(1)
في شهر أغسطس من عام 1930، كان هناك صبي يدعى تان بو وصبية تدعى لان هوا، جالسان على درجةسلم لا تغمرها الشمس. وكان خلفهما باب أحمر ضخم، مقبضه النحاسي على شكل أسد. وكان الصبي تان بو سيداً، والصبية جارية، وكانا يجلسان دائماً معاً. وكانت غمغمة ربة المنزل التي يرتفع صوتها خلفهما، تجعل الصبية تذهب جيئة وذهاباً مرة تلو الأخرى.
صبي وصبية يجلسان مع بعضهما البعض ويتحدثان بهدوء عن أحلامهما.
كان حلم تان بو دائماً عن البول. وكان يرى في حلمه أنه يبحث عن المبولة في كل مكان. وكان يجلس قلقاً مضطرباً في جناح البيت الجنوبي. وكانت المبولة الموضوعة في الحقيقة أمام السرير تختفي فجأة في الحلم. وكان البحث المستمر عنها في الحلم يصيبه بالتعب والإنهاك. بعدها يخرج إلى الشارع المزدحم بعربات الركشا، ويرى المتسولين يمشون بجانبه. وفي النهاية يفقد تان بو السيطرة على نفسه، ويتبول في الشارع.
ومن ثَم يتلاشى الحلم. وتكفهر السماء التي على وشك أن يشقها ضوء الفجر. وكان الشارع في الحلم هو سريره في الواقع. وحينما كان يفيق من نومه، يشعر بأن ملاءة السرير رطبة ساخنة. وبعد أن ينتهي كل ذلك، يتغير المشهد بسرعة فائقة إلى آخر. فيفتح الصبي عينيه المضطربتين الشاردتين، ويسترجع بألم بالغ تفاصيل الحلم الذي حلمه منذ قليل، إلى أن يصبح ذهنه صافياً في النهاية. ولذلك كان تَبَوُّلُه في الفراش يُشعره بالخجل الشديد. وما أن يتخلل الضوء الأبيض النافذة، يغلق الصبي عينيه من جديد، ويغرق في نوم عميق.
“وأنتِ؟”
كان يسأل بحماسة بالغة، وكان من الواضح أنه يأمل بأن تكون الصبية قد حلمت الحلمَ ذاته.
أما الصبية فقد قابلت هذا السؤال بخجل شديد، وغطت عينيها بكلتا يديها، وهي الطريقة التي تعبر بها الفتيات في العادة عن خجلهن.
“هل حَلُمتِ الحلمَ نفسه؟”
تابع الصبي أسئلته.
كان ثمة حارة يغمرها السكون تمتد أمامهم، وكانت الجدران المرتفعة على الجانبين مبنية من القرميد الأسود.
ومنذ زمن غير طويل نبتت بين شقوق القرميد أعشاب خضراء خجولة، تتمايلُ بصمتٍ مع النسيم.
“تكلمي.”
أصبح حديثه حاداً.
تضرج وجهها بحمرة، وأحنت رأسها وسردت حلماً مشابهاً لحُلُمِه. كانت تحلم بالبول كذلك، وتبحث في كل مكان عن المبولة.
“هل تبولتِ في الشارع كذلك؟”
كان الصبي منفعلاً بشدة.
ولكن الصبية هزت رأسها، وأخبرته أنها وجدت المبولة في النهاية.
هذا الاختلاف جعل الصبي يشعر بالخجل الشديد. فرفع رأسه ونظر إلى السماء أعلى الجدار، ورأى السحاب المنساب، وأشعة الشمس تلمع فوق أعلى جزءٍ من الجدار.
وفَكَّر: لماذا تجد المبولة دائماً، وأنا لا أجدها أبداً.
هذه الفكرة جعلت فؤاده يشتعل بالغيرة.
من ثَم سألها:
“هل تكون ملاءة سريرك رطبة عندما تستيقظين؟”
أومأت الصبية رأسها.
لا تزال النهاية متشابهة.
(2)
في شهر نوفمبر من عام 1939، لم يعد الشاب تاو بو ذا السبعة عشرة عاماً يجلس مع الصبية لان هوا ذات الستة عشر عاماً على درجة السلم أمام الباب. في تلك الأثناء، كان تان باو يرتدي بذلة الطلاب السوداء، ويحمل رواية لوشون وديوان شعر خو شي. ودائماً يكون حيوياً مرتفع المعنويات ما أن يدخل باحة المنزل. أما لان هوا فقد ورثت مهنة والدتها وعملت خادمة، ترتدي سترة مطبوعة بزهور وتنفذ أوامر ربة المنزل.
