الدموع التي حرقت، فيما تقنزع شعرها الأحمر الخشن، عيني الحاضنة الأرمنية العجوز، سلامة، هي ذاتها التي كانت تطوف بجدي لأمي من غبار متجر البذور إلى مسرح الطفل ،حيث ضللتنا مثل سحابة الرب، إذا كان لكل شيء على الأرض صورته التي في السماء، إزاء العرش، رائحة عسل نارجيلة المجمرة فيما المتجر مليء بأرواح النباتات وأثر الشوكولاتة يلطخ شفتيها الذاويتين، ولكن عينيها مابرحتا تحدقان إلى قلبي بمكر الصبايا ومديرة المدرسة تقول: ظنوني كلها تحوم حول هذا الجامع القديم منذ رؤيتي إياه والشياطين تتراقص متلفعة بمسوح سود فاتنة، والملائكة الطيبون، المصلون الذين كانوا ينوؤن بوزر العالم وحكيم الدمى العجوز قرياقوز وهو عجوز طاعن في السن، إلى درجة تأكل فيها كتان جسده وبهتت ألوانه، ولكن سلامة ذات خصل الشعر المتأججة كالنار، والعينين الإلهيتين، كانت تكن له تقديسا، كتقديسها لأربابها القدامى الحزانى، المنفيين عن سموات أرمينيا، ولكنها كانت تلتهمه، وأشواك المقبرة تلهب قدميها بلذة غامرة، ملطخة نشاء صدارها الأبيض، والسماء تمضي، والجد يرفع كفه فيتدلى عكازه من مرفقه، وتشع راحته، مثل غيمة بيضاء، أراني على نورها الواهن، الأسلحة القديمة المدفونة في بؤبؤي قيّم الجامع، أسلحة الآلهة، الأسلحة، المطر والرعد ولكن اللويس ظلت على فتوتها منداة بدموع قلبه وشرفة الحاضنة من خشب عتيق وفخارين ورد. وعيناها تصبان نورهما على ظلال المطر وكان المطر هو الزمن الذي تتحسسه الأصابع المرتعشة. والجراء تعوص تحت سعف فحل النخل الفتي المتهدل، حيث الماء يرشح بطيئا على السجف كثيرة الخضرة، وطالما شعرت أصابع الجد بالرهبة من فوضى روائح حجرتها: مهود الأطفال الثلاثة الخدج، وقبة المقدس والأعراب بالكوفيات، واليهود بالسدارات، والجنود البريطانيون، وصور الصغار الكثر الذين اخترقوا حياتها وغابوا كالأنبياء، والعذراء بردائها القاني كالدم والزغب المشع حول صدغيها ووشاحها وهذا أحدهم: نبي مطارد مسفوع بالموت، امتطى صهوة جواده وأغبر بحرب ملوكية، أو انكليزية، أو عثمانية أو هنغارية أو تتارية، وكأن شيطانها الأبدي الذي اندس في قلبه ، على غفلة من أربابها المأخوذين بهدير مدافع عام 14، وبوق الحاكي ينفخ في وجهه المعذب صفيرا حادا مزوبعا كالعواصف الثلجية المتلاطمة حول جدران الأديرة المنسية، وقد تراعشت أصابعها على مفاتيح البيانو العتيق كالفراشات الملتذة، والشماس بطرس يتموه وجهه منحنيا عليها كشظية مرآة. وأبي يقتعد كرسيا، ويفترش تحته ظلا، وعيناه رماديتان، مقفرتان من أي نبت، عدا ظفيرة كرم، التفت في عزم صباها، على مشبك نافذة المتجر، متصلبة في الهواء، بينما المنزل يتقهقر عن المتجر، وتفصل بينهما الحديقة السبخاء، أما فناء المتجر الأمامي، فهو عابق وغاص بالشتلات الخضراء الندية، والشمس