حين تقرر الرحيل.. تتفقد أمتعتك، وكلما اقترب موعده أكثر تعيد ترتيبها من جديد، ما كان مهمًا قبل شهر يصبح أقل أهمية بعد أسبوعين، ثم ينتقل من حقيبة إلى أخرى قبل أن يستقر أخيرًا قريبًا من الباب مع الأشياء التي أصبحت زائدة، تتعلق بها عيناك، ويمنعك خواء جيبك العاجز عن دفع غرامة الوزن الزائد.. يمنعك من النظر إليها، يدير رأسك بعيدًا عنها.
هكذا كان شأن الكثير من الأشياء التي بقيتْ معي. حقيبة سوداء واحدة، تشبه تلك التي كان يحملها الحلّاقون قـديمًا، كانت تنتقل من مكان إلى آخر، فمرّة كنت أخبئها بعناية أو أضعها ظاهرة مع بقية حقائبي، ولليلة واحدة فقط بقيتْ مرمية قريبة من الباب، ولكنها لم تبق هناك الليل كلّه، الذي جعلني أستيقظ فزعًا للبحث عنها هو الشخص الذي أودعها لديّ قبل أن يغيب، رأيته ينتصب أمامي واقفًا طالبًا حقيبته، ولمّا كنت تائها وسط فوضى الأشياء التي تحيطني لم أستطع إيجادها بسرعة، وكان يلحّ عليّ، أراه خلفي في كل خطوة أخطوها، استيقظتُ فزعًا?. وكان قدح الماء الواقف عند رأسي فارغا، وفي طريقي إلى المطبخ لملئه وقعتْ عيناي على حقيبته مرمية قريبا من الباب، اتجهت إليها فورا.. حملتها ووضعتها مع أمتعتي.
لم أكن أعرف الرجل، اسمه الأول فقط هو ما بقي في ذاكرتي التي لا أعوّل عليها، الليلة التي قضاها معنا بقي فيها صامتًا، لم يتحدث كثيرا، بل ربما لم يتحدث أصلا، كنت أراه جالسًا محتضنًا حقيبته، شبح ابتسامة يطفو على شفتيه حين كنّا نضحك بصوت عالٍ.
كنت في (الزاوية)، وهي مدينة لا تبعد كثيرًا عن مدينة (زوارة).. المنفذ البحري الذي يستخدمه المهربون لرفد السواحل الإيطالية بالمهاجرين غير الشرعيين، موقعي هناك جعلني محطة لبعض من أعرفهم، والكثير ممن لا أعرفهم كصاحب الحقيبة، من العراقيين وهم في طريقهم لركوب البحر.. الأمر الذي جعل زاوية الغرفة الوحيدة التي أسكنها تمتليء بالأمتعة. كان المبحرون يخرجون بحقائب كبيرة تصغر تدريجيًا، حتى إذا كانت محطتهم الأخيرة قبل الصعود إلى الزورق لم يبق معهم غير كيسٍ من النايلون يضمّ قطعتين من الملابس الداخلية وربما سروالا من الجين? ومنشفة صغيرة يلفّ بها رأسه بعد أن يصعد إلى الزورق. هذا الأمر جعل أكياس النايلون تتكاثر في زاوية الغرفة بأكثر من لون، الحقائب، وكلّها قديمة شبه ممزقة، تتراص واحدة جنب الأخرى.. ومن ثم فوقها.
لا أدري كيف يفكّر شخص، ينوي عبور البحر بزورق محطم، حين يكتب اسمه على ورقة ليضعها في كيس قد يخفي، في أحسن الأحوال، ملابس ليستْ جديدة! هل يفكر أنه، إذا وصل هناك، سيحتاج إليها؟! أم أنه يفقد الثقة في البحر أصلا فيترك خلفه بعض ثياب وأشياء أخرى قد تنفعه حين يخذله البحر! لا أدري.
مع كل قصاصة ورق يسجل عليها اسما لتوضع في حقيبة أو كيس نايلون كان اسمي ورقم هاتفي يدوّن في أوراق صغيرة تحشر بعناية بين الأوراق النقدية الخضراء الملفوفة بحرص شديد لحمايتها من الماء، وعدا ذلك.. لم يطلبني أحد من خلف البحر يومًا. كان المبحرون يغيبون، بعضهم يصل إلى الشواطئ البعيدة، والكثيرون منهم لا يصلون، يبتلعهم البحر.. أو قد تقبض عليهم الدوريات التي تجوب السواحل بحثا عنهم، فيبقون متنقلين من سجن إلى سجن.. ومن مخفر إلى مخفر حتى ينتهي بهم المطاف بعيدا، لا تبقى أهمية لحقيبة متروكة في مكان ما أمام خيبة كبيرة تشبه ?لك التي يعيشها المبحرون الفاشلون.
