الهم الاجتماعي، متمثلاً في الفتنة الطائفية في الصعيد، نجده ملحّا وحاضرًا بشكل كبير في رواية «يقين العطش» وليس بقدر محدود كما في قرينتيها «الزمن الآخر» و«رامة والتنين»، فهل هذا يعني أن ضغط الواقع أصبح أكثر شراسة من أن يتم تهميشه وتجاهله لحساب الشعري والحسي؟
إني موقن أن الهمّ الاجتماعي لم يبارحني قط وهو موجود بقوة منذ «حيطان عالية» وإن كان بشكل غير مباشر. العين الفاحصة سوف تجد ذلك بسهولة، وبطبيعة الحال أصبح الهم الاجتماعي بالفعل من ثقل الوطأة، بحيث يمكن له أن يقتحم الأدب والشعر، بشكل أقوى مما كان يحدث، ولكنني أزعم أنني لم أتجاهل هذا الواقع أو أهمّشه، لا في الأعمال السابقة ولا اللاحقة، ودليلي على ذلك في روايتي «تباريح الوقائع والجنون»، وفي «صخور السماء» عن واقع «أخميم»، في الصعيد في الماضي وفي الحاضر، وفي «طريق النسر» عن واقع الحركة الوطنية الثورية في الأربعينيات وما بعدها. لا أتصور أنني أهملت الوضع الاجتماعي، أبدًا، لكن ربما كانت تقنيات ورؤى الكتابة الجديدة، التي بدأتها منذ الأربعينيات، من الجدة ومن الصدمة لدرجة أنها شغلت القارئ، خصوصًا إذا كان قارئًا متعجلاً، عن رؤية ما تتضمنه وتضمره هذه الكتابة وهذه التقنيات من عكوف على الهمّ الاجتماعي. قد يبدو للقارئ المتعجل أنه ليس هناك عندي عكوف على تفاصيل الواقع الاجتماعي، على العكس، هذا غير صحيح، في يقيني، أعتقد أن إغفال هذا العكوف، والزعم بأنه عملي ليس إلا نوعًا من البراعة اللغوية أو القشرة السطحية، زعم مغرض وفاسد حتى النخاع.
مرة أخرى وأخرى يثور السؤال: هل «ميخائيل» في روايتي «رامة والتنين» و«الزمن الآخر» وغيرهما هو معادل لإدوار الخراط؟
الإجابة لا بالقطع. لست مستعدًا أن أوقع بإمضائي تحت ما يقوله «ميخائيل» ولا أن أتقمص ما يحياه وما يمر به، لكن هناك بالتأكيد أوجه تشابه كثيرة، ولعلني مسئول أيضًا عن هذا اللبس المستمر، ومسئول عن عمد، لأنني أخلط بين وقائعه ووقائعي، بين ما يحدث لي بالفعل وما يحدث له في الرواية، لكن ذلك على سبيل التمويه الفني، ليس هناك تطابق وإن كان هناك تشابه، لكن هناك أيضًا اختلافات أساسية كثيرة بين الشخصية الروائية وكاتبها.
كتابة داخلية.. سرية
مع ذلك، فإن اسم «ميخائيل» لم يُذكر قط في رواية «يقين العطش»، ذلك لأن «يقين العطش» هو السفر الثالث من الثلاثية، أو لعلها الرباعية باعتبار ما سيكون، لأن الرواية التي أكتبها كتابة داخلية، سرية، وأحتشد لها على نحو ما، لعلها في السفر الرابع بعنوان «عقيدة الجسد»، باعتبار أن النص لم يعد بحاجة إلى ذكر اسم شخصية رئيسية فيه، لأن كل شيء يوحي إلى السفرين السابقين، بحيث لا يمكن إغفال توحد الشخصية الروائية في الأسفار الأربعة باعتبار ما سيكون.
