فضاءات شاسعة تزخر بالتلاشيات. غيوم تنحي وتهيمن على بحر يمد لسانه الأجعد إلى خلجان متعرجة ومغبرة يغلفها الضباب بأردية رصاصية تتلاشى بين تمدد الشواطئ وانحناءاتها، فتبرز من بعيد أشباح أودية رمادية ثلماتها الموحشة تطل عبر المسافات المتفككة بين الكثافة والوضوح.
هي تنفرط وكأن الأكف الشيطانية تطبق عليها بقوة وتضمها إليها. تسحبها ثم تغيبها في ظلام الأعماق (خطاه المنزلقة تغوص في أودية الرمل. يحس طراوة ذكرى قريبة. يقمع جهشات، وبصمت، وقوة نفس يترك رقعة المماحي الخالية تستفز خياله الحزين. آخر كوخ صفيحي يتداعى، فيه جدته التي تلفظ الأنفاس الأخيرة، وهي آخر الباقين من سلالة عريقة أنهكها الجوع.
أحياء صفيح هاجرت برمتها إلى جنوب الصحراء. حمل المهاجرون لوائح صفيحهم المتداعي، والفرش الرثة، والأواني المبعوجة في هجرة جماعية، كان ذلك بأمر محير من مؤسسات لا أحد يعرف مراكزها الحقيقية. هو يذكر الإناء الذي تركت له فيه جدته حساء ساخنا وشرع يلعق مثل كلب شره وعيناه تتطلعان إلى السقف المثقوب الذي يرى من خلاله عورة السماء.
في ذلك الصيف الذي لا ينسى كان تتوجع والناس يخلون المنطقة، لكنه لا يدرك شراسة القدر يوم استيقظت في روحه بذرة المشاكسة ثم السير عكس الطريق الذي سار عليه المهاجرون).
يجلس تحت ظل صخرة ضخمة. الذاكرة تنضغط. تتحطم. يحسها تنفلت وتغيب في أطياف غامضة. يخرج من أصقاع مظلمة ويزحف ليلا إلى قرى الصحراء يطرق أبوابها المدرعة بالصفيح، الرمال يحملها الهواء على طبقات من الأجنحة فيما يبحث عن أرغفة وأحشاف يابسة. كل الأكواخ الضائعة في هاتيك المجاهيل السرابية تغلق أبوابها بوجهه وتتدثر بلحف الرمال.
يعرف أنه لا أحد لديه خبر فائض ولكنها المعدة اللجوج ولوعة الروح القاهرة تعجلان خطاه للرحيل عبر امتداد المنافي.
تلك الهواجس تلوح بخراطيمها فتطول. تتساوق عبر الخطى القلقة التي تدب فوق بحران الفراغ الرملي (يعصف به دوار. جوع خرافي. في المرفأ البعيد حيث البحارة الأجانب يلقون أكداسا من فضلات أطعمتهم وسط المزابل المكشوفة في العراء، يشرع بالاهتداء إلى ذلك المكان الذي يحس فيه برحمة الرمال التي تلفحها شمس حارقة. المسافة بعيدة جدا عن المرفأ. يعثر على كميات من الأطعمة. ولم يزل منهوما ويستسيغ اللقمة الأولى).
***
هنالك الكثافات: غيوم تنعزل/ ثمة خطوط لا تني تتوازى بين أسلاك مسافات مرئية/ بياضات تأفل تفضح وجوه المرافئ/ الصخور المتناثرة وراء أودية رمل مرصوصة تشهر أضراسها/ بياضات تأفل/ غروب حزين/ الخوار يثرثر تحت الجلد الصلد. تحت القدمين/ تحت الجفنين الشاحبين. ثمة حجارة. عطفات دروب تتعرج بخطاه، فيما القمم تعصف بشموخ الآلهة الغائبة. يصيخ بحنان وخوف رهيفين إلى عواءات غريبة يظنها الوحوش/ الوحوش هي كل ذرة رمل/ كل غفوة للروح المارد/ الوحوش تهيمن على المكان (وكنت أحمل معي زادا لبقية يومي. في ساعة من عمر الوجود يوم اتجهت إلى مقاه تنغرز في السواحل.)
(1)
وفي وثبة من وثبات خطاي مثُلتْ جدتي قبالتي، بعينيها السوداوين الحزينتين وقامتها القصيرة الناحلة. كانت ترتدي ثوبا أزرق مرقشا بخطوط سود مغبرة، ونجوم رصاصية. تضعني في حجرها/ تحكي لي عن أبي العليل، الذي أرسل شعره الأسود الطويل إلى كتفيه/ أبي العليل الذي لم تره عيناي/ تقول كان يرتدي دشداشة رمادية حائلة لا يملك غيرها/ وأمي النحيفة التي أنجبتني وماتت أثناء الولادة/ تحكي لي عن عيونهما الحلوة وشبابهما الضائع/ أنت آخر الباقين من هذه السلالة، سأرحل وتبقى/ تحكي لي عن ليلة غبراء ضعتُ فيها وكنت أحبو وكيف سقطت في حفرة عميقة مظلمة/ تحكي لي عن عمقها وهي عبارة عن بئر جافة يخافها سكان الصفيح/ نجوت من الموت بأعجوبة/ لن يطول العمر بأحد من هذه السلالة التي أبيدت في الرمال/ وفيما أخطو: الحفرة تكبر في ذاكرتي/ تكبر وأكبر والفراغ الأسود يتكاثف ويغمرني.
عثرت على غرباء جائعين مثلي. صاروا أصدقائي/ هم ثلة من الوجوه الشاحبة يرتدون قمصانا بيضا وسراويل طويلة، بلون البحر، وأحذية ذات أعناق طويلة منكمشة مصفرة بغبرة الرمال
تراهم يخطون عبر المقاهي الحجرية المستطيلة ذات الشرفات الصفيحية المفتوحة على منافذ البحر وفي أكفهم كتب سميكة أوراقها تتطاير في الريح يعزفون على نغمة جريحة من أنغام الكبرياء.
جذورهم تغوص في رمال الصفيح/ يتطلعون بعيون ألقة إلى شعاع البحر البعيد وأخيلة طموحة إلى غد مستحيل: هنالك الورم الرملي يترك أوشامه على جفونهم الغضة. مرة فرشت طعامي على طاولة المقهى الخشبية صرت شهما في إغداق كرمي عليهم فهم فقراء، وآخرون مثلي. حين أحسوا حقيقة الطعام الذي يأكلون انفضوا من حولي في عزة وكبرياء، بصقوا لقماتهم الممضوغة من أفواههم السود. كنت لا أعرف سرّ عزوفهم عن مخالطتي بعد حين عثرت على الجواب الشافي الذي طالما أرّقني ليالي غربتي في الميناء/ أحدّث نفسي: لِمَ هؤلاء الغرباء يموتون جوعا فيما الفضلات تملأ المزابل، الآن عرفت لك بالنفي المرير (هوس جنوني. عزلة تضرب عنقي. رحلت إلى مدن منسية تحاذي سواحل بعيدة. مدن يملأها النعاس والضجر. الرمال تنحني لسورات السكون. تنحرف بموازاة المدى الرمادي. عشتُ أياما حمرا. معي صرتي وهي تبعد عني كابوس الجوع. دفعت خطاي المهزوزة يؤرجني ظمأ لا يرتوي وبي توق شديد إلى النوم العميق ونسيان العالم.شبعت لذة من الجائعات وحنينا إلى روحي. رغم هذا فإن قلبي كان قلقا وخلفي حائط صلد أتكئ عليه وقت المحن: المزابل المتروكة في العراء. ظننت أني ودعّت الجوع إلى الأبد، إذ طالما هناك عزة وكرامة في هذا العالم ستبقة المزابل متروكة في فجاج الأرض.