مرّات قليلة فقط كان فيها البعض يعودون لأخذ أماناتهم، فقد تلغى الرحلة.. أو قد يغير المبحر رأيه حين يرى شكل الزورق المتداعي وأعداد المهاجرين الكثيرة التي تتصارع على الشاطئ للصعود إليه. (لستُ مضطرًا لذلك). قال لي أحدهم عندما عاد يومًا لأخذ ما تركه عندي في طريق عودته حين قرر أن لا يصعد إلى الزورق:(حياتي أغلى بكثير من أن أضعها مع كل هؤلاء المنتظرين القفز إلى الماء، شعرت أنهم سيرمون بعضهم بعضا إلى البحر إذا اعترضتهم مشكلة ما. وهنا.. أين أنا من كل ذلك؟! أنا هنا آكل، وأنام، ولدي امرأة أتردد عليها أو تجيء هي إليّ ك?ما استطعنا ذلك.. وأحلم.. نعم.. أحلم بالوصول إلى الشاطئ الآخر، ذلك أفضل بكثير من أن أفقد حتى القدرة على الحلم. لا أدري، ربما أعود مرة أخرى وأمرّ بك ثانية). ثم حمل متاعه وذهب.. ولم أره مرة أخرى.
كما قلت.. الكثير من الأشياء تكدّست عندي بهذا الشكل، ولكون الغرفة التي كنت أسكنها ليست كبيرة بما يكفي.. كنت أعيد ترتيب هذه الأشياء بين فترة وأخرى، وربما أتخلص من بعضها خصوصا تلك التي مرّ على بقائها فترة طويلة، أطمئن معها إلى أن صاحبها لن يسأل عنها، وكنت أحرص على أخذ الأذن من أصحابها بذلك.. وهو أن أتصرف بها كما أشاء في حال عدم عودتهم لاستردادها، فأعطيت الكثير منها لبعض العمال الأفارقة، والكثير منها بقي مكومًا على حاله في زاوية الغرفة ومنها حقيبة الرجل الذي زارني في الحلم طالبا استردادها.
في الصباح دفعني الفضول إلى فتحها وتفقد محتوياتها بشكل أدق هذه المرة.. ولم يكن ثمة غير قطعتين من الثياب، كتاب نزع غلافه، ودفتر مغلف بورق ملون ومربوط بسلك رفيع أحمر بذات الطريقة التي تربط بها الهدايا.
تصفحته على عجل فشدّ انتباهي، ولمّا كنت أحزم أمتعتي للعودة إلى الوطن ولا أجد الوقت الكافي لقراءته كله.. أجلّتُ ذلك إلى وقت أكون فيه أكثر هدوءًا. وهكذا حصل. فالأوراق التالية هي كل ما وجدته في دفتر الرجل الذي أشك في أن ذاكرتي تحتفظ باسمه صحيحًا.
(هذه الأوراق)
يستفزك بياض الورق المبسوط أمامك لليوم الثالث دون أن تكتب شيئا، وبقدر استفزازه لك.. فإنه يجعل الأحداث في رأسك تغلي كمرجل مسجر لا يجد ماءه منفذًا للخروج.. يعجز رأس قلمك عن اللحاق بالأحداث وهي تمرّ أمام عينيك كالبرق الخاطف فتهرب منها متفحصًا ومتحسسًا، بيدك، الجبس المحيط بكاحلك المكسور تاركا عينيك تعيدان تفحّص موجودات غرفتك التي تستطيع وصفها بكل تفاصيلها حتى وأنت مغمض العينين.
لطالما كان هذا مشروعًا مؤجلا ألحّ عليّ كثيرا.. وأخرته كثيرا متعللا بإمكانية حصولي على استقرار نسبي أستطيع معه ترتيب أفكاري بشكل ما، ولم يكن ذلك يحصل مع أني كنت قد جهزّتُ أوراقي منذ أيامي الأولى في غرفتي تلك، في الأهواز، حيث عملت مراقبا ومشرفا في مزرعة، في أول نزول لي إلى المدينة حرصت على شراء بند ورق وأقلام عدة، في الأيام الأولى كان الطواف في المزرعة، النهار بطوله ينهكني، ومع ما كنت أدونه مساءً عن الأشياء التي تدخل وتخرج إلى ومن المخازن.. لم يكن يتبقى الكثير من الوقت. ولمّا اعتدتُ على ذلك وظننتُ أنه يمكنني?أن أبدأ، طرقت بابي ذات مساء فتاة أهوازية وبعثرتْ أوراقي من جديد لينتهي الأمر ببند الورق إلى قصاصات صغيرة أدون عليها يوميات العمل قبل نقلها مساءً إلى السجل الذي أحتفظ به في غرفتي.
في سوريا.. لم يكن الأمر أحسن حالا، على العكس، فحتى الغرفة التي كانت تؤمن لي خلوة أنا بحاجة إليها.. حتى هذه فقدتها، فقد كنّا نسكن جماعات بأمزجة وأهواء واهتمامات مختلفة، إذ لا يوفر دخل أي منّا استقلالا نسبيا له. ومع أني حاولت أن أكتب شيئًا في أيام العطل لمّا كنت أخرج إلى الساحات والحدائق العامة.. إلا أن الأمر بقي عند مجموعة ملاحظات ومواضيع غير مكتملة مزّقتها كلها قبل انتقالي ليبقى المشروع مؤجلا كما هي الحياة بالنسبة لي.
في عمّان، التي لم أبق فيها طويلا، عشتُ وضعا مماثلا، جسدي، الذي لم يعتد على هذا النوع من العمل الشاق، إذ أنني اشتغلتُ عاملا خلف بناء مرة وخلف بلاط مرة.. وكان عليّ، مع كل منهما، عمل كل شيء.. فقد كنت وحدي، احتاج الكثير من الوقت لأصبح متمرسًا، والوقت القليل الذي يتبقى كنت أقضيه متجولا في الساحة الهاشمية والمناطق القريبة منها لأجد نفسي بعدها جالسا على أعلى صفٍّ في المدرج الروماني متأملا الكثير من الشقر وهم يحرصون، كل الحرص، على التقاط العديد من الصور بين أعمدته وأحجاره المتناثرة.