على ذكر الكتابة الداخلية أو الكتابة عن الذات، فقد أصبحت «كتابة الذات التي تحصر الهمّ في ما هو جسدي» عبارة شائعة الآن. ليست كتابة الذات جديدة، هناك معيار لعله بسيط جدًا، هناك كتابة الذات المنغلقة على نفسها التي تحصر همها في ذاتها حصرًا، وتغفل أو تتغافل أو تعمى عما يقع خارج الذات، وهو مستحيل، أقول لمن يدعون أنهم يكتبون كتابة الذات إن هذا مستحيل، مستحيل، مستحيل، كتابة الذات - على سبيل الحصر أو القصر - غير ممكنة، لأن الذات لا وجود لها إلا في الآخر ومع الآخر، سواء كان الآخر هو المجتمع أو المرأة أو الكون، أو الأسئلة الكبرى أو القضايا المصيرية الكبرى، كلها معجونة بلحم ودم الذات، كلها قائمة في داخل الذات، شاء الكاتب أم لم يشأ، لا وجود لوهم اسمه الذات منفصلاً أو مبتورًا عن الآخر و«الآخر» كلمة عريضة تشمل كل تلك المقومات التي ذكرتها، إذن هناك الكتابة التي تعنى بالعكوف على دخيلة أو دواخل الذات، لكن هذه الدخائل الجوانية تحتوي بطبيعتها وبالضرورة على المقومات البرانية أو الخارجية، تحتوي على موضوعية العالم، وعلى قضايا المجتمع، تحتويها بالضرورة لأن الذات - كما قلت - لا وجود لها مبتورة عن الآخر، هناك ما أسميه «منطقة ما بين الذاتيات»، هذه المنطقة هي المساحة التي تتلاقى فيها الذاتيات المختلفة، أي هي الأرض المشتركة التي تجمع بين الكاتب والقرّاء، بين بعضهم بعضًا، وبين الذاتيات، وما يمكن أن نسميه «الموضوع» أو «الخارج»، هذه الوحدة متماسكة ضرورية التماسك، ووهم كتابة الجسد منفصلاً عن قضايا العالم. أكررها بوضوح، ليس هناك ما يسمى بكتابة الجسد أو الذات مبتورًا عن العالم، العالم داخل الذات، ولا وجود للذات إلا بالعالم، الصلة بين الذات والعالم، بين الذات والآخر، بين «الأنا والأنت»، صلة وثيقة ومتشعبة وحميمة لدرجة أن الفاصل بين مقوماتها يؤدي بالضرورة إلى إفقار الكتابة وربما إلى زيفها وربما إلى عطبها وفسادها.
الحسّ الصوفي
يوجد في أعمالي حس صوفي فلماذا ألجأ إلى الصوفية؟
الصوفية من الحالات الإنسانية الفذة التي لها سحرها ومصداقيتها الأساسية، لأن الصوفية تعطي ما أتكلم عنه، أي ما يمكن أن نسميه حلول العالم في الذات، وحلول الذات في العالم، العالم طبعًا بكل ما تحوي هذه الكلمة من مقومات، ليست الصوفية هي النسك والخِرَق المهلهلة والتطويح بالرأس في حلقات الذكر، هذه صورة متردية عمّا آلت إليه الصوفية، وصورة متردية من ممارسات معينة تساعد على تخلق الوجد الصوفي مثل الرقص الصوفي والإنشاد الصوفي، هي في صورتها المثلى تقنيات أو وسائط لخلق وتحفيز هذه الحالة من حالات الوجد الصوفي، أي ذلك النوع من الاتحاد بالآخر على إطلاقه، الآخر الذي يمكن أن يسمى المطلق الذي يحتوي هو أيضًا على العالم وعلى الذات بطبيعة الحال.