***
في المرفأ الحزين الأضواء تخبو والموج الفضي اللامع يتكسر بشجن. رجعت. يقودني سر الحنين/ وتلفحني حرائق الوحدة/ صاروا يسمونني المسافر الغريب/ أنام على الرمال المنقوعة/ تتناهى إلى سمعي أصوات البحر/ موسيقى دائرية تسقط من سموات بعيدة/ موسيقى بيضاء تغوص في هوات مخيفة/ موسيقى تكبر وتنطفئ في حفرة الأذن ثم تنداح مثل الموجة تعوم على الهواء/ تكبر، تكبر، ثم تتلاشى.. وحين أطلّ الفجر الرصاصي غسلت وجهي بماء البحر المالح مزمعا الرحيل إلى القمامة.
لقد نفدت ذخيرتي وانكمشت صرتي وتقلّصتْ. ولكن بي خوف غريب من هوة تجرفني إليها، ظلمات أعماقها، تغيب رؤاي عن العالم إذ كلّما تولد ساعة من عمر الزمن تولد معها شمس قد تأفل وأنطفئ معها/ هنالك الرمال تسقي وتهاجم الشواطئ مثل ذئاب شهباء تدوّي، صخابة، عنيفة، تمسح المرافئ بذيولها الصفر/ تجفل منها الوجوه، تتلاشى، فيما الموج المصطرع يلطم الشاطئ بضربات موتورة.
(2)
بخطوي/ بشجني/ بغربتي، …، ..مثُلتْ أمامي الحفرة المظلمة، بكيانها المتجسم، فهي تكبر ومن حولي يكبر القاع الرخو/ يكبر الفراغ الصلصالي المنفلت/ يكبر الخوف، …، …، .. غابت عني الأشياء الأليفة وعيون جدتي علقتها على خيط القاع وغابت، وأنا غبت أيضا عن الوقت، …، …، .. الوقت، الوقت، الوقـــ، الو، الـــ…، …، .. الوقت غيبني.
لم أكن مصدقا عيني. وجدت شيئا مهولا، شيئا عجيبا:عشرات الأطفال العراة/ مئات النساء المجذومات/ والشيوخ المتسخين، أعمارهم بعمر الخرائب القديمة/ رأيتهم يقضمون الأرغفة المغموسة بالوحل والحليب، جلت بناظري حول المكان/ طفقت أحدق في عين الشمس المفتوحة كفوهة بركان، …، .. على يميني علبة صفيح فارغة، كبيرة الحجم، وبعض الخرق القذرة المنثورة فوق النفايات. قضمت قليلا من الفتات. تجمهر حولي أطفال عراة/ حدقوا في وجهي قلت كيف اهتديتم إلى هذا المكان النائي. قالوا وكيف اهتديتَ أنت إليه، أيها المسافر الغريب…ن هنا لن يسمحوا إلا للجياع المقطوعين، قلت إنها أرض الله الواسعة ولا أحد يملكها.
– نحن نملكها.
– أنتم: ها. ها.
رفضت لعبة الجدال/ انسحبت/ طفت حول الوجوه/ الأشياء.
وحين ارتكنت ناحية بعيدة حملوا صفائحهم المملوءة بالأطعمة الفاسدة وتاهوا في دروب الصحراء، مخلفين وراءهم ركاما من القذرات، والخرق، وبعض الفتات الذي لا يغني ولا يشبع من جوع…
***
يبقى جالسا على صخرة وحيدة وسط المزابل المنثورة/ يتأمل متاهات العالم حيث الشمس تفرش رموشها فوق الرمال/ سورات الفكر تدوي في الخيال/ جنّ الليل البهيم/ قوس الأفق يطبق فوق سماء الظلام.
عاد أخيرا إلى المرفأ ينشد صحبة الطلبة الجياع. سهر ليلته معهم وشرب شايهم/ كانوا يقرؤون دروسا في علوم البحار/ نظروا إلى عينيه الزائغتين/ قالوا أين وصلت؟ لم يحر جوابا/ يخفض رأسه إلى الأرض/ تبتلع عيناه الرمال.. بغتة يجيب على سؤالهم ((وصلت إلى أسوأ الأحوال. شحّت الأطعمة. كنت أظن نفسي الرجل الوحيد في هذا العالم يصول ويجول في مزابل الأرض لكنني أدركت بلادتي حين رأيت جياعا بعدد حبات الرمال/ كانوا في إجازة ثم عادوا إلى مزابلهم)) ربتوا على كتفه/ قالوا جرّب حظّك غدا، عسى أن يكون أفضل، قال سأجرب ((في عتمة الإياب رمال تتماوج. تستوي. تتوثب/ والهواء البارد يلفح وجهه الحزين. في كل خطوة عثرة/ وكل عثرة تدفن معها بهجة العمر الآتي. لا يدري، لا يدري كيف؟ ماذا يرى؟ أطفال عراة مثل الحدائق اللحمية/ يشبكون أياديهم في حلقات دائرية/ يرقصون ويهتفون ويصرخون/ يرى الكلاب والشيوخ والنساء المجذوبات أكثر مما يتصوره العقل والخيال/ يضحك ضحكا هستريا: لم أكن مصدقا هذه الاستحالة/ يرتفع في داخله هتاف ((العالم يسقط أسفل الدركات.. ماذا ستفعلون يا عراة الصحراء؟ ها أنت ترون البشر أكثر من النفايات، …، …، .. والكلاب تتناسل، ………………………………..))
احتشدوا فوق القمم القذرة. الحزن الأسود يشع من عيونهم/ ثمة شيخ هرم يلملم عظامه ويقدح شجاعته/ قامته عالية وله لحية بيضاء كالقطن/ مدّ يده إلى امرأة أربعينية قوية/ سحبته إليها/ تسلّق كومة النفايات/ وقف يتأمل الحشود مثل ديك هالك/ مدوا أعناقهم إليه ((بوركت يا شيخنا العظيم)) نقل نظراته في عمق العيون ((أعتقد يا أولادي أنهم لا يفكرون في مستقبل كلابهم في أيضا تتناسل وتتكاثر مثلنا نحن معشر البشر/ بل تتكاثر بالمئات والعشرات وليس من المعقول أن تهب تلك النفايات والأطعمة هدرا بينما كلابهم ليس لها ضمان… فماذا ترون..))
(3)
فجيعة الحاضر الرملي/ جدل العراة مع شيوخهم الحكماء/ وثوب الوقت المتنمر على الأقدام النابتة في جذور الأرض والمرايا الروحية المحطمة بقبضات بؤسنا الأزلي/ كل ذلك ينحّي عزمي، فأنحرف إلى أقرب صفيحة، أبول فيها/ أقعي مثل جرو مهزوز/ حتى الشمس هي عذابي إزاء الظلمة الصرصارية تحت، في الهوة المظلمة، داخل الصلصال الأرضي/ في القاع/ تلك الحفرة التي حذرتني منها جدتي يوما ما، وقالت سقطت فيها ونجوت بأعجوبة كان من المفروض أن تفنى السلالة برحيلي/ أنا الآن أشك ببقائها/ أتذكر الشجن/ لا أدري كيف خرجت إلى نور عذاب الأرض/ أحيانا ظلمة الأعماق تهدهد طفل الأمل البازغ في سويداء القلب أتذكرها/ أتذكر عثرة المصير، وأنسلخ من إخطبوط التسفسط، ..أغمض عيني/ أعصر ليمونة العين/ أسكبها على الرمال لكي أنسى، …، ولا أنسى، أنا أدري، بأني لن أنسى: الوقت الميت في عقلي.