وكان لا مناص من المحادثات العابرة.
كان جسد تان بو ذو السبعة عشرة عاماً ينضح بحماسة وعنفوان الشباب، فكان في بعض الأحيان يعترض طريق لان هوا فجأة، ويسرد فَرِحَاً جَذِلاً شيئاً من الأفكار التحررية. حينها كانت لان هوا تطرق رأسها وتظل صامتة، فهما على كل حال لم يعودا طفلين بريئين. أو يمكن القول إن لان هوا بدأت تعي حقيقة أن تان بو سيدها. ولهذا فقد كان تان بو الغارق في مشاعر المساواة والحب المتبادل غير مدرك بأن المسافة بينهما تتباعد شيئاً فشيئاً.
في اليوم الأخير من شهر نوفمبر من ذلك العام، كانت لان هوا كعادتها تنظف ذلك الأثاث الأحمر القاني بقطعة قماش. أما تان بو فكان يجلس أمام النافذة يقرأ كتاب “طيور شاردة” لطاغور. وكانت لان هوا تحاول قدر استطاعتها عدم إصدار أي صوت أثناء التنظيف، وكانت ترنو إليه بنظرات مرتجفة بين حين وآخر. وتأمل ألا يعكر ذلك الهدوء أي شيء. ولكن القراءة يصاحبها دائماً بعض الإرهاق. وكان توقفه عن القراءة يعني أنه يود الحديث.
في السابعة عشرة من عمره، كان يحلم دائماً بأنه في سفينة عابرة للمحيطات، تتواثب على الأمواج بلا توقف. وكانت تلح عليه بعد استيقاظه رغبة شديدة غريبة بالسفر.
وبدأ الآن يحكي لها ما يشعر به من ضيق في الأحلام التي تراوده مؤخراً.
“أريد أن أذهب إلى يان آن”. قال لها.
تطلعت إليه بحيرة، وكان واضحاً، أن يان آن لا تمثل لها سوى فراغ.
ولم يكن في نيته أن يجعلها تفهم أكثر من ذلك، وكان بحاجة الآن أن يعرف تفاصيل الأحلام التي تحملها مؤخراً. فقد ظلت تلك العادة مستمرة منذ عام 1930.
عادت إلى خجلها السابق. من ثَم أخبرته أنها حَلُمَت حلماً مشابهاً لحُلُمِه. الاختلاف فقط أنها لم تكن في سفينة عابرة للمحيطات، بل كانت تجلس في هودج يحمله أربعة أشخاص، وترتدي حذاءً ذا لون زاهٍ جميل. وكان الهودج يطوف في جميع شوارع المدينة.
بعد أن سمعها ابتسم ابتسامة هادئة، وقال:
“إن حلمك ليس كحلمي.”
ثم أردف قائلاً:
“إنك تريدين الزواج”
في ذلك الوقت كانت بعض المناطق في المدينة قد احتُلَّت من قبل اليابانيين الذين يقطنون بها.
(3)
عام 1950، عاد تان بو الذي كان يعمل قائداً لفرقة الفنون التابعة لجيش التحرير بعد غيابه عن المنزل لمدة عشر سنوات. في ذلك الحين كانت البلاد قد تحررت بأكملها، وكان عائداً لزيارة منزله قبل نقله إلى العمل المدني.
وكانت لان هوا لا تزال تسكن في المنزل، ولكنها لم تعد خادمة والدته، بل أصبحت مستقلة بذاتها وتستمتع بحياتها. وقد أُعطيت لها غرفتان في المنزل.
هيئته المهيبة المشرقة التي دخل بها إلى المنزل تركت أثراً عميقاً في نفس لان هوا. التي كانت محاطة بالأبناء والبنات، وقد فقدت رشاقتها التي كانت تتميز بها من قبل، وقضت اهتزازات خصرها البدين على جمالها السابق.
قبل ذلك بمدة، حلمت لان هوا بمشهد عودة تان بو إلى المنزل، ولم تصدق عينيها حينما طابق الحلم الواقع تماماً. ولهذا بعد ظهر أحد الأيام، وبعد خروج زوجها، قصت على تان بو تفاصيل حلمها.
