل ليطالب بإصلاح الفاسد والعدالة في توزيع الثروة، وذلك لأن الرأي العام في تلك العصور كان متأثراً بالدين تأثراً كبيراً، فهو لا يخضع لدولة إلا إذا مزجت بالدين، وهذا ما لاحظه ابن خلدون في العرب، إذ قال: (إنهم لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها)، وكان كالعرب الأمم الأخرى التي خضعت لحكمهم وآمنت بتقاليدهم ... )).
وهذه الملاحظة يؤكدها المؤرخ برنارد لويس بالقول إن جميع الثورات في تاريخ الإسلام اصطبغت بالصيغة الدينية، وكانت ثورات باسم الإسلام، وضمن نطاقه، لا ضده، ولا بقصد الخروج عنه وحتى الخوارج عندما كفروا الجماعة كفروها باسم الإسلام لا بغيره.
هذا يعني أن التجديد لابد أن يكون دينياً وضمن الإطار العام الشرعي للمعتقد الإسلامي، إذا كان المقصود إصلاح الإسلام لا نقضه أو رفضه، وحتى إذا أريد الفصل بين الجانبين الزمني والروحي في الإسلام، فلا بد من استخراج مبررات وأدلة من صميم المبادئ الإسلامية ذاتها لتحقيق ذلك، كما حاول أن يفعل، على نحو مصغر ومحدود، علي عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم لإثبات ما ذهب إليه من عدم وجود مستند عقيدي وشرعي لفكرة الخلافة.
وقد خلقت الرغبة في التجديد أو الإحياء أو الإصلاح في التراث الإسلامي فكرة أخرى، غير المهدوية، وهي الفكرة القائلة إن إماماً مجدداً يخرج في مطلع كل قرن لإحياء الدين استناداً إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها). والفكرة في ذاتها وجيهة لأن التشريع دائماً يتغير بتغير الزمان والمكان، وفي الفقه أمثلة كثيرة من هذا القبيل)).
وهذه الفكرة أقرب إلى مفهوم التجديد الديني بمعناه الإصلاحي العقلي ودافعه الإرادي الإنساني، أو كما يقول أحمد أمين: والفرق بين الدعوة إلى التجديد والدعوة إلى المهدية أن الأولى ترتكز على العقل وعلى تجارب الحياة وعلى الواقع، أما الدعوة الثانية فترتكز على عقيدة دينية فقط بإمام منتظر، وأن السلطة السماوية هي التي تقربه وهي التي تؤيده.
ويبدو أن فكرة التجديد أو الإحياء المئوي فكرة قوية التأثير ومستمرة في التقاليد الفكرية الإسلامية، فقد أخذ الفقهاء والمؤرخون يبحثن في كل مائة سنة عمن يصلح أن يكون مجدداً، قالوا إنه على رأس المائة الأولى كان عمر بن عبدالعزيز، والثانية الشافعي والثالثة ابن سريح أو الأشعري ... الخ.
وقد كان لهذه الفكرة أبلغ الأثر في تحويل الإمام الغزالي ـ في راس المائة الخامسة ـ من حياة العزلة والانقطاع إلى معترك الدعوة والعمل، وإشارته إليها في ((المنقذ من الضلال)) تكشف مدى ترسخها في وعيه الذاتي وكيف تملكه الشعور تحت تأثيرها بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره. وفي العصر الحديث سرت الفكرة القائلة إن محمد عبده قد جدد في رأس المائة الماضية، محييا بذلك تراث التجديد والإصلاح في الإسلام.
غير أنه تجب الإضافة أيضاً بأنه إذا كان الوعي الفكري ـ الديني في الإسلام لم يتنبه لفكرة التقدم الإنساني الحضاري بمضمونها العصري، فليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية قد خلت منها واقعاً وممارسة.
فالتقدم الحضاري الذي أحدثه الإسلام في القرون الأربعة الأولى ـ التي تصادفت مع عصر السيادة العربية ـ ظاهرة ثابتة ومؤكدة.
ومشاركة المسلم في ((عمران)) الأرض التي استخلفه الله عليها تحققت بمقدار، والثورات السياسية التي حفل بها تاريخه ـ وأهمها الثورة العباسية السنية المتحالفة بداية ومنطلقاً مع شيعة آل البيت، والتي أحدثت وقادت أكبر نهضة حضارية في تاريخ الإسلام ـ دليل على رغبة المسلمين في تغيير أوضاعهم وتحسينها بإرادتهم، كما أن ظهور المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة من الدلائل الهامة على إمكانية حدوث تجديد فكري في الإسلام.
