عندما بشّرني الصديق الكريم الدكتور عصام خليفة بأن الهيئة المسؤولة عن الحركة الثقافية في انطلياس قررت ادراج اسمي بين أعلام الثقافة المكرّمين، غمرني فرح عميق وشعور حقيقي بالامتنان. لكن الصديق العزيز طلب مني القيام بعدد من التدابير الضرورية ليتّخذ التكريم صفته الثقافية والعملية معاً. من جملة ما طلبه: تزويد الحركة ثبتاً كاملاً شاملاً يتضمن عناوين المقالات والدراسات وحتى القصص التي نشرتُها طوال حياتي الثقافية!
– لكن هذا الطلب مستحيل التنفيذ أيها الصديق! قال، بما يشبه الكلام الجدي الحاسم: أنت قدّها وقدود! قلت: وماذا أفعل حيال استحالة أن أتذكر المئات والمئات من عناوين الكتابات التي نشرتُها، وعشرات المجلات التي ضاعت وفيها بعض تلك الكتابات والمقالات التي نُشرت لي، وتلك التي نسيتُ أني كتبتُها أصلا؟ قال: ولو! أنت بالذات فيك تدبّر حالك. استعن بالرفاق الشباب، وبالأساليب والتقنيات الحديثة. مفهوم؟
– مفهوم، ولكن… إذا حدث أن توفقتُ قليلا بالعثور على بعض تلك العناوين، فهذا قد يملأ عشرات الصفحات! قال بلطف يتضمن بعض التنازل: دبِّر حالك بأوسع ما يمكن من الشمول، ولكَ عدد غير محدود من الصفحات. وقذفني الصديق العزيز في بحر متلاطم الأمواج، وفي حيرة لا حدود لها! بدا أن الصديق عصام خليفة يحدّثني من قلب القرن الحادي والعشرين، قرن تواتر الوسائل التقنية الحديثة للتخزين الثقافي والاحصاء والأرشفة والتعداد، وجلب المعلومة ولو من شدق الأسد !
لم يكن في وسعي سوى أن أعود بالذاكرة الى السنوات الأولى لبدئي في الكتابة والنشر قبل أكثر من ستين عاماً، اذ بدأتُ بنشر بعض ما أكتب عندما كنت أشتغل سمكرياً، وأفكر في أشياء تشبه القصص وتشبه المقالات، على إيقاع طرطقة التنك وتصليح بوابير الكاز، وصنع النواصات التنكيّة .. لقهر الظلام!
ففي دكان السمكرية هذا، كان يلتقي عصراً بعض الأصدقاء من الطلاب، فننسج معاً أحلاماً أكبر بكثير من انترنت ما، صغيرة الحجم، وأوسع بكثير من دكان السمكري نفسه، ومن البلد كله. أحلام تذهب بنا بعيداً، فتشمل مساحات بلدان وبلدان. كنا نفكر (وهذا سر سياسي يذاع للمرة الأولى) في أن نشكل جمعيات سرية عربية متشابكة، تعدّ نفسها لتحرّر – في القريب العاجل – البلدان العربية جميعها، من الاستعمار ومن التجزئة ومن التخلف، تحررها كلها، دفعة واحدة، وليس بالتقسيط، من أقصاها الى أقصاها، أي: “من الشام لبغدان/ ومن نجد الى اليمن/ الى مصر فتطوان”. وبالطبع: الى لبنان! ولا مساومة!
كنا نسجل هذه الأحلام في مقالات حماسية جداً نرسلها الى الصحف، ولكن لم تنشر لنا منها في حينه ولو فقرة من مقالة واحدة، فلم نيأس. في ذلك الزمان اذاً، أواسط الأربعينات من القرن الماضي، لم تكن قد ظهرت الانترنت لا في لبنان ولا في بلدان العالم. فلم يكن في استطاعة هذا السمكري الفتى تخزين فتوحاته الكتابية وعناوين أقاصيصه في جوف هذه الآلة السحرية المدهشة.