لعلني كنت قد أسست لمفاهيم نقدية مثل «الحساسية الجديدة» و«الكتابة عبر النوعية» و«القصة القصيدة». أتساءل الآن أحيانًا: ما أثر هذا الاتجاه التأسيسي في الأدب؟
أتصور أساسًا أن هذه المفهومات ليست إلا اقتراحات أو تأملات مطروحة وليست تقريرات نهائية مغلقة على نفسها، وهي قابلة للنقاش أو التعديل أو حتى الصواب والخطأ، كما ينبغي أن يكون ذلك في كل اقتراح نقدي، هو اقتراح قابل للحوار، ومبني على استقراء لأعمال أدبية قائمة، ليست إذن مفهومات مسبقة ولا مفروضة من عل، وإنما هي مستخلقة أو مستنبطة من كتابات موجودة، سواء كانت كتاباتي أو كتابات غيري، ومن ثم فليست المسألة مسألة أثر هذه المفهومات في الكتابة، وإنما مصداقية هذه الاقتراحات، وبطبيعة الحال، لعل هذه «المفهومات - الاقتراحات» قد وجهت اهتمام الكتّاب الشبان إلى هذا النوع من الكتابة وهو أمر أرحب به، لكنه في النهاية يتوقف على أشياء عدة، وليس على تطبيق منصاع لهذه الاقتراحات، يتوقف على تمثل الفكرة ثم صياغة العمل الأدبي أو الفني بمقدرة وموهبة، المهم القيمة الذاتية التي تنشأ عن موهبة حقيقية وصدق حقيقي، هذا هو المعيار المستمر في كل عناصر العمل الفني، وهذا لا ينتهي إليه إلا عامل النقد وتذوق جمهرة من القراء، وثبات العمل أمام الزمن، وهو الثبات الذي أسميته ومازلت أسمّيه «الحداثة» الحداثة هي مقدرة العمل الفني الكامنة على أن يبقى، بغض النظر، عن كر السنوات والحقب، لأن فيه قيمة باقية، قيمة تساؤل وصدق وقيمة موهبة حقيقية، قيمة آفاق مفتوحة باستمرار على مستقبل ما.
في هذا السياق لفت نظري بالفعل كثيرون من الشعراء والكتاب الجدد، مسألة الجيل مسألة تخضع للنقاش، وهو مصطلح مرن، يعني ظاهرة أو موجة أو حركة متقاربة السمات متواشجة الملامح، أنا أولاً لست بناقد متفرغ للنقد، أكتب نقدًا وكأنه عمل إبداعي، فكتاباتي النقدية هي، في ما أرجو، كتابات إبداعية، فيها كل حرية العمل الإبداعي، عندما أذكر أحدًا لا يعني ذلك أنني أغمط حق آخر، وعندما أكتب عن أحد لا يعني هذا حكمًا بالقيمة.
الافتتان باللغة
أعود إلى ما يثار كثيرًا عن اهتمامي الشديد باللغة هل هو انسياق وراء جمالياتها وفتنتها؟ ألا يؤدي ذلك إلى الوقوع في فخ سيطرة وقيادة اللغة بدلاً من العكس؟
هذا السؤال كله مغلوط من البداية وقائم على خطل وفساد في الحركة الثقافية. في فترة معينة، وُجد عدد من الكتّاب عوّدوا القراء على قراءة لغة لا أريد أن أقول سهلة، بل هي لغة مسطحة، وكلها قوالب، ولا تعني أن تلتحم التحامًا عضويًا صميمًا بما تقول، هي لغة إكليشيهات، أجيال وراء أجيال من الكتّاب، وخاصة في القصة والرواية فعلوا هذا، أصبح القارئ يتوقع ذلك، ليس عندي شيء اسمه اللغة، وشيء آخر اسمه محتواها ومعناها ومضمونها، فهي كلها واحدة، عناية الكاتب بتقصي حقيقة ما يكتبه من داخلها، بمعنى تتبع الظلال، وجود الفكرة، الخلجة، العاطفة، العلاقة، هذه العناية تعني بالضرورة عناية لغة وتفرقة أساسية بين كل مفردة وأخرى، واختيارًا دقيقًا لهذه المفردات التي لا وجود لها في ذاتها، وإنما وجودها في ما تنصهر فيه من مضمونها - طاقتها وشحنتها - المسألة ليست جمالية لغة، نجد في كتاباتي مساحات من السرد في لغة تكاد تقرب من لغة الصحف السيارة وهو عمل مقصود، هذه طبقة من طبقات السلم الموسيقي للغة، من حسن الحظ أن اللغة العربية لغة فادحة بل فاحشة الثراء، وسلمها الموسيقي متنوع، ليست فيها مفردة ميتة، المفردة تحيا، ترف بالحياة بقوة، لو وضعتها في سياق معاصر تصبح معاصرة، أما في سياق قديم فتصبح قديمة.