أي أن شهادة التاريخ والممارسة الحضارية تثبت وجود دافع ((التقدم)) في الإسلام، وإن لم يظهر ((الوعي)) بهذه الفكرة في صلب الإدراك الديني العام أو لدى المفكرين الإسلاميين القماء من حيث هي فكرة ملموسة واضحة.
وأياً كان الأمر فالوعي بمفهوم التقدم ظاهرة حديثة من معطيات التطور الأوروبي في قرونه الأخيرة، وليس الجائز إقحامها في فكر الأديان إلا من زاوية الإصلاح الديني الحديث ومضامينه وشروطه حيث يتحتم التمييز بين مفهوم للإحياء الديني يعد للنص النقلي ويرفض فكرة التقدم والتطور، وبين مفهوم للتجديد الديني أو للثورة الدينية ـ من داخل الإطار الديني ذاته ـ يستوعب النزعة التطورية ويحاول الجمع بينها وبين الأصول، أي بمعنى آخر، يحاول التوفيق بين ظاهرة التطور وظاهرة الثبات في ديمومة حياة الأمة والحضارة بتركيز محور ثابت يسمح بدوران التغيرات ويتيح تحركها الدينامي، موفر لها القاعدة التي تمدها بالإتساق والإتزان.
وهذا يجعلنا ندقق النظر لنرى كيف يتداخل ويتطابق مفهوم ((التجديد والإصلاح))، ومفهوم ((التوفيق)) في الإسلام، وكيف وقفت حركة الرجعة إلى السلف ـ على اختلاف تياراتها وعصورها ـ ضد منزع التوفيق لأنه يرتبط بالتجديد، كيف كان التوفيقيون في مختلف العصور أنصاراً لمبدأ الاقتباس الحضاري، ورموزاً لفترات التغيير المتضمن إطلاقاً لطاقات العقل.
فطالما أن ظهور تيار عقلي مستقل تماماً عن النظرة الدينية أو مخالف لها أمر غير وارد في المفهوم الإسلامي الشمولي الجامع المانع، فإن الأفكار التجديدية أمامها سبيل واحد للدخول في التقليد الفكري الإسلامي هو سبيل التكيف والتوافق مع أصول الإسلام، بعد إعادة تفسير هذه الأصول، بإحدى الطرق التأويلية والاجتهادية التي يحتملها ذلك التقليد.
ومما يؤكد كون التوفيق سبيل التجديد، إن الأفكار التجديدية تتعرض للمقاومة وترفض عندما يتم طرحها بصورتها الأصلية غير الإسلامية أو المناقضة للإسلام، بينما تحظى أفكار أكثر تجديداً وجرأة منها بالقبول عندما تعاد صياغتها صياغة إسلامية وتوضع في معادلة المركب التوفيقي.
غير أن هذه الإصلاحية التوفيقية ـ بسبب التوتر الخفي الفاعل في باطنها بين عنصريها كما تبين ـ ما أن تشعر بازدياد قوة التيارات العقلية الوافدة وتحس بضغطها الذي يهدد معادلة التوازن ـ اجتماعياً وفكرياً ـ حتى يتحول فيها المؤشر ـ بغريزة الدفاع عن الذات ـ إلى ناحية المحافظة والحذر، الأمر الذي يؤدي إلى تضييق مفهومها للإصلاح والتجديد، كي لا تتسرب إلى مركبها الدقيق نسبة أكبر من عناصر النظر العقلي فتخل به.
((فالكشف عن القيم الذاتية للإسلام هو الأمارة التي اتخذناها طابعاً لما سميناه (الإصلاح الديني). ولا نقصد بهذا الكشف (الدفاع) عن الإسلام لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة الدينية فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام.
((وإنما نبغي فحسب مدلول هذا ((الكشف)) من فصل ما يتصل بالإسلام من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير أو ركود في الفهم. والإصلاح الديني في مجال الإسلام ـ بهذا المعنى ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالمفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا المفكر)).
إن هذا المفهوم ينتقل إلى التركيز على العامل الذاتي في الإسلام ويحصر الإصلاح في عملية الكشف عن قيمه الأصلية، ورد الاعتبار إليها، وتنقيتها، دن مذهبية خاصة، مما يعبر عن شموله الإجماعي، بينما يلتفت المفهوم الآخر، الأكثر مرونة إلى العناصر الحضارية الوافدة ويدعو إلى استيعابها ضمن دائرة الاعتقاد والأخلاق، ويشدد على ضرورة التجديد بما يوحي إن العامل الأصيل ذاته ـ وإن أعيد الكشف عنه ـ لا يفي بكافة الاحتياجات النظرية لمواجهة تحديات العصر.
يذكر عبدالقادر المغربي أحد الإصلاحيين السوريين من الذين رافقوا جمال الدين الأفغاني، إن السيد قال له في إحدى محاوراته الفكرية معه: ((لابد لنا من حركة دينية ... إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدينة، نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده.