وأحواض الزهور، ولما كان هذا المتجر ملجأي القديم الذي يوفر لي رؤية مرآة رحيلها بمنأى عن قهقهات الضباط المدنيين ونظام الأثاث الكلاسيكي الصارم، حيث انفجرت حبة الهيل تحت شارب الجد، فعطرت الهواء ووجوه الصغار والعشب المضيء والرذاذ، ووجوه الأجداد والآباء والمصابيح المتألقة، الضاحكة، الصاهلة كأفراس المطر التي كانت تجوب المقبرة وقوائمها تخوض في لزوجة جثث الموتى ولعلني لم أنم، طيلة الليل عندما رأيتها، همس لي عند الفجر ودماء البعوض تنقرش ثوبه الشجي: سأدفن سليمانيتين ذكرا وأنثى، حبنا من شهوة اقحوان الكون، في قلب الأرض، بعيدا عن أنظار بني آدم وعندئذ، سنراها كلانا لأنهما.. هذه الدمى المكفهرة تحوم حول جسده المسجى على سرير الحاضنة: التمعت شعرات حمر من كورة شعرها على خديه الغائرين، وقطرات من خمرها الأبيض على فمه الصغير، وصبغة شفتيها الذاويتين، تيبست على وجهه الشاحب: وهي تقول:ـ يا الهي الرحيم، أين تراه كان طوال هذه الآلاف من السنين؟ وحيث غبر الكالبتوس كل شيء، والخدج الثلاثة يتفرسون بعيونهم الجاحظة، التي لم تقو مادتها وتتكاثف، والمتورمة من أرق ليال الحب، مصغين لعواء الزوبعة الثلجية. ففي قديم الزمان، قامت امرأة ذات قلب جبل من عناصر نبيلة، بلم شملهم في هذا “الكمب” المشجر. والحاضنة تقتعد الغرفة، ملتفعة بوشاحها الأبيض، مثل عذراء، وقد تشربت عظامها، أمواج أنينه, بينما تفتحت وردة خزامى على راحة حكيم الدمى. والجد يعت كرسيا، من الصفوف الخلفية، ويحشره بين كراسي المقدمة، فهنا فقط، ربما واتاه الحظ في نهاية العرض للانقضاض على قطع الشوكولاتة والكاكاو، وحين توزع ببهجة غامرة، أما، في تلك اللحظة، فقد كانت الدمى تغني عن النار الإلهية، والقمر الناثر ذئابا، في سبيلنا، فنجنا إلهنا بنارك، ونجنا، ونجنا، بينما جدت أطيافهم بالمسير والعجوز يقود القطيع وقد انحنى جذعه المصوف، وامتدت عصاه، فوق كتفه، وترد من طرفها، نجمة، مضيئة، وأبي يرد بحياء، مغطيا فمه بمنديل أصفر، تدلى من جوف كفه:ـ هذه ظنون.. ماذا تقولي ؟ أي جامع! هذا بيت الرب….. وهي تجلس خلفي، وقدماها الصغيرتان تعبثان في العشب، بينما التهمت نيران شعرها، سرب فراشات الليل، فصارت عظام ظهري تمتص عطرها النظر، ورسغها الدقيق المذهب ، ، ووشاحها يكاد ينسرح عن لهب شعرها، فكنت أرى قلبي يتقلب على الحجر، وكانت أصابعي تتحسسها في غبار الاسطنبول، وعلى قمم الجبال التي ظللها نوح بظله الأبدي الآمن، من كل طوفانات الآلهة، والبشر، والجوع، والذئاب، والهلاك، تتلبد لنا في طيات الغيوم المعرقلة سيل البغال، ثم افتقدتها، هذه الليلة في المسرح، ولم تزل نوارس السيبيريا، تزعق في أذني فقطرت سلامة، قطرة من وردة لسان الثور، وقطرتي خمر على لساني، فشهقت روحي لعنان السماء، ورأيتها، ولم تكن