في كل شغلي من أول «حيطان عالية» وحتى «صخور السماء» و«طريق النسر» المسألة ليست مسألة موسيقى فقط، وإنما الموسيقى بإيحاءاتها، هذا هو المهم، لكل مفردة معنى معجميّ، ولها في الوقت نفسه إيحاء أو هالة أو إشعاع، لابد للكاتب والقارئ معًا أن يعرفاه معرفة اليقين، ويستشعراه أو يحسّاه حس الحدس المبين، وبالتالي لا توجد خشية من الوقوع في فخ اللغة.
سؤال آخر يوجه إليّ أحيانًا: هل يمكن القول إن هناك كُتّابًا إدواريين؟
لا أعرف، لا يصح هذا ولا يجوز، ولا أحبه ولا أتمناه أبدًا، ولا أفرح له على الإطلاق بل أحزن. لماذا؟
المسألة ببساطة لأنني أحب أن يكون لكل كاتب أسلوبه الخاص، بطبيعة الحال، هناك من يقعون في هوى كتاباتي، وهو ما أعتز به اعتزازًا عظيمًا بلاشك، لكنني أريد من الكاتب الذي يقع في هذا الهوى أن يجاهده ويصارعه، وأن يخرج من هذه المجالدة بصوته الخاص المتميز، فإذا دخل في هوى الصوت أصداء أو نغمات بعيدة من أعمالي فأهلاً وسهلاً، لكنني لا أحب أن يكون هناك كتاب إدواريون، ولا أفرح بذلك بل العكس.
ضد الخوف
تُنشر أعمالي، وخاصة الشعرية منها، في فترة زمنية متأخرة عن تاريخ كتابتها، هل كان ذلك خشية من سطوة الواقع الأدبي وقتها وعدم تفهمه لكتاباتي؟
لا أخشى شيئًا أو أحدًا، المسألة أعمق من ذلك، ربما يكون إحساسي أن هذا الشعر عزيز عليّ، أو قريب إلى قلبي جدًا بحيث لا أريد أن أخرجه على القرّاء والناس، أريد أن تظل له هذه المكانة من القرب من القلب، ما حدث هو أن استلهام اللوحات التشكيلية عند أحمد مرسي أو عدلي رزق الله، أوجد نوعًا من التشابه، وجدت أرضًا مشتركة بيني وبين هذه الأعمال، فكتبت «التأويلات» و«ضربتني أجنحة طائرك» ووجدت أنه من الممكن في هذه الحالة أن يشاركني القرّاء في هذه المنطقة من الشعر، هذا هو السبب.
دليل أنني لا أخشى سطوة الواقع إنني كتبت «حيطان عالية» في وقت كان كل التيار ضدها، ونشرتها في وقت ارتفع فيه هذا التيار إلى ذروته، وقت الكلام العريض جدًا عن الواقعية الاشتراكية، والواقعية الاجتماعية. أزعم أن «حيطان عالية» هي الواقعية الحقيقية، وليست الكتابات الفجة التي كتبت تحت شعار الواقعية، توجد طبعًا كتابات موهوبة وحقيقية كتبت تحت هذا الشعار، لكنها تتجاوز هذا الشعار.
ستجد أنه في كتاباتي ليست هناك حسابات لما يتجاوز متطلبات ومقتضيات الفن، وهي وحدها كافية بصرامتها وقسوتها وعذوبتها في الوقت نفسه، أنا ضد تملّق الرأي العام، ضد الكاتب الذي يتملّق الجمهور والمجتمع أو ينصاع للرأي العام بحجة أن الأدب لابد أن يكون قريبًا من الناس. هذه حجج زائفة كلها، القارئ يفهم ويدرك، ويحسّ إن لم يكن بكل أبعاد العمل الفني المركب، فهو على الأقل يدرك ويتذوق بعضها الذي يصل إليه، أزعم أنني أكثر إيمانًا بالجمهور ممن يدّعون أنهم يكتبون للجمهور.