هل كنت حقا لا أملك الوقت! ليس تماما، فهذا بعض الحقيقة التي يكمن بعضها الآخر في كسلي وعدم قناعتي في أن ما سأكتبه سيكون مهما، ولمن أريد كتابته؟ هل ليقرأه الآخرون فيعرفوا بعض ما جرى ويجري؟ أم إني أحاول إفراغ رأسي من كل ما يدور فيه ويقلقه ليلا ونهارا، علّي أستطيع، إن أنا فعلت، توفير مساحة فيه تمكنني من التفكير بشكل أفضل؟
أيّا يكن السبب.. فالرغبة تلك ما زالت تلحّ عليّ، وهذه الفترة التي وفرها لي كاحلي المكسور بعد محاولة ركوب البحر الأخيرة والتي انتهت بالفشل.. هذه الفترة لا أريدها أن تضيع، فهي ضائعة أصلا كضياعي خلف اسم لم أختره وفي أماكن لم أتمكن، حتى الآن، من الوصول إلى غيرها.
يوفّر لي الصباح، الذي أدرك طوله في أشهر الصيف هذه أكثر من أي وقت مضى.. يوفر لي وقتا جيدا للمحاولة وترتيب الأفكار، فباب غرفتي لا يطرقه أحد صباحا إلا نادرا، إذ أن القلة الذين اعتادوا زيارتي ينتشرون صباحا كل في عمله، وبعد أن كانوا يترددون علي مساءً كل ليلة تقريبا.. تباعدت زياراتهم لتقتصر على ليالي الجمع وصباحاتها. مكنني ذلك من ترتيب أفكاري قليلا، إلا أن البداية بقيت صعبة، ربما كانت الفوضى التي أعيشها والضياع الذي أختبئ فيه، كطفل تحت عباءة امرأة غير أمه، هما ما يدفعاني بعيدا عن البداية.
أقرّ بصعوبة البدايات، وأعترف أنني إن بقيت أبحث عن بداية أظنها مناسبة فلن أفعل شيئا. أعتقد أن الحل يكمن في الانسياق لفوضى الذهن وتشظي الذاكرة.. هذا ما اهتديت إليه أخيرا بعد أيام من الحوار الصامت مع هذه الأوراق الموضوعة أمامي.. وهو أن أبدأ من أي مكان.. أكتب أي شيء أشعر أنني أستطيع كتابته كاملا وبذلك أكون قد أفرغت بعضا مما ينوء بحمله رأسي المتعب، ربما يتيح ذلك لأفكار وصور أخرى أن تتدفق، أحداث تنزّ لأدونها قبل أن تضيع، ثم لماذا هذا الإصرار على أن تكتب بتسلسل منطقي! ما هو المنطقي في كل ما جرى ويجري لك؟ الفوضى ا?تي عشتها، إنقلها على الورق ما دمت، حتى الآن، عالقا وسطها، ربما يتاح لك، في وقت آخر، زمان تكون فيه أكثر هدوءا.. بصرك يسرح في مساحات خضراء شاسعة.. أو تكون جالسا بمواجهة بحر هادئ تبدو مياهه كمرآة صقلت للتو، إعادة النظر في أوراقك التي تنوي كتابتها لتعيد ترتيبها من جديد.
هل سيجيء ذلك الوقت ؟ على أية حال.. ها أنت تنتظره، تحلم به، يعيقك الجبس المحيط بقدمك اليمنى عن التسكع في الأماكن التي يتواجد بها المهربون لتشمّ رائحة زورق على وشك المغادرة. الأيام المتبقية لك، والتي ستقضيها وحيدا هنا، استثمرها في الكتابة. أي شيء يخطر في بالك دوّنه قبل أن تتمكن من السير سويا مرة أخرى، عندها ستؤجل مشروعك، كما كنت تفعل دوما، لتضيع بين عمل ضجرت منه وطواف يومي ينتهي بك مساءً على ساحل البحر لتملأ رائحته صدرك متجولا في طرق مضاءة على الجهة الأخرى منه والتي لا ترى عيناك منها شيئا غير ظلمة البحر المط?قة
(1)
« أنت «.. أشار لي. أراه بوضوح، على بقايا ضوء السراج الذي أوشك أن ينطفئ، جالسا فوق كرسي حديد، تمتد ذراع خشبية من تحت إبطه حتى تلامس قدميّ فيما يحتفظ ببندقيته، بكلتا يديه، حاشرا مؤخرتها بين فخذيه.
قبل أن يحل المساء عليك أن تضطجع، تهيئ لك مكانا ترقد فيه، هذا في أول الليل، أما في آخره.. فترتب الأجساد نفسها بطريقة ما.. بفوضى دونها لا تتسع هذه القاعة لثلاثمائة شخص. أمس كنا أربعمائة. بقي البعض واقفا إلى الصباح على قدم واحدة، وكنت جالسًا أول الليل، ألصق فخذي بصدري، بعدها وجدت لجثتي مكانا فوق الآخرين.. فنمت. في الصباح.. كان مرفقي الأيسر يغوص بين ضلوع أحدهم. « قتلتني «.. قال لي. في الحقيقة لست من فعل ذلك، قتله شخص آخر.. كان رأسه معصوبا بخرقة قماش مخططة قذرة، قدمه حمراء منتفخة، تتوزع ظهره وصدره لطخات حمراء م?رقة. فنهضتُ.