يحملون الصفائح الفارغة وينطلقون على المدى الرملي في مسيرة كبرى باسم جياع الأرض.
والآن ستبدأ بؤرة النفايات حتى تخوم المرافئ البعيدة، ينشدون معا أغنية الجوع الأزلي ((نحن شعب الصحراء جئنا لنمحو عار الظلم)).
***
كان الصباح باردا، وقطرات الندى تتساقط على الشجيرات الصحراوية. ثمة نغم يتلوّى/ يخبّ تحت الرمال الخرساء/ يصل مع الحصى/ يعلو، يعلو، ..، ../ اتجهوا إلى المرفأ الكبير/ تدفقت حشودهم الفقيرة على السواحل المكتظة بالبحارين/ هرع إليهم العمال يمجدون المسيرة الهادرة/ فتحوا لهم الأبواب/ أوصلوهم على الدكات إلى السفن الرابضة على الأرصفة/ أدخلوهم الأبنية والمطاعم/ التهم الجياع كل شيء/ لعقوا الصحون/ مسحوا القدور بألسنتهم الشهوانية/ صعدوا السلالم/ وتسلّقوا الحبال إلى البواخر البعيدة. صاح مدير المرفأ الأجنبي: (ماذا يجري أيها الجبناء القذرين.. القوا بهم في عرض البحر/ هيا أبرقوا إلى أساطيلنا…).
كنت معهم حين هجمت علينا كلابهم البوليسية المدربة. تساقط الجياع في عرض البحر. غرق منهم عشرات العراة والمجذوبين/ الحصار يطوقنا من كل الجهات/ الرصاص يمطر/ شرعوا يمشطون الأبنية والسواحل/ أبواق السفن تنعب كالغربان/ صفارات الإنذار تصدح/ أصوات نحاسية بلون المطاط الكثيف.
خفت وزحفت على حافة الماء/ غصت/ جذفت/ لملمت خوفي تحت مياه البحر وعلكته بأسناني/ لأول مرة في حياتي أرى الأطفال الغرقى يذوقون حلاوة الطهر ومرارة العذاب الرهيب/ أفواههم مفتوحة ولم تعرف أجسادهم الغسل/ عيونهم مفقوءة تنهشها الأسماك/ تجنبت القروش المفترسة/ صارعت اللجج/ تشبثت بلوح خشب عائم وسط البحر/ أنا أحمد الله على ذلك/ تسلقت وارتجفت/ وأشرع في الغياب/ أغيب، أغيب عن الوعي.
(4)
عادة التجوال مريعة: الذات تضيع. ريح البحر تعوي وتضيع. الأيام الرملية تنسكب وتضيع/ لا أدري كم بعدت بي روح الدقائق/ …، بكثافة ليل ظلمة سماء/ ضعت يوح رحت على المزابل بإيعاز من الطلبة الأصدقاء/ …، ضعت… جدتي لفتني بردائها ودخلت معي حفرة النسيان لنختفي معا عن عين الشمس،: ضعنا/ خرجت لا أدري إلى أين وصلت، لا، لا أدري أبدا أن الصحراء ضياع في ضياع…
أنفاسي استرددتها. جذفت بلا هداية. حاذرت السفن التابعة للإسطول. ثمة سفن قادمة من الآفاق البعيدة.. إلا الأمواج تلطمني بعضلاتها المفتولة/ أرتطم بجدار الهواء/ إني أسمع صوت المسؤول الأجنبي يصيح بالسماعة (لا قمامة بعد اليوم.. كل ذلك نتيجة للفضلات التي أسديناها للجياع القذرين). صارت ريح الشواطئ المضمخة بالدم تبتلعها الأمواج/ وانحسرت شمس البحر الخضراء. طفقت أغني أنشودة الجياع الغارقين/ سرحت بصري في الأفق البحري/ طيور بأجنحة عملاقة تترك الموج وتعوم في الفضاء/ رأيت الأشلاء البشرية تتشظى، تتمدد/ تعوم/ ترتفع ثم تغوص تحت الموج/ ويجلدني الملح البراق/ لامست جفون البحر فقال لي (أنا وضعت قوانين الأبدية. الجوع بداية الأزل. لا تعجب. وتلك اللحظة بداية البدابات) ارتددت. همست لنفسي (هو ذا بحر العالم الأخرق يعلمني قوانينه العمياء. لا تهمني تلك الأبجديات البائسة، فلا بحث عن سبل الخلاص).
***
ثمة سفينة قادمة من الجهة المعاكسة يلوح لها بيده. تقترب. قبطانها الشاب يلقي إليه طوق النجاة، ثم يسحبونه بحبل. يحملونه إلى مقصورة على السطح يغسلون وجهه بالماء العذب. يزيتون جسمه بدهن الحيتان. قال له القبطان الشاب: نحمد الله على سلامتك ويؤسفنا كل الذي يجري لكم في هذه الصحراء، ماذا؟ يفغر فمه/ يتطلع إليه/ ماذا يجري أتدرون؟ قال له القبطان الذي يرتدي قميصا أصفر فضفاضا، ووجهه الأسمر يذكرك بلون الشمس قبل المغيب: لا أدري سمعنا حكاية الجياع/ كيف بالله عرفتم ذلك (الغرقى يملأون البحار والمرافئ والآن في حالة طوارئ. الجثث تطفو على الشواطئ إنهم يضطرون لإحراقها).
يغفو. ليل بارد ينقله إلى أرض بلا بشر. في الغبش أيقظة القبطان بحنان. الهواء الزجاجي يتكسر كان البحر رصاصيا. سنصل إلى المرفأ الجديد. قال له: ستهبط إليه. الوقت يناسبك. أدركْ ما أعني. هذا الوقت بالذات يساعدك على الانفلات والخلاص. قد تتعرض السفينة إلى حملة تفتيش. أنت أيضا ساعدني، لا أعرف اسمك (خفت. ماذا يريد من اسمي. طاقة الحزن أرغمتني. لا. تلعثمت. لا لا. ماذا أقول ارتبكت. ماذا يريد من اسمي، أتعرفني لماذا تريد ذلك؟ سحب وجهه إليه. ضمه إلى صدره. قبله والمسافر يبكي. كيف لا أعرف اسمك/ قال القبطان بحرارة/ قد فرقتنا الأعوام/ كم يمضي الدهر سريعا أتدري؟: أيها المسافر؟ إخوانك الطلبة ضيعتهم غربة السنين. بعضهم خاب وعاد على أكواخ الصفيح. والبعض الآخر غطس في قاع العلب الليلية في الغرب والآخرون مثلي نطوف بحار الدنيا بلا هدف/ كم فرقتنا الأعوام، لا أنسى طعامك في الصرة تجلبه إلينا من المزابل.). اغتنم الفرصة. أسماء المشبوهين الجياع على اللوائح في كل المرافئ…، ../ نزل القبطان الشاب ثم عاد شاحب الوجه: مثلما توقعت (أختف في غرفة المحركات) صعد شرطيان. فتشا الباخرة قلّبا الجوازات/ عادا. مرت نصف ساعة. قال القبطان لا يوجد عندك جواز سفر/ المعذرة/ هذا الذي نقدر عليه/ نتمنى لك السلامة).