إني موقن أن الهمّ الاجتماعي لم يبارحني قط وهو موجود بقوة منذ «حيطان عالية» وإن كان بشكل غير مباشر. العين الفاحصة سوف تجد ذلك بسهولة، وبطبيعة الحال أصبح الهم الاجتماعي بالفعل من ثقل الوطأة، بحيث يمكن له أن يقتحم الأدب والشعر، بشكل أقوى مما كان يحدث، ولكنني أزعم أنني لم أتجاهل هذا الواقع أو أهمّشه، لا في الأعمال السابقة ولا اللاحقة، ودليلي على ذلك في روايتي «تباريح الوقائع والجنون»، وفي «صخور السماء» عن واقع «أخميم»، في الصعيد في الماضي وفي الحاضر، وفي «طريق النسر» عن واقع الحركة الوطنية الثورية في الأربعينيات وما بعدها. لا أتصور أنني أهملت الوضع الاجتماعي، أبدًا، لكن ربما كانت تقنيات ورؤى الكتابة الجديدة، التي بدأتها منذ الأربعينيات، من الجدة ومن الصدمة لدرجة أنها شغلت القارئ، خصوصًا إذا كان قارئًا متعجلاً، عن رؤية ما تتضمنه وتضمره هذه الكتابة وهذه التقنيات من عكوف على الهمّ الاجتماعي. قد يبدو للقارئ المتعجل أنه ليس هناك عندي عكوف على تفاصيل الواقع الاجتماعي، على العكس، هذا غير صحيح، في يقيني، أعتقد أن إغفال هذا العكوف، والزعم بأنه عملي ليس إلا نوعًا من البراعة اللغوية أو القشرة السطحية، زعم مغرض وفاسد حتى النخاع.
مرة أخرى وأخرى يثور السؤال: هل «ميخائيل» في روايتي «رامة والتنين» و«الزمن الآخر» وغيرهما هو معادل لإدوار الخراط؟
الإجابة لا بالقطع. لست مستعدًا أن أوقع بإمضائي تحت ما يقوله «ميخائيل» ولا أن أتقمص ما يحياه وما يمر به، لكن هناك بالتأكيد أوجه تشابه كثيرة، ولعلني مسئول أيضًا عن هذا اللبس المستمر، ومسئول عن عمد، لأنني أخلط بين وقائعه ووقائعي، بين ما يحدث لي بالفعل وما يحدث له في الرواية، لكن ذلك على سبيل التمويه الفني، ليس هناك تطابق وإن كان هناك تشابه، لكن هناك أيضًا اختلافات أساسية كثيرة بين الشخصية الروائية وكاتبها.
كتابة داخلية.. سرية
مع ذلك، فإن اسم «ميخائيل» لم يُذكر قط في رواية «يقين العطش»، ذلك لأن «يقين العطش» هو السفر الثالث من الثلاثية، أو لعلها الرباعية باعتبار ما سيكون، لأن الرواية التي أكتبها كتابة داخلية، سرية، وأحتشد لها على نحو ما، لعلها في السفر الرابع بعنوان «عقيدة الجسد»، باعتبار أن النص لم يعد بحاجة إلى ذكر اسم شخصية رئيسية فيه، لأن كل شيء يوحي إلى السفرين السابقين، بحيث لا يمكن إغفال توحد الشخصية الروائية في الأسفار الأربعة باعتبار ما سيكون.