“وبهذا الشكل عدت إلى المنزل”
قالت لان هوا. ولم تعد خجولة كالسابق، فقد أصبحت أماً ولها أولاد، وخلت لهجتها من الحب والحنان حينما كانت تسرد تفاصيل الحلم، وكأنها كانت تتحدث عن صحن موضوع على أرضية المطبخ. كانت لهجتها عادية للغاية.
بعد أن سمعها تان بو تذكر أيضا حلماً حلمه في طريق عودته إلى المنزل. وكانت لان هوا في الحلم. ولكنها كانت صبية كالسابق.
“لقد حلمت بكِ أيضاً”
قال تان بو.
في تلك اللحظة أدرك تان بو أن لان هوا التي أصبحت صارمة للغاية، لا تود إهدار وقتها في الحديث عن جمالها في الماضي. أما بالنسبة لحلمه، فإنه سيحتفظ به لنفسه للأبد.
(4)
شهر فبراير من عام 1972. عاد تان بو الحزين البائس والذي اتهم بمعاداته للثورة إلى المنزل. كانت والدته قد فارقت الحياة، فعاد للاهتمام بإجراءات الدفن والجنازة.
حينئذ كانت لان هوا قد كبرت في السن. وكانت لا تزال بلا عمل كما كانت من قبل. وفي اللحظة التي دخل فيها تان بو إلى المنزل، كانت لان هوا تغسل مفارش بلاستيكية، وتعتمد على ذلك في كسب العيش.
كان تان بو يرتدي سترة قطنية سوداء بالية، وما أن مر بجانبها، حتى توقف لبرهة، وافترت شفتاه عن ابتسامة مرتجفة.
وما أن رأته لان هوا حتى همست بـ “أوه.”
ولهذا فقد سار إلى غرفته مطمئناً. وبعد مرور بعض الوقت، طرقت لان هوا باب غرفته، ثم سألته:
“هل تحتاج إلى شيء؟”
وعندما رأت الغرفة مرتبة ومنظمة، لم تدرِ ماذا تقول.
وقد كانت لان هوا هي من أعلمته بخبر وفاة والدته.
هذه المرة، لم يكن لدى الإثنان حلم يتحدثان بشأنه.
(5)
شهر أكتوبر عام 1985. عاد تان بو إلى المنزل بعد تقاعده، وكان يقضي يومه بالكامل يتشمس في باحة المنزل. كان لا يزال يشعر بالبرد في فصل الخريف.
وكانت لان هوا عجوزاً، ولكنها كانت بصحة جيدة. يحيطها الكثير من الأحفاد والحفيدات. وتقضي معهم مدة طويلة، ولم تكن تشعر بالتعب. وفي الوقت نفسه تدخل وتخرج من المنزل، وتقوم بالأعمال المنزلية.
بعدها وضعت طستاً من الملابس على البلاط، وبدأت في دعكها.
زَرَّ تان بو عينيه، ونظر إلى حركة ذراعيها وكيف تتحركان بقوة. وفي غمرة انغماس يديها في غسل الملابس، قال لها بحزن:
إنه يحلم مؤخراً بأنه يمشي على جسر، ثم فجأة ينهار الجسر. وحين يدخل المنزل، يسقط قرميد السطح فوق رأسه.
لم يصدر عنها أي رد فعل، وأكملت غسل الملابس.
سألها تان بو:
“هل حلمتِ حلماً مشابهاً؟”
“لا، لم أحلم”
هزت لان هوا رأسها.
يو هوا:
ولد في عام 1960 في مدينة هانتشو بمقاطعة تشجيانغ في الصين. عَمِل طبيب أسنان لمدة خمس سنوات ثم تحول إلى الكتابة والعمل الإبداعي في عام 1983، لأنه وكما قال لم يحب أن “ينظر إلى أفواه الناس طوال اليوم”. صدر له العديد من الروايات والقصص القصيرة، من أشهرها: رواية (على قيد الحياة)، رواية (الأشقاء)، ورواية (بائع الدم). وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية. حصل على العديد من الجوائز منها: جائزة (Grinzane Cavour Prize) عام 1998، وجائزة (جيمس جويس) عام 2002، وهو أول كاتب صيني يحصل على هذه الجائزة، وجائزة كتب الصين للمساهمة الخاصة عام 2005. ويعتبر يو هوا أحد أهم وأبرز الكتاب الصينيين المؤثرين في حركة الأدب الصيني الحديث والمعاصر إلى جانب العديد من الكتاب مثل مويان وسوتونغ.