***
من سلم الباخرة ترجلت/ خلعت ثيابي/ تجولت في الميناء عاريا/ تلبستني خفة عمياء. استهنت بكل الأشياء. كانوا يظنونني غواصا يستقبل شمس الصباح/ طفت/ خرجت بسيارة زوجة القبطان الشاب/ كانت شوارع المدينة خالية/ ثمة خط من الأشجار/ مسافات تنحدر/ قلت للسيدة لأشكرها سأنزل هنا/ ابتسمت بلطف وافترقنا/ مشيتُ وحيدا/ يلفحني هواء رطب/ لبست ثيابي/ الشمس الصفراء تذبل وتسقط على الأرض مثل قشرة ليمون/ أحسست برعدة/ أفرغت مثانتي على لحاء شجرة واختفيت.
(5)
أمطار سنين الوهم. أنهار بؤس الذات. أمطار ومسافات وأشرعة. رمال سيدة الفراغ/ كل شيء يتلاشى: الساعات المصروعة على مذبح محطات المرافئ. الظلام العتيق. الأيام المسفوحة على أقدام جدتي الراحلة.. كل شيء يتلاشى إلا الحفرة التي تكبر.. لا زلت أذكر الأيام الأخيرة وهي تسيح على أقدام جدتي مثل طيور بلا وطن. أنموت؟ بكت جدتي يوم مرضت والناس في محنة الهجرة إلى صحراء الجنوب. بكت وبكيت واختلطت دموعنا في الحفرة الأزلية. دفنت رأسي في حجرها. كانت تنظر على عيني وتقول أوصيك بنفسك أنت آخر الباقين من هذه السلالة/ تركتني أخرج، وغابت/ أنا وحدي أخاف الغياب الأخير.
لم يكن يملك نقودا. خاف أن يعرفه الناس والشرطة. يحس بجوع قاتل. يمم وجهه صوب الخرائب والبراري. ثمة تلال وراء غابة أشجار. المدينة تبدو بعيدة وكبيرة. يزحف إليها في الليل. يخفي نفسه في جحيم السراب اليومي هكذا صار العمر طوافا أبديا. مرت الشهور وذات ليلة سار وراء نجمة الهداية ينحدر في تلال حجرية. المدينة تتلاشى. يغوص في منخفض مظلم. يحس بنكهة الصحراء حين يشرب الماء الأجاج/ يخترق المسافات/ يقضم عشبا ساما يشعر بنعاس قاتل.. يسمع حداء. يرى بدويا قادما. يفتعل الصمم. يردفه على بعيره. يقطع به شوطا هائلا. البرد قارس. النجوم تتساقط على أشجار الليل. يغمض جفنيه على أول شعاع للفجر.
***
تلال حجرية/ مئات الكيلومترات المقطوعة بسكاكين اللهاث/ يدفن وجهه في الرمل. يحاور ذاته الوحيدة: مرّ بخاطري شريط المدن المظلمة يوم تخفيت فيها. رحلت عن أشجار الريف الحزين والقرى الطينية/ أكواخ الصحراء/ أخرجت رأسي ذات يوم من جوف الرمال. طفقت أمشي بجنون سماوي. رأيت الأرض الذهبية يتراقص حولها الذباب والأزهار. كانت أمامي راعية جميلة تقود قطيعا من الأغنام رأتني عاريا. خلعت ثيابها ونامت على أزهار الصحراء النامية. وقفت على رأسها. بكيت فحولتي الميتة. بكيت بحرارة. لمحت وجهي الغارق في البكاء دفنت وجهها في الرمال. تركتها تبكي. رحلت. ثمة شجرة وحيدة أورقت في عيني. رحت أمشي خلف سراب خضرتها. رأيت طفلا محنطا على غصن من أغصانها. مسحت عينيها بكفي. قطفت منها زهرة بيضاء. علكت أوراقها البيض. قال لي بدوي عجوز (هذه زهرة النحس)شممت رائحتها وقطعت أخاديد الصحراء. رأيت آثارا محروقة. اجتزت دروب الدنيا كلها حتى وصلت إلى هنا. واجهتني أحزمة الأشجار الباسقة: إنه الطريق. صار معبدا بالأزهار. قلت للحراس الأنيقين:
– (أيفضي هذا الطريق إلى القمامة؟)
– (لقد كانت / وهي الآن مزار تاريخي)
شرعوا يبحلقون في جسدي العاري: يتفرسون وشمه وحروقه. تمعنوا في عورتي وبصقوا على الأرض وقالوا: من أي أرض جئت؟
من صحارى العالم وأصقاع المدن المظلمة.
أتعني مدن الصفيح؟
– (هو كذلك)
– (تفضل معنا للتحقيق)
في السجن قالوا أن أحداثا تاريخية وقعت في هذا المكان/ قبل نصف قرن/ صرخت بأعلى صوتي (أنكم واهمون.. قبل أيام قليلة.. كنت هنا وشاركت أخوتي الجياع العراة الإضراب الكبير).
– (لا تنبش تراب الماضي. إياك أن تحفر قبر الزمن. أخرج من السجن وانظر إلى الدنيا بعيون جديدة).
***
(6)
راية سوداء على جسد المكان/ القبرات ترفرف وتنوح على ذكرى جدتي. سرحت بصري في بقايا الأزبال المتحجرة/ السور الحديدي يطوق الأرض/ الحراس يحرسون الحفرة المظلمة/ هي عينها/ حفرة السجن الذي مكثت فيه يومين/ لماذا اخترتم الراية السوداء/ قالوا حداد على أرواح الجياع العراة / ركعت،.. بكيت ضاحكا..، ..ضحكت باكيا، أفلتُّ الزمام، عقلي يطير من عشّ دماغي/ ركعت إلى الأرض. الحفرة تنفتح. أطلّ منها على سرير جدتي/ كانت نائمة. حزينة. فتحت لي عينا واحدة وأغلقتها إلى الأبد لم تحدثني حين فوجئت بنفسي أقاد إلى كرسي وسط الشمس قالوا جئت أيها الغريب، هذا مكان مقدس/ لا يجوز في الضحك أو البكاء.
وراء الأسوار الحديدية: في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، كان هناك حشد من الأطباء ورجال العلوم الاجتماعية والبحّاثة في تاريخ الأجناس يتحلّقون حول قامة رجل مسجى على سرير من الألمنيوم.. حار به الجميع فقد اعتقد بحّاثة الأجناس وعلماء الأجناس أنه واحد من بقايا العصور السلجوقية أو نهايات الحقبة العثمانية أو بداية دخول الإنكليز.. كان هذا الرجل وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قد مرّت في خياله صور سريعة: المرافئ/ كثبان الرمال/ الشموس/ أكواخ الصفيح/ العراة/ المزابل/ عيون الجدة الباكية/ الأمواج/ جثث الغرقى/ المدن الظالمة/ الأقدام المطبوعة على الشواطئ/ صور سريعة متناثر تجمّعت والتمّتْ في كتلة واحدة، كثيفة وضخمة أمام عينيه الحزينتين اللتين شرعتا تواجهان الصورة تكبر ثم تتلاشى/ كل شيء يتلاشى: وفجأة انطفأت عيناه، ومات ذلك الكائن الغريب فقد صار وتحول شعره وبرا/ وأظافره شوكية متحجرة… كان شكل المكان، وشكل الرجل المنحول يأخذ بالتلاشي…، …لقد تلاشت حياة آخر الرجال الباقين من أكبر السلالات التي انقرضت في ربوع الصحراء.