على ذكر الكتابة الداخلية أو الكتابة عن الذات، فقد أصبحت «كتابة الذات التي تحصر الهمّ في ما هو جسدي» عبارة شائعة الآن. ليست كتابة الذات جديدة، هناك معيار لعله بسيط جدًا، هناك كتابة الذات المنغلقة على نفسها التي تحصر همها في ذاتها حصرًا، وتغفل أو تتغافل أو تعمى عما يقع خارج الذات، وهو مستحيل، أقول لمن يدعون أنهم يكتبون كتابة الذات إن هذا مستحيل، مستحيل، مستحيل، كتابة الذات - على سبيل الحصر أو القصر - غير ممكنة، لأن الذات لا وجود لها إلا في الآخر ومع الآخر، سواء كان الآخر هو المجتمع أو المرأة أو الكون، أو الأسئلة الكبرى أو القضايا المصيرية الكبرى، كلها معجونة بلحم ودم الذات، كلها قائمة في داخل الذات، شاء الكاتب أم لم يشأ، لا وجود لوهم اسمه الذات منفصلاً أو مبتورًا عن الآخر و«الآخر» كلمة عريضة تشمل كل تلك المقومات التي ذكرتها، إذن هناك الكتابة التي تعنى بالعكوف على دخيلة أو دواخل الذات، لكن هذه الدخائل الجوانية تحتوي بطبيعتها وبالضرورة على المقومات البرانية أو الخارجية، تحتوي على موضوعية العالم، وعلى قضايا المجتمع، تحتويها بالضرورة لأن الذات - كما قلت - لا وجود لها مبتورة عن الآخر، هناك ما أسميه «منطقة ما بين الذاتيات»، هذه المنطقة هي المساحة التي تتلاقى فيها الذاتيات المختلفة، أي هي الأرض المشتركة التي تجمع بين الكاتب والقرّاء، بين بعضهم بعضًا، وبين الذاتيات، وما يمكن أن نسميه «الموضوع» أو «الخارج»، هذه الوحدة متماسكة ضرورية التماسك، ووهم كتابة الجسد منفصلاً عن قضايا العالم. أكررها بوضوح، ليس هناك ما يسمى بكتابة الجسد أو الذات مبتورًا عن العالم، العالم داخل الذات، ولا وجود للذات إلا بالعالم، الصلة بين الذات والعالم، بين الذات والآخر، بين «الأنا والأنت»، صلة وثيقة ومتشعبة وحميمة لدرجة أن الفاصل بين مقوماتها يؤدي بالضرورة إلى إفقار الكتابة وربما إلى زيفها وربما إلى عطبها وفسادها.
الحسّ الصوفي
يوجد في أعمالي حس صوفي فلماذا ألجأ إلى الصوفية؟
الصوفية من الحالات الإنسانية الفذة التي لها سحرها ومصداقيتها الأساسية، لأن الصوفية تعطي ما أتكلم عنه، أي ما يمكن أن نسميه حلول العالم في الذات، وحلول الذات في العالم، العالم طبعًا بكل ما تحوي هذه الكلمة من مقومات، ليست الصوفية هي النسك والخِرَق المهلهلة والتطويح بالرأس في حلقات الذكر، هذه صورة متردية عمّا آلت إليه الصوفية، وصورة متردية من ممارسات معينة تساعد على تخلق الوجد الصوفي مثل الرقص الصوفي والإنشاد الصوفي، هي في صورتها المثلى تقنيات أو وسائط لخلق وتحفيز هذه الحالة من حالات الوجد الصوفي، أي ذلك النوع من الاتحاد بالآخر على إطلاقه، الآخر الذي يمكن أن يسمى المطلق الذي يحتوي هو أيضًا على العالم وعلى الذات بطبيعة الحال.