تنام على وسادة، فذكرتني بالموتى، ودكة غسل الجثث المطحلبة وكتب الحرم الغضنة، والمحراب والسدرة الكثيفة، والتوابيت المنتنة بطونها من دهون جثث قديمة، والأكفان، ولفائف القطن، ومياه الليل، وزمرد الكافور الياباني حيث اصطدمت بغبار أصابع جدي فاقشعرت روحي ولكنها كانت رقيقة، هشة إلى حد مخيف، نعم الموتى أيضا رقيقون وكانت أختي من أبي تلعب التنس في النادي، رمادية ضامرة، صدرها عريض وميت، وثيابها زاهية لا تشبه المديرة التي كان صوتها ينفجر مرعدا:ـ ماذا تقول أنت؟ بيت الرب ها… أنا رأيته بعيني… هل نسيت؟ … ألم
يعثروا في داخله على الأسلحة؟… ما رأيك أفندي؟. ألم يعثروا على الأسلحة؟…. ولكن المتجر كان يمتلئ في بعض المواسم والأيام بالفلاحين والمهندسين الزراعيين والبستانيين، والأعراب، وفي أول الأمر تبدو ملامحهم متلظية ولكنها، وبعد مكوثهم داخل هذه العتمة الرطبة بين رفوف، وعلب وأوعية البذور والأسمدة، والمعدات، تهدأ وتفتر، فيغدون مسالمين عابقين بالألفة والتبغ والسكون زاهدين أباطيل هذا العالم، بينما يتململ الضابط على الأريكة العميقة التي قماشها بلون الزعرور البري، بينما ثيابه أنيقة، ووجهه محمرا، وهو يقول بلطف:ـ غير مهم أبدا، غدا نقوم بتفتيش الجامع.. كم تبلغ قيمة المصوغات… وهو ينظر في عينيها البنفسجيتين ويطرف رموشه، حيث تراعشت خيوط الضوء، وانطوت قافلة الدمى إذ سينبلج الفجر، عما قريب، غير أنهما ما انفكا يتهامسان وراء حفيف الصنوبرات وأردية الرهبان، فيما كانوا يهيئون ماكنة العرض وراء الصفوف، فتشعشع عدستها نورا، حارقا مفرغا من الحياة، وهاهم قد بدأوا يغنون من وراء ضباب سياج الخشب، والورد وخرز أحداقهم ملتمعة، مشرأبة نحو السماء:ـ إلهنا وجودنا من نورك..إلهنا.. إلهنا ابسط سناك على الضمير ففي موضع كل زهرة، أفعى… والمحاربون القدامى يتبارون على خيولهم، تحت وقع البيانو الأجوف، بينما ظلت خصلها الحمر المتقدة، تنصب على روحي أبد الآبدين، حيث كنت أتحسس حرارة همسها المفاجيء:ـ زلنطح… زلنطح… انطح… انطح… فلم ألتفت ولكن أذني تعلقتا مليا، بوجهها العسلي، وفراشتي حدقتيها السهبيتين، وعذوبة وشاحها العذري. كان جدي قد أصبح مع الدمى، وأذناي ترتعشان وتتعرقان وتحمران حياء، بينما كانت قوائم دابة القرياقوس تنغرز في طبقة الجليد، وهو يصغي لهدير القطارات القديمة في اسطنبول، حيث مصاريع النوافذ تفتح وتغلق حسبما يشاء المرء وكأنها بضجيجها الرهيب قد جلبت معها الحروب، وهو يعض على شفتها المزرقة ناشدا الأديرة المنتشرة بين غابات السفوح الحمر، أو هكذا كان عقلها يفكر، لكي تتشمم أصابعه أثرها، فهناك دائما الشماس بطرس الرعديد، بطيوره وأهوائه وهناك ربما القلاية، وهم هناك، وهي معهم، متصلبة بين صرير أرواح المذهولين من زحف الضياء العنيف، واللويس، تحت