* نقلا عن:
تاريخ شخصين
في شهر أغسطس من عام 1930، كان هناك صبي يدعى تان بو وصبية تدعى لان هوا، جالسان على درجةسلم لا تغمرها الشمس. وكان خلفهما باب أحمر ضخم، مقبضه النحاسي على شكل أسد. وكان الصبي تان بو سيداً، والصبية جارية، وكانا يجلسان دائماً معاً. وكانت غمغمة ربة المنزل التي يرتفع صوتها خلفهما، تجعل الصبية تذهب جيئة وذهاباً مرة تلو الأخرى.
صبي وصبية يجلسان مع بعضهما البعض ويتحدثان بهدوء عن أحلامهما.
كان حلم تان بو دائماً عن البول. وكان يرى في حلمه أنه يبحث عن المبولة في كل مكان. وكان يجلس قلقاً مضطرباً في جناح البيت الجنوبي. وكانت المبولة الموضوعة في الحقيقة أمام السرير تختفي فجأة في الحلم. وكان البحث المستمر عنها في الحلم يصيبه بالتعب والإنهاك. بعدها يخرج إلى الشارع المزدحم بعربات الركشا، ويرى المتسولين يمشون بجانبه. وفي النهاية يفقد تان بو السيطرة على نفسه، ويتبول في الشارع.
ومن ثَم يتلاشى الحلم. وتكفهر السماء التي على وشك أن يشقها ضوء الفجر. وكان الشارع في الحلم هو سريره في الواقع. وحينما كان يفيق من نومه، يشعر بأن ملاءة السرير رطبة ساخنة. وبعد أن ينتهي كل ذلك، يتغير المشهد بسرعة فائقة إلى آخر. فيفتح الصبي عينيه المضطربتين الشاردتين، ويسترجع بألم بالغ تفاصيل الحلم الذي حلمه منذ قليل، إلى أن يصبح ذهنه صافياً في النهاية. ولذلك كان تَبَوُّلُه في الفراش يُشعره بالخجل الشديد. وما أن يتخلل الضوء الأبيض النافذة، يغلق الصبي عينيه من جديد، ويغرق في نوم عميق.
“وأنتِ؟”
كان يسأل بحماسة بالغة، وكان من الواضح أنه يأمل بأن تكون الصبية قد حلمت الحلمَ ذاته.
أما الصبية فقد قابلت هذا السؤال بخجل شديد، وغطت عينيها بكلتا يديها، وهي الطريقة التي تعبر بها الفتيات في العادة عن خجلهن.
“هل حَلُمتِ الحلمَ نفسه؟”
تابع الصبي أسئلته.
كان ثمة حارة يغمرها السكون تمتد أمامهم، وكانت الجدران المرتفعة على الجانبين مبنية من القرميد الأسود.
ومنذ زمن غير طويل نبتت بين شقوق القرميد أعشاب خضراء خجولة، تتمايلُ بصمتٍ مع النسيم.
“تكلمي.”
أصبح حديثه حاداً.
تضرج وجهها بحمرة، وأحنت رأسها وسردت حلماً مشابهاً لحُلُمِه. كانت تحلم بالبول كذلك، وتبحث في كل مكان عن المبولة.
“هل تبولتِ في الشارع كذلك؟”
كان الصبي منفعلاً بشدة.
ولكن الصبية هزت رأسها، وأخبرته أنها وجدت المبولة في النهاية.
هذا الاختلاف جعل الصبي يشعر بالخجل الشديد. فرفع رأسه ونظر إلى السماء أعلى الجدار، ورأى السحاب المنساب، وأشعة الشمس تلمع فوق أعلى جزءٍ من الجدار.
وفَكَّر: لماذا تجد المبولة دائماً، وأنا لا أجدها أبداً.
هذه الفكرة جعلت فؤاده يشتعل بالغيرة.
من ثَم سألها:
“هل تكون ملاءة سريرك رطبة عندما تستيقظين؟”
أومأت الصبية رأسها.
لا تزال النهاية متشابهة.
(2)
في شهر نوفمبر من عام 1939، لم يعد الشاب تاو بو ذا السبعة عشرة عاماً يجلس مع الصبية لان هوا ذات الستة عشر عاماً على درجة السلم أمام الباب. في تلك الأثناء، كان تان باو يرتدي بذلة الطلاب السوداء، ويحمل رواية لوشون وديوان شعر خو شي. ودائماً يكون حيوياً مرتفع المعنويات ما أن يدخل باحة المنزل. أما لان هوا فقد ورثت مهنة والدتها وعملت خادمة، ترتدي سترة مطبوعة بزهور وتنفذ أوامر ربة المنزل.