هذا المساء بدت القاعة ضيقة وكأنهم لم يخرجوا منها مئة بعد الظهر، نقلوا إلى مكان آخر.. ربما إلى (المسرح) المجاور. اضطجعتُ.. فبدا جسدي طويلا بشكل لم آلفه. وكان الحارس منتصبا عند قدمي، يتطلع في القاعة. «كنتم أمس أربعمائة ووسعتكم، واليوم أنتم ثلاثمائة ولا تسعكم»! يخطو، بحذائه الثقيل، إلى الداخل. يبدأ، عند مؤخرة القاعة، بترتيب الأجساد. يلصق هذا بالجدار. يدفع ذاك إلى الزاوية. «أنت.. اسحب رجليك. تعال، أنت الواقف، تعال هنا، اجلس بينهم. حسن». ينسحب للخلف، وبانسحابه تبدو الأجساد ساكنة أول الأمر، وإذ يبتعد تتمدد، تسرق? من بعضها البعض، فضاءاتها، أو تتشارك في فضاء واحد. وصل إليّ. أحسّ قدميّ تلامسان الباب مع أني كنت في ثلث القاعة الأول. « لم رجليك «. وخزني بغصن كان بيده في حين بندقيته معلقة بكتفه فسحبت ساقيّ. أجلس واحدا أمامي. وبقيت هكذا حتى خرج ليجلس على كرسيه الحديد القريب من باب القاعة المفتوح على سعته.
« أنت ! ألم تسمع ؟». وكان اللسان الأحمر المتأرجح فوق فوهة قنينة من الزجاج يوشك أن يخبو. القاعة، إذ أصبح الضوء ضعيفا أكثر من قبل، تتسع، يزحف الظلام من الخلف ملتهمًا أجزاءها شبرا شبرا، يتراجع الضوء، يحتمي بما تبقى من اللسان الأحمر القصير. تبدأ الحواجز بالتساقط. الجدران تختفي. القاعة جزء من العالم المظلم في الخارج.
« أنت !». ركلني هذه المرة. انتبهتُ إليه واقفًا على رأسي. « أمل القنينة قليلا «. كان يريد إيصال ما تبقى من (الكاز) إلى اللسان الذابل ليديم توهجه. مددت يدي إلى القنينة. وعندما قلبتها.. انطفأتْ.
(2)
- إلى أين ؟
- لا عليك. اتبعني فقط. أنا ابن هذه المنطقة، وبيتي لا يبعد كثيرًا، ربما نصله قبل أن تشرق الشمس. انحنِ ! ألا تسمع الرصاص يمزق كل شيء حولنا ؟
- وهل سنصل ؟ !
- لا أدري. ولكننا الآن في الخارج. أصبحنا بعيدين عن سور المعهد. علينا أن نصل إلى مكان ما.
كان صوت الرصاص ورشقاته قد بدأت تخف دون أن تتوقف تماما. لم نكن وحدنا من هرب.. كثيرون، بالتأكيد، توزعت أجسامهم في اتجاهات شتى، وكنت ورفيقي، الذي لا أذكر أني رأيته من قبل، نركض معا باتجاه يعرفه هو. أما أنا.. فلم أكن دخلتُ (معهد البتروكيمياويات) هذا من قبل أو حتى وصلت إلى بابه، وها أنا أقف في طابور طويل مع معتقلين كثر حملتنا سيارة (إيفا) عسكرية من فندق (حمدان) وسط البصرة مخترقة شارع (الاستقلال) باتجاه نهر (الخورة)، ومع كل شــيء أراه كانت ذاكرتي تتقد. اجتزنا نصب (عتبة بن غزوان) وكانت منصته فارغة، كان مختبئا.. ر?ما يكونون قد اعتقلوه.. أو ترك المدينة مثل الكثير من أبنائها فيما بدت واجهة بناية (الإعدادية المركزية) بائسة أكثر من أي وقت آخر رأيتها فيه، تخترقها القذائف في أماكن عدة وكان بابها الخشب الكبير محطما ترقد إحدى ضلفتيه على السلم المؤدي للمدخل في حين تندفع الضلفة الثانية إلى الداخل كاشفة مدخلا كئيبًا تركته كل أشكال الحيوات التي عبرته منذ عقود.
بدت الشوارع فارغة.. وشمس آذار ترسم ظلالا لاتبتعد كثيرا عن الجدران مثلها مثل الأجساد القليلة التي تتدحرج على عجل من الشارع الرئيس إلى الطرق المتفرعة منه.
تندفع سيارة (الإيفا) مجتازة الطريق المحاذي لسور الإعدادية الجنوبي، في نهاية هذه الطريق مدرستي الابتدائية.. أمامها (مستوصف صحة الطلاب). لِمَ يتعمد هذا السائق تعذيبي؟ أم تراه يسدي إلي معروفا وهو يمر بي من هنا قبل أن يحملني إلى مكان قد لا أعود منه أبدًا ؟
خبأنا النخل. كانت جذوعه تحف بأجسادنا ونحن نركض فيما سعفه المتدلي ينشق أمامنا كانشقاق قصب كثيف أمام اندفاعة قوية لـ (مشحوف) بصدر عال... ومع أول الصباح بدأت الجذوع تبتعد والقامات تستطيل لتستقر هناك، في الأعلى، حيث الريح تلاعب أطراف السعف كعادتها منذ الأزل..