لكن الذاكرة البشرية تحتفظ بملامح وأحداث وعناوين تتزايد غموضاً وتباعداً وضبابيةً مع الأيام، فيتلاشى بعضها وتبقى ملامح تأثيرات لا يدرك المرء سر احتفاظ الذاكرة بخيالات منها وبعض التفاصيل. مما أتذكره، أني منذ أواخر الأربعينات تلك، بدأتُ أكتب ما يشبه القصص أو سرديات لأحداث من بلدتي صور الجنوبية، أصوّر فيها خصوصا معاناة الفقراء ومشكلاتهم الحياتية. وغامرتُ بإرسال بعض هذه الكتابات إلى جريدة “التلغراف” باسم صاحبها المقدام نسيب المتني، وكانت الجريدة تخصص في كل يوم اثنين أربع صفحات كبيرة لقضايا الثقافة والأدب، يشرف عليها الكاتب الكبير رئيف خوري. اختار رئيف من هذه الكتابات قصة كنت كتبتُها عن حياتي ومهنتي وآمالي، وغيّر لها عنوانها – الذي لا أتذكّر الآن ماذا كان – وجعله هكذا: “أديب وسنكري”. فرحتُ كثيراً بنشر القصة، ولَفَتني هذا العنوان الجديد لها، فصرتُ أفكّر في معنى هذا الدمج الرئيفي بين الصفتين: أن يصير السمكري كاتباً أو أديباً. ولمَ لا؟ وواصلتُ الطريق.
كنتُ، في ذلك الزمان، مهووساً بقراءة روايات الخيال العلمي، مغرماً بالابتكارات العلمية المستقبلية، وبالتنقّل السهل بين النجوم والكواكب والسموات العلى، ولكن لم يصادفني في تلك الروايات شيء يشبه الانترنت، مثلاً! على أني جرّبتُ، بنفسي، كتابة قصة في الخيال العلمي، واخترعتُ – داخل القصة طبعاً – جهازاً يتنبّأ بما بعد بعد الانترنت: تخيّلت جهازاً فيه شيء يشبه شاشة سينمائية صغيرة، وفيه أنبوب يوجّه شعاعه الخفي إلى رأس شخص ما، فينقل الشعاع إلى الشاشة صوراً لما يدور في دماغ هذا الشخص – فتاة غالباً وشاب أحياناً – ولكم أن تتخيّلوا ماذا يحوي هذا الدماغ من أسرار وأمنيات وأحلام ورغبات تنعكس كلها على الشاشة الصغيرة في صور ليست البتة أقل من فضائح فضّاحة. هذه القصة أرسلتُها في حينه الى مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم “قصص للجميع”. ويبدو أن هذا الاختراع العجيب أعجب رئيس تحرير المجلة فنشر القصة في مكان بارز، لكن نسخة المجلة التي نشرت القصة ضاعت، وضاع معها عنوان القصة. وكذلك فإن المجلة نفسها لم تعمّر طويلاً، فضاع إمكان العثور على نسخة من تلك القصة العجيبة، وضاع طبعاً ذلك الاختراع الرهيب. فلو كانت الانترنت موجودة في ذلك الزمان، لما ضاع شيء من هذا كله.
أتيح لي، في ذلك الزمان أيضاً، نشر أشياء في مجلة “العرفان” لصاحبها الشيخ المتنوّر أحمد عارف الزين، فكان يختار من خمسة أو عشرة مقالات، واحداً يرضى عليه وينشره، فيزغرد قلبي فرحاً. لكن الشيخ الطريف أحبّ أن يزركش واحداً من مقالاتي بتعليقات يضعها بين هلالين كبيرين في متن المقال نفسه. والمقال هذا فيه نقد لأوضاع الشباب وسلوكاتهم التي يبدو أنها لم تنل رضاي الكريم. وأتذكّر أني أوردتُ في المقال استنتاجاً سلبياً ما في حق الشباب، فعلّق الشيخ بقوله: “هذا غير صحيح يا أستاذ!”. في مقطع آخر اتهمتُ الشباب جميعاً بالتخاذل، فعلّق الشيخ بقوله: “إذا كان ذلك كذلك، فكاتب المقال نفسه يُحسب في المتخاذلين”. واذ حكمت على الشباب بأنهم جيل ضائع، علّق الشيخ بالقول الفصل: “الضائع هو الكاتب وحده”.
والحق الحق أقول: إن هذه التعليقات أسعدتني جداً، لأن المقال هذا بالذات، صار حديث الناس في جنوب لبنان، وصرتُ رأساً في المشهورين، ليس بسبب قيمة فكرية ما للمقال، بل بسبب تعليقات الشيخ عارف الذي أحببته فعلاً ولا أزال أقدّر الدور التنويري لمجلته التي تجاور في صفحاتها ما هو تقليدي في الكتابة والمفاهيم، وما هو جديد وتجديدي وجريء أيضاً.