مرفقه، مدسوسة في خرج السرج الجعد، والزمجرة تتلوى بين أسنانه: حياة باشوات وشهوات وجحيم، ونحن نفنى يا أرمينيا ولكننا كنا، آنذاك في الكلية العسكرية نهضم مدرسة الحرب الانكليزية، حيث قذيفة المدفع تنطلق، لا جزافا إنما لتمحق روح العدو من الوجود، وتستمر روح المدرسة الانكليزية في الوجود وأرواحنا تدب في أذيالها بينما جردت الأعوام، في تلك الليلة، جسده، وهو على سريرها ورائحتها في رائحته، من كثافته ومادته، وتركته صقيلا شفافا مضيئا، بينما كان وشاحها يلامس أصابعي الملتهبة إثما ،حيث كنت أخشى أن يتبدد ضوء جسده من دون أن أخبره في طيات الهواء، أو في زوبعة الاسطوانات اللعينة، وكنزة الأرمنية المخضرة، تنحسر فتكشف عن نقرة سرتها اللدنة، ومديرة المدرسة تهتف بحدة رقيقة:ـ كم قيمتها!.. ماذا تقول؟ رجاء. باونات من ذهب النيل من عهد أجدادي وذهب من روما… ومجيديات عثمانية…. وذهب من الهند حيث الشمس تشرق على قبة الجامع، وأصابع القيم تبحث في التراب وهو يجثو على ركبتيه والدجاجات المقوقأة تحوم حولهم، متأنية، ناقرة الأرض، نابشة الديدان، وهي ترفع رجلا وتعلقها في الهواء طويلا، ثم تخفضها لتنقل رجلا أخرى ببطء، وقد لفت بندقية صدئة بعباءة صوف سوداء والطمي يعبق حولهم ولفت معها مدية: عباءة متعفنة، هرئة، تمازج نسيجها بنسيج الأرض بينما تراقصت عينا القيم هلعا: كان كل شيء يتفتت بين أصابعهم ويتحول إلى رماد صدئ والمدية وغمدها يتبددان ببطء، كنثار مطر أسود، فلم يسر أحدا منهم إنقاذ روحها من مادة الفناء، وفي الطيات السفلى ركام عظام حصان أو حيوان ضخم وربما كان في الأسفل منه رماد فارسه المجهول، ولعل الأرض انقلبت بهما على نحو مفاجئ، ولعل هناك جحفي فرسان مقلوب ومطمور برمته تحت الأرض المغطاة بغشاء ذروق عصافير السدرة، وأصابعي تتحسس الموت في الهواء فلم يغمض لي جفن وقد توافدت النوارس أسرابا بطوال الليل وعاكسها في الاتجاه سرب لقالق شاهق جدا الى حد الذهول، فلم تكن غير ليلة مسهدة وأصابع الجد الرقيقة بكاء وأثر التبغ يكسو أطرافها “فهاهم قد نبشوا الأرض وقلبوا التراب وفرقوا بضربة وحشية الخرزتين الأفعوانيتين المتمازجتين في احمرار الطمي، ومحقوا أثر السلالة مرة واحدة والى الأبد فكانوا غلاظ القلوب ولا قطرة خمر زرقاء تبل أرواحهم وفي تلك الليلة بدأت أصابع الجد بالاحتضار أما الضابط فقد حمل معه عند الغروب، فيما ارتدى بدلة بيضاء كناريا رماديا في قفص مذهب والمديرة تنتظره في صالة الضيوف مرتدية ثوبا قطنيا ناعما وكل شيء حولها يلتمع: الكراسي الصقيلة، وخشب الساعة الجدارية والخوان وسطح الموقد المزين برخاميات، تمثل نمورا وطيورا وفتية آخرون كانوا يحضرون مبوقين بعرباتهم السريعة، ويمضون مقهقهين، وصبغة شعرها تتبدل كل يوم كلون الزعفران أو البنفسج القاتم، وهي تحملق في المرآة ويدها على صدرها: ـ هؤلاء.. هؤلاء فتياني… كل هؤلاء الضباط تلاميذي… ضباط الجيش والشرطة.. ماذا تقول أنت؟