على الرغم من مرور حوالي ألف عام على وفاته، إلا إن الكلمات التي قالها المعري، في نثره و في شعره، تشير لنا كم كان على حق في قولها إذ تؤكدها الوقائع التي نراها اليوم على تراب البلدان التي يتحكم فيها الاسلاميون، تتبعهم أقوام ينتشر في عقولها الجهل و يتسرطن في أجسادها المرض، تنحر رقابهم سيوف الدعاة إلى دين أقل ما يقال عنه، و هذا ما يقدمه المسيطرون عليه إعلاميا و وهابيا، بأنه دين إرهاب و نهب و فساد و اغتصاب.
أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، التنوخي المعري. شاعر كبير و فيلسوف. و لد و توفي في معرة النعمان (363ـ449 هـ / 973-1057م ). إلا أن تاريخ ميلاده غير مضبوط شأنه شأن مواليد عرب أخرين. و عدم ضبط تاريخ ميلاد المعري هو مثل آخر من الأمثلة الكثيرة للاضطراب الذي تقدمه تواريخ العرب قاطبة، إذ أنه ليس هناك أي ضبط لا لتواريخهم و لا لحوادثهم. و هكذا ذكر (الصفدي) في (الوافي بالوفيات) أن المعري "ولد يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاث مائة بالمعرة وتوفي ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني شهر ربيع الأول وقيل ثالث عشرة سنة تسع وأربعين وأربع مائة".
و هكذا نرى أن اليوم الذي ولد فيه المعري غير معروف. و غير معروفين أيضا لا الشهر و لا السنة!
وسخر أبو العلاء من اسمه فقال:
دُعيتُ أَبا العَلاءِ وَذاكَ مَينٌ = وَلَكِن الصَحيحَ أَبو النُزولي
أصيب المعري بمرض الجدري وهو صغيرا فعمي في السنة الرابعة من عمره. وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر لا أعقل غير ذلك.
و قال في العمى:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن = وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضـــنا فيه إلى اللهو حتى = وقف النجم وقفة الحيران
فكأني ما قلت والبــــــدر طفل = وشباب الظلماء في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الز = نج عليها قلائد من جمان
قال الشعر وهو على عمر إحدى عشر سنة. دخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، و دخلها ثانية سنة 399 هـ فأقام بها سنة و سبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة ولزم منزله.
و ذكر الصفدي سبب رجوعه إلى المعرة من بغداد أنه قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال له: ليصعد الاصطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه، والاصطبل في لغة أهل الشام الأعمى.
ولما رجع المعري لزم بيته وسمى نفسه: رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل وحبس بصره بالعمى. وكان قد رحل إلى طرابلس وكانت بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم، واجتاز باللاذقية ونزل ديراً كان به راهب له علمٌ بأقاويل الفلاسفة سمع كلامه فحصل له بذلك شكوك، والناس مختلفون في أمره والأكثرون على إكفاره وإلحاده.
والمعري من بيت له جماعة من أقاربه قضاة ورجال دين وشعراء مثل سليمان بن أحمد بن سليمان جده قاضي المعرة وولي القضاء بحمص ووالده عبد الله بن سليمان كان شاعراً وأخيه محمد بن عبد الله وكان أسنّ من أبي العلاء وله شعر وأبي الهيثم أخي أبي العلاء وله شعر. وجاء من بعده جماعة من أهل بيته وقالوا الشعر.
كتب اليافعي في (مرآة الجنان و عبرة اليقظان) أن المعري "قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، وعلى محمد بن عبدالله ابن سعد النحوي بحلب، وله من النظم:
* لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء وما يقارنها،
* وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه وسماه: ضوء السقط،
* وله الكتاب المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً.
وحكي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف قال: لا أعلم ما كان يعوده بعد هذا وكان علامة عصره في فنون" الادب. ومن لطيف نظمه قوله:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم = والعذب يهجر للإفراط في الخصر
بالخاء المعجمة والصاد المهملة مفتوحتين وبالراء.