وقد مثل الإصلاح البروتستانتي وثورته ضد التقليد والسلطة الدينية مصدر إيحاء للرواد الإصلاحيين المسلمين مطلع النهضة، ورأوا فيه عودة بالمسيحية إلى الصورة الإسلامية للدين بالرجوع إلى الكتاب وتقليص دور ((الواسطة)) الكهنوتية بين العبد وربه.
غير انهم لم يطمحوا ـ مع هذا ـ لتغيير مماثل. وهذه المسألة بحاجة لدراسة متخصصة.
فالإسلام ظاهرة دينية حقيقية، والقرآن حمال وجوه ومعان وعندما يطالب المصلح الإسلامي المعاصر بـ ((الكشف عن القيم الأصيلة في الإسلام، فإنه سيستوحي تلك القيم التي تتلاءم مع عصره وثقافته وظروفه)).
أضف إلى ذلك أن مبدأ ((الإجماع))، إذا تحقق وانعقد، يمكن أن يوفر المستند الشرعي لاستيعاب أنواع من المؤثرات وصهرها في بوتقة المعتقد الإسلامي، اعتماداً على المأثور النبوي (لا تجمع أمتي على خطأ)، دن التقيد بأي تفسير خاص لمفهوم ((الإسلام الأصلي)) عدا ما تحتمه ضوابط التفسير والتأويل والاجتهاد بالرأي، وهي ضوابط تختلف نوعيتها ايضاً مرونة أو تشدداً ـ من مدرسة إلى أخرى.
ولكن هل يعني ذلك أن أي درجة من ((التجديد)) ينعقد عليها ((الإجماع)) ـ يمكن أن تصب جزءاً من السنة في الإسلام؟ وهل يمكن تقبل الرأي القائل: إن قبول التجديد أو رفضه، يتقرر بما يمكن أ نطلق عليه حديثاً ((مناخ الرأي)) في الأوساط (الدينية) المتعلمة والمؤثرة.
أضف إلى ذلك أن عدم وجود أية هيئة تقيس الإجماع الشامل أو تمثله في عموم الإسلام، يؤدي إلى ظهور عدة أشكال من الإجماع متأثرة بتقاليد وظروف مختلفة في أنحاء العالم الإسلامي.
لقد استوعب الإسلام قسطاً كبير من المؤثرات الخارجية التي كانت غريبة عن دين الصحابة أحياناً بالتنازل للأفكار الحديثة، وأحياناً بالتوافق مع ممارسات الشعوب التي شملها، غير أن هذه التجديدات في المبدأ والممارسة ظلت مقيدة ومعدلة دائماً بقرار الإجماع، كما ظلت عرضة، بين وقت وآخر، للتقليص بفعل موجات من المحافظة الدينية، التي كانت في حقيقتها تعبيراً عن تولد إجماع مضاد للإجماع الآخر؟؟
إذا صحّ ذلك، فإن الإجماع طبقاً للظروف والعوامل الفاعلة في تحديده، وسواء كان متحرراً يعتمد التأويل والاجتهاد، أو سلفياً يعتمد الظاهر والنقل، هو الذي يقرر نوعية الإصلاح الديني واتجاهه.
وفي حالة كون الإصلاح تحرري الاتجاه، فإن تجديده يستند إلى مدى ما تمّ استيعابه وقبوله من مؤثرات جديدة في عملية التوفيق، أما إذا كان سلفياً فإن قوة ردته تعتمد على مدى ما يتم رفضه من مؤثرات توفيقية سابقة تمازجت بالأصول الإسلامية، وهل الردة مخففة كردة الأشعري أم متصلبة كردة ابن تيمية.
أي إن الموقف من مبدأ التوفيق ـ قبولاً أو رفضاً ـ هو الذي يكشف عن اتجاه الإصلاح، وما إذا كان تجديدياً أو سلفياً.
بمعنى آخر لابد للمصلح الإسلامي أن يقرر قبل البدء بعملية إصلاحه إن كان سيقبل بمبدأ التوفيق أم سيرفضه، وإلى أي درجة من درجات القبول أو الرفض، وطبقاً لأي ضوابط.
غير انه لابد من التنبه في مسألة الإصلاح الإسلامي، إن لمبادئ الشورى والإجماع والتأويل والاجتهاد والتوفيق حدوداً يلزم أن نقف عندها في خاتمة المطاف.