وكان لا مناص من المحادثات العابرة.
كان جسد تان بو ذو السبعة عشرة عاماً ينضح بحماسة وعنفوان الشباب، فكان في بعض الأحيان يعترض طريق لان هوا فجأة، ويسرد فَرِحَاً جَذِلاً شيئاً من الأفكار التحررية. حينها كانت لان هوا تطرق رأسها وتظل صامتة، فهما على كل حال لم يعودا طفلين بريئين. أو يمكن القول إن لان هوا بدأت تعي حقيقة أن تان بو سيدها. ولهذا فقد كان تان بو الغارق في مشاعر المساواة والحب المتبادل غير مدرك بأن المسافة بينهما تتباعد شيئاً فشيئاً.
في اليوم الأخير من شهر نوفمبر من ذلك العام، كانت لان هوا كعادتها تنظف ذلك الأثاث الأحمر القاني بقطعة قماش. أما تان بو فكان يجلس أمام النافذة يقرأ كتاب “طيور شاردة” لطاغور. وكانت لان هوا تحاول قدر استطاعتها عدم إصدار أي صوت أثناء التنظيف، وكانت ترنو إليه بنظرات مرتجفة بين حين وآخر. وتأمل ألا يعكر ذلك الهدوء أي شيء. ولكن القراءة يصاحبها دائماً بعض الإرهاق. وكان توقفه عن القراءة يعني أنه يود الحديث.
في السابعة عشرة من عمره، كان يحلم دائماً بأنه في سفينة عابرة للمحيطات، تتواثب على الأمواج بلا توقف. وكانت تلح عليه بعد استيقاظه رغبة شديدة غريبة بالسفر.
وبدأ الآن يحكي لها ما يشعر به من ضيق في الأحلام التي تراوده مؤخراً.
“أريد أن أذهب إلى يان آن”. قال لها.
تطلعت إليه بحيرة، وكان واضحاً، أن يان آن لا تمثل لها سوى فراغ.
ولم يكن في نيته أن يجعلها تفهم أكثر من ذلك، وكان بحاجة الآن أن يعرف تفاصيل الأحلام التي تحملها مؤخراً. فقد ظلت تلك العادة مستمرة منذ عام 1930.
عادت إلى خجلها السابق. من ثَم أخبرته أنها حَلُمَت حلماً مشابهاً لحُلُمِه. الاختلاف فقط أنها لم تكن في سفينة عابرة للمحيطات، بل كانت تجلس في هودج يحمله أربعة أشخاص، وترتدي حذاءً ذا لون زاهٍ جميل. وكان الهودج يطوف في جميع شوارع المدينة.
بعد أن سمعها ابتسم ابتسامة هادئة، وقال:
“إن حلمك ليس كحلمي.”
ثم أردف قائلاً:
“إنك تريدين الزواج”
في ذلك الوقت كانت بعض المناطق في المدينة قد احتُلَّت من قبل اليابانيين الذين يقطنون بها.
(3)
عام 1950، عاد تان بو الذي كان يعمل قائداً لفرقة الفنون التابعة لجيش التحرير بعد غيابه عن المنزل لمدة عشر سنوات. في ذلك الحين كانت البلاد قد تحررت بأكملها، وكان عائداً لزيارة منزله قبل نقله إلى العمل المدني.
وكانت لان هوا لا تزال تسكن في المنزل، ولكنها لم تعد خادمة والدته، بل أصبحت مستقلة بذاتها وتستمتع بحياتها. وقد أُعطيت لها غرفتان في المنزل.
هيئته المهيبة المشرقة التي دخل بها إلى المنزل تركت أثراً عميقاً في نفس لان هوا. التي كانت محاطة بالأبناء والبنات، وقد فقدت رشاقتها التي كانت تتميز بها من قبل، وقضت اهتزازات خصرها البدين على جمالها السابق.
قبل ذلك بمدة، حلمت لان هوا بمشهد عودة تان بو إلى المنزل، ولم تصدق عينيها حينما طابق الحلم الواقع تماماً. ولهذا بعد ظهر أحد الأيام، وبعد خروج زوجها، قصت على تان بو تفاصيل حلمها.
