«كان يا ما كان»..
الجملة السحرية التي تفتح الطريق إلي العقل والقلب.. بوابة درب الغد حيث الفردوس المفقود، والمعقود عليه الأمل الرحب لإقامة سلطة العدالة والحب والجمال والحرية ولو في الخيال.
وهنا حكايات سمعت بعضها من طفلة في إحدي قري الشرقية أو من عجوز حكيم في إحدي عزب الدقهلية أو نورت بها قلبي الصغير خالتي الست أم يوسف، أو قرأتها في كتاب لأحد مبدعي الحكايات العظام «لقمان وأيسوب وابن المقفع وكريلوف ودافنشي والجاحظ وابن الجوزي.. وغيرهم، حاولت أن أصنع منها دراما حديثة لونتها بقليل من ألوان أحلامي.. ولأن الأطفال في بلادنا يكبرون فجأة، أوهم كبار بحكم الظروف ولأن الكبار أو معظمهم كذلك هم «صغار» بحكم السلوك، قدمت هذه الصياغة لهم جميعاً رغبة في ممارسة حلم قديم راود الحكائين عبر التاريخ في كسر شوكة الجبارين بمساعدة هذا الحشد من الشخصيات «تعاليبو، مشكاح وأبولبدة المدهش وبولينياب وبولشناب وبس بس ورماح وحشد كبير من الحمير والثعالب والأرانب والفيلة وغيرهم، في دراما تسجيلية إنسانية تكشف ألاعيب الأغبياء والأشرار والشرهين من بني الإنسان من أجل عالم أفضل ومن بني الحيوان من أجل غابة أعدل.
القط مشكاح والفأر رماح
من المطار إلي النار
عندما ذهب «مشكاح» إلي مكتب تشغيل العاطلين في الغابة لكي يطلب عملاً قيل له في كلمات حادة:
لا يوجد عمل لك، فلقد تقرر إلغاء مهنة صيد الفئران منذ فترة، هل أنت نائم علي أذنيك؟..
لم يجد «مشكاح» لأن المفاجأة كانت مفاجئة، ولأنه لم يفهم كيف ينام قط علي أذنيه إلا إذا كان بهلوانا، واشتد به الحزن والجوع فكتم آهاته، وصدرت عنه أصوات لا تشبه صوت القطط.
توجه علي الفور إلي مكتب السفر، طالباً الأذن بالرحيل إلي غابة أخري بحثاً عن لقمة عيش شريفة، وعمل يتناسب مع خبرته الوحيدة التي يتقنها وهي «صيد الفئران».. لكنهم قالوا له في كلمات أكثر جفاء:
لا يمكن السماح بسفر من لا مهنة له!!
رد في فزع:
ولكني أتقن مهنة صيد الفئران!.. قال له الموظف المسئول في غضب:
ألا تفهم؟.. لم يعد صيد الفئران مهنة بعد أن أصدر إمبراطورنا «أبو لبدة المدهش» قانوناً بإلغائها!.
عقدت الدهشة لسانه، وبذل جهداً خارقاً ليحل العقدة.. لكن دهشته كانت متشابكة الأسباب فاستجمع ما بقي من قدرة لسانه علي النطق وصرخ بصعوبة قائلاً:
هذا ظلم فادح!.
وجد «مشكاح» نفسه محاطاً بعشرات المخالب والأنياب المشهرة انشقت الأرض عن أصحابها فجأة، وأحاط به حراس مدنيون، كانوا في كل ركن يتشممون ويتسمعون فالتقطوا ذبذبات صوته الغاضبة فأسرعوا بالقبض عليه!.
ابتسم أحدهم مكشراً.. أو كشر مبتسما، وهو يقول:
عن أي ظلم تتحدث أيها القط الجميل!.
ارتبك القط «مشكاح» قليلاً للهجته الساخرة، ولكنه اطمئن لابتسامته «الكشرة» أو لتكشيرته المبتسمة وسأله في دهشة ممزوجة ببعض الرجاء وبكثير من اليأس:
كيف يمنعون مهنة شريفة وتاريخية كصيد الفئران؟. إن شيئاً من هذا لا يمكن أن يحدث حتي في غابات المدن البشرية..
زاد «المكشر» من ابتسامته وقال:
ألا تعرف أن «أبولبدة المدهش» المرعب هو الذي أصدر قانون التحريم هذا؟ كيف يمكن لقط مثلك أن يفهم الحكمة وراء قانون أصدره المرعب بنفسه.. كيف يمكن أن يكون مرعباً ومدهشاً إذا كان كل من هب ودب سيفهم أسرار حكمته يا أيها القط الجميل.. ظن «مشكاح» أن طول الحديث بينهما يعني زوال تحفظه عليه فتباسط قائلا:
لابد إذن إنها حكمة غبية، لأنها أصدرت قانوناً غبياً وشاذاً.. فكيف يمكن أن يكون لمنع صيد الفئران حكمة أية حكمة؟، ما الحكمة في ترك الفئران تتكاثر.. إن هذا لغباء صريح.. أثناء كلامه كان الموظف المسئول يقوم من مقعده شيئاً فشيئاً.. وقد ازدادت تكشيرته ابتساماً.. ثم زمجر فجأة وهو يدق علي المكتب:
ها أنت قد ضيعت نفسك يا جميل.. لقد وصفت الإمبراطور المرعب المدهش بالظلم وسكتنا، فأنت حر في رأيك ونحن في غابة حرة ويستطيع كل حر في غابة حرة أن يعلن رأيه أو يخفيه.. هو حر.. ولكني لم أر قطا في مثل غبائك.. أتجرؤ علي وصف الإمبراطور المدهش بالغباء وفي حضورنا.. لا.. لقد حكمت علي نفسك بنفسك ولا أستطيع والحالة هذه إلا أن أقولها لك وأذكرك بحقوق المتهم.. هيا.. خذوه!!.