ففي التحليل النهائي هناك حد قاطع في الإسلام لا يمكن تجاوزه وهو نطاق ما أمر الله وما نهى، ما أحل وما حرم، فالسلطة النهائية ـ في جوهر العقيدة وأسس الشريعة ـ لله لا للأمة، للشرع لا للشعب، وذلك بعد أن تستنفد جميع إمكانات ((الإجتهاد)) الفقهي والفكري واحتمالات ((التأويل)) العقلي. وهذه المسألة لابد من التوقف أمامها في إطار المشروعية والمرجعية الإسلامية، إذ يمكن رفعها في وجه أية محاولة لتجاوز الاجتهاد البشري حدوده ونطاقه. يقرر عبدالقادر عودة، وهو قانوني من مفكري الإخوان (أعدمته الثورة عام 1954):
((لمن الحكم؟ هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا إن الله هو خالق الكون ومالكه، وإنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض وأمرهم أن يتبعوا هداه ... فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وإنه جل شأنه هو الحاكم في هذا الكون .. وإن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به لأنهم .. قد استخلفوا في الأرض استخلافاً مقيداً باتباع هدى الله)).
ثم ينبه إلى محدودية الشورى الإسلامية واقتصارها على ما لم يقطع فيه ـ القرآن والسنة برأي وانحصارها في التطبيق وشؤونه لا في التشريع.
وهذا فارق هام بين الشورى في الإسلام والديمقراطية في الغرب حيث للأمة سلطة التشريع والحكم دون التقيد بأي مفهوم للسلطة الغيبية العليا.
-------------------------------------
* المصدر:الفكر العربي وصراع الاضداد
ويعود ذلك إلى سببين: أولهما سيطرة فكر الدولتين المحتلتين، فرنسا وبريطانيا، بنزعاته المثالية وعدائه للمادية الجدلية (الماركسية)، على الثقافة المحلية الجديدة في الشرق العربي، وثانيهما النفور الكامن في الثقافة الإسلامية التقليدية من الإتجاه المادي ونتائجه اللادينية أو الإلحادية.
(ثم إن التطور الطبيعي بحد ذاته كان يقتضي انفتاح الفكر العربي على أوليات الثقافة الأوروبية واتجاهاتها الأقدم والأكثر رسوخاً وتأثيراً، وأن يستوعبها كي يصبح قادراً فيما بعد، على تقبل اتجاهاتها الأكثر جدة وتطرفاً وبعداً عن خلفيته الإيمانية. وهو تقبل يعتمد حصوله أيضاً على درجة من التطور الاجتماعي وظهور طبقات وفئات مهيأة لاستيعابه وتبنيه).
فطه حسين على سبيل المثال بدأ بمنهج الشك الديكارتي في بحث ((في الشعر الجاهلي)). والشك الديكارتي في حقيقته وتحليله النهائي شك منهجي وليس شكاً اعتقادياً فلسفياً، لأن ديكارت ذاته تجاوزه بعد تطبيقه منهجياً وعاد إلى ثنائية الروح والجسد، وأكد أولوية الإيمان منضوياً بذلك تحت الإتجاه المثالي الأوروبي الجديد الذي غداً عَلَماً من أعلامه.
وأقصى ما وصلت إليه مادية طه حسين تأثره بالفكر الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي دركهايم (1858 ـ 1917) الذي درس على يديه. ودركهايم ليس مادياً بالمفهوم الجدلي أو الوضعي الخالص، ولكه أخضع قيم الدين والأخلاق في دراسته للمجتمع للتطور التاريخي الواقعي ورد مصدر تلك القيم إلى الوجدان الاجتماعي وذهب إلى أن الجماعة تكون معتقداتها.
ومحمد حسين هيكل تأرجح بين المادية الوضعية العقلانية لأوغست كونت (1798 ـ 1857) الذياهتم لفترة من الوقت بنقل أفكاره إلى العربية، وبين إيمانية جان جاك روسو (1712 ـ 1778) وبحثه عن الديانة الطبيعية الإنسانية المؤمنة والقائمة على شعور القلب ويقينه العفوي، وقام بتأليف كتاب عنه.
وفي النهاية اندمج الاتجاهان لديه في توفيقية العقل والإيمان حيث وازن بين المادية والمثالية، مع تغليب ضمني للثانية في إطار الإيمان الإسلامي الذي تحول إليه.
أما العقاد فقد وقف موقفاً عدائياً تجاه المادية، وخاصة فرعها الديالكتيكي الماركسي، ونقدها نقداً لاذعاً وعنيفاً. أما تأثره بالفلاسفة المثاليين فاكن جلياً وعميقاً ومتعدد الأوجه. ولأن العقاد أغزر المفكرين التوفيقيين المحدثين إنتاجاً، وأكثرهم تعرضاً لمناحي التوفيق المستجد في مختلف جوانبه ومشكلاته (بغض النظر عن مدى أصالة توفيقه ووجاهة حججه واتساقها) ـ فإن فكره يصلح نموذجاً لدراسة كيفية اللقاء والتأثر والتفاعل بين التوفيقية العربية والمثالية الأوروبية.