… أي ضابط يهمني.. بإشارة واحدة من إصبعي…. أما هو فكان يغفو في متجر البذور بين دبيب الفئران ورائحة الأسمدة بينما كنت طيلة الليل، أرى وأحيا أصابع جدي وهي تحتضر، وتشهق وتموت الواحدة تلو الأخرى، مطلا برأسي من برج مأذنة الجامع، مهوما بين جهامتي شرطيين وخلفنا شريط صلصال مظفور، أطبق على عنق المأذنة، حيث كنا في الغبار بينما مضى أبي ومديرة المدرسة الى حجرتهما في الظهيرة الغائمة، أما هي زوجة أبي فكانت لها مرآة مؤطرة بالهنود اتقد فضائها بالشهوات، كانوا هنودا رقيقين نحتوا من الصندل بملامح متنسكة سامية تكتنفها روح البوذا الأزلي، إنهم غير أولئك الذين كانت أصابع الجد تكفهر وتئن لدى ذكرهم: الهندوس والسيخ بلحاهم الوخمة وريش عمائمهم وأسلحتهم الانكليزية الأبدية، ولكن هؤلاء كانوا أرواحا مضيئة لمرآة من جملة أثاث استوائي أصيل، خلفه تاجر هندي صفى حساباته قبل أعوام، وشدت أصابعه النحيلة على أصابع جسدي بمرارة رهيبة، وهي مرآة بدت لجدي.. وكأنها البحر، مقارنة بسفينة كيان ابنته العائمة على نسيم الحياة، وكأنها البحر الذي ابتلعت أمواجه الليلية، علبة المصوغات القديمة، بينما كانت تجاعيد وجه المديرة تتلوى طوال الليل وتتشرب، متضورة، الدهون والمساحيق والعطور وثيابها الشفافة على الدوام والضوء وحده، الضوء الذي ينبعث من عيني المغمضتين ويتسلل في الظلام ليوهج ساقيها الورديتين المكتنزتين حينما كانت الاسطوانة التركمانية تعوي لحنا كئيبا، نوم الخدج، وفوهة بوق الحاكي تتجه نحو حفيف المطر، أما البذور التي كانت في جيب سترتي المظلمة فقد بدأت تهسهس وتهفو، لوجه سلامة المضيء، بخصلها الحمر المظفورة وثوبها الأبيض المكركش، إذ لم تكن سوى بذور خشخاش قديمة قدم رحلاتها الى نابلس وبيروت واسطنبول للبحث عن شيطانها الأبدي. إن سلامة العجوز قد احتفظت في علبها الصديئة حتى بأرواح الشياطين سألت جدي: هل للشياطين أرواح؟ ولكنه ظل على صمته، محدقا في الفراغ… إذ كانت سبابته تحتضر بقسوة: هذه السبابة العجفاء، المحاربة، الرقيقة، التي كانت تند منها، بين لحظة وأخرى اختلاجة ألم تثير الفزع أو الشفقة، محتضرة كأي روح نبيل وآثم، بصمت ملوكي، بينما كان نورها الذي يشبه ضوء الحباحب قد صار ينحسر عنها ببطء حتى انطفأت وتراخت وخمدت. افتقدت سلامة في المقبرة، حيث الأفراس الملونة، وتأكدت ظنوني عندما رأيتها للمرة الأخيرة تغيب بين غيوم الليل الحمر المدلهمة، فكم كانت الدمى في تلك الليلة كئيبة المنظر: واحدة وخمسون دمية، ببدلات عسكرية منتفخة، تصدر أزيزا، حملت شارات (ل ـ ح ـ م) ثم ضجيج جوقة الجنازة النحاسية ودخان الطلقات يتبدد في الهواء، بينما غمرت أكاليل الزهور قبر حكيم الدمى العجوز قرياقوس، وبدءوا بعد ذلك يقدمون الشوكولاتة والكاكاو…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.