* منقول عن:
قصي الخفاجي : بحر اليوتوبيا (ملف/10)
هي تنفرط وكأن الأكف الشيطانية تطبق عليها بقوة وتضمها إليها. تسحبها ثم تغيبها في ظلام الأعماق (خطاه المنزلقة تغوص في أودية الرمل. يحس طراوة ذكرى قريبة. يقمع جهشات، وبصمت، وقوة نفس يترك رقعة المماحي الخالية تستفز خياله الحزين. آخر كوخ صفيحي يتداعى، فيه جدته التي تلفظ الأنفاس الأخيرة، وهي آخر الباقين من سلالة عريقة أنهكها الجوع.
أحياء صفيح هاجرت برمتها إلى جنوب الصحراء. حمل المهاجرون لوائح صفيحهم المتداعي، والفرش الرثة، والأواني المبعوجة في هجرة جماعية، كان ذلك بأمر محير من مؤسسات لا أحد يعرف مراكزها الحقيقية. هو يذكر الإناء الذي تركت له فيه جدته حساء ساخنا وشرع يلعق مثل كلب شره وعيناه تتطلعان إلى السقف المثقوب الذي يرى من خلاله عورة السماء.
في ذلك الصيف الذي لا ينسى كان تتوجع والناس يخلون المنطقة، لكنه لا يدرك شراسة القدر يوم استيقظت في روحه بذرة المشاكسة ثم السير عكس الطريق الذي سار عليه المهاجرون).
يجلس تحت ظل صخرة ضخمة. الذاكرة تنضغط. تتحطم. يحسها تنفلت وتغيب في أطياف غامضة. يخرج من أصقاع مظلمة ويزحف ليلا إلى قرى الصحراء يطرق أبوابها المدرعة بالصفيح، الرمال يحملها الهواء على طبقات من الأجنحة فيما يبحث عن أرغفة وأحشاف يابسة. كل الأكواخ الضائعة في هاتيك المجاهيل السرابية تغلق أبوابها بوجهه وتتدثر بلحف الرمال.
يعرف أنه لا أحد لديه خبر فائض ولكنها المعدة اللجوج ولوعة الروح القاهرة تعجلان خطاه للرحيل عبر امتداد المنافي.
تلك الهواجس تلوح بخراطيمها فتطول. تتساوق عبر الخطى القلقة التي تدب فوق بحران الفراغ الرملي (يعصف به دوار. جوع خرافي. في المرفأ البعيد حيث البحارة الأجانب يلقون أكداسا من فضلات أطعمتهم وسط المزابل المكشوفة في العراء، يشرع بالاهتداء إلى ذلك المكان الذي يحس فيه برحمة الرمال التي تلفحها شمس حارقة. المسافة بعيدة جدا عن المرفأ. يعثر على كميات من الأطعمة. ولم يزل منهوما ويستسيغ اللقمة الأولى).
***
هنالك الكثافات: غيوم تنعزل/ ثمة خطوط لا تني تتوازى بين أسلاك مسافات مرئية/ بياضات تأفل تفضح وجوه المرافئ/ الصخور المتناثرة وراء أودية رمل مرصوصة تشهر أضراسها/ بياضات تأفل/ غروب حزين/ الخوار يثرثر تحت الجلد الصلد. تحت القدمين/ تحت الجفنين الشاحبين. ثمة حجارة. عطفات دروب تتعرج بخطاه، فيما القمم تعصف بشموخ الآلهة الغائبة. يصيخ بحنان وخوف رهيفين إلى عواءات غريبة يظنها الوحوش/ الوحوش هي كل ذرة رمل/ كل غفوة للروح المارد/ الوحوش تهيمن على المكان (وكنت أحمل معي زادا لبقية يومي. في ساعة من عمر الوجود يوم اتجهت إلى مقاه تنغرز في السواحل.)
(1)
وفي وثبة من وثبات خطاي مثُلتْ جدتي قبالتي، بعينيها السوداوين الحزينتين وقامتها القصيرة الناحلة. كانت ترتدي ثوبا أزرق مرقشا بخطوط سود مغبرة، ونجوم رصاصية. تضعني في حجرها/ تحكي لي عن أبي العليل، الذي أرسل شعره الأسود الطويل إلى كتفيه/ أبي العليل الذي لم تره عيناي/ تقول كان يرتدي دشداشة رمادية حائلة لا يملك غيرها/ وأمي النحيفة التي أنجبتني وماتت أثناء الولادة/ تحكي لي عن عيونهما الحلوة وشبابهما الضائع/ أنت آخر الباقين من هذه السلالة، سأرحل وتبقى/ تحكي لي عن ليلة غبراء ضعتُ فيها وكنت أحبو وكيف سقطت في حفرة عميقة مظلمة/ تحكي لي عن عمقها وهي عبارة عن بئر جافة يخافها سكان الصفيح/ نجوت من الموت بأعجوبة/ لن يطول العمر بأحد من هذه السلالة التي أبيدت في الرمال/ وفيما أخطو: الحفرة تكبر في ذاكرتي/ تكبر وأكبر والفراغ الأسود يتكاثف ويغمرني.
عثرت على غرباء جائعين مثلي. صاروا أصدقائي/ هم ثلة من الوجوه الشاحبة يرتدون قمصانا بيضا وسراويل طويلة، بلون البحر، وأحذية ذات أعناق طويلة منكمشة مصفرة بغبرة الرمال
تراهم يخطون عبر المقاهي الحجرية المستطيلة ذات الشرفات الصفيحية المفتوحة على منافذ البحر وفي أكفهم كتب سميكة أوراقها تتطاير في الريح يعزفون على نغمة جريحة من أنغام الكبرياء.
جذورهم تغوص في رمال الصفيح/ يتطلعون بعيون ألقة إلى شعاع البحر البعيد وأخيلة طموحة إلى غد مستحيل: هنالك الورم الرملي يترك أوشامه على جفونهم الغضة. مرة فرشت طعامي على طاولة المقهى الخشبية صرت شهما في إغداق كرمي عليهم فهم فقراء، وآخرون مثلي. حين أحسوا حقيقة الطعام الذي يأكلون انفضوا من حولي في عزة وكبرياء، بصقوا لقماتهم الممضوغة من أفواههم السود. كنت لا أعرف سرّ عزوفهم عن مخالطتي بعد حين عثرت على الجواب الشافي الذي طالما أرّقني ليالي غربتي في الميناء/ أحدّث نفسي: لِمَ هؤلاء الغرباء يموتون جوعا فيما الفضلات تملأ المزابل، الآن عرفت لك بالنفي المرير (هوس جنوني. عزلة تضرب عنقي. رحلت إلى مدن منسية تحاذي سواحل بعيدة. مدن يملأها النعاس والضجر. الرمال تنحني لسورات السكون. تنحرف بموازاة المدى الرمادي. عشتُ أياما حمرا. معي صرتي وهي تبعد عني كابوس الجوع. دفعت خطاي المهزوزة يؤرجني ظمأ لا يرتوي وبي توق شديد إلى النوم العميق ونسيان العالم.شبعت لذة من الجائعات وحنينا إلى روحي. رغم هذا فإن قلبي كان قلقا وخلفي حائط صلد أتكئ عليه وقت المحن: المزابل المتروكة في العراء. ظننت أني ودعّت الجوع إلى الأبد، إذ طالما هناك عزة وكرامة في هذا العالم ستبقة المزابل متروكة في فجاج الأرض.