في أواخر الأربعينات صدرت في بيروت مجلة ذات نزوع تقدمي وديني ويساري معاً، هي مجلة “الألواح” للسيد صدر الدين شرف الدين، الذي سبق أن أصدر في العراق جريدة يومية شهيرة باسم “الساعة” حملت أوائل كتابات حسين مروة السياسية عندما كان في العراق، أُتيح لي أن أنشر مقالات قصصية قصيرة في مجلة “الألواح” هذه، ضاعت أيضاً بين جملة ما أضعته من مقالات نُشرت لي. لكني أتذكّر جيداً أن جريدة مصرية نشرت خبر صدور مجلة “الالواح” على الشكل الآتي: “صدرت في بيروت مجلة أدبية جديدة باسم “الألواح” وعلّقت: والله العظيم اسمها كده!”.
لعلي لم أشعر أني صرت، بالفعل، واحداً من الكتّاب إلاّ عندما بدأت مجلة “الأديب”، ذات الشهرة العربية الواسعة تنشر لي أشياء من كتاباتي: مقطوعات من النثر الفني، ومقالات حول بعض الكتب الجديدة، وأقاصيص منها ما هو واقعي جداً، يصوِّر حياة اناس الطبقة الدنيا في المجتمع، ومنها ما هو أسطوري جداً، أتخيل في واحدة منها عملية شعبية تنقل الناس من حياة الفقر والبؤس الى حياة يزدهر فيها كل شيء، الطبيعة وحياة الناس، فتتلوّن الدنيا بالسعادة والصفاء وكل أنواع الزهور. وكانت مجلة “الاديب”، في ذلك الزمان، مجلة للأدب الجديد والبحث التجديدي في العالم العربي، في رعاية صاحبها ألبر أديب، الطليعي في الشعر المنثور الذي سمّاه “الشعر الطلق” وكان أنيساً سمح النفس والذوق، يفتح صفحات مجلته لكل من يتوسّم فيه جديداً ما، حتى ولو لم يكن في المشهورين. وقد فاجأني ذات يوم بأن جعل واحداً من مقالاتي بمثابة افتتاحية للعدد. ولا تزال هذه المبادرة تفعل فعلها السحري في نفسي حتى يومنا هذا. لا أزال أحتفظ بصور من بعض ما نُشر لي في “الأديب”، التي اعتز دائماً بأنني صرت مبكراً – واحداً من كتّابها.
كانت مجلة “الأديب” محطة انطلاق فعلية لي، ومجاز عبور الى النشر في عدد من المجلات الأخرى، وكذلك الى بدايات العمل في الصحافة الأدبية الفكرية. فمع بداية الخمسينات، تناولني شيوعيو هذا البلد، وقذفوا بي الى خضم العمل الصحافي، قبل أن اكون مارست مهنياً هذا العمل، فكلّفوني تحرير مجلة ثقافية سياسية جديدة، باسم “الثقافة الوطنية”، وحتى قبل سيامتي عضواً رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني. وإذ انتسبتُ الى هذا الحزب، عَلِقت فيه، ثم تعلّقت به، منذ ذلك الزمان، حتى يومنا هذا، والى ما يشاء الزمان. صدرت المجلة بين 1952 و1959، أسبوعية أولا، ثم شهرية فكرية ادبية، وانتشرت بصورة لا بأس بها في أنحاء العالم العربي عندما يسمح بهذا حرّاس الحدود وواضعو السدود، وكانت المجلة منبراً للفكر التقدمي التنويري اليساري وللأدب الواقعي الجديد.