ومن نظمه المشير به إلى فضله، و به يمدح نفسه:
وإني وإن كنت الأخير زمانه = لآت بما لم يستطعه الأوائل
و أورد له الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين قوله:
قلتم لنا صانعٌ قديمٌ = قلنا صدقتم كذا نقول
ثم زعمتم بلا زمانٍ = ولا مكانٍ ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خبيءٌ = معناه ليس لنا عقول
و كأن المعري يريد أن يقول ما قاله بعده بقرون (جيمس مادسن): الأديان تكبل و تقمع العقول و تجعلها غير صالحة لأي عمل نبيل.
أما ياقوت الحموي فقال: وكان مهتماً في دينه يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحماً ولا يؤمن بالرسل ولا البعث والنشور.
و من الناس من جعله زنديقاً وهم الأكثر، و من بينهم الشيخ شمس الدين الذي حكم بزندقته في ترجمته له ، ومن الناس من أوّل كلامه ودافع عنه. ومما يستشهد عليه من المقالة الأولى قوله:
عقول تستخف بها سطور = ولا يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى = وإنجيل ابن مريم والزبور.
و تشابه ما قاله المعري، و تأتي نافعة في هذا المكان، كلمات (جيني رودنبرغ): الأديان تختلف في درجة الحماقة لذا أنا أرفضها جميعا.
و للمعري أبيات شعر أخرى:
إِن عَذُبَ المَينُ بِأَفواهِكُم = فَإِنَّ صِدقي بِفَمي أَعذَبُ
طَلَبتُ لِلعالَمِ تَهذيبَـــــهُم = وَالناسُ ما صُفّوا وَلا هُذِّبوا
سَأَلتُ مَن خالَفَ عَن دينِه = فَأَعوَزَ المُخبِرُ لا يَكذِبُ
وَأَكثَروا الدَعوى بِلا حُجَّةٍ = كُلٌّ إِلى حَيِّزِهِ يَجذبُ
و المين هو الكذب
وأما الباخرزي فقد قال في المعري: ضرير ما له في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج، قد طال في ظلال الإسلام آناؤه، ولكن ربما رشح بالإلحاد إناؤه، وعندما خبر بصره، والله العالم ببصيرته، والمطلع على سريرته، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن وعنونه بـ "الفصول والغايات" محاذاة للسور والآيات. و كتب الباخرزي أيضا في (دمية القصر و عصرة أهل العصر) عن أبي القاسم الوزير المغربي أنه قال :"قرأت من رسائل أبي العلاء المعري إليه ما نبهني عليه، وعرفني درجته في البلاغة، واختصاصه من صناعة النظم والنثر بحسن الصياغة وكان يلقب بالكامل ذي الجلالتين."
و قال الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني في حقه: هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت.
كان المعري يلعب الشطرنج و النرد. و عن الصفدي أن أبا منصور الثعالبي قال: حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر وهو ممن لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال: لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
وقد سلى نفسه عن عماه بقوله:
قالوا العمى منظر قبيــح = قلت بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيء = تأسى على فقده العيون
ودخل المعري يوما على المرتضى فعثر برجلٍ فقال: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. وأدناه المرتضى و اختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالاً كثيراً.
وكان المعري يتعصب لأبي الطيب ويفضله على بشار وأبي نواس وأبي تمام وكان المرتضى يبغضه ويتعصب عليه، فجرى يوماً ذكره فتنقصه المرتضى وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
"لك يا منازل في القلوب منازل....."
لكفا فضلاً. فغضب المرتضى وأمر به فسحب برجله وأخرج من مجلسه وقال لمن كان بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن لأبي الطيب ما هو أجود منها لم يذكرها. إن المعري أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ = فهي الشهادة لي بأني كامل
إن المرتضى بموقفه من المعري و اسلوب معاملته له أثبت نقصانه و هو نفس الموقف الذي يقفونه المتوترون وأعداء الحوار الهاديء.
إن المعري شرح شعر المتنبي و كان يقول: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقال إنه قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: حكيمان والشاعر البحتري.