***
في المرفأ الحزين الأضواء تخبو والموج الفضي اللامع يتكسر بشجن. رجعت. يقودني سر الحنين/ وتلفحني حرائق الوحدة/ صاروا يسمونني المسافر الغريب/ أنام على الرمال المنقوعة/ تتناهى إلى سمعي أصوات البحر/ موسيقى دائرية تسقط من سموات بعيدة/ موسيقى بيضاء تغوص في هوات مخيفة/ موسيقى تكبر وتنطفئ في حفرة الأذن ثم تنداح مثل الموجة تعوم على الهواء/ تكبر، تكبر، ثم تتلاشى.. وحين أطلّ الفجر الرصاصي غسلت وجهي بماء البحر المالح مزمعا الرحيل إلى القمامة.
لقد نفدت ذخيرتي وانكمشت صرتي وتقلّصتْ. ولكن بي خوف غريب من هوة تجرفني إليها، ظلمات أعماقها، تغيب رؤاي عن العالم إذ كلّما تولد ساعة من عمر الزمن تولد معها شمس قد تأفل وأنطفئ معها/ هنالك الرمال تسقي وتهاجم الشواطئ مثل ذئاب شهباء تدوّي، صخابة، عنيفة، تمسح المرافئ بذيولها الصفر/ تجفل منها الوجوه، تتلاشى، فيما الموج المصطرع يلطم الشاطئ بضربات موتورة.
(2)
بخطوي/ بشجني/ بغربتي، …، ..مثُلتْ أمامي الحفرة المظلمة، بكيانها المتجسم، فهي تكبر ومن حولي يكبر القاع الرخو/ يكبر الفراغ الصلصالي المنفلت/ يكبر الخوف، …، …، .. غابت عني الأشياء الأليفة وعيون جدتي علقتها على خيط القاع وغابت، وأنا غبت أيضا عن الوقت، …، …، .. الوقت، الوقت، الوقـــ، الو، الـــ…، …، .. الوقت غيبني.
لم أكن مصدقا عيني. وجدت شيئا مهولا، شيئا عجيبا:عشرات الأطفال العراة/ مئات النساء المجذومات/ والشيوخ المتسخين، أعمارهم بعمر الخرائب القديمة/ رأيتهم يقضمون الأرغفة المغموسة بالوحل والحليب، جلت بناظري حول المكان/ طفقت أحدق في عين الشمس المفتوحة كفوهة بركان، …، .. على يميني علبة صفيح فارغة، كبيرة الحجم، وبعض الخرق القذرة المنثورة فوق النفايات. قضمت قليلا من الفتات. تجمهر حولي أطفال عراة/ حدقوا في وجهي قلت كيف اهتديتم إلى هذا المكان النائي. قالوا وكيف اهتديتَ أنت إليه، أيها المسافر الغريب…ن هنا لن يسمحوا إلا للجياع المقطوعين، قلت إنها أرض الله الواسعة ولا أحد يملكها.
– نحن نملكها.
– أنتم: ها. ها.
رفضت لعبة الجدال/ انسحبت/ طفت حول الوجوه/ الأشياء.
وحين ارتكنت ناحية بعيدة حملوا صفائحهم المملوءة بالأطعمة الفاسدة وتاهوا في دروب الصحراء، مخلفين وراءهم ركاما من القذرات، والخرق، وبعض الفتات الذي لا يغني ولا يشبع من جوع…
***
يبقى جالسا على صخرة وحيدة وسط المزابل المنثورة/ يتأمل متاهات العالم حيث الشمس تفرش رموشها فوق الرمال/ سورات الفكر تدوي في الخيال/ جنّ الليل البهيم/ قوس الأفق يطبق فوق سماء الظلام.
عاد أخيرا إلى المرفأ ينشد صحبة الطلبة الجياع. سهر ليلته معهم وشرب شايهم/ كانوا يقرؤون دروسا في علوم البحار/ نظروا إلى عينيه الزائغتين/ قالوا أين وصلت؟ لم يحر جوابا/ يخفض رأسه إلى الأرض/ تبتلع عيناه الرمال.. بغتة يجيب على سؤالهم ((وصلت إلى أسوأ الأحوال. شحّت الأطعمة. كنت أظن نفسي الرجل الوحيد في هذا العالم يصول ويجول في مزابل الأرض لكنني أدركت بلادتي حين رأيت جياعا بعدد حبات الرمال/ كانوا في إجازة ثم عادوا إلى مزابلهم)) ربتوا على كتفه/ قالوا جرّب حظّك غدا، عسى أن يكون أفضل، قال سأجرب ((في عتمة الإياب رمال تتماوج. تستوي. تتوثب/ والهواء البارد يلفح وجهه الحزين. في كل خطوة عثرة/ وكل عثرة تدفن معها بهجة العمر الآتي. لا يدري، لا يدري كيف؟ ماذا يرى؟ أطفال عراة مثل الحدائق اللحمية/ يشبكون أياديهم في حلقات دائرية/ يرقصون ويهتفون ويصرخون/ يرى الكلاب والشيوخ والنساء المجذوبات أكثر مما يتصوره العقل والخيال/ يضحك ضحكا هستريا: لم أكن مصدقا هذه الاستحالة/ يرتفع في داخله هتاف ((العالم يسقط أسفل الدركات.. ماذا ستفعلون يا عراة الصحراء؟ ها أنت ترون البشر أكثر من النفايات، …، …، .. والكلاب تتناسل، ………………………………..))
احتشدوا فوق القمم القذرة. الحزن الأسود يشع من عيونهم/ ثمة شيخ هرم يلملم عظامه ويقدح شجاعته/ قامته عالية وله لحية بيضاء كالقطن/ مدّ يده إلى امرأة أربعينية قوية/ سحبته إليها/ تسلّق كومة النفايات/ وقف يتأمل الحشود مثل ديك هالك/ مدوا أعناقهم إليه ((بوركت يا شيخنا العظيم)) نقل نظراته في عمق العيون ((أعتقد يا أولادي أنهم لا يفكرون في مستقبل كلابهم في أيضا تتناسل وتتكاثر مثلنا نحن معشر البشر/ بل تتكاثر بالمئات والعشرات وليس من المعقول أن تهب تلك النفايات والأطعمة هدرا بينما كلابهم ليس لها ضمان… فماذا ترون..))
(3)
فجيعة الحاضر الرملي/ جدل العراة مع شيوخهم الحكماء/ وثوب الوقت المتنمر على الأقدام النابتة في جذور الأرض والمرايا الروحية المحطمة بقبضات بؤسنا الأزلي/ كل ذلك ينحّي عزمي، فأنحرف إلى أقرب صفيحة، أبول فيها/ أقعي مثل جرو مهزوز/ حتى الشمس هي عذابي إزاء الظلمة الصرصارية تحت، في الهوة المظلمة، داخل الصلصال الأرضي/ في القاع/ تلك الحفرة التي حذرتني منها جدتي يوما ما، وقالت سقطت فيها ونجوت بأعجوبة كان من المفروض أن تفنى السلالة برحيلي/ أنا الآن أشك ببقائها/ أتذكر الشجن/ لا أدري كيف خرجت إلى نور عذاب الأرض/ أحيانا ظلمة الأعماق تهدهد طفل الأمل البازغ في سويداء القلب أتذكرها/ أتذكر عثرة المصير، وأنسلخ من إخطبوط التسفسط، ..أغمض عيني/ أعصر ليمونة العين/ أسكبها على الرمال لكي أنسى، …، ولا أنسى، أنا أدري، بأني لن أنسى: الوقت الميت في عقلي.