على أن الانعطافة الاساسية لعملي في الصحافة الثقافية كانت في مجلة “الطريق” الفكرية، التي توليتُ مسؤولية تحريرها ما يقارب الأربعين عاماً، منذ العام 1965 حتى العام 2003، تاريخ التوقّف الموقت للمجلة. فلا بد، هنا، من بضع كلمات حول علاقتي بهذه المجلة الفكرية اللبنانية القيّمة. ذلك ان مسيرتي مع “الطريق”، طوال هذه المدة، ساهمت بشكل اساسي في إغناء تكوني الثقافي والمعرفي، وذلك، اولا، عبر إتاحة الفرصة امامي لإقامة علاقات خصبة مع الكثيرين من الكتّاب والمفكّرين والمبدعين العرب، الكبار منهم والشباب. وكذلك بإلزام نفسي ثانياً قراءة كل الدراسات والمقالات والأعمال الابداعية التي كانت ترد للنشر في المجلة من مختلف انحاء العالم العربي والعالم الأوسع: فقد أتاحت لي هذه القراءات الإلزامية والمشوِّقة معاً، ان اتزوّد، قيميّاً ونقدياً، المادة المعرفية والابداعية التي تحملها تلك الكتابات، ثم ثالثاً عبر دخولي، بدافع الرغبة او لضرورات التحرير، الى مناخات الكتابة في مجالات لم أكن دخلتُ فيها قبلا، واضطراري الى كتابة ما تتطلبه أعداد المجلة في هذا الباب أو ذاك.
استطاعت “الطريق” أن تستقطب عدداً كبيراً من الكتّاب والمفكرين العرب الذين دأبوا على تزويدها نتاجات قيمة لهم من دون أي مقابل مادي، بل دعماً منهم لمشروع “الطريق” الفكري والتغييري التقدمي. ولكن، على رغم أن هذه المجلة العريقة وصلت في انتشارها الى رقم كبير بالنسبة الى توزيع مجلة فكرية عربية، بحيث صارت توزع ما بين خمسة الى ستة آلاف نسخة من كل عدد، فإنها توقفت عن الصدور مع نهاية العام 2003.
أما سبب هذا التوقف فهو فقط ان كل عدد كان يباع بأقل من تكلفته، وأن المجلة لم تكن تتلقى أي مساعدة او دعم مالي من أي جهة من الجهات “الداعمة”، فتراكمت عليها الديون، ولم تعد قادرة على متابعة مسيرتها التي نرجو لها ونعمل لتعود هذه “الطريق” الى متابعة الطريق.
فالحاجة اليها تتزايد مع تزايد الضرورات الفكرية لوجودها. في مجلة “الطريق”، تحديداً، أتيح لي ان أدخل جدياً في مجالات البحث والدراسة والنقد الأدبي وبعض الرؤى والآفاق في النظرية الماركسية التي لا أزال أستفيد جداً من أفقها الفكري والعملي، وبلا أي حدود تحدّ من هذا المسار، إن شاء الله!
عبر الفهرس العام لأعداد مجلة “الطريق”، استطعت أن ألبّي بعض ما طلبه الصديق العزيز عصام خليفة، فسجلت عناوين مئات المقالات والدراسات من دون الاستعانة بما خزّناه هذه المرة في جوف تلك الآلة السحرية التي اسمها الانترنت. وأحب أن أهمس في أذن الصديق عصام: أني، فكرياً، أجهد أن أعيش في القرن الحادي والعشرين، أما تقنياً فلا أزال في أوائل القرن العشرين. وقد أظل تقنياً هناك الى أبد الآبدين!
كل ما قررت أن أفعله جدياً وعملياً، هو شراء دفتر كبير أسجل فيه عناوين كتاباتي، بكل دقة وأمانة، حتى لا يفاجئني صديق آخر بمثل ما طلبه مني صديقي الذي أحبه وأقدره جدا. وبهذا تكون الليستة جاهزة وإن غير شاملة وغير كاملة، بالتأكيد!
… وبعد، بماذا يشتغل محمد كروب الآن، وعلى ماذا، بعدما توقفت “الطريق”؟ وأنتم ترون اني قد بلغت من العمر عتياً، وأكثر: فإذا كنت قد ولدتُ في العام 1929 تكون سنوات العمر قد وصلت الآن (في العام 2008) الى الـ79 سنة (والله كريم كما يقال، وأنا استأهل كما اظن) اكتشفت انه تراكم لديّ عدد لا بأس به من الدراسات والمقالات التي تؤلف عددا لا بأس به ايضاً من الكتب يحتاج كل منها الى بعض التنسيق والتدقيق والتقديم والاستكمال، يصل تعدادها الى الـ15 كتابا، سيضاف اليها ما في خاطري من مشاريع أرى ضرورة ان أنجزها. أي: عندي ما يكفي من عمل يملأ سنوات لي مقبلة أرجو أن تطول كثيراً، بإذن الله والهمة للكتابة لا تزال موجودة، وكذلك المزاج، إضافة الى تشجيع الرفاق والأصدقاء والمحبات والمحبين، آمين !