وأخذوه من المطار إلي النار وألقوا به في جب العرين الملكي، وهو السجن الخاص بمن يظهرون مشاعرهم المضادة والمعادية للإمبراطور.. انتظاراً لمحاكمتهم محاكمة قانونية عادلة.
فالإمبراطور المدهش الذي أصدر قانون تحريم صيد الفئران، وإلغائها كمهنة هو نفسه ذلك الإمبراطور الذي أصدر قوانين المساواة في الافتراس المعروفة باسم حق الافتراس العام، والتي ساوت بين كل الحيوانات وأعطت للجميع حرية افتراس الجميع بعد أن كانت قوانين الغابة تعطي حق الافتراس، للمفترسين دون الفرائس ولذا أصبح من حق كل مخالف للقانون أن يقدم لمحاكمة عادلة.. وقانونية تدعيما لحق الضعفاء في العدالة والمساواة.. عند دخول «مشكاح» إلي سجن العرين تليت عليه حقوقه كمتهم وحذروه من الكلام؛ لأن كل ما سينطق به سيحاسب عليه حتي لحظة مثوله أمام المحكمة.. وحين احتج بأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولذا لم يطلع علي أي صحف ولم يعرف بصدور قانون إلغاء مهنة الصيد هذه.. قالوا له إن الجهل بالقانون لا يعطيه الحق في مخالفته، لكنه أصر علي معرفة السر وراء هذا القانون الذي سيعاقب بسببه حتي لا يقهره الظلم أكثر تحت وطأة الجهل.
حضر إليه حيوان قانوني أشبه ما يكون بحمار.. يرتدي باروكة من شعر القردة فتلي عليه مذكرة تفسيرية، لم يفهم منها شيئاً ثم قرأ بعدها فذلكة تاريخية، وحيثيات تشرح أسباب صدور ذلك القانون الذي سلب القطط حقها الشرعي في ممارسة مهنة آبائها، وأجدادها التاريخية وألقي بالعشرات، بل والمئات منها إلي الكهوف والسجون والمكامن انتظاراً للمحاكمة العادلة والإعدام.. وبدأ «مشكاح» يفهم السر عندما استطرد حيوان الباروكة يحكي حكاية وقوع الأسد المرعب «أبولبدة» في فخ شبكي نصبه أحد الصيادين لخنزير بري فكاد يموت رعباً من الأسر، وفقدان عرش الغابة بسبب الغياب فظل يصرخ ويزأر مستنجداً، وهو لا يعرف أن صراخه وزئيره يجعل الحيوانات تفر مبتعدة من الخوف والرعب.. لولا أن سمع عويله ونواحه فأر ذكي اسمه «رماح» فاقترب غير آبه بالزئير المخيف الباكي حتي أصبح أمام الإمبراطور الأسير مباشرة فقال له في لهجة لا تخلو من التأنيب والتقريع:
تماسك يامولاي وكن سبعا يليق باسمه المرعب ماذا لو سمعك رعاياك الصعاليك، إن المدهش لا يبكي بسبب مأزق بسيط كهذا.. ليست هناك مشكلة مادمنا نحن رعاياك الطيبين باقين علي حبك.. دهش الإمبراطور، وأعجب بشجاعة هذا الفأر فكف عن الزئير، وقال له في ثقة استمدها من ثقة الفأر الكبيرة:
وهل يرضيك أن يصبح إمبراطورك مهرجاً في سيرك.. أو فرجة لبني الإنسان.. محبوساً في مكان سخيف لا تشم فيه سوي رائحة البول والفول السوداني.. قال له الفأر اللماح «رماح»:
هذا لم يحدث بعد يامولاي..
فصرخ فيه المرعب:
سيحدث بالتأكيد لو حضر الصياد صاحب الشبكة.. ضحك الفأر وقال في رقة:
وأنا معك يامولاي لن يحدث هذا إلا علي جثتي!.
بدأ الشك يراود الأسد وهو يتأمل جسم «رماح» الضئيل:
هل سأخرج من هنا قبل أن يحدث؟! تقدم الفأر في ثقة وقال:
ستخرج من هنا أكثر اندهاشاً أيها المدهش.. وستصبح أكثر رهبة أيها المرعب.. فأصغر جندي في جيشك - أنا - سيثبت أنه قادر علي إنقاذ شرف الغابة بإنقاذك اعترافاً بفضلك وعدلك وليس طمعاً في أي جاه.. أو مال.. أو سلطة.. ثم قرض الفأر «رماح» حبال الشبكة في سرعة فائقة وحرر الأسد «أبولبدة» المرعب وأعاده إلي عرينه.