هكذا كان شأن الكثير من الأشياء التي بقيتْ معي. حقيبة سوداء واحدة، تشبه تلك التي كان يحملها الحلّاقون قـديمًا، كانت تنتقل من مكان إلى آخر، فمرّة كنت أخبئها بعناية أو أضعها ظاهرة مع بقية حقائبي، ولليلة واحدة فقط بقيتْ مرمية قريبة من الباب، ولكنها لم تبق هناك الليل كلّه، الذي جعلني أستيقظ فزعًا للبحث عنها هو الشخص الذي أودعها لديّ قبل أن يغيب، رأيته ينتصب أمامي واقفًا طالبًا حقيبته، ولمّا كنت تائها وسط فوضى الأشياء التي تحيطني لم أستطع إيجادها بسرعة، وكان يلحّ عليّ، أراه خلفي في كل خطوة أخطوها، استيقظتُ فزعًا?. وكان قدح الماء الواقف عند رأسي فارغا، وفي طريقي إلى المطبخ لملئه وقعتْ عيناي على حقيبته مرمية قريبا من الباب، اتجهت إليها فورا.. حملتها ووضعتها مع أمتعتي.
لم أكن أعرف الرجل، اسمه الأول فقط هو ما بقي في ذاكرتي التي لا أعوّل عليها، الليلة التي قضاها معنا بقي فيها صامتًا، لم يتحدث كثيرا، بل ربما لم يتحدث أصلا، كنت أراه جالسًا محتضنًا حقيبته، شبح ابتسامة يطفو على شفتيه حين كنّا نضحك بصوت عالٍ.
كنت في (الزاوية)، وهي مدينة لا تبعد كثيرًا عن مدينة (زوارة).. المنفذ البحري الذي يستخدمه المهربون لرفد السواحل الإيطالية بالمهاجرين غير الشرعيين، موقعي هناك جعلني محطة لبعض من أعرفهم، والكثير ممن لا أعرفهم كصاحب الحقيبة، من العراقيين وهم في طريقهم لركوب البحر.. الأمر الذي جعل زاوية الغرفة الوحيدة التي أسكنها تمتليء بالأمتعة. كان المبحرون يخرجون بحقائب كبيرة تصغر تدريجيًا، حتى إذا كانت محطتهم الأخيرة قبل الصعود إلى الزورق لم يبق معهم غير كيسٍ من النايلون يضمّ قطعتين من الملابس الداخلية وربما سروالا من الجين? ومنشفة صغيرة يلفّ بها رأسه بعد أن يصعد إلى الزورق. هذا الأمر جعل أكياس النايلون تتكاثر في زاوية الغرفة بأكثر من لون، الحقائب، وكلّها قديمة شبه ممزقة، تتراص واحدة جنب الأخرى.. ومن ثم فوقها.
لا أدري كيف يفكّر شخص، ينوي عبور البحر بزورق محطم، حين يكتب اسمه على ورقة ليضعها في كيس قد يخفي، في أحسن الأحوال، ملابس ليستْ جديدة! هل يفكر أنه، إذا وصل هناك، سيحتاج إليها؟! أم أنه يفقد الثقة في البحر أصلا فيترك خلفه بعض ثياب وأشياء أخرى قد تنفعه حين يخذله البحر! لا أدري.
مع كل قصاصة ورق يسجل عليها اسما لتوضع في حقيبة أو كيس نايلون كان اسمي ورقم هاتفي يدوّن في أوراق صغيرة تحشر بعناية بين الأوراق النقدية الخضراء الملفوفة بحرص شديد لحمايتها من الماء، وعدا ذلك.. لم يطلبني أحد من خلف البحر يومًا. كان المبحرون يغيبون، بعضهم يصل إلى الشواطئ البعيدة، والكثيرون منهم لا يصلون، يبتلعهم البحر.. أو قد تقبض عليهم الدوريات التي تجوب السواحل بحثا عنهم، فيبقون متنقلين من سجن إلى سجن.. ومن مخفر إلى مخفر حتى ينتهي بهم المطاف بعيدا، لا تبقى أهمية لحقيبة متروكة في مكان ما أمام خيبة كبيرة تشبه ?لك التي يعيشها المبحرون الفاشلون.
مرّات قليلة فقط كان فيها البعض يعودون لأخذ أماناتهم، فقد تلغى الرحلة.. أو قد يغير المبحر رأيه حين يرى شكل الزورق المتداعي وأعداد المهاجرين الكثيرة التي تتصارع على الشاطئ للصعود إليه. (لستُ مضطرًا لذلك). قال لي أحدهم عندما عاد يومًا لأخذ ما تركه عندي في طريق عودته حين قرر أن لا يصعد إلى الزورق:(حياتي أغلى بكثير من أن أضعها مع كل هؤلاء المنتظرين القفز إلى الماء، شعرت أنهم سيرمون بعضهم بعضا إلى البحر إذا اعترضتهم مشكلة ما. وهنا.. أين أنا من كل ذلك؟! أنا هنا آكل، وأنام، ولدي امرأة أتردد عليها أو تجيء هي إليّ ك?ما استطعنا ذلك.. وأحلم.. نعم.. أحلم بالوصول إلى الشاطئ الآخر، ذلك أفضل بكثير من أن أفقد حتى القدرة على الحلم. لا أدري، ربما أعود مرة أخرى وأمرّ بك ثانية). ثم حمل متاعه وذهب.. ولم أره مرة أخرى.