- منقول عن:
http://www.alnaked-aliraqi.net/arti...LGGj7LxQTmHRLP5QWzR4gbVWSo1wEgn5ihJ8Y6SM1pf-E
يعثروا في داخله على الأسلحة؟… ما رأيك أفندي؟. ألم يعثروا على الأسلحة؟…. ولكن المتجر كان يمتلئ في بعض المواسم والأيام بالفلاحين والمهندسين الزراعيين والبستانيين، والأعراب، وفي أول الأمر تبدو ملامحهم متلظية ولكنها، وبعد مكوثهم داخل هذه العتمة الرطبة بين رفوف، وعلب وأوعية البذور والأسمدة، والمعدات، تهدأ وتفتر، فيغدون مسالمين عابقين بالألفة والتبغ والسكون زاهدين أباطيل هذا العالم، بينما يتململ الضابط على الأريكة العميقة التي قماشها بلون الزعرور البري، بينما ثيابه أنيقة، ووجهه محمرا، وهو يقول بلطف:ـ غير مهم أبدا، غدا نقوم بتفتيش الجامع.. كم تبلغ قيمة المصوغات… وهو ينظر في عينيها البنفسجيتين ويطرف رموشه، حيث تراعشت خيوط الضوء، وانطوت قافلة الدمى إذ سينبلج الفجر، عما قريب، غير أنهما ما انفكا يتهامسان وراء حفيف الصنوبرات وأردية الرهبان، فيما كانوا يهيئون ماكنة العرض وراء الصفوف، فتشعشع عدستها نورا، حارقا مفرغا من الحياة، وهاهم قد بدأوا يغنون من وراء ضباب سياج الخشب، والورد وخرز أحداقهم ملتمعة، مشرأبة نحو السماء:ـ إلهنا وجودنا من نورك..إلهنا.. إلهنا ابسط سناك على الضمير ففي موضع كل زهرة، أفعى… والمحاربون القدامى يتبارون على خيولهم، تحت وقع البيانو الأجوف، بينما ظلت خصلها الحمر المتقدة، تنصب على روحي أبد الآبدين، حيث كنت أتحسس حرارة همسها المفاجيء:ـ زلنطح… زلنطح… انطح… انطح… فلم ألتفت ولكن أذني تعلقتا مليا، بوجهها العسلي، وفراشتي حدقتيها السهبيتين، وعذوبة وشاحها العذري. كان جدي قد أصبح مع الدمى، وأذناي ترتعشان وتتعرقان وتحمران حياء، بينما كانت قوائم دابة القرياقوس تنغرز في طبقة الجليد، وهو يصغي لهدير القطارات القديمة في اسطنبول، حيث مصاريع النوافذ تفتح وتغلق حسبما يشاء المرء وكأنها بضجيجها الرهيب قد جلبت معها الحروب، وهو يعض على شفتها المزرقة ناشدا الأديرة المنتشرة بين غابات السفوح الحمر، أو هكذا كان عقلها يفكر، لكي تتشمم أصابعه أثرها، فهناك دائما الشماس بطرس الرعديد، بطيوره وأهوائه وهناك ربما القلاية، وهم هناك، وهي معهم، متصلبة بين صرير أرواح المذهولين من زحف الضياء العنيف، واللويس، تحت مرفقه، مدسوسة في خرج السرج الجعد، والزمجرة تتلوى بين أسنانه: حياة باشوات وشهوات وجحيم، ونحن نفنى يا أرمينيا ولكننا كنا، آنذاك في الكلية العسكرية نهضم مدرسة الحرب الانكليزية، حيث قذيفة المدفع تنطلق، لا جزافا إنما لتمحق روح العدو من الوجود، وتستمر