لعلني كنت قد أسست لمفاهيم نقدية مثل «الحساسية الجديدة» و«الكتابة عبر النوعية» و«القصة القصيدة». أتساءل الآن أحيانًا: ما أثر هذا الاتجاه التأسيسي في الأدب؟
أتصور أساسًا أن هذه المفهومات ليست إلا اقتراحات أو تأملات مطروحة وليست تقريرات نهائية مغلقة على نفسها، وهي قابلة للنقاش أو التعديل أو حتى الصواب والخطأ، كما ينبغي أن يكون ذلك في كل اقتراح نقدي، هو اقتراح قابل للحوار، ومبني على استقراء لأعمال أدبية قائمة، ليست إذن مفهومات مسبقة ولا مفروضة من عل، وإنما هي مستخلقة أو مستنبطة من كتابات موجودة، سواء كانت كتاباتي أو كتابات غيري، ومن ثم فليست المسألة مسألة أثر هذه المفهومات في الكتابة، وإنما مصداقية هذه الاقتراحات، وبطبيعة الحال، لعل هذه «المفهومات - الاقتراحات» قد وجهت اهتمام الكتّاب الشبان إلى هذا النوع من الكتابة وهو أمر أرحب به، لكنه في النهاية يتوقف على أشياء عدة، وليس على تطبيق منصاع لهذه الاقتراحات، يتوقف على تمثل الفكرة ثم صياغة العمل الأدبي أو الفني بمقدرة وموهبة، المهم القيمة الذاتية التي تنشأ عن موهبة حقيقية وصدق حقيقي، هذا هو المعيار المستمر في كل عناصر العمل الفني، وهذا لا ينتهي إليه إلا عامل النقد وتذوق جمهرة من القراء، وثبات العمل أمام الزمن، وهو الثبات الذي أسميته ومازلت أسمّيه «الحداثة» الحداثة هي مقدرة العمل الفني الكامنة على أن يبقى، بغض النظر، عن كر السنوات والحقب، لأن فيه قيمة باقية، قيمة تساؤل وصدق وقيمة موهبة حقيقية، قيمة آفاق مفتوحة باستمرار على مستقبل ما.
في هذا السياق لفت نظري بالفعل كثيرون من الشعراء والكتاب الجدد، مسألة الجيل مسألة تخضع للنقاش، وهو مصطلح مرن، يعني ظاهرة أو موجة أو حركة متقاربة السمات متواشجة الملامح، أنا أولاً لست بناقد متفرغ للنقد، أكتب نقدًا وكأنه عمل إبداعي، فكتاباتي النقدية هي، في ما أرجو، كتابات إبداعية، فيها كل حرية العمل الإبداعي، عندما أذكر أحدًا لا يعني ذلك أنني أغمط حق آخر، وعندما أكتب عن أحد لا يعني هذا حكمًا بالقيمة.
الافتتان باللغة
أعود إلى ما يثار كثيرًا عن اهتمامي الشديد باللغة هل هو انسياق وراء جمالياتها وفتنتها؟ ألا يؤدي ذلك إلى الوقوع في فخ سيطرة وقيادة اللغة بدلاً من العكس؟
هذا السؤال كله مغلوط من البداية وقائم على خطل وفساد في الحركة الثقافية. في فترة معينة، وُجد عدد من الكتّاب عوّدوا القراء على قراءة لغة لا أريد أن أقول سهلة، بل هي لغة مسطحة، وكلها قوالب، ولا تعني أن تلتحم التحامًا عضويًا صميمًا بما تقول، هي لغة إكليشيهات، أجيال وراء أجيال من الكتّاب، وخاصة في القصة والرواية فعلوا هذا، أصبح القارئ يتوقع ذلك، ليس عندي شيء اسمه اللغة، وشيء آخر اسمه محتواها ومعناها ومضمونها، فهي كلها واحدة، عناية الكاتب بتقصي حقيقة ما يكتبه من داخلها، بمعنى تتبع الظلال، وجود الفكرة، الخلجة، العاطفة، العلاقة، هذه العناية تعني بالضرورة عناية لغة وتفرقة أساسية بين كل مفردة وأخرى، واختيارًا دقيقًا لهذه المفردات التي لا وجود لها في ذاتها، وإنما وجودها في ما تنصهر فيه من مضمونها - طاقتها وشحنتها - المسألة ليست جمالية لغة، نجد في كتاباتي مساحات من السرد في لغة تكاد تقرب من لغة الصحف السيارة وهو عمل مقصود، هذه طبقة من طبقات السلم الموسيقي للغة، من حسن الحظ أن اللغة العربية لغة فادحة بل فاحشة الثراء، وسلمها الموسيقي متنوع، ليست فيها مفردة ميتة، المفردة تحيا، ترف بالحياة بقوة، لو وضعتها في سياق معاصر تصبح معاصرة، أما في سياق قديم فتصبح قديمة.