ويرى شوقي ضيف أن من جملة أسباب غموض العقاد في أسلوبه قراءاته للفلاسفة الالمان من أمثال شوبنهور ونيتشه وكانت. ويحاول عثمان أمين من جهة أخرى أن يثبت بأن العقاد تابع كانط في فلسفته في التفريق بين عالم الظاهرات وعالم الأشياء في ذاتها.
ويرى آخرون أن موقف العقاد من المرأة لا يختلف بقليل أو كثير عن موقف شوبنهور منها.
وفي البحث الذي أفرده الدكتور محمد البهي ـ وهو مفكر توفيقي متخصص ـ لدراسة الفكر الإسلامي الحديث نجد أنه يقسم نطاق المعرفة والفكر إلى قسمين متصارعين متواجهين: جانب الفلسفات المادية الوضعية من جهة، وجانب الدين والفلسفة المثالية من ناحية أخرى، ويرى أن بين الدين والفلسفة المثالية ما يشبه المطابقة في القضايا الأساسية، وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها إبراهيم اللبان في كتابه الفلسفة والمجتمع الإسلامي، كما تقدم.
وبذلك يمكن القول إن عنصر الفلسفة المثالية يمثل همزة الوصل على النطاق الفكري بين المعتقد الإسلامي والعقل الأوروبي الحديث، وإن التوفيقية هي المجال الأبرز للقاء بين الجانبين.
ثانياً ـ هذه الأفكار المثالية الإيمانية الوافدة، هل لها ((مدخل شرعي)) لكي تنفذ إلى داخل نطاق الإسلام، وتلتحم به، وتصبح جزءاً منه؟ وهل لما يدعو إليه إبراهيم اللبان من ((تجديد ديني عام)) و ((ثورة فكرية)) و ((حركة عقلية))، مبررات إسلامية ذاتية؟ هذه الأسئلة تطرح قضية ((الإصلاح الديني)) في الإسلام، ومدى فهم التوفيقية الجديدة لهذه الضرورة، ونوع موقفها منها.
تتردد في التراث الإسلامي، الديني ـ السياسي، فكرة انتظار المهدي ـ ونشير إليها بالمعنى الإسلامي العام المتداول لدى مختلف الفرق الذي سيظهر يوماً ما ليملأها عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، وليزيل التحريف الذي أصاب الدين.
وهو قد يجمع بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، نظراً لالتحام الجانبين في الإسلام، كما تجسد ذلك مثلاً في حياة محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، السنية المالكية.
غير أن ظاهرة المهدي وإن ارتبطت بفكرة الإصلاح والثورة فهي بعيدة عن مفهوم التجديد العقلي والثورة الفكرية، لأنها بطبيعتها فكرة إيمانية إلهامية يعتمد ظهورها، حسب المعتقد، على اإرادة الإلهية ويعتمد محتواها ومضمونها على بصيرة المهدي وكراماته الغيبية.
لذا فقد انتشرت هذه الظاهرة في الأطراف الإسلامية البعيدة عن فعل المؤثرات العقلية. إنها تعبر عن تجديد الإيمان لذاته بذاته، أي بفعل إيماني خارق لا بنظر عقلي أو اجتهادي إرادي بشري.
ومن الغريب أننا لا نجد في التاريخ الإسلامي قيام مصلح دنيوي يرجع إلى العقل ليطالب بإصلاح الفاسد والعدالة في توزيع الثروة، وذلك لأن الرأي العام في تلك العصور كان متأثراً بالدين تأثراً كبيراً، فهو لا يخضع لدولة إلا إذا مزجت بالدين، وهذا ما لاحظه ابن خلدون في العرب، إذ قال: (إنهم لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها)، وكان كالعرب الأمم الأخرى التي خضعت لحكمهم وآمنت بتقاليدهم ... )).
وهذه الملاحظة يؤكدها المؤرخ برنارد لويس بالقول إن جميع الثورات في تاريخ الإسلام اصطبغت بالصيغة الدينية، وكانت ثورات باسم الإسلام، وضمن نطاقه، لا ضده، ولا بقصد الخروج عنه وحتى الخوارج عندما كفروا الجماعة كفروها باسم الإسلام لا بغيره.
هذا يعني أن التجديد لابد أن يكون دينياً وضمن الإطار العام الشرعي للمعتقد الإسلامي، إذا كان المقصود إصلاح الإسلام لا نقضه أو رفضه، وحتى إذا أريد الفصل بين الجانبين الزمني والروحي في الإسلام، فلا بد من استخراج مبررات وأدلة من صميم المبادئ الإسلامية ذاتها لتحقيق ذلك، كما حاول أن يفعل، على نحو مصغر ومحدود، علي عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم لإثبات ما ذهب إليه من عدم وجود مستند عقيدي وشرعي لفكرة الخلافة.