_________________________________
23 آذار 2008، جريدة النهار اللبنانية.
– لكن هذا الطلب مستحيل التنفيذ أيها الصديق! قال، بما يشبه الكلام الجدي الحاسم: أنت قدّها وقدود! قلت: وماذا أفعل حيال استحالة أن أتذكر المئات والمئات من عناوين الكتابات التي نشرتُها، وعشرات المجلات التي ضاعت وفيها بعض تلك الكتابات والمقالات التي نُشرت لي، وتلك التي نسيتُ أني كتبتُها أصلا؟ قال: ولو! أنت بالذات فيك تدبّر حالك. استعن بالرفاق الشباب، وبالأساليب والتقنيات الحديثة. مفهوم؟
– مفهوم، ولكن… إذا حدث أن توفقتُ قليلا بالعثور على بعض تلك العناوين، فهذا قد يملأ عشرات الصفحات! قال بلطف يتضمن بعض التنازل: دبِّر حالك بأوسع ما يمكن من الشمول، ولكَ عدد غير محدود من الصفحات. وقذفني الصديق العزيز في بحر متلاطم الأمواج، وفي حيرة لا حدود لها! بدا أن الصديق عصام خليفة يحدّثني من قلب القرن الحادي والعشرين، قرن تواتر الوسائل التقنية الحديثة للتخزين الثقافي والاحصاء والأرشفة والتعداد، وجلب المعلومة ولو من شدق الأسد !
لم يكن في وسعي سوى أن أعود بالذاكرة الى السنوات الأولى لبدئي في الكتابة والنشر قبل أكثر من ستين عاماً، اذ بدأتُ بنشر بعض ما أكتب عندما كنت أشتغل سمكرياً، وأفكر في أشياء تشبه القصص وتشبه المقالات، على إيقاع طرطقة التنك وتصليح بوابير الكاز، وصنع النواصات التنكيّة .. لقهر الظلام!
ففي دكان السمكرية هذا، كان يلتقي عصراً بعض الأصدقاء من الطلاب، فننسج معاً أحلاماً أكبر بكثير من انترنت ما، صغيرة الحجم، وأوسع بكثير من دكان السمكري نفسه، ومن البلد كله. أحلام تذهب بنا بعيداً، فتشمل مساحات بلدان وبلدان. كنا نفكر (وهذا سر سياسي يذاع للمرة الأولى) في أن نشكل جمعيات سرية عربية متشابكة، تعدّ نفسها لتحرّر – في القريب العاجل – البلدان العربية جميعها، من الاستعمار ومن التجزئة ومن التخلف، تحررها كلها، دفعة واحدة، وليس بالتقسيط، من أقصاها الى أقصاها، أي: “من الشام لبغدان/ ومن نجد الى اليمن/ الى مصر فتطوان”. وبالطبع: الى لبنان! ولا مساومة!
كنا نسجل هذه الأحلام في مقالات حماسية جداً نرسلها الى الصحف، ولكن لم تنشر لنا منها في حينه ولو فقرة من مقالة واحدة، فلم نيأس. في ذلك الزمان اذاً، أواسط الأربعينات من القرن الماضي، لم تكن قد ظهرت الانترنت لا في لبنان ولا في بلدان العالم. فلم يكن في استطاعة هذا السمكري الفتى تخزين فتوحاته الكتابية وعناوين أقاصيصه في جوف هذه الآلة السحرية المدهشة.