يحملون الصفائح الفارغة وينطلقون على المدى الرملي في مسيرة كبرى باسم جياع الأرض.
والآن ستبدأ بؤرة النفايات حتى تخوم المرافئ البعيدة، ينشدون معا أغنية الجوع الأزلي ((نحن شعب الصحراء جئنا لنمحو عار الظلم)).
***
كان الصباح باردا، وقطرات الندى تتساقط على الشجيرات الصحراوية. ثمة نغم يتلوّى/ يخبّ تحت الرمال الخرساء/ يصل مع الحصى/ يعلو، يعلو، ..، ../ اتجهوا إلى المرفأ الكبير/ تدفقت حشودهم الفقيرة على السواحل المكتظة بالبحارين/ هرع إليهم العمال يمجدون المسيرة الهادرة/ فتحوا لهم الأبواب/ أوصلوهم على الدكات إلى السفن الرابضة على الأرصفة/ أدخلوهم الأبنية والمطاعم/ التهم الجياع كل شيء/ لعقوا الصحون/ مسحوا القدور بألسنتهم الشهوانية/ صعدوا السلالم/ وتسلّقوا الحبال إلى البواخر البعيدة. صاح مدير المرفأ الأجنبي: (ماذا يجري أيها الجبناء القذرين.. القوا بهم في عرض البحر/ هيا أبرقوا إلى أساطيلنا…).
كنت معهم حين هجمت علينا كلابهم البوليسية المدربة. تساقط الجياع في عرض البحر. غرق منهم عشرات العراة والمجذوبين/ الحصار يطوقنا من كل الجهات/ الرصاص يمطر/ شرعوا يمشطون الأبنية والسواحل/ أبواق السفن تنعب كالغربان/ صفارات الإنذار تصدح/ أصوات نحاسية بلون المطاط الكثيف.
خفت وزحفت على حافة الماء/ غصت/ جذفت/ لملمت خوفي تحت مياه البحر وعلكته بأسناني/ لأول مرة في حياتي أرى الأطفال الغرقى يذوقون حلاوة الطهر ومرارة العذاب الرهيب/ أفواههم مفتوحة ولم تعرف أجسادهم الغسل/ عيونهم مفقوءة تنهشها الأسماك/ تجنبت القروش المفترسة/ صارعت اللجج/ تشبثت بلوح خشب عائم وسط البحر/ أنا أحمد الله على ذلك/ تسلقت وارتجفت/ وأشرع في الغياب/ أغيب، أغيب عن الوعي.
(4)
عادة التجوال مريعة: الذات تضيع. ريح البحر تعوي وتضيع. الأيام الرملية تنسكب وتضيع/ لا أدري كم بعدت بي روح الدقائق/ …، بكثافة ليل ظلمة سماء/ ضعت يوح رحت على المزابل بإيعاز من الطلبة الأصدقاء/ …، ضعت… جدتي لفتني بردائها ودخلت معي حفرة النسيان لنختفي معا عن عين الشمس،: ضعنا/ خرجت لا أدري إلى أين وصلت، لا، لا أدري أبدا أن الصحراء ضياع في ضياع…
أنفاسي استرددتها. جذفت بلا هداية. حاذرت السفن التابعة للإسطول. ثمة سفن قادمة من الآفاق البعيدة.. إلا الأمواج تلطمني بعضلاتها المفتولة/ أرتطم بجدار الهواء/ إني أسمع صوت المسؤول الأجنبي يصيح بالسماعة (لا قمامة بعد اليوم.. كل ذلك نتيجة للفضلات التي أسديناها للجياع القذرين). صارت ريح الشواطئ المضمخة بالدم تبتلعها الأمواج/ وانحسرت شمس البحر الخضراء. طفقت أغني أنشودة الجياع الغارقين/ سرحت بصري في الأفق البحري/ طيور بأجنحة عملاقة تترك الموج وتعوم في الفضاء/ رأيت الأشلاء البشرية تتشظى، تتمدد/ تعوم/ ترتفع ثم تغوص تحت الموج/ ويجلدني الملح البراق/ لامست جفون البحر فقال لي (أنا وضعت قوانين الأبدية. الجوع بداية الأزل. لا تعجب. وتلك اللحظة بداية البدابات) ارتددت. همست لنفسي (هو ذا بحر العالم الأخرق يعلمني قوانينه العمياء. لا تهمني تلك الأبجديات البائسة، فلا بحث عن سبل الخلاص).
***
ثمة سفينة قادمة من الجهة المعاكسة يلوح لها بيده. تقترب. قبطانها الشاب يلقي إليه طوق النجاة، ثم يسحبونه بحبل. يحملونه إلى مقصورة على السطح يغسلون وجهه بالماء العذب. يزيتون جسمه بدهن الحيتان. قال له القبطان الشاب: نحمد الله على سلامتك ويؤسفنا كل الذي يجري لكم في هذه الصحراء، ماذا؟ يفغر فمه/ يتطلع إليه/ ماذا يجري أتدرون؟ قال له القبطان الذي يرتدي قميصا أصفر فضفاضا، ووجهه الأسمر يذكرك بلون الشمس قبل المغيب: لا أدري سمعنا حكاية الجياع/ كيف بالله عرفتم ذلك (الغرقى يملأون البحار والمرافئ والآن في حالة طوارئ. الجثث تطفو على الشواطئ إنهم يضطرون لإحراقها).
يغفو. ليل بارد ينقله إلى أرض بلا بشر. في الغبش أيقظة القبطان بحنان. الهواء الزجاجي يتكسر كان البحر رصاصيا. سنصل إلى المرفأ الجديد. قال له: ستهبط إليه. الوقت يناسبك. أدركْ ما أعني. هذا الوقت بالذات يساعدك على الانفلات والخلاص. قد تتعرض السفينة إلى حملة تفتيش. أنت أيضا ساعدني، لا أعرف اسمك (خفت. ماذا يريد من اسمي. طاقة الحزن أرغمتني. لا. تلعثمت. لا لا. ماذا أقول ارتبكت. ماذا يريد من اسمي، أتعرفني لماذا تريد ذلك؟ سحب وجهه إليه. ضمه إلى صدره. قبله والمسافر يبكي. كيف لا أعرف اسمك/ قال القبطان بحرارة/ قد فرقتنا الأعوام/ كم يمضي الدهر سريعا أتدري؟: أيها المسافر؟ إخوانك الطلبة ضيعتهم غربة السنين. بعضهم خاب وعاد على أكواخ الصفيح. والبعض الآخر غطس في قاع العلب الليلية في الغرب والآخرون مثلي نطوف بحار الدنيا بلا هدف/ كم فرقتنا الأعوام، لا أنسى طعامك في الصرة تجلبه إلينا من المزابل.). اغتنم الفرصة. أسماء المشبوهين الجياع على اللوائح في كل المرافئ…، ../ نزل القبطان الشاب ثم عاد شاحب الوجه: مثلما توقعت (أختف في غرفة المحركات) صعد شرطيان. فتشا الباخرة قلّبا الجوازات/ عادا. مرت نصف ساعة. قال القبطان لا يوجد عندك جواز سفر/ المعذرة/ هذا الذي نقدر عليه/ نتمنى لك السلامة).