وقد خلقت الرغبة في التجديد أو الإحياء أو الإصلاح في التراث الإسلامي فكرة أخرى، غير المهدوية، وهي الفكرة القائلة إن إماماً مجدداً يخرج في مطلع كل قرن لإحياء الدين استناداً إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها). والفكرة في ذاتها وجيهة لأن التشريع دائماً يتغير بتغير الزمان والمكان، وفي الفقه أمثلة كثيرة من هذا القبيل)).
وهذه الفكرة أقرب إلى مفهوم التجديد الديني بمعناه الإصلاحي العقلي ودافعه الإرادي الإنساني، أو كما يقول أحمد أمين: والفرق بين الدعوة إلى التجديد والدعوة إلى المهدية أن الأولى ترتكز على العقل وعلى تجارب الحياة وعلى الواقع، أما الدعوة الثانية فترتكز على عقيدة دينية فقط بإمام منتظر، وأن السلطة السماوية هي التي تقربه وهي التي تؤيده.
ويبدو أن فكرة التجديد أو الإحياء المئوي فكرة قوية التأثير ومستمرة في التقاليد الفكرية الإسلامية، فقد أخذ الفقهاء والمؤرخون يبحثن في كل مائة سنة عمن يصلح أن يكون مجدداً، قالوا إنه على رأس المائة الأولى كان عمر بن عبدالعزيز، والثانية الشافعي والثالثة ابن سريح أو الأشعري ... الخ.
وقد كان لهذه الفكرة أبلغ الأثر في تحويل الإمام الغزالي ـ في راس المائة الخامسة ـ من حياة العزلة والانقطاع إلى معترك الدعوة والعمل، وإشارته إليها في ((المنقذ من الضلال)) تكشف مدى ترسخها في وعيه الذاتي وكيف تملكه الشعور تحت تأثيرها بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره. وفي العصر الحديث سرت الفكرة القائلة إن محمد عبده قد جدد في رأس المائة الماضية، محييا بذلك تراث التجديد والإصلاح في الإسلام.
غير أنه تجب الإضافة أيضاً بأنه إذا كان الوعي الفكري ـ الديني في الإسلام لم يتنبه لفكرة التقدم الإنساني الحضاري بمضمونها العصري، فليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية قد خلت منها واقعاً وممارسة.
فالتقدم الحضاري الذي أحدثه الإسلام في القرون الأربعة الأولى ـ التي تصادفت مع عصر السيادة العربية ـ ظاهرة ثابتة ومؤكدة.
ومشاركة المسلم في ((عمران)) الأرض التي استخلفه الله عليها تحققت بمقدار، والثورات السياسية التي حفل بها تاريخه ـ وأهمها الثورة العباسية السنية المتحالفة بداية ومنطلقاً مع شيعة آل البيت، والتي أحدثت وقادت أكبر نهضة حضارية في تاريخ الإسلام ـ دليل على رغبة المسلمين في تغيير أوضاعهم وتحسينها بإرادتهم، كما أن ظهور المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة من الدلائل الهامة على إمكانية حدوث تجديد فكري في الإسلام.
أي أن شهادة التاريخ والممارسة الحضارية تثبت وجود دافع ((التقدم)) في الإسلام، وإن لم يظهر ((الوعي)) بهذه الفكرة في صلب الإدراك الديني العام أو لدى المفكرين الإسلاميين القماء من حيث هي فكرة ملموسة واضحة.
وأياً كان الأمر فالوعي بمفهوم التقدم ظاهرة حديثة من معطيات التطور الأوروبي في قرونه الأخيرة، وليس الجائز إقحامها في فكر الأديان إلا من زاوية الإصلاح الديني الحديث ومضامينه وشروطه حيث يتحتم التمييز بين مفهوم للإحياء الديني يعد للنص النقلي ويرفض فكرة التقدم والتطور، وبين مفهوم للتجديد الديني أو للثورة الدينية ـ من داخل الإطار الديني ذاته ـ يستوعب النزعة التطورية ويحاول الجمع بينها وبين الأصول، أي بمعنى آخر، يحاول التوفيق بين ظاهرة التطور وظاهرة الثبات في ديمومة حياة الأمة والحضارة بتركيز محور ثابت يسمح بدوران التغيرات ويتيح تحركها الدينامي، موفر لها القاعدة التي تمدها بالإتساق والإتزان.