لكن الذاكرة البشرية تحتفظ بملامح وأحداث وعناوين تتزايد غموضاً وتباعداً وضبابيةً مع الأيام، فيتلاشى بعضها وتبقى ملامح تأثيرات لا يدرك المرء سر احتفاظ الذاكرة بخيالات منها وبعض التفاصيل. مما أتذكره، أني منذ أواخر الأربعينات تلك، بدأتُ أكتب ما يشبه القصص أو سرديات لأحداث من بلدتي صور الجنوبية، أصوّر فيها خصوصا معاناة الفقراء ومشكلاتهم الحياتية. وغامرتُ بإرسال بعض هذه الكتابات إلى جريدة “التلغراف” باسم صاحبها المقدام نسيب المتني، وكانت الجريدة تخصص في كل يوم اثنين أربع صفحات كبيرة لقضايا الثقافة والأدب، يشرف عليها الكاتب الكبير رئيف خوري. اختار رئيف من هذه الكتابات قصة كنت كتبتُها عن حياتي ومهنتي وآمالي، وغيّر لها عنوانها – الذي لا أتذكّر الآن ماذا كان – وجعله هكذا: “أديب وسنكري”. فرحتُ كثيراً بنشر القصة، ولَفَتني هذا العنوان الجديد لها، فصرتُ أفكّر في معنى هذا الدمج الرئيفي بين الصفتين: أن يصير السمكري كاتباً أو أديباً. ولمَ لا؟ وواصلتُ الطريق.
كنتُ، في ذلك الزمان، مهووساً بقراءة روايات الخيال العلمي، مغرماً بالابتكارات العلمية المستقبلية، وبالتنقّل السهل بين النجوم والكواكب والسموات العلى، ولكن لم يصادفني في تلك الروايات شيء يشبه الانترنت، مثلاً! على أني جرّبتُ، بنفسي، كتابة قصة في الخيال العلمي، واخترعتُ – داخل القصة طبعاً – جهازاً يتنبّأ بما بعد بعد الانترنت: تخيّلت جهازاً فيه شيء يشبه شاشة سينمائية صغيرة، وفيه أنبوب يوجّه شعاعه الخفي إلى رأس شخص ما، فينقل الشعاع إلى الشاشة صوراً لما يدور في دماغ هذا الشخص – فتاة غالباً وشاب أحياناً – ولكم أن تتخيّلوا ماذا يحوي هذا الدماغ من أسرار وأمنيات وأحلام ورغبات تنعكس كلها على الشاشة الصغيرة في صور ليست البتة أقل من فضائح فضّاحة. هذه القصة أرسلتُها في حينه الى مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم “قصص للجميع”. ويبدو أن هذا الاختراع العجيب أعجب رئيس تحرير المجلة فنشر القصة في مكان بارز، لكن نسخة المجلة التي نشرت القصة ضاعت، وضاع معها عنوان القصة. وكذلك فإن المجلة نفسها لم تعمّر طويلاً، فضاع إمكان العثور على نسخة من تلك القصة العجيبة، وضاع طبعاً ذلك الاختراع الرهيب. فلو كانت الانترنت موجودة في ذلك الزمان، لما ضاع شيء من هذا كله.
أتيح لي، في ذلك الزمان أيضاً، نشر أشياء في مجلة “العرفان” لصاحبها الشيخ المتنوّر أحمد عارف الزين، فكان يختار من خمسة أو عشرة مقالات، واحداً يرضى عليه وينشره، فيزغرد قلبي فرحاً. لكن الشيخ الطريف أحبّ أن يزركش واحداً من مقالاتي بتعليقات يضعها بين هلالين كبيرين في متن المقال نفسه. والمقال هذا فيه نقد لأوضاع الشباب وسلوكاتهم التي يبدو أنها لم تنل رضاي الكريم. وأتذكّر أني أوردتُ في المقال استنتاجاً سلبياً ما في حق الشباب، فعلّق الشيخ بقوله: “هذا غير صحيح يا أستاذ!”. في مقطع آخر اتهمتُ الشباب جميعاً بالتخاذل، فعلّق الشيخ بقوله: “إذا كان ذلك كذلك، فكاتب المقال نفسه يُحسب في المتخاذلين”. واذ حكمت على الشباب بأنهم جيل ضائع، علّق الشيخ بالقول الفصل: “الضائع هو الكاتب وحده”.
والحق الحق أقول: إن هذه التعليقات أسعدتني جداً، لأن المقال هذا بالذات، صار حديث الناس في جنوب لبنان، وصرتُ رأساً في المشهورين، ليس بسبب قيمة فكرية ما للمقال، بل بسبب تعليقات الشيخ عارف الذي أحببته فعلاً ولا أزال أقدّر الدور التنويري لمجلته التي تجاور في صفحاتها ما هو تقليدي في الكتابة والمفاهيم، وما هو جديد وتجديدي وجريء أيضاً.