روح المدرسة الانكليزية في الوجود وأرواحنا تدب في أذيالها بينما جردت الأعوام، في تلك الليلة، جسده، وهو على سريرها ورائحتها في رائحته، من كثافته ومادته، وتركته صقيلا شفافا مضيئا، بينما كان وشاحها يلامس أصابعي الملتهبة إثما ،حيث كنت أخشى أن يتبدد ضوء جسده من دون أن أخبره في طيات الهواء، أو في زوبعة الاسطوانات اللعينة، وكنزة الأرمنية المخضرة، تنحسر فتكشف عن نقرة سرتها اللدنة، ومديرة المدرسة تهتف بحدة رقيقة:ـ كم قيمتها!.. ماذا تقول؟ رجاء. باونات من ذهب النيل من عهد أجدادي وذهب من روما… ومجيديات عثمانية…. وذهب من الهند حيث الشمس تشرق على قبة الجامع، وأصابع القيم تبحث في التراب وهو يجثو على ركبتيه والدجاجات المقوقأة تحوم حولهم، متأنية، ناقرة الأرض، نابشة الديدان، وهي ترفع رجلا وتعلقها في الهواء طويلا، ثم تخفضها لتنقل رجلا أخرى ببطء، وقد لفت بندقية صدئة بعباءة صوف سوداء والطمي يعبق حولهم ولفت معها مدية: عباءة متعفنة، هرئة، تمازج نسيجها بنسيج الأرض بينما تراقصت عينا القيم هلعا: كان كل شيء يتفتت بين أصابعهم ويتحول إلى رماد صدئ والمدية وغمدها يتبددان ببطء، كنثار مطر أسود، فلم يسر أحدا منهم إنقاذ روحها من مادة الفناء، وفي الطيات السفلى ركام عظام حصان أو حيوان ضخم وربما كان في الأسفل منه رماد فارسه المجهول، ولعل الأرض انقلبت بهما على نحو مفاجئ، ولعل هناك جحفي فرسان مقلوب ومطمور برمته تحت الأرض المغطاة بغشاء ذروق عصافير السدرة، وأصابعي تتحسس الموت في الهواء فلم يغمض لي جفن وقد توافدت النوارس أسرابا بطوال الليل وعاكسها في الاتجاه سرب لقالق شاهق جدا الى حد الذهول، فلم تكن غير ليلة مسهدة وأصابع الجد الرقيقة بكاء وأثر التبغ يكسو أطرافها “فهاهم قد نبشوا الأرض وقلبوا التراب وفرقوا بضربة وحشية الخرزتين الأفعوانيتين المتمازجتين في احمرار الطمي، ومحقوا أثر السلالة مرة واحدة والى الأبد فكانوا غلاظ القلوب ولا قطرة خمر زرقاء تبل أرواحهم وفي تلك الليلة بدأت أصابع الجد بالاحتضار أما الضابط فقد حمل معه عند الغروب، فيما ارتدى بدلة بيضاء كناريا رماديا في قفص مذهب والمديرة تنتظره في صالة الضيوف مرتدية ثوبا قطنيا ناعما وكل شيء حولها يلتمع: الكراسي الصقيلة، وخشب الساعة الجدارية والخوان وسطح الموقد المزين برخاميات، تمثل نمورا وطيورا وفتية آخرون كانوا يحضرون مبوقين بعرباتهم السريعة، ويمضون مقهقهين، وصبغة شعرها تتبدل كل يوم كلون الزعفران أو البنفسج القاتم، وهي تحملق في المرآة ويدها على صدرها: ـ هؤلاء.. هؤلاء فتياني… كل هؤلاء الضباط تلاميذي… ضباط الجيش والشرطة.. ماذا تقول أنت؟