وكتب (صلاح الدين الصفدي) في (نصرة الثائر على المثل السائر) "إن المعري كان إذا خلا بمن لا يثق إليه قال: ناولوني معجز أحمد، يعني ديوان أبي الطيب وإذا كان في غير الخلوة يقول: الشاعر. وهذا شبيه بما يحكى عن أفلاطون من أنه كان إذا جلس للناس، واستدعي منه الكلام قال: اصبروا حتى يحضر الناس، أو ربما قال: حتى يحضر العقل. يريد أرسطو. وكان يسمي ديوان أبي تمام ذكرى حبيب ويسمي ديوان البحتري عبث الوليد. وهذا يحتمل المدح والذم. أما المدح فلأن عبث الوليد حلو على القلوب. وأما الذم فلأن العبث من حيث هو مذموم عند العقلاء. ويسمي ديوان ابن هانىء المغربي رحى تطحن قرونا."
و كان المعري إذا أراد التأليف أملى على كاتبه، علي بن عبد الله بن أبي هاشم.
و كان نحيف الجسم، يلبس خشن الثياب، وله شعر في ملابسه، و في هذا يقول:
إذا تنافست الجهال في حللٍ = رأيتني من خسيس القطن سربالي
ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديناً لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين وهم لا يأكلونه كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له وهم لا يرون إيلام الحيوان.
لا آكل الحيوان الدهر مأثرةً = أخاف من سوء أعمالي وآمالي
و إِلى ذلك أشار علي بن همام حين رثا المعري فقال من قصيدة طويلة:
إِنْ كنتَ لم تُرِقِ الدماء زَهادةً = فلقد أرقْتَ اليومَ مِن عَيني دَما
و كان المعري من أنصار ترك السيف و الرمح، و في هذا يقول:
السيف و الرمح قد أودى زمانهما = فهل لكفك في عود و مضراب.
وكتب (المحبي) في (نفحة الريحانة و رشحة طلاء الحانة) حكمة من الحكم المروية عن أبي العلاء المعري، وهي:
"الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه".
كان المعري عجباً في الذكاء المفرط والحافظة. ذكر تلميذه أبو زكرياء التبريزي أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء يقرأ شيئاً من تصانيفه، فدخل المسجد مغافصةً أحد جيرانه. فقام فكلمّه بلسان الأذربية شيئاً كثيراً. فلما رجع وقعد بين يدي المعري، قال له: أي لسان هذا؟ قال التبريزي: هذا لسان أذربيجان، فقال: ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد عليه اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه. أعاد جميع ما قاله التبريزي و ما قال جاره.
إن ديوان شعر المعري هو ديوان حكمته و فلسفته. و قد ترجم الكثير من شعره إلى غير اللغة العربية، و أما كتبه فكثيرة و فهرسها في معجم الأدباء لـ (ياقوت الحموي).
19/08/2009
.../...
أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، التنوخي المعري. شاعر كبير و فيلسوف. و لد و توفي في معرة النعمان (363ـ449 هـ / 973-1057م ). إلا أن تاريخ ميلاده غير مضبوط شأنه شأن مواليد عرب أخرين. و عدم ضبط تاريخ ميلاد المعري هو مثل آخر من الأمثلة الكثيرة للاضطراب الذي تقدمه تواريخ العرب قاطبة، إذ أنه ليس هناك أي ضبط لا لتواريخهم و لا لحوادثهم. و هكذا ذكر (الصفدي) في (الوافي بالوفيات) أن المعري "ولد يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاث مائة بالمعرة وتوفي ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني شهر ربيع الأول وقيل ثالث عشرة سنة تسع وأربعين وأربع مائة".
و هكذا نرى أن اليوم الذي ولد فيه المعري غير معروف. و غير معروفين أيضا لا الشهر و لا السنة!
وسخر أبو العلاء من اسمه فقال:
دُعيتُ أَبا العَلاءِ وَذاكَ مَينٌ = وَلَكِن الصَحيحَ أَبو النُزولي
أصيب المعري بمرض الجدري وهو صغيرا فعمي في السنة الرابعة من عمره. وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر لا أعقل غير ذلك.
و قال في العمى:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن = وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضـــنا فيه إلى اللهو حتى = وقف النجم وقفة الحيران
فكأني ما قلت والبــــــدر طفل = وشباب الظلماء في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الز = نج عليها قلائد من جمان
قال الشعر وهو على عمر إحدى عشر سنة. دخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، و دخلها ثانية سنة 399 هـ فأقام بها سنة و سبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة ولزم منزله.
و ذكر الصفدي سبب رجوعه إلى المعرة من بغداد أنه قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال له: ليصعد الاصطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه، والاصطبل في لغة أهل الشام الأعمى.