“وبهذا الشكل عدت إلى المنزل”
قالت لان هوا. ولم تعد خجولة كالسابق، فقد أصبحت أماً ولها أولاد، وخلت لهجتها من الحب والحنان حينما كانت تسرد تفاصيل الحلم، وكأنها كانت تتحدث عن صحن موضوع على أرضية المطبخ. كانت لهجتها عادية للغاية.
بعد أن سمعها تان بو تذكر أيضا حلماً حلمه في طريق عودته إلى المنزل. وكانت لان هوا في الحلم. ولكنها كانت صبية كالسابق.
“لقد حلمت بكِ أيضاً”
قال تان بو.
في تلك اللحظة أدرك تان بو أن لان هوا التي أصبحت صارمة للغاية، لا تود إهدار وقتها في الحديث عن جمالها في الماضي. أما بالنسبة لحلمه، فإنه سيحتفظ به لنفسه للأبد.
(4)
شهر فبراير من عام 1972. عاد تان بو الحزين البائس والذي اتهم بمعاداته للثورة إلى المنزل. كانت والدته قد فارقت الحياة، فعاد للاهتمام بإجراءات الدفن والجنازة.
حينئذ كانت لان هوا قد كبرت في السن. وكانت لا تزال بلا عمل كما كانت من قبل. وفي اللحظة التي دخل فيها تان بو إلى المنزل، كانت لان هوا تغسل مفارش بلاستيكية، وتعتمد على ذلك في كسب العيش.
كان تان بو يرتدي سترة قطنية سوداء بالية، وما أن مر بجانبها، حتى توقف لبرهة، وافترت شفتاه عن ابتسامة مرتجفة.
وما أن رأته لان هوا حتى همست بـ “أوه.”
ولهذا فقد سار إلى غرفته مطمئناً. وبعد مرور بعض الوقت، طرقت لان هوا باب غرفته، ثم سألته:
“هل تحتاج إلى شيء؟”
وعندما رأت الغرفة مرتبة ومنظمة، لم تدرِ ماذا تقول.
وقد كانت لان هوا هي من أعلمته بخبر وفاة والدته.
هذه المرة، لم يكن لدى الإثنان حلم يتحدثان بشأنه.
(5)
شهر أكتوبر عام 1985. عاد تان بو إلى المنزل بعد تقاعده، وكان يقضي يومه بالكامل يتشمس في باحة المنزل. كان لا يزال يشعر بالبرد في فصل الخريف.
وكانت لان هوا عجوزاً، ولكنها كانت بصحة جيدة. يحيطها الكثير من الأحفاد والحفيدات. وتقضي معهم مدة طويلة، ولم تكن تشعر بالتعب. وفي الوقت نفسه تدخل وتخرج من المنزل، وتقوم بالأعمال المنزلية.
بعدها وضعت طستاً من الملابس على البلاط، وبدأت في دعكها.
زَرَّ تان بو عينيه، ونظر إلى حركة ذراعيها وكيف تتحركان بقوة. وفي غمرة انغماس يديها في غسل الملابس، قال لها بحزن:
إنه يحلم مؤخراً بأنه يمشي على جسر، ثم فجأة ينهار الجسر. وحين يدخل المنزل، يسقط قرميد السطح فوق رأسه.
لم يصدر عنها أي رد فعل، وأكملت غسل الملابس.
سألها تان بو:
“هل حلمتِ حلماً مشابهاً؟”
“لا، لم أحلم”
هزت لان هوا رأسها.
يو هوا:
ولد في عام 1960 في مدينة هانتشو بمقاطعة تشجيانغ في الصين. عَمِل طبيب أسنان لمدة خمس سنوات ثم تحول إلى الكتابة والعمل الإبداعي في عام 1983، لأنه وكما قال لم يحب أن “ينظر إلى أفواه الناس طوال اليوم”. صدر له العديد من الروايات والقصص القصيرة، من أشهرها: رواية (على قيد الحياة)، رواية (الأشقاء)، ورواية (بائع الدم). وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية. حصل على العديد من الجوائز منها: جائزة (Grinzane Cavour Prize) عام 1998، وجائزة (جيمس جويس) عام 2002، وهو أول كاتب صيني يحصل على هذه الجائزة، وجائزة كتب الصين للمساهمة الخاصة عام 2005. ويعتبر يو هوا أحد أهم وأبرز الكتاب الصينيين المؤثرين في حركة الأدب الصيني الحديث والمعاصر إلى جانب العديد من الكتاب مثل مويان وسوتونغ.
* نقلا عن:
تاريخ شخصين