في أواخر الأربعينات صدرت في بيروت مجلة ذات نزوع تقدمي وديني ويساري معاً، هي مجلة “الألواح” للسيد صدر الدين شرف الدين، الذي سبق أن أصدر في العراق جريدة يومية شهيرة باسم “الساعة” حملت أوائل كتابات حسين مروة السياسية عندما كان في العراق، أُتيح لي أن أنشر مقالات قصصية قصيرة في مجلة “الألواح” هذه، ضاعت أيضاً بين جملة ما أضعته من مقالات نُشرت لي. لكني أتذكّر جيداً أن جريدة مصرية نشرت خبر صدور مجلة “الالواح” على الشكل الآتي: “صدرت في بيروت مجلة أدبية جديدة باسم “الألواح” وعلّقت: والله العظيم اسمها كده!”.
لعلي لم أشعر أني صرت، بالفعل، واحداً من الكتّاب إلاّ عندما بدأت مجلة “الأديب”، ذات الشهرة العربية الواسعة تنشر لي أشياء من كتاباتي: مقطوعات من النثر الفني، ومقالات حول بعض الكتب الجديدة، وأقاصيص منها ما هو واقعي جداً، يصوِّر حياة اناس الطبقة الدنيا في المجتمع، ومنها ما هو أسطوري جداً، أتخيل في واحدة منها عملية شعبية تنقل الناس من حياة الفقر والبؤس الى حياة يزدهر فيها كل شيء، الطبيعة وحياة الناس، فتتلوّن الدنيا بالسعادة والصفاء وكل أنواع الزهور. وكانت مجلة “الاديب”، في ذلك الزمان، مجلة للأدب الجديد والبحث التجديدي في العالم العربي، في رعاية صاحبها ألبر أديب، الطليعي في الشعر المنثور الذي سمّاه “الشعر الطلق” وكان أنيساً سمح النفس والذوق، يفتح صفحات مجلته لكل من يتوسّم فيه جديداً ما، حتى ولو لم يكن في المشهورين. وقد فاجأني ذات يوم بأن جعل واحداً من مقالاتي بمثابة افتتاحية للعدد. ولا تزال هذه المبادرة تفعل فعلها السحري في نفسي حتى يومنا هذا. لا أزال أحتفظ بصور من بعض ما نُشر لي في “الأديب”، التي اعتز دائماً بأنني صرت مبكراً – واحداً من كتّابها.
كانت مجلة “الأديب” محطة انطلاق فعلية لي، ومجاز عبور الى النشر في عدد من المجلات الأخرى، وكذلك الى بدايات العمل في الصحافة الأدبية الفكرية. فمع بداية الخمسينات، تناولني شيوعيو هذا البلد، وقذفوا بي الى خضم العمل الصحافي، قبل أن اكون مارست مهنياً هذا العمل، فكلّفوني تحرير مجلة ثقافية سياسية جديدة، باسم “الثقافة الوطنية”، وحتى قبل سيامتي عضواً رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني. وإذ انتسبتُ الى هذا الحزب، عَلِقت فيه، ثم تعلّقت به، منذ ذلك الزمان، حتى يومنا هذا، والى ما يشاء الزمان. صدرت المجلة بين 1952 و1959، أسبوعية أولا، ثم شهرية فكرية ادبية، وانتشرت بصورة لا بأس بها في أنحاء العالم العربي عندما يسمح بهذا حرّاس الحدود وواضعو السدود، وكانت المجلة منبراً للفكر التقدمي التنويري اليساري وللأدب الواقعي الجديد.
على أن الانعطافة الاساسية لعملي في الصحافة الثقافية كانت في مجلة “الطريق” الفكرية، التي توليتُ مسؤولية تحريرها ما يقارب الأربعين عاماً، منذ العام 1965 حتى العام 2003، تاريخ التوقّف الموقت للمجلة. فلا بد، هنا، من بضع كلمات حول علاقتي بهذه المجلة الفكرية اللبنانية القيّمة. ذلك ان مسيرتي مع “الطريق”، طوال هذه المدة، ساهمت بشكل اساسي في إغناء تكوني الثقافي والمعرفي، وذلك، اولا، عبر إتاحة الفرصة امامي لإقامة علاقات خصبة مع الكثيرين من الكتّاب والمفكّرين والمبدعين العرب، الكبار منهم والشباب. وكذلك بإلزام نفسي ثانياً قراءة كل الدراسات والمقالات والأعمال الابداعية التي كانت ترد للنشر في المجلة من مختلف انحاء العالم العربي والعالم الأوسع: فقد أتاحت لي هذه القراءات الإلزامية والمشوِّقة معاً، ان اتزوّد، قيميّاً ونقدياً، المادة المعرفية والابداعية التي تحملها تلك الكتابات، ثم ثالثاً عبر دخولي، بدافع الرغبة او لضرورات التحرير، الى مناخات الكتابة في مجالات لم أكن دخلتُ فيها قبلا، واضطراري الى كتابة ما تتطلبه أعداد المجلة في هذا الباب أو ذاك.