وما إن وصل الأسد إلي بر الأمان.. حتي أسرع علي الفور، واستدعي أحذق مستشاريه القانونيين الضالين في دراسات فلسفة قانون الغابة، وكلفهم بإصدار قانون جديد يقضي بإلغاء مهنة صيد الفئران إلي الأبد، واعتبارها مهنة معادية تضر بأمن الغابة واستقرارها، وتضر بمصالح العرين والحيوانات الصغيرة.
وهكذا وجدت القطط نفسها في محنة، وبلا مهنة بينما انطلقت الفئران من جحورها، ومكامنها الخفية آمنة مطمئنة تتمتع بالحظوة والتكريم في كل مكان.
وأصبح سعي القطط للحصول علي الطعام عرضاً بالتفكير في التهام الفئران جريمة يعاقب عليها القانون.. ووجد «مشكاح» نفسه - حين ذهب للبحث عن عمل قانوني شريف - ضد القانون، بل ومتهما بالخيانة العظمي، وسيق إلي جب سجن العرين منتظراً الحكم بإعدامه بالخرف، واتهمه بالظلم لأنه أنصف الفئران، وأطلقها حرة من الجحور والأركان، وحكم علي جنس القطط كله بالحرمان.
مشكاح يعد النجوم
الليل طويل في سجن العرين، خاصة إذا كان السجين حيواناً ينتظر مرور الوقت دون تسلية أو عمل، أو كان قطاً ك«مشكاح» ينتظر الموت دون أمل.
وتزيد وطأة الوقت البطيء إذا كان الحيوان جاهلاً لا يعرف القراءة أو الكتابة، فلا تجد شيئاً يقتل الملل.. لكن «مشكاح» كان مثل غيره من القطط لا يستسيغ التعليم خاصة ومهنتهم لا يحتاج إتقانها إلي دراسة أو درجة علمية.. فالفئران في كل مكان من قديم الزمن.. ومن كل الأصناف والألوان.. ومخالب القطط لا تحتاج للسن بل جاهزة علي الدوام.. والقطط علي اختلاف أنواعها تتقن أساليب البحث عن فريستها الخالدة شماً وتربصاً في صمت ثم انقضاضاً مفاجئاً.. القط لا يحتاج إلا للإحساس الغريزي بالجوع الذي يلهب الدماغ برغبة حارقة في القنص يشعلها شعور دائم بالنهم، تعمقه شهية تقرقش الزلط وتطحن الهواء!!
ولو أننا افترضنا أن «مشكاح» كان يعرف القراءة والكتابة فما فائدة هذا في سجن كهذا، حيث لا كتب ولا أوراق ولا أقلام.. فقط صمت وسكون يضم في جنباته حيوانات ممن لا يقرأون ولا يكتبون من ذوي الأنياب والقرون.. ودون أن نفترض هذه المرة، كان «مشكاح» بالفعل لا يتقن أي لعبة من ألعاب التسلية فلا هو يعرف الشطرنج اللوزي ولا النرد القرودي.. ولا حتي لعبة السيجة السنجابية.. وحتي لو عرف أياً منها.. مع من كان سيلعب وهو محبوس وحده في مكان.. لا يتسع بعد لحيوان ثانٍ.
لم يجد «مشكاح» أمامه طريقة لقضاء الوقت إلا خمش الجدران مئات المرات حتي تلمت مخالبه.
ولما تعب من هذه اللعبة بدأ السير جيئة وذهاباً ذهاباً وإياباً صانعاً خطوطاً وهمية وأقواساً متقاطعة أو متصالبة أو متعاكسة في جميع الاتجاهات حتي إنهد حيله، وانقطع نفسه من المشي، والالتفاف، والدوران علي أربع ثم علي اثنتين، زاحفاً أو قافزاً.. منحنياً أو منتصباً أو مقرفصاً.. صامتاً حينا وحينا مغنياً حتي كلّ وملّ.. وكاد عقله يعتل وقارب توازنه أن يختل!
فاستلقي علي ظهره وأخذ يعد النجوم من خلال زنزانته الصغيرة، واندمج في العد حتي استنفد كل ما تذكره، وعرفه من أعداد وأرقام وكان يجن حين ظن أن كل الكواكب والنجوم التي تزين السماء تجمعت كلها لتطل عليه من نافذة الزنزانة بمجرد أن شاهدته يعدها حتي لا يتمكن من ذلك أبداً..
فانقلب يائساً علي بطنه وهو يعوي كالجرو خامشاً الأرض بأظافره وأسنانه مطلقاً صرخات يائسة حزينة!
فجأة.. تصلب جسده وتخشب، وهرب الدم من عروقه، ولسعه عرق بارد سال فوق سلسلته الفقرية، حين أحس يداً صغيرة لينة تربت علي قفاه.. وسمع صوتاً ناعماً يعرف طبيعته جيداً يطلب منه في هدوء أن يهدأ، ولم يصدق أذنيه.. وكاد يستجيب لغريزة القطط لممارسة مهنتها المحرمة، وينقض قاضماً تلك اليد ملتهماً صاحب ذلك الصوت.. لولا لمحة خاطفة من الوعي بالموقف الذي هو فيه.. وقبل أن ينفجر رغبة ورعباً طمأنه صاحب الصوت الهادئ الناعم بنبرة أكثر هدوءاً ونعومة قائلاً:
لا تخف يا صديقي.. فأنا صديق حقيقي لك.. ولا يبكي الصديق، أو يخاف، وإلي جواره صديق!!