كما قلت.. الكثير من الأشياء تكدّست عندي بهذا الشكل، ولكون الغرفة التي كنت أسكنها ليست كبيرة بما يكفي.. كنت أعيد ترتيب هذه الأشياء بين فترة وأخرى، وربما أتخلص من بعضها خصوصا تلك التي مرّ على بقائها فترة طويلة، أطمئن معها إلى أن صاحبها لن يسأل عنها، وكنت أحرص على أخذ الأذن من أصحابها بذلك.. وهو أن أتصرف بها كما أشاء في حال عدم عودتهم لاستردادها، فأعطيت الكثير منها لبعض العمال الأفارقة، والكثير منها بقي مكومًا على حاله في زاوية الغرفة ومنها حقيبة الرجل الذي زارني في الحلم طالبا استردادها.
في الصباح دفعني الفضول إلى فتحها وتفقد محتوياتها بشكل أدق هذه المرة.. ولم يكن ثمة غير قطعتين من الثياب، كتاب نزع غلافه، ودفتر مغلف بورق ملون ومربوط بسلك رفيع أحمر بذات الطريقة التي تربط بها الهدايا.
تصفحته على عجل فشدّ انتباهي، ولمّا كنت أحزم أمتعتي للعودة إلى الوطن ولا أجد الوقت الكافي لقراءته كله.. أجلّتُ ذلك إلى وقت أكون فيه أكثر هدوءًا. وهكذا حصل. فالأوراق التالية هي كل ما وجدته في دفتر الرجل الذي أشك في أن ذاكرتي تحتفظ باسمه صحيحًا.
(هذه الأوراق)
يستفزك بياض الورق المبسوط أمامك لليوم الثالث دون أن تكتب شيئا، وبقدر استفزازه لك.. فإنه يجعل الأحداث في رأسك تغلي كمرجل مسجر لا يجد ماءه منفذًا للخروج.. يعجز رأس قلمك عن اللحاق بالأحداث وهي تمرّ أمام عينيك كالبرق الخاطف فتهرب منها متفحصًا ومتحسسًا، بيدك، الجبس المحيط بكاحلك المكسور تاركا عينيك تعيدان تفحّص موجودات غرفتك التي تستطيع وصفها بكل تفاصيلها حتى وأنت مغمض العينين.
لطالما كان هذا مشروعًا مؤجلا ألحّ عليّ كثيرا.. وأخرته كثيرا متعللا بإمكانية حصولي على استقرار نسبي أستطيع معه ترتيب أفكاري بشكل ما، ولم يكن ذلك يحصل مع أني كنت قد جهزّتُ أوراقي منذ أيامي الأولى في غرفتي تلك، في الأهواز، حيث عملت مراقبا ومشرفا في مزرعة، في أول نزول لي إلى المدينة حرصت على شراء بند ورق وأقلام عدة، في الأيام الأولى كان الطواف في المزرعة، النهار بطوله ينهكني، ومع ما كنت أدونه مساءً عن الأشياء التي تدخل وتخرج إلى ومن المخازن.. لم يكن يتبقى الكثير من الوقت. ولمّا اعتدتُ على ذلك وظننتُ أنه يمكنني?أن أبدأ، طرقت بابي ذات مساء فتاة أهوازية وبعثرتْ أوراقي من جديد لينتهي الأمر ببند الورق إلى قصاصات صغيرة أدون عليها يوميات العمل قبل نقلها مساءً إلى السجل الذي أحتفظ به في غرفتي.
في سوريا.. لم يكن الأمر أحسن حالا، على العكس، فحتى الغرفة التي كانت تؤمن لي خلوة أنا بحاجة إليها.. حتى هذه فقدتها، فقد كنّا نسكن جماعات بأمزجة وأهواء واهتمامات مختلفة، إذ لا يوفر دخل أي منّا استقلالا نسبيا له. ومع أني حاولت أن أكتب شيئًا في أيام العطل لمّا كنت أخرج إلى الساحات والحدائق العامة.. إلا أن الأمر بقي عند مجموعة ملاحظات ومواضيع غير مكتملة مزّقتها كلها قبل انتقالي ليبقى المشروع مؤجلا كما هي الحياة بالنسبة لي.
في عمّان، التي لم أبق فيها طويلا، عشتُ وضعا مماثلا، جسدي، الذي لم يعتد على هذا النوع من العمل الشاق، إذ أنني اشتغلتُ عاملا خلف بناء مرة وخلف بلاط مرة.. وكان عليّ، مع كل منهما، عمل كل شيء.. فقد كنت وحدي، احتاج الكثير من الوقت لأصبح متمرسًا، والوقت القليل الذي يتبقى كنت أقضيه متجولا في الساحة الهاشمية والمناطق القريبة منها لأجد نفسي بعدها جالسا على أعلى صفٍّ في المدرج الروماني متأملا الكثير من الشقر وهم يحرصون، كل الحرص، على التقاط العديد من الصور بين أعمدته وأحجاره المتناثرة.