وهذا يجعلنا ندقق النظر لنرى كيف يتداخل ويتطابق مفهوم ((التجديد والإصلاح))، ومفهوم ((التوفيق)) في الإسلام، وكيف وقفت حركة الرجعة إلى السلف ـ على اختلاف تياراتها وعصورها ـ ضد منزع التوفيق لأنه يرتبط بالتجديد، كيف كان التوفيقيون في مختلف العصور أنصاراً لمبدأ الاقتباس الحضاري، ورموزاً لفترات التغيير المتضمن إطلاقاً لطاقات العقل.
فطالما أن ظهور تيار عقلي مستقل تماماً عن النظرة الدينية أو مخالف لها أمر غير وارد في المفهوم الإسلامي الشمولي الجامع المانع، فإن الأفكار التجديدية أمامها سبيل واحد للدخول في التقليد الفكري الإسلامي هو سبيل التكيف والتوافق مع أصول الإسلام، بعد إعادة تفسير هذه الأصول، بإحدى الطرق التأويلية والاجتهادية التي يحتملها ذلك التقليد.
ومما يؤكد كون التوفيق سبيل التجديد، إن الأفكار التجديدية تتعرض للمقاومة وترفض عندما يتم طرحها بصورتها الأصلية غير الإسلامية أو المناقضة للإسلام، بينما تحظى أفكار أكثر تجديداً وجرأة منها بالقبول عندما تعاد صياغتها صياغة إسلامية وتوضع في معادلة المركب التوفيقي.
غير أن هذه الإصلاحية التوفيقية ـ بسبب التوتر الخفي الفاعل في باطنها بين عنصريها كما تبين ـ ما أن تشعر بازدياد قوة التيارات العقلية الوافدة وتحس بضغطها الذي يهدد معادلة التوازن ـ اجتماعياً وفكرياً ـ حتى يتحول فيها المؤشر ـ بغريزة الدفاع عن الذات ـ إلى ناحية المحافظة والحذر، الأمر الذي يؤدي إلى تضييق مفهومها للإصلاح والتجديد، كي لا تتسرب إلى مركبها الدقيق نسبة أكبر من عناصر النظر العقلي فتخل به.
((فالكشف عن القيم الذاتية للإسلام هو الأمارة التي اتخذناها طابعاً لما سميناه (الإصلاح الديني). ولا نقصد بهذا الكشف (الدفاع) عن الإسلام لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة الدينية فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام.
((وإنما نبغي فحسب مدلول هذا ((الكشف)) من فصل ما يتصل بالإسلام من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير أو ركود في الفهم. والإصلاح الديني في مجال الإسلام ـ بهذا المعنى ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالمفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا المفكر)).
إن هذا المفهوم ينتقل إلى التركيز على العامل الذاتي في الإسلام ويحصر الإصلاح في عملية الكشف عن قيمه الأصلية، ورد الاعتبار إليها، وتنقيتها، دن مذهبية خاصة، مما يعبر عن شموله الإجماعي، بينما يلتفت المفهوم الآخر، الأكثر مرونة إلى العناصر الحضارية الوافدة ويدعو إلى استيعابها ضمن دائرة الاعتقاد والأخلاق، ويشدد على ضرورة التجديد بما يوحي إن العامل الأصيل ذاته ـ وإن أعيد الكشف عنه ـ لا يفي بكافة الاحتياجات النظرية لمواجهة تحديات العصر.
يذكر عبدالقادر المغربي أحد الإصلاحيين السوريين من الذين رافقوا جمال الدين الأفغاني، إن السيد قال له في إحدى محاوراته الفكرية معه: ((لابد لنا من حركة دينية ... إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدينة، نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده.
وقد مثل الإصلاح البروتستانتي وثورته ضد التقليد والسلطة الدينية مصدر إيحاء للرواد الإصلاحيين المسلمين مطلع النهضة، ورأوا فيه عودة بالمسيحية إلى الصورة الإسلامية للدين بالرجوع إلى الكتاب وتقليص دور ((الواسطة)) الكهنوتية بين العبد وربه.
غير انهم لم يطمحوا ـ مع هذا ـ لتغيير مماثل. وهذه المسألة بحاجة لدراسة متخصصة.
فالإسلام ظاهرة دينية حقيقية، والقرآن حمال وجوه ومعان وعندما يطالب المصلح الإسلامي المعاصر بـ ((الكشف عن القيم الأصيلة في الإسلام، فإنه سيستوحي تلك القيم التي تتلاءم مع عصره وثقافته وظروفه)).
أضف إلى ذلك أن مبدأ ((الإجماع))، إذا تحقق وانعقد، يمكن أن يوفر المستند الشرعي لاستيعاب أنواع من المؤثرات وصهرها في بوتقة المعتقد الإسلامي، اعتماداً على المأثور النبوي (لا تجمع أمتي على خطأ)، دن التقيد بأي تفسير خاص لمفهوم ((الإسلام الأصلي)) عدا ما تحتمه ضوابط التفسير والتأويل والاجتهاد بالرأي، وهي ضوابط تختلف نوعيتها ايضاً مرونة أو تشدداً ـ من مدرسة إلى أخرى.