استطاعت “الطريق” أن تستقطب عدداً كبيراً من الكتّاب والمفكرين العرب الذين دأبوا على تزويدها نتاجات قيمة لهم من دون أي مقابل مادي، بل دعماً منهم لمشروع “الطريق” الفكري والتغييري التقدمي. ولكن، على رغم أن هذه المجلة العريقة وصلت في انتشارها الى رقم كبير بالنسبة الى توزيع مجلة فكرية عربية، بحيث صارت توزع ما بين خمسة الى ستة آلاف نسخة من كل عدد، فإنها توقفت عن الصدور مع نهاية العام 2003.
أما سبب هذا التوقف فهو فقط ان كل عدد كان يباع بأقل من تكلفته، وأن المجلة لم تكن تتلقى أي مساعدة او دعم مالي من أي جهة من الجهات “الداعمة”، فتراكمت عليها الديون، ولم تعد قادرة على متابعة مسيرتها التي نرجو لها ونعمل لتعود هذه “الطريق” الى متابعة الطريق.
فالحاجة اليها تتزايد مع تزايد الضرورات الفكرية لوجودها. في مجلة “الطريق”، تحديداً، أتيح لي ان أدخل جدياً في مجالات البحث والدراسة والنقد الأدبي وبعض الرؤى والآفاق في النظرية الماركسية التي لا أزال أستفيد جداً من أفقها الفكري والعملي، وبلا أي حدود تحدّ من هذا المسار، إن شاء الله!
عبر الفهرس العام لأعداد مجلة “الطريق”، استطعت أن ألبّي بعض ما طلبه الصديق العزيز عصام خليفة، فسجلت عناوين مئات المقالات والدراسات من دون الاستعانة بما خزّناه هذه المرة في جوف تلك الآلة السحرية التي اسمها الانترنت. وأحب أن أهمس في أذن الصديق عصام: أني، فكرياً، أجهد أن أعيش في القرن الحادي والعشرين، أما تقنياً فلا أزال في أوائل القرن العشرين. وقد أظل تقنياً هناك الى أبد الآبدين!
كل ما قررت أن أفعله جدياً وعملياً، هو شراء دفتر كبير أسجل فيه عناوين كتاباتي، بكل دقة وأمانة، حتى لا يفاجئني صديق آخر بمثل ما طلبه مني صديقي الذي أحبه وأقدره جدا. وبهذا تكون الليستة جاهزة وإن غير شاملة وغير كاملة، بالتأكيد!
… وبعد، بماذا يشتغل محمد كروب الآن، وعلى ماذا، بعدما توقفت “الطريق”؟ وأنتم ترون اني قد بلغت من العمر عتياً، وأكثر: فإذا كنت قد ولدتُ في العام 1929 تكون سنوات العمر قد وصلت الآن (في العام 2008) الى الـ79 سنة (والله كريم كما يقال، وأنا استأهل كما اظن) اكتشفت انه تراكم لديّ عدد لا بأس به من الدراسات والمقالات التي تؤلف عددا لا بأس به ايضاً من الكتب يحتاج كل منها الى بعض التنسيق والتدقيق والتقديم والاستكمال، يصل تعدادها الى الـ15 كتابا، سيضاف اليها ما في خاطري من مشاريع أرى ضرورة ان أنجزها. أي: عندي ما يكفي من عمل يملأ سنوات لي مقبلة أرجو أن تطول كثيراً، بإذن الله والهمة للكتابة لا تزال موجودة، وكذلك المزاج، إضافة الى تشجيع الرفاق والأصدقاء والمحبات والمحبين، آمين !
_________________________________
23 آذار 2008، جريدة النهار اللبنانية.