… أي ضابط يهمني.. بإشارة واحدة من إصبعي…. أما هو فكان يغفو في متجر البذور بين دبيب الفئران ورائحة الأسمدة بينما كنت طيلة الليل، أرى وأحيا أصابع جدي وهي تحتضر، وتشهق وتموت الواحدة تلو الأخرى، مطلا برأسي من برج مأذنة الجامع، مهوما بين جهامتي شرطيين وخلفنا شريط صلصال مظفور، أطبق على عنق المأذنة، حيث كنا في الغبار بينما مضى أبي ومديرة المدرسة الى حجرتهما في الظهيرة الغائمة، أما هي زوجة أبي فكانت لها مرآة مؤطرة بالهنود اتقد فضائها بالشهوات، كانوا هنودا رقيقين نحتوا من الصندل بملامح متنسكة سامية تكتنفها روح البوذا الأزلي، إنهم غير أولئك الذين كانت أصابع الجد تكفهر وتئن لدى ذكرهم: الهندوس والسيخ بلحاهم الوخمة وريش عمائمهم وأسلحتهم الانكليزية الأبدية، ولكن هؤلاء كانوا أرواحا مضيئة لمرآة من جملة أثاث استوائي أصيل، خلفه تاجر هندي صفى حساباته قبل أعوام، وشدت أصابعه النحيلة على أصابع جسدي بمرارة رهيبة، وهي مرآة بدت لجدي.. وكأنها البحر، مقارنة بسفينة كيان ابنته العائمة على نسيم الحياة، وكأنها البحر الذي ابتلعت أمواجه الليلية، علبة المصوغات القديمة، بينما كانت تجاعيد وجه المديرة تتلوى طوال الليل وتتشرب، متضورة، الدهون والمساحيق والعطور وثيابها الشفافة على الدوام والضوء وحده، الضوء الذي ينبعث من عيني المغمضتين ويتسلل في الظلام ليوهج ساقيها الورديتين المكتنزتين حينما كانت الاسطوانة التركمانية تعوي لحنا كئيبا، نوم الخدج، وفوهة بوق الحاكي تتجه نحو حفيف المطر، أما البذور التي كانت في جيب سترتي المظلمة فقد بدأت تهسهس وتهفو، لوجه سلامة المضيء، بخصلها الحمر المظفورة وثوبها الأبيض المكركش، إذ لم تكن سوى بذور خشخاش قديمة قدم رحلاتها الى نابلس وبيروت واسطنبول للبحث عن شيطانها الأبدي. إن سلامة العجوز قد احتفظت في علبها الصديئة حتى بأرواح الشياطين سألت جدي: هل للشياطين أرواح؟ ولكنه ظل على صمته، محدقا في الفراغ… إذ كانت سبابته تحتضر بقسوة: هذه السبابة العجفاء، المحاربة، الرقيقة، التي كانت تند منها، بين لحظة وأخرى اختلاجة ألم تثير الفزع أو الشفقة، محتضرة كأي روح نبيل وآثم، بصمت ملوكي، بينما كان نورها الذي يشبه ضوء الحباحب قد صار ينحسر عنها ببطء حتى انطفأت وتراخت وخمدت. افتقدت سلامة في المقبرة، حيث الأفراس الملونة، وتأكدت ظنوني عندما رأيتها للمرة الأخيرة تغيب بين غيوم الليل الحمر المدلهمة، فكم كانت الدمى في تلك الليلة كئيبة المنظر: واحدة وخمسون دمية، ببدلات عسكرية منتفخة، تصدر أزيزا، حملت شارات (ل ـ ح ـ م) ثم ضجيج جوقة الجنازة النحاسية ودخان الطلقات يتبدد في الهواء، بينما غمرت أكاليل الزهور قبر حكيم الدمى العجوز قرياقوس، وبدءوا بعد ذلك يقدمون الشوكولاتة والكاكاو…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.
- منقول عن:
http://www.alnaked-aliraqi.net/arti...LGGj7LxQTmHRLP5QWzR4gbVWSo1wEgn5ihJ8Y6SM1pf-E