ولما رجع المعري لزم بيته وسمى نفسه: رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل وحبس بصره بالعمى. وكان قد رحل إلى طرابلس وكانت بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم، واجتاز باللاذقية ونزل ديراً كان به راهب له علمٌ بأقاويل الفلاسفة سمع كلامه فحصل له بذلك شكوك، والناس مختلفون في أمره والأكثرون على إكفاره وإلحاده.
والمعري من بيت له جماعة من أقاربه قضاة ورجال دين وشعراء مثل سليمان بن أحمد بن سليمان جده قاضي المعرة وولي القضاء بحمص ووالده عبد الله بن سليمان كان شاعراً وأخيه محمد بن عبد الله وكان أسنّ من أبي العلاء وله شعر وأبي الهيثم أخي أبي العلاء وله شعر. وجاء من بعده جماعة من أهل بيته وقالوا الشعر.
كتب اليافعي في (مرآة الجنان و عبرة اليقظان) أن المعري "قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، وعلى محمد بن عبدالله ابن سعد النحوي بحلب، وله من النظم:
* لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء وما يقارنها،
* وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه وسماه: ضوء السقط،
* وله الكتاب المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً.
وحكي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف قال: لا أعلم ما كان يعوده بعد هذا وكان علامة عصره في فنون" الادب. ومن لطيف نظمه قوله:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم = والعذب يهجر للإفراط في الخصر
بالخاء المعجمة والصاد المهملة مفتوحتين وبالراء.
ومن نظمه المشير به إلى فضله، و به يمدح نفسه:
وإني وإن كنت الأخير زمانه = لآت بما لم يستطعه الأوائل
و أورد له الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين قوله:
قلتم لنا صانعٌ قديمٌ = قلنا صدقتم كذا نقول
ثم زعمتم بلا زمانٍ = ولا مكانٍ ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خبيءٌ = معناه ليس لنا عقول
و كأن المعري يريد أن يقول ما قاله بعده بقرون (جيمس مادسن): الأديان تكبل و تقمع العقول و تجعلها غير صالحة لأي عمل نبيل.
أما ياقوت الحموي فقال: وكان مهتماً في دينه يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحماً ولا يؤمن بالرسل ولا البعث والنشور.
و من الناس من جعله زنديقاً وهم الأكثر، و من بينهم الشيخ شمس الدين الذي حكم بزندقته في ترجمته له ، ومن الناس من أوّل كلامه ودافع عنه. ومما يستشهد عليه من المقالة الأولى قوله:
عقول تستخف بها سطور = ولا يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى = وإنجيل ابن مريم والزبور.
و تشابه ما قاله المعري، و تأتي نافعة في هذا المكان، كلمات (جيني رودنبرغ): الأديان تختلف في درجة الحماقة لذا أنا أرفضها جميعا.
و للمعري أبيات شعر أخرى:
إِن عَذُبَ المَينُ بِأَفواهِكُم = فَإِنَّ صِدقي بِفَمي أَعذَبُ
طَلَبتُ لِلعالَمِ تَهذيبَـــــهُم = وَالناسُ ما صُفّوا وَلا هُذِّبوا
سَأَلتُ مَن خالَفَ عَن دينِه = فَأَعوَزَ المُخبِرُ لا يَكذِبُ
وَأَكثَروا الدَعوى بِلا حُجَّةٍ = كُلٌّ إِلى حَيِّزِهِ يَجذبُ
و المين هو الكذب
وأما الباخرزي فقد قال في المعري: ضرير ما له في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج، قد طال في ظلال الإسلام آناؤه، ولكن ربما رشح بالإلحاد إناؤه، وعندما خبر بصره، والله العالم ببصيرته، والمطلع على سريرته، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن وعنونه بـ "الفصول والغايات" محاذاة للسور والآيات. و كتب الباخرزي أيضا في (دمية القصر و عصرة أهل العصر) عن أبي القاسم الوزير المغربي أنه قال :"قرأت من رسائل أبي العلاء المعري إليه ما نبهني عليه، وعرفني درجته في البلاغة، واختصاصه من صناعة النظم والنثر بحسن الصياغة وكان يلقب بالكامل ذي الجلالتين."