ولكن هل يعني ذلك أن أي درجة من ((التجديد)) ينعقد عليها ((الإجماع)) ـ يمكن أن تصب جزءاً من السنة في الإسلام؟ وهل يمكن تقبل الرأي القائل: إن قبول التجديد أو رفضه، يتقرر بما يمكن أ نطلق عليه حديثاً ((مناخ الرأي)) في الأوساط (الدينية) المتعلمة والمؤثرة.
أضف إلى ذلك أن عدم وجود أية هيئة تقيس الإجماع الشامل أو تمثله في عموم الإسلام، يؤدي إلى ظهور عدة أشكال من الإجماع متأثرة بتقاليد وظروف مختلفة في أنحاء العالم الإسلامي.
لقد استوعب الإسلام قسطاً كبير من المؤثرات الخارجية التي كانت غريبة عن دين الصحابة أحياناً بالتنازل للأفكار الحديثة، وأحياناً بالتوافق مع ممارسات الشعوب التي شملها، غير أن هذه التجديدات في المبدأ والممارسة ظلت مقيدة ومعدلة دائماً بقرار الإجماع، كما ظلت عرضة، بين وقت وآخر، للتقليص بفعل موجات من المحافظة الدينية، التي كانت في حقيقتها تعبيراً عن تولد إجماع مضاد للإجماع الآخر؟؟
إذا صحّ ذلك، فإن الإجماع طبقاً للظروف والعوامل الفاعلة في تحديده، وسواء كان متحرراً يعتمد التأويل والاجتهاد، أو سلفياً يعتمد الظاهر والنقل، هو الذي يقرر نوعية الإصلاح الديني واتجاهه.
وفي حالة كون الإصلاح تحرري الاتجاه، فإن تجديده يستند إلى مدى ما تمّ استيعابه وقبوله من مؤثرات جديدة في عملية التوفيق، أما إذا كان سلفياً فإن قوة ردته تعتمد على مدى ما يتم رفضه من مؤثرات توفيقية سابقة تمازجت بالأصول الإسلامية، وهل الردة مخففة كردة الأشعري أم متصلبة كردة ابن تيمية.
أي إن الموقف من مبدأ التوفيق ـ قبولاً أو رفضاً ـ هو الذي يكشف عن اتجاه الإصلاح، وما إذا كان تجديدياً أو سلفياً.
بمعنى آخر لابد للمصلح الإسلامي أن يقرر قبل البدء بعملية إصلاحه إن كان سيقبل بمبدأ التوفيق أم سيرفضه، وإلى أي درجة من درجات القبول أو الرفض، وطبقاً لأي ضوابط.
غير انه لابد من التنبه في مسألة الإصلاح الإسلامي، إن لمبادئ الشورى والإجماع والتأويل والاجتهاد والتوفيق حدوداً يلزم أن نقف عندها في خاتمة المطاف.
ففي التحليل النهائي هناك حد قاطع في الإسلام لا يمكن تجاوزه وهو نطاق ما أمر الله وما نهى، ما أحل وما حرم، فالسلطة النهائية ـ في جوهر العقيدة وأسس الشريعة ـ لله لا للأمة، للشرع لا للشعب، وذلك بعد أن تستنفد جميع إمكانات ((الإجتهاد)) الفقهي والفكري واحتمالات ((التأويل)) العقلي. وهذه المسألة لابد من التوقف أمامها في إطار المشروعية والمرجعية الإسلامية، إذ يمكن رفعها في وجه أية محاولة لتجاوز الاجتهاد البشري حدوده ونطاقه. يقرر عبدالقادر عودة، وهو قانوني من مفكري الإخوان (أعدمته الثورة عام 1954):
((لمن الحكم؟ هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا إن الله هو خالق الكون ومالكه، وإنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض وأمرهم أن يتبعوا هداه ... فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وإنه جل شأنه هو الحاكم في هذا الكون .. وإن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به لأنهم .. قد استخلفوا في الأرض استخلافاً مقيداً باتباع هدى الله)).
ثم ينبه إلى محدودية الشورى الإسلامية واقتصارها على ما لم يقطع فيه ـ القرآن والسنة برأي وانحصارها في التطبيق وشؤونه لا في التشريع.
وهذا فارق هام بين الشورى في الإسلام والديمقراطية في الغرب حيث للأمة سلطة التشريع والحكم دون التقيد بأي مفهوم للسلطة الغيبية العليا.
-------------------------------------
* المصدر:الفكر العربي وصراع الاضداد