كانت النبرة مطمئنة، فاستعاد دمه الهارب كي يتمكن من تليين جسده المتصلب، وليستطيع الاعتدال جالساً.. فجحظت عيناه وتدلي لسانه كالكلاب في دهشة حقيقية.. لقد تأكدت ظنونه تماماً!
وها هو أمامه فأر حقيقي رمادي له بطن دسمة ويرتدي حلة كبار الموظفين الرسميين في العرين المميزة الفريدة.
كان ممسكاً بغليون فاخر من خشب البلوط في يده اليسري، ويطلق الدخان من فمه في حذق شديد وخبرة، علي شكل حلقات متتابعة كل واحدة أصغر من سابقتها تقفز خلفها في تناغم مع حركة يده الصغيرة التي تربت علي ركبته اليمني.
لم يستطع «مشكاح» النطق ودهش لجرأة هذا الفأر.. الفأر السمين المتهور الذي لديه هذا القدر الهائل من الشجاعة ليكون وحيداً في زنزانة سجن ضيقة مع قط جائع سجين، يملأ قلبه الاحساس بالظلم من العرين وأهل العرين بسبب قانون منع صيد الفئران اللعين!
لكن الفأر صاحب الغليون كان يعرف أن ابتسامته ومهارته في إطلاق حلقات الدخان من فمه بانتظام، وبهذه الطريقة المرحة كافيتان لجعل القط عاجزاً عن فعل أي شيء شرير.. وإبقائه محدقاً في دهشة تنقلب إلي إعجاب وهو مستغرق في متابعة حلقات الدخان المتناغمة المتتالية في إيقاع نادر.. ومن ثم منكمشاً داخل أضيق حيز ممكن من جلده منتظراً ما سيبادر إلي فعله الضيق المبتسم!
وبادر الفأر بالفعل قائلاً وكأنه يحاول قراءة ما يدور في ذهن القط الصامت:
ها أنت تقول لنفسك الآن.. ماذا لو انقضضت عليه وابتلعته؟!
ماذا يمكن أن يحدث لي أسوأ مما هو حادث بالفعل؟..
إنني سجين انتظر الإعدام.. فلأعدم وأنا شبعان علي الأقل أموت مرتاح الضمير أعني أنك تواصل التفكير أي تموت مرتاح الضمير، لأن هناك سبباً واضحاً لموتك لأنك لم ترتكب جرماً.
ولكن يا صديقي «مشكاح» أحب أن ألفت نظرك لو سمحت لي، إن تفكيرك بهذه الطريقة ساذج.. وفكرة الانقضاض عليّ والتهامي تصرف أحمق يمكن أن يلجأ إليه أي قط غبي غيرك.. أما أنت.. فيجب أن تفكر في طريقة أفضل.. وأؤكد لك أنك ستقول لنفسك الآن: «إذا كان قتل هذا الفأر سيكون مبرراً كافياً لإعدامي.. فلماذا لا تكون صداقتي معه سبباً لنجاتي.. وإفلاتي أقصد إفلاتك أنت من حبل المشنقة؟!!».
اتسعت عينا «مشكاح» جداً لتسع كل مشاعر الدهشة التي داهمته فهو لم يفكر لا بهذه الطريقة ولا بتلك، لأنه كان جائعاً مرعوباً لدرجة لا تسمح له بأي تفكير.. ثانياً: لأنه رغم جوعه لايزال يعرف أنه سجين ينتظر الإعدام ولا يجب أن يزيد موقفه سوءاً.
لكنه رغم كل ذلك.. استوعب معني العبارة الأخيرة التي قالها الفأر.. ففتحت أمامه بابا واسعاً للأمل في النجاة والإفلات من الموت!
فابتسم في بلاهة قط مندهش جائع وقال:
عندك ألف حق لقد فكرت هكذا بالفعل.. الصداقة قد تكون وقاية من الإعدام!!
كان الفأر صاحب الغليون يعرف أنه يكذب، ولكنه سر بموافقته علي الفكرة وقبول صداقته، فهز رأسه مبتسماً وقال:
علي كل حال وبرغم ما أكدته التقارير عنك، أنا كنت متأكد أنك قط عاقل وستفهم وسنتفق بسرعة وبوضوح.. ولكن..
وسكت الفأر وتطلع القط نحو الباب الذي صلصلت فوقه السلاسل ودار فيه المفتاح فاتحاً أقفاله الحديدية..
ثم فتح الباب ودخل «ظربان» والظرب هو نوع من الفئران يحملان صينية عليها قطع من اللحم المطهي ببراعة جعلت رائحته الطيبة تفوح.. محولة المكان إلي مدخل مطبخ فاخر في إحدي غابات الحيوانات الأكولة.. فانقلبت معدة «مشكاح» الخاوية وتفجرت في أعماقه آهة جوع مؤلم، وصرخة فرح يائس ترجمت حين وصلت حلقه الجاف إلي صرخة أقرب إلي زئير الأسود، فاضطر لاطلاقها وتلوي مانعاً نفسه من الانقضاض علي الطعام.. لا خوفاً من أن يبدونهما أمام صديقه المحترم.. ولكن تعباً وعجزاً من شدة الجوع.