و قال الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني في حقه: هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت.
كان المعري يلعب الشطرنج و النرد. و عن الصفدي أن أبا منصور الثعالبي قال: حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر وهو ممن لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال: لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
وقد سلى نفسه عن عماه بقوله:
قالوا العمى منظر قبيــح = قلت بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيء = تأسى على فقده العيون
ودخل المعري يوما على المرتضى فعثر برجلٍ فقال: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. وأدناه المرتضى و اختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالاً كثيراً.
وكان المعري يتعصب لأبي الطيب ويفضله على بشار وأبي نواس وأبي تمام وكان المرتضى يبغضه ويتعصب عليه، فجرى يوماً ذكره فتنقصه المرتضى وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
"لك يا منازل في القلوب منازل....."
لكفا فضلاً. فغضب المرتضى وأمر به فسحب برجله وأخرج من مجلسه وقال لمن كان بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن لأبي الطيب ما هو أجود منها لم يذكرها. إن المعري أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ = فهي الشهادة لي بأني كامل
إن المرتضى بموقفه من المعري و اسلوب معاملته له أثبت نقصانه و هو نفس الموقف الذي يقفونه المتوترون وأعداء الحوار الهاديء.
إن المعري شرح شعر المتنبي و كان يقول: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقال إنه قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: حكيمان والشاعر البحتري.
وكتب (صلاح الدين الصفدي) في (نصرة الثائر على المثل السائر) "إن المعري كان إذا خلا بمن لا يثق إليه قال: ناولوني معجز أحمد، يعني ديوان أبي الطيب وإذا كان في غير الخلوة يقول: الشاعر. وهذا شبيه بما يحكى عن أفلاطون من أنه كان إذا جلس للناس، واستدعي منه الكلام قال: اصبروا حتى يحضر الناس، أو ربما قال: حتى يحضر العقل. يريد أرسطو. وكان يسمي ديوان أبي تمام ذكرى حبيب ويسمي ديوان البحتري عبث الوليد. وهذا يحتمل المدح والذم. أما المدح فلأن عبث الوليد حلو على القلوب. وأما الذم فلأن العبث من حيث هو مذموم عند العقلاء. ويسمي ديوان ابن هانىء المغربي رحى تطحن قرونا."
و كان المعري إذا أراد التأليف أملى على كاتبه، علي بن عبد الله بن أبي هاشم.
و كان نحيف الجسم، يلبس خشن الثياب، وله شعر في ملابسه، و في هذا يقول:
إذا تنافست الجهال في حللٍ = رأيتني من خسيس القطن سربالي
ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديناً لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين وهم لا يأكلونه كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له وهم لا يرون إيلام الحيوان.
لا آكل الحيوان الدهر مأثرةً = أخاف من سوء أعمالي وآمالي
و إِلى ذلك أشار علي بن همام حين رثا المعري فقال من قصيدة طويلة:
إِنْ كنتَ لم تُرِقِ الدماء زَهادةً = فلقد أرقْتَ اليومَ مِن عَيني دَما
و كان المعري من أنصار ترك السيف و الرمح، و في هذا يقول:
السيف و الرمح قد أودى زمانهما = فهل لكفك في عود و مضراب.
وكتب (المحبي) في (نفحة الريحانة و رشحة طلاء الحانة) حكمة من الحكم المروية عن أبي العلاء المعري، وهي:
"الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه".
كان المعري عجباً في الذكاء المفرط والحافظة. ذكر تلميذه أبو زكرياء التبريزي أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء يقرأ شيئاً من تصانيفه، فدخل المسجد مغافصةً أحد جيرانه. فقام فكلمّه بلسان الأذربية شيئاً كثيراً. فلما رجع وقعد بين يدي المعري، قال له: أي لسان هذا؟ قال التبريزي: هذا لسان أذربيجان، فقال: ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد عليه اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه. أعاد جميع ما قاله التبريزي و ما قال جاره.
إن ديوان شعر المعري هو ديوان حكمته و فلسفته. و قد ترجم الكثير من شعره إلى غير اللغة العربية، و أما كتبه فكثيرة و فهرسها في معجم الأدباء لـ (ياقوت الحموي).
19/08/2009
.../...