في كل شغلي من أول «حيطان عالية» وحتى «صخور السماء» و«طريق النسر» المسألة ليست مسألة موسيقى فقط، وإنما الموسيقى بإيحاءاتها، هذا هو المهم، لكل مفردة معنى معجميّ، ولها في الوقت نفسه إيحاء أو هالة أو إشعاع، لابد للكاتب والقارئ معًا أن يعرفاه معرفة اليقين، ويستشعراه أو يحسّاه حس الحدس المبين، وبالتالي لا توجد خشية من الوقوع في فخ اللغة.
سؤال آخر يوجه إليّ أحيانًا: هل يمكن القول إن هناك كُتّابًا إدواريين؟
لا أعرف، لا يصح هذا ولا يجوز، ولا أحبه ولا أتمناه أبدًا، ولا أفرح له على الإطلاق بل أحزن. لماذا؟
المسألة ببساطة لأنني أحب أن يكون لكل كاتب أسلوبه الخاص، بطبيعة الحال، هناك من يقعون في هوى كتاباتي، وهو ما أعتز به اعتزازًا عظيمًا بلاشك، لكنني أريد من الكاتب الذي يقع في هذا الهوى أن يجاهده ويصارعه، وأن يخرج من هذه المجالدة بصوته الخاص المتميز، فإذا دخل في هوى الصوت أصداء أو نغمات بعيدة من أعمالي فأهلاً وسهلاً، لكنني لا أحب أن يكون هناك كتاب إدواريون، ولا أفرح بذلك بل العكس.
ضد الخوف
تُنشر أعمالي، وخاصة الشعرية منها، في فترة زمنية متأخرة عن تاريخ كتابتها، هل كان ذلك خشية من سطوة الواقع الأدبي وقتها وعدم تفهمه لكتاباتي؟
لا أخشى شيئًا أو أحدًا، المسألة أعمق من ذلك، ربما يكون إحساسي أن هذا الشعر عزيز عليّ، أو قريب إلى قلبي جدًا بحيث لا أريد أن أخرجه على القرّاء والناس، أريد أن تظل له هذه المكانة من القرب من القلب، ما حدث هو أن استلهام اللوحات التشكيلية عند أحمد مرسي أو عدلي رزق الله، أوجد نوعًا من التشابه، وجدت أرضًا مشتركة بيني وبين هذه الأعمال، فكتبت «التأويلات» و«ضربتني أجنحة طائرك» ووجدت أنه من الممكن في هذه الحالة أن يشاركني القرّاء في هذه المنطقة من الشعر، هذا هو السبب.
دليل أنني لا أخشى سطوة الواقع إنني كتبت «حيطان عالية» في وقت كان كل التيار ضدها، ونشرتها في وقت ارتفع فيه هذا التيار إلى ذروته، وقت الكلام العريض جدًا عن الواقعية الاشتراكية، والواقعية الاجتماعية. أزعم أن «حيطان عالية» هي الواقعية الحقيقية، وليست الكتابات الفجة التي كتبت تحت شعار الواقعية، توجد طبعًا كتابات موهوبة وحقيقية كتبت تحت هذا الشعار، لكنها تتجاوز هذا الشعار.
ستجد أنه في كتاباتي ليست هناك حسابات لما يتجاوز متطلبات ومقتضيات الفن، وهي وحدها كافية بصرامتها وقسوتها وعذوبتها في الوقت نفسه، أنا ضد تملّق الرأي العام، ضد الكاتب الذي يتملّق الجمهور والمجتمع أو ينصاع للرأي العام بحجة أن الأدب لابد أن يكون قريبًا من الناس. هذه حجج زائفة كلها، القارئ يفهم ويدرك، ويحسّ إن لم يكن بكل أبعاد العمل الفني المركب، فهو على الأقل يدرك ويتذوق بعضها الذي يصل إليه، أزعم أنني أكثر إيمانًا بالجمهور ممن يدّعون أنهم يكتبون للجمهور.