هل كنت حقا لا أملك الوقت! ليس تماما، فهذا بعض الحقيقة التي يكمن بعضها الآخر في كسلي وعدم قناعتي في أن ما سأكتبه سيكون مهما، ولمن أريد كتابته؟ هل ليقرأه الآخرون فيعرفوا بعض ما جرى ويجري؟ أم إني أحاول إفراغ رأسي من كل ما يدور فيه ويقلقه ليلا ونهارا، علّي أستطيع، إن أنا فعلت، توفير مساحة فيه تمكنني من التفكير بشكل أفضل؟
أيّا يكن السبب.. فالرغبة تلك ما زالت تلحّ عليّ، وهذه الفترة التي وفرها لي كاحلي المكسور بعد محاولة ركوب البحر الأخيرة والتي انتهت بالفشل.. هذه الفترة لا أريدها أن تضيع، فهي ضائعة أصلا كضياعي خلف اسم لم أختره وفي أماكن لم أتمكن، حتى الآن، من الوصول إلى غيرها.
يوفّر لي الصباح، الذي أدرك طوله في أشهر الصيف هذه أكثر من أي وقت مضى.. يوفر لي وقتا جيدا للمحاولة وترتيب الأفكار، فباب غرفتي لا يطرقه أحد صباحا إلا نادرا، إذ أن القلة الذين اعتادوا زيارتي ينتشرون صباحا كل في عمله، وبعد أن كانوا يترددون علي مساءً كل ليلة تقريبا.. تباعدت زياراتهم لتقتصر على ليالي الجمع وصباحاتها. مكنني ذلك من ترتيب أفكاري قليلا، إلا أن البداية بقيت صعبة، ربما كانت الفوضى التي أعيشها والضياع الذي أختبئ فيه، كطفل تحت عباءة امرأة غير أمه، هما ما يدفعاني بعيدا عن البداية.
أقرّ بصعوبة البدايات، وأعترف أنني إن بقيت أبحث عن بداية أظنها مناسبة فلن أفعل شيئا. أعتقد أن الحل يكمن في الانسياق لفوضى الذهن وتشظي الذاكرة.. هذا ما اهتديت إليه أخيرا بعد أيام من الحوار الصامت مع هذه الأوراق الموضوعة أمامي.. وهو أن أبدأ من أي مكان.. أكتب أي شيء أشعر أنني أستطيع كتابته كاملا وبذلك أكون قد أفرغت بعضا مما ينوء بحمله رأسي المتعب، ربما يتيح ذلك لأفكار وصور أخرى أن تتدفق، أحداث تنزّ لأدونها قبل أن تضيع، ثم لماذا هذا الإصرار على أن تكتب بتسلسل منطقي! ما هو المنطقي في كل ما جرى ويجري لك؟ الفوضى ا?تي عشتها، إنقلها على الورق ما دمت، حتى الآن، عالقا وسطها، ربما يتاح لك، في وقت آخر، زمان تكون فيه أكثر هدوءا.. بصرك يسرح في مساحات خضراء شاسعة.. أو تكون جالسا بمواجهة بحر هادئ تبدو مياهه كمرآة صقلت للتو، إعادة النظر في أوراقك التي تنوي كتابتها لتعيد ترتيبها من جديد.
هل سيجيء ذلك الوقت ؟ على أية حال.. ها أنت تنتظره، تحلم به، يعيقك الجبس المحيط بقدمك اليمنى عن التسكع في الأماكن التي يتواجد بها المهربون لتشمّ رائحة زورق على وشك المغادرة. الأيام المتبقية لك، والتي ستقضيها وحيدا هنا، استثمرها في الكتابة. أي شيء يخطر في بالك دوّنه قبل أن تتمكن من السير سويا مرة أخرى، عندها ستؤجل مشروعك، كما كنت تفعل دوما، لتضيع بين عمل ضجرت منه وطواف يومي ينتهي بك مساءً على ساحل البحر لتملأ رائحته صدرك متجولا في طرق مضاءة على الجهة الأخرى منه والتي لا ترى عيناك منها شيئا غير ظلمة البحر المط?قة
(1)
« أنت «.. أشار لي. أراه بوضوح، على بقايا ضوء السراج الذي أوشك أن ينطفئ، جالسا فوق كرسي حديد، تمتد ذراع خشبية من تحت إبطه حتى تلامس قدميّ فيما يحتفظ ببندقيته، بكلتا يديه، حاشرا مؤخرتها بين فخذيه.
قبل أن يحل المساء عليك أن تضطجع، تهيئ لك مكانا ترقد فيه، هذا في أول الليل، أما في آخره.. فترتب الأجساد نفسها بطريقة ما.. بفوضى دونها لا تتسع هذه القاعة لثلاثمائة شخص. أمس كنا أربعمائة. بقي البعض واقفا إلى الصباح على قدم واحدة، وكنت جالسًا أول الليل، ألصق فخذي بصدري، بعدها وجدت لجثتي مكانا فوق الآخرين.. فنمت. في الصباح.. كان مرفقي الأيسر يغوص بين ضلوع أحدهم. « قتلتني «.. قال لي. في الحقيقة لست من فعل ذلك، قتله شخص آخر.. كان رأسه معصوبا بخرقة قماش مخططة قذرة، قدمه حمراء منتفخة، تتوزع ظهره وصدره لطخات حمراء م?رقة. فنهضتُ.