***
من سلم الباخرة ترجلت/ خلعت ثيابي/ تجولت في الميناء عاريا/ تلبستني خفة عمياء. استهنت بكل الأشياء. كانوا يظنونني غواصا يستقبل شمس الصباح/ طفت/ خرجت بسيارة زوجة القبطان الشاب/ كانت شوارع المدينة خالية/ ثمة خط من الأشجار/ مسافات تنحدر/ قلت للسيدة لأشكرها سأنزل هنا/ ابتسمت بلطف وافترقنا/ مشيتُ وحيدا/ يلفحني هواء رطب/ لبست ثيابي/ الشمس الصفراء تذبل وتسقط على الأرض مثل قشرة ليمون/ أحسست برعدة/ أفرغت مثانتي على لحاء شجرة واختفيت.
(5)
أمطار سنين الوهم. أنهار بؤس الذات. أمطار ومسافات وأشرعة. رمال سيدة الفراغ/ كل شيء يتلاشى: الساعات المصروعة على مذبح محطات المرافئ. الظلام العتيق. الأيام المسفوحة على أقدام جدتي الراحلة.. كل شيء يتلاشى إلا الحفرة التي تكبر.. لا زلت أذكر الأيام الأخيرة وهي تسيح على أقدام جدتي مثل طيور بلا وطن. أنموت؟ بكت جدتي يوم مرضت والناس في محنة الهجرة إلى صحراء الجنوب. بكت وبكيت واختلطت دموعنا في الحفرة الأزلية. دفنت رأسي في حجرها. كانت تنظر على عيني وتقول أوصيك بنفسك أنت آخر الباقين من هذه السلالة/ تركتني أخرج، وغابت/ أنا وحدي أخاف الغياب الأخير.
لم يكن يملك نقودا. خاف أن يعرفه الناس والشرطة. يحس بجوع قاتل. يمم وجهه صوب الخرائب والبراري. ثمة تلال وراء غابة أشجار. المدينة تبدو بعيدة وكبيرة. يزحف إليها في الليل. يخفي نفسه في جحيم السراب اليومي هكذا صار العمر طوافا أبديا. مرت الشهور وذات ليلة سار وراء نجمة الهداية ينحدر في تلال حجرية. المدينة تتلاشى. يغوص في منخفض مظلم. يحس بنكهة الصحراء حين يشرب الماء الأجاج/ يخترق المسافات/ يقضم عشبا ساما يشعر بنعاس قاتل.. يسمع حداء. يرى بدويا قادما. يفتعل الصمم. يردفه على بعيره. يقطع به شوطا هائلا. البرد قارس. النجوم تتساقط على أشجار الليل. يغمض جفنيه على أول شعاع للفجر.
***
تلال حجرية/ مئات الكيلومترات المقطوعة بسكاكين اللهاث/ يدفن وجهه في الرمل. يحاور ذاته الوحيدة: مرّ بخاطري شريط المدن المظلمة يوم تخفيت فيها. رحلت عن أشجار الريف الحزين والقرى الطينية/ أكواخ الصحراء/ أخرجت رأسي ذات يوم من جوف الرمال. طفقت أمشي بجنون سماوي. رأيت الأرض الذهبية يتراقص حولها الذباب والأزهار. كانت أمامي راعية جميلة تقود قطيعا من الأغنام رأتني عاريا. خلعت ثيابها ونامت على أزهار الصحراء النامية. وقفت على رأسها. بكيت فحولتي الميتة. بكيت بحرارة. لمحت وجهي الغارق في البكاء دفنت وجهها في الرمال. تركتها تبكي. رحلت. ثمة شجرة وحيدة أورقت في عيني. رحت أمشي خلف سراب خضرتها. رأيت طفلا محنطا على غصن من أغصانها. مسحت عينيها بكفي. قطفت منها زهرة بيضاء. علكت أوراقها البيض. قال لي بدوي عجوز (هذه زهرة النحس)شممت رائحتها وقطعت أخاديد الصحراء. رأيت آثارا محروقة. اجتزت دروب الدنيا كلها حتى وصلت إلى هنا. واجهتني أحزمة الأشجار الباسقة: إنه الطريق. صار معبدا بالأزهار. قلت للحراس الأنيقين:
– (أيفضي هذا الطريق إلى القمامة؟)
– (لقد كانت / وهي الآن مزار تاريخي)
شرعوا يبحلقون في جسدي العاري: يتفرسون وشمه وحروقه. تمعنوا في عورتي وبصقوا على الأرض وقالوا: من أي أرض جئت؟
من صحارى العالم وأصقاع المدن المظلمة.
أتعني مدن الصفيح؟
– (هو كذلك)
– (تفضل معنا للتحقيق)
في السجن قالوا أن أحداثا تاريخية وقعت في هذا المكان/ قبل نصف قرن/ صرخت بأعلى صوتي (أنكم واهمون.. قبل أيام قليلة.. كنت هنا وشاركت أخوتي الجياع العراة الإضراب الكبير).
– (لا تنبش تراب الماضي. إياك أن تحفر قبر الزمن. أخرج من السجن وانظر إلى الدنيا بعيون جديدة).
***
(6)
راية سوداء على جسد المكان/ القبرات ترفرف وتنوح على ذكرى جدتي. سرحت بصري في بقايا الأزبال المتحجرة/ السور الحديدي يطوق الأرض/ الحراس يحرسون الحفرة المظلمة/ هي عينها/ حفرة السجن الذي مكثت فيه يومين/ لماذا اخترتم الراية السوداء/ قالوا حداد على أرواح الجياع العراة / ركعت،.. بكيت ضاحكا..، ..ضحكت باكيا، أفلتُّ الزمام، عقلي يطير من عشّ دماغي/ ركعت إلى الأرض. الحفرة تنفتح. أطلّ منها على سرير جدتي/ كانت نائمة. حزينة. فتحت لي عينا واحدة وأغلقتها إلى الأبد لم تحدثني حين فوجئت بنفسي أقاد إلى كرسي وسط الشمس قالوا جئت أيها الغريب، هذا مكان مقدس/ لا يجوز في الضحك أو البكاء.
وراء الأسوار الحديدية: في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، كان هناك حشد من الأطباء ورجال العلوم الاجتماعية والبحّاثة في تاريخ الأجناس يتحلّقون حول قامة رجل مسجى على سرير من الألمنيوم.. حار به الجميع فقد اعتقد بحّاثة الأجناس وعلماء الأجناس أنه واحد من بقايا العصور السلجوقية أو نهايات الحقبة العثمانية أو بداية دخول الإنكليز.. كان هذا الرجل وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قد مرّت في خياله صور سريعة: المرافئ/ كثبان الرمال/ الشموس/ أكواخ الصفيح/ العراة/ المزابل/ عيون الجدة الباكية/ الأمواج/ جثث الغرقى/ المدن الظالمة/ الأقدام المطبوعة على الشواطئ/ صور سريعة متناثر تجمّعت والتمّتْ في كتلة واحدة، كثيفة وضخمة أمام عينيه الحزينتين اللتين شرعتا تواجهان الصورة تكبر ثم تتلاشى/ كل شيء يتلاشى: وفجأة انطفأت عيناه، ومات ذلك الكائن الغريب فقد صار وتحول شعره وبرا/ وأظافره شوكية متحجرة… كان شكل المكان، وشكل الرجل المنحول يأخذ بالتلاشي…، …لقد تلاشت حياة آخر الرجال الباقين من أكبر السلالات التي انقرضت في ربوع الصحراء.
* منقول عن:
قصي الخفاجي : بحر اليوتوبيا (ملف/10)