غمز الفأر للظربان أن ينتظرا.. والتفت إلي القط وأشار بطرف غليونه:
اتفقنا؟..
رد القط في ضعف وشوق جارف لإنهاء الحديث والتهام الطعام..
طبعاً.. علي كل شيء..
وهنا صافحه الفأر مصافحة الأصدقاء القدماء. وأمر الظربان بالانصراف بعد أن وضع الصينية أمام «مشكاح» الذي أغمض عينيه ووسع منخريه متشمماً مستمتعاً ولما فتحهما في شوق ونهم كان الفأر والظربان قد غادروا المكان متسللين فانقض في سرعة المشتاق إلي الطعام.
وما أن تذوق أول قضمة حتي تحجر فكاه وتراجع جسمه للخلف مذعوراً وقد اتسعت عيناه دهشة وفزعاً.. ومضغ ليتأكد وتذوق ليزداد يقيناً.. ثم اندفع يمضغ ويتذوق فصدق ثم ازداد وبلع ما مضغه غير مصدق.
ثم أسرع يقضم قطعة أخري فازداد عدم تصديقه.. فالتهم وراءها عدة قطع ليصدق مرة أخري وليتأكد أن ما قدم إليه في سجن العرين الامبراطوري وما يأكله وهو المتهم بمخالفة قوانين صيد الفئران.. ما هو إلا لحم فئران متبل ولذيذ ومطهي بأحدث وأغرب طرق الطهي الهندية!
الجملة السحرية التي تفتح الطريق إلي العقل والقلب.. بوابة درب الغد حيث الفردوس المفقود، والمعقود عليه الأمل الرحب لإقامة سلطة العدالة والحب والجمال والحرية ولو في الخيال.
وهنا حكايات سمعت بعضها من طفلة في إحدي قري الشرقية أو من عجوز حكيم في إحدي عزب الدقهلية أو نورت بها قلبي الصغير خالتي الست أم يوسف، أو قرأتها في كتاب لأحد مبدعي الحكايات العظام «لقمان وأيسوب وابن المقفع وكريلوف ودافنشي والجاحظ وابن الجوزي.. وغيرهم، حاولت أن أصنع منها دراما حديثة لونتها بقليل من ألوان أحلامي.. ولأن الأطفال في بلادنا يكبرون فجأة، أوهم كبار بحكم الظروف ولأن الكبار أو معظمهم كذلك هم «صغار» بحكم السلوك، قدمت هذه الصياغة لهم جميعاً رغبة في ممارسة حلم قديم راود الحكائين عبر التاريخ في كسر شوكة الجبارين بمساعدة هذا الحشد من الشخصيات «تعاليبو، مشكاح وأبولبدة المدهش وبولينياب وبولشناب وبس بس ورماح وحشد كبير من الحمير والثعالب والأرانب والفيلة وغيرهم، في دراما تسجيلية إنسانية تكشف ألاعيب الأغبياء والأشرار والشرهين من بني الإنسان من أجل عالم أفضل ومن بني الحيوان من أجل غابة أعدل.
القط مشكاح والفأر رماح
من المطار إلي النار
عندما ذهب «مشكاح» إلي مكتب تشغيل العاطلين في الغابة لكي يطلب عملاً قيل له في كلمات حادة:
لا يوجد عمل لك، فلقد تقرر إلغاء مهنة صيد الفئران منذ فترة، هل أنت نائم علي أذنيك؟..
لم يجد «مشكاح» لأن المفاجأة كانت مفاجئة، ولأنه لم يفهم كيف ينام قط علي أذنيه إلا إذا كان بهلوانا، واشتد به الحزن والجوع فكتم آهاته، وصدرت عنه أصوات لا تشبه صوت القطط.
توجه علي الفور إلي مكتب السفر، طالباً الأذن بالرحيل إلي غابة أخري بحثاً عن لقمة عيش شريفة، وعمل يتناسب مع خبرته الوحيدة التي يتقنها وهي «صيد الفئران».. لكنهم قالوا له في كلمات أكثر جفاء:
لا يمكن السماح بسفر من لا مهنة له!!
رد في فزع:
ولكني أتقن مهنة صيد الفئران!.. قال له الموظف المسئول في غضب:
ألا تفهم؟.. لم يعد صيد الفئران مهنة بعد أن أصدر إمبراطورنا «أبو لبدة المدهش» قانوناً بإلغائها!.
عقدت الدهشة لسانه، وبذل جهداً خارقاً ليحل العقدة.. لكن دهشته كانت متشابكة الأسباب فاستجمع ما بقي من قدرة لسانه علي النطق وصرخ بصعوبة قائلاً:
هذا ظلم فادح!.
وجد «مشكاح» نفسه محاطاً بعشرات المخالب والأنياب المشهرة انشقت الأرض عن أصحابها فجأة، وأحاط به حراس مدنيون، كانوا في كل ركن يتشممون ويتسمعون فالتقطوا ذبذبات صوته الغاضبة فأسرعوا بالقبض عليه!.
ابتسم أحدهم مكشراً.. أو كشر مبتسما، وهو يقول:
عن أي ظلم تتحدث أيها القط الجميل!.