هذا المساء بدت القاعة ضيقة وكأنهم لم يخرجوا منها مئة بعد الظهر، نقلوا إلى مكان آخر.. ربما إلى (المسرح) المجاور. اضطجعتُ.. فبدا جسدي طويلا بشكل لم آلفه. وكان الحارس منتصبا عند قدمي، يتطلع في القاعة. «كنتم أمس أربعمائة ووسعتكم، واليوم أنتم ثلاثمائة ولا تسعكم»! يخطو، بحذائه الثقيل، إلى الداخل. يبدأ، عند مؤخرة القاعة، بترتيب الأجساد. يلصق هذا بالجدار. يدفع ذاك إلى الزاوية. «أنت.. اسحب رجليك. تعال، أنت الواقف، تعال هنا، اجلس بينهم. حسن». ينسحب للخلف، وبانسحابه تبدو الأجساد ساكنة أول الأمر، وإذ يبتعد تتمدد، تسرق? من بعضها البعض، فضاءاتها، أو تتشارك في فضاء واحد. وصل إليّ. أحسّ قدميّ تلامسان الباب مع أني كنت في ثلث القاعة الأول. « لم رجليك «. وخزني بغصن كان بيده في حين بندقيته معلقة بكتفه فسحبت ساقيّ. أجلس واحدا أمامي. وبقيت هكذا حتى خرج ليجلس على كرسيه الحديد القريب من باب القاعة المفتوح على سعته.
« أنت ! ألم تسمع ؟». وكان اللسان الأحمر المتأرجح فوق فوهة قنينة من الزجاج يوشك أن يخبو. القاعة، إذ أصبح الضوء ضعيفا أكثر من قبل، تتسع، يزحف الظلام من الخلف ملتهمًا أجزاءها شبرا شبرا، يتراجع الضوء، يحتمي بما تبقى من اللسان الأحمر القصير. تبدأ الحواجز بالتساقط. الجدران تختفي. القاعة جزء من العالم المظلم في الخارج.
« أنت !». ركلني هذه المرة. انتبهتُ إليه واقفًا على رأسي. « أمل القنينة قليلا «. كان يريد إيصال ما تبقى من (الكاز) إلى اللسان الذابل ليديم توهجه. مددت يدي إلى القنينة. وعندما قلبتها.. انطفأتْ.
(2)
- إلى أين ؟
- لا عليك. اتبعني فقط. أنا ابن هذه المنطقة، وبيتي لا يبعد كثيرًا، ربما نصله قبل أن تشرق الشمس. انحنِ ! ألا تسمع الرصاص يمزق كل شيء حولنا ؟
- وهل سنصل ؟ !
- لا أدري. ولكننا الآن في الخارج. أصبحنا بعيدين عن سور المعهد. علينا أن نصل إلى مكان ما.
كان صوت الرصاص ورشقاته قد بدأت تخف دون أن تتوقف تماما. لم نكن وحدنا من هرب.. كثيرون، بالتأكيد، توزعت أجسامهم في اتجاهات شتى، وكنت ورفيقي، الذي لا أذكر أني رأيته من قبل، نركض معا باتجاه يعرفه هو. أما أنا.. فلم أكن دخلتُ (معهد البتروكيمياويات) هذا من قبل أو حتى وصلت إلى بابه، وها أنا أقف في طابور طويل مع معتقلين كثر حملتنا سيارة (إيفا) عسكرية من فندق (حمدان) وسط البصرة مخترقة شارع (الاستقلال) باتجاه نهر (الخورة)، ومع كل شــيء أراه كانت ذاكرتي تتقد. اجتزنا نصب (عتبة بن غزوان) وكانت منصته فارغة، كان مختبئا.. ر?ما يكونون قد اعتقلوه.. أو ترك المدينة مثل الكثير من أبنائها فيما بدت واجهة بناية (الإعدادية المركزية) بائسة أكثر من أي وقت آخر رأيتها فيه، تخترقها القذائف في أماكن عدة وكان بابها الخشب الكبير محطما ترقد إحدى ضلفتيه على السلم المؤدي للمدخل في حين تندفع الضلفة الثانية إلى الداخل كاشفة مدخلا كئيبًا تركته كل أشكال الحيوات التي عبرته منذ عقود.
بدت الشوارع فارغة.. وشمس آذار ترسم ظلالا لاتبتعد كثيرا عن الجدران مثلها مثل الأجساد القليلة التي تتدحرج على عجل من الشارع الرئيس إلى الطرق المتفرعة منه.
تندفع سيارة (الإيفا) مجتازة الطريق المحاذي لسور الإعدادية الجنوبي، في نهاية هذه الطريق مدرستي الابتدائية.. أمامها (مستوصف صحة الطلاب). لِمَ يتعمد هذا السائق تعذيبي؟ أم تراه يسدي إلي معروفا وهو يمر بي من هنا قبل أن يحملني إلى مكان قد لا أعود منه أبدًا ؟
خبأنا النخل. كانت جذوعه تحف بأجسادنا ونحن نركض فيما سعفه المتدلي ينشق أمامنا كانشقاق قصب كثيف أمام اندفاعة قوية لـ (مشحوف) بصدر عال... ومع أول الصباح بدأت الجذوع تبتعد والقامات تستطيل لتستقر هناك، في الأعلى، حيث الريح تلاعب أطراف السعف كعادتها منذ الأزل..