ارتبك القط «مشكاح» قليلاً للهجته الساخرة، ولكنه اطمئن لابتسامته «الكشرة» أو لتكشيرته المبتسمة وسأله في دهشة ممزوجة ببعض الرجاء وبكثير من اليأس:
كيف يمنعون مهنة شريفة وتاريخية كصيد الفئران؟. إن شيئاً من هذا لا يمكن أن يحدث حتي في غابات المدن البشرية..
زاد «المكشر» من ابتسامته وقال:
ألا تعرف أن «أبولبدة المدهش» المرعب هو الذي أصدر قانون التحريم هذا؟ كيف يمكن لقط مثلك أن يفهم الحكمة وراء قانون أصدره المرعب بنفسه.. كيف يمكن أن يكون مرعباً ومدهشاً إذا كان كل من هب ودب سيفهم أسرار حكمته يا أيها القط الجميل.. ظن «مشكاح» أن طول الحديث بينهما يعني زوال تحفظه عليه فتباسط قائلا:
لابد إذن إنها حكمة غبية، لأنها أصدرت قانوناً غبياً وشاذاً.. فكيف يمكن أن يكون لمنع صيد الفئران حكمة أية حكمة؟، ما الحكمة في ترك الفئران تتكاثر.. إن هذا لغباء صريح.. أثناء كلامه كان الموظف المسئول يقوم من مقعده شيئاً فشيئاً.. وقد ازدادت تكشيرته ابتساماً.. ثم زمجر فجأة وهو يدق علي المكتب:
ها أنت قد ضيعت نفسك يا جميل.. لقد وصفت الإمبراطور المرعب المدهش بالظلم وسكتنا، فأنت حر في رأيك ونحن في غابة حرة ويستطيع كل حر في غابة حرة أن يعلن رأيه أو يخفيه.. هو حر.. ولكني لم أر قطا في مثل غبائك.. أتجرؤ علي وصف الإمبراطور المدهش بالغباء وفي حضورنا.. لا.. لقد حكمت علي نفسك بنفسك ولا أستطيع والحالة هذه إلا أن أقولها لك وأذكرك بحقوق المتهم.. هيا.. خذوه!!.
وأخذوه من المطار إلي النار وألقوا به في جب العرين الملكي، وهو السجن الخاص بمن يظهرون مشاعرهم المضادة والمعادية للإمبراطور.. انتظاراً لمحاكمتهم محاكمة قانونية عادلة.
فالإمبراطور المدهش الذي أصدر قانون تحريم صيد الفئران، وإلغائها كمهنة هو نفسه ذلك الإمبراطور الذي أصدر قوانين المساواة في الافتراس المعروفة باسم حق الافتراس العام، والتي ساوت بين كل الحيوانات وأعطت للجميع حرية افتراس الجميع بعد أن كانت قوانين الغابة تعطي حق الافتراس، للمفترسين دون الفرائس ولذا أصبح من حق كل مخالف للقانون أن يقدم لمحاكمة عادلة.. وقانونية تدعيما لحق الضعفاء في العدالة والمساواة.. عند دخول «مشكاح» إلي سجن العرين تليت عليه حقوقه كمتهم وحذروه من الكلام؛ لأن كل ما سينطق به سيحاسب عليه حتي لحظة مثوله أمام المحكمة.. وحين احتج بأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولذا لم يطلع علي أي صحف ولم يعرف بصدور قانون إلغاء مهنة الصيد هذه.. قالوا له إن الجهل بالقانون لا يعطيه الحق في مخالفته، لكنه أصر علي معرفة السر وراء هذا القانون الذي سيعاقب بسببه حتي لا يقهره الظلم أكثر تحت وطأة الجهل.
حضر إليه حيوان قانوني أشبه ما يكون بحمار.. يرتدي باروكة من شعر القردة فتلي عليه مذكرة تفسيرية، لم يفهم منها شيئاً ثم قرأ بعدها فذلكة تاريخية، وحيثيات تشرح أسباب صدور ذلك القانون الذي سلب القطط حقها الشرعي في ممارسة مهنة آبائها، وأجدادها التاريخية وألقي بالعشرات، بل والمئات منها إلي الكهوف والسجون والمكامن انتظاراً للمحاكمة العادلة والإعدام.. وبدأ «مشكاح» يفهم السر عندما استطرد حيوان الباروكة يحكي حكاية وقوع الأسد المرعب «أبولبدة» في فخ شبكي نصبه أحد الصيادين لخنزير بري فكاد يموت رعباً من الأسر، وفقدان عرش الغابة بسبب الغياب فظل يصرخ ويزأر مستنجداً، وهو لا يعرف أن صراخه وزئيره يجعل الحيوانات تفر مبتعدة من الخوف والرعب.. لولا أن سمع عويله ونواحه فأر ذكي اسمه «رماح» فاقترب غير آبه بالزئير المخيف الباكي حتي أصبح أمام الإمبراطور الأسير مباشرة فقال له في لهجة لا تخلو من التأنيب والتقريع:
تماسك يامولاي وكن سبعا يليق باسمه المرعب ماذا لو سمعك رعاياك الصعاليك، إن المدهش لا يبكي بسبب مأزق بسيط كهذا.. ليست هناك مشكلة مادمنا نحن رعاياك الطيبين باقين علي حبك.. دهش الإمبراطور، وأعجب بشجاعة هذا الفأر فكف عن الزئير، وقال له في ثقة استمدها من ثقة الفأر الكبيرة:
وهل يرضيك أن يصبح إمبراطورك مهرجاً في سيرك.. أو فرجة لبني الإنسان.. محبوساً في مكان سخيف لا تشم فيه سوي رائحة البول والفول السوداني.. قال له الفأر اللماح «رماح»:
هذا لم يحدث بعد يامولاي..
فصرخ فيه المرعب:
سيحدث بالتأكيد لو حضر الصياد صاحب الشبكة.. ضحك الفأر وقال في رقة:
وأنا معك يامولاي لن يحدث هذا إلا علي جثتي!.
بدأ الشك يراود الأسد وهو يتأمل جسم «رماح» الضئيل:
هل سأخرج من هنا قبل أن يحدث؟! تقدم الفأر في ثقة وقال:
ستخرج من هنا أكثر اندهاشاً أيها المدهش.. وستصبح أكثر رهبة أيها المرعب.. فأصغر جندي في جيشك - أنا - سيثبت أنه قادر علي إنقاذ شرف الغابة بإنقاذك اعترافاً بفضلك وعدلك وليس طمعاً في أي جاه.. أو مال.. أو سلطة.. ثم قرض الفأر «رماح» حبال الشبكة في سرعة فائقة وحرر الأسد «أبولبدة» المرعب وأعاده إلي عرينه.
وما إن وصل الأسد إلي بر الأمان.. حتي أسرع علي الفور، واستدعي أحذق مستشاريه القانونيين الضالين في دراسات فلسفة قانون الغابة، وكلفهم بإصدار قانون جديد يقضي بإلغاء مهنة صيد الفئران إلي الأبد، واعتبارها مهنة معادية تضر بأمن الغابة واستقرارها، وتضر بمصالح العرين والحيوانات الصغيرة.
وهكذا وجدت القطط نفسها في محنة، وبلا مهنة بينما انطلقت الفئران من جحورها، ومكامنها الخفية آمنة مطمئنة تتمتع بالحظوة والتكريم في كل مكان.
وأصبح سعي القطط للحصول علي الطعام عرضاً بالتفكير في التهام الفئران جريمة يعاقب عليها القانون.. ووجد «مشكاح» نفسه - حين ذهب للبحث عن عمل قانوني شريف - ضد القانون، بل ومتهما بالخيانة العظمي، وسيق إلي جب سجن العرين منتظراً الحكم بإعدامه بالخرف، واتهمه بالظلم لأنه أنصف الفئران، وأطلقها حرة من الجحور والأركان، وحكم علي جنس القطط كله بالحرمان.
مشكاح يعد النجوم
الليل طويل في سجن العرين، خاصة إذا كان السجين حيواناً ينتظر مرور الوقت دون تسلية أو عمل، أو كان قطاً ك«مشكاح» ينتظر الموت دون أمل.
وتزيد وطأة الوقت البطيء إذا كان الحيوان جاهلاً لا يعرف القراءة أو الكتابة، فلا تجد شيئاً يقتل الملل.. لكن «مشكاح» كان مثل غيره من القطط لا يستسيغ التعليم خاصة ومهنتهم لا يحتاج إتقانها إلي دراسة أو درجة علمية.. فالفئران في كل مكان من قديم الزمن.. ومن كل الأصناف والألوان.. ومخالب القطط لا تحتاج للسن بل جاهزة علي الدوام.. والقطط علي اختلاف أنواعها تتقن أساليب البحث عن فريستها الخالدة شماً وتربصاً في صمت ثم انقضاضاً مفاجئاً.. القط لا يحتاج إلا للإحساس الغريزي بالجوع الذي يلهب الدماغ برغبة حارقة في القنص يشعلها شعور دائم بالنهم، تعمقه شهية تقرقش الزلط وتطحن الهواء!!
ولو أننا افترضنا أن «مشكاح» كان يعرف القراءة والكتابة فما فائدة هذا في سجن كهذا، حيث لا كتب ولا أوراق ولا أقلام.. فقط صمت وسكون يضم في جنباته حيوانات ممن لا يقرأون ولا يكتبون من ذوي الأنياب والقرون.. ودون أن نفترض هذه المرة، كان «مشكاح» بالفعل لا يتقن أي لعبة من ألعاب التسلية فلا هو يعرف الشطرنج اللوزي ولا النرد القرودي.. ولا حتي لعبة السيجة السنجابية.. وحتي لو عرف أياً منها.. مع من كان سيلعب وهو محبوس وحده في مكان.. لا يتسع بعد لحيوان ثانٍ.
لم يجد «مشكاح» أمامه طريقة لقضاء الوقت إلا خمش الجدران مئات المرات حتي تلمت مخالبه.
ولما تعب من هذه اللعبة بدأ السير جيئة وذهاباً ذهاباً وإياباً صانعاً خطوطاً وهمية وأقواساً متقاطعة أو متصالبة أو متعاكسة في جميع الاتجاهات حتي إنهد حيله، وانقطع نفسه من المشي، والالتفاف، والدوران علي أربع ثم علي اثنتين، زاحفاً أو قافزاً.. منحنياً أو منتصباً أو مقرفصاً.. صامتاً حينا وحينا مغنياً حتي كلّ وملّ.. وكاد عقله يعتل وقارب توازنه أن يختل!
فاستلقي علي ظهره وأخذ يعد النجوم من خلال زنزانته الصغيرة، واندمج في العد حتي استنفد كل ما تذكره، وعرفه من أعداد وأرقام وكان يجن حين ظن أن كل الكواكب والنجوم التي تزين السماء تجمعت كلها لتطل عليه من نافذة الزنزانة بمجرد أن شاهدته يعدها حتي لا يتمكن من ذلك أبداً..
فانقلب يائساً علي بطنه وهو يعوي كالجرو خامشاً الأرض بأظافره وأسنانه مطلقاً صرخات يائسة حزينة!
فجأة.. تصلب جسده وتخشب، وهرب الدم من عروقه، ولسعه عرق بارد سال فوق سلسلته الفقرية، حين أحس يداً صغيرة لينة تربت علي قفاه.. وسمع صوتاً ناعماً يعرف طبيعته جيداً يطلب منه في هدوء أن يهدأ، ولم يصدق أذنيه.. وكاد يستجيب لغريزة القطط لممارسة مهنتها المحرمة، وينقض قاضماً تلك اليد ملتهماً صاحب ذلك الصوت.. لولا لمحة خاطفة من الوعي بالموقف الذي هو فيه.. وقبل أن ينفجر رغبة ورعباً طمأنه صاحب الصوت الهادئ الناعم بنبرة أكثر هدوءاً ونعومة قائلاً:
لا تخف يا صديقي.. فأنا صديق حقيقي لك.. ولا يبكي الصديق، أو يخاف، وإلي جواره صديق!!
كانت النبرة مطمئنة، فاستعاد دمه الهارب كي يتمكن من تليين جسده المتصلب، وليستطيع الاعتدال جالساً.. فجحظت عيناه وتدلي لسانه كالكلاب في دهشة حقيقية.. لقد تأكدت ظنونه تماماً!
وها هو أمامه فأر حقيقي رمادي له بطن دسمة ويرتدي حلة كبار الموظفين الرسميين في العرين المميزة الفريدة.
كان ممسكاً بغليون فاخر من خشب البلوط في يده اليسري، ويطلق الدخان من فمه في حذق شديد وخبرة، علي شكل حلقات متتابعة كل واحدة أصغر من سابقتها تقفز خلفها في تناغم مع حركة يده الصغيرة التي تربت علي ركبته اليمني.
لم يستطع «مشكاح» النطق ودهش لجرأة هذا الفأر.. الفأر السمين المتهور الذي لديه هذا القدر الهائل من الشجاعة ليكون وحيداً في زنزانة سجن ضيقة مع قط جائع سجين، يملأ قلبه الاحساس بالظلم من العرين وأهل العرين بسبب قانون منع صيد الفئران اللعين!
لكن الفأر صاحب الغليون كان يعرف أن ابتسامته ومهارته في إطلاق حلقات الدخان من فمه بانتظام، وبهذه الطريقة المرحة كافيتان لجعل القط عاجزاً عن فعل أي شيء شرير.. وإبقائه محدقاً في دهشة تنقلب إلي إعجاب وهو مستغرق في متابعة حلقات الدخان المتناغمة المتتالية في إيقاع نادر.. ومن ثم منكمشاً داخل أضيق حيز ممكن من جلده منتظراً ما سيبادر إلي فعله الضيق المبتسم!
وبادر الفأر بالفعل قائلاً وكأنه يحاول قراءة ما يدور في ذهن القط الصامت:
ها أنت تقول لنفسك الآن.. ماذا لو انقضضت عليه وابتلعته؟!
ماذا يمكن أن يحدث لي أسوأ مما هو حادث بالفعل؟..
إنني سجين انتظر الإعدام.. فلأعدم وأنا شبعان علي الأقل أموت مرتاح الضمير أعني أنك تواصل التفكير أي تموت مرتاح الضمير، لأن هناك سبباً واضحاً لموتك لأنك لم ترتكب جرماً.
ولكن يا صديقي «مشكاح» أحب أن ألفت نظرك لو سمحت لي، إن تفكيرك بهذه الطريقة ساذج.. وفكرة الانقضاض عليّ والتهامي تصرف أحمق يمكن أن يلجأ إليه أي قط غبي غيرك.. أما أنت.. فيجب أن تفكر في طريقة أفضل.. وأؤكد لك أنك ستقول لنفسك الآن: «إذا كان قتل هذا الفأر سيكون مبرراً كافياً لإعدامي.. فلماذا لا تكون صداقتي معه سبباً لنجاتي.. وإفلاتي أقصد إفلاتك أنت من حبل المشنقة؟!!».
اتسعت عينا «مشكاح» جداً لتسع كل مشاعر الدهشة التي داهمته فهو لم يفكر لا بهذه الطريقة ولا بتلك، لأنه كان جائعاً مرعوباً لدرجة لا تسمح له بأي تفكير.. ثانياً: لأنه رغم جوعه لايزال يعرف أنه سجين ينتظر الإعدام ولا يجب أن يزيد موقفه سوءاً.
لكنه رغم كل ذلك.. استوعب معني العبارة الأخيرة التي قالها الفأر.. ففتحت أمامه بابا واسعاً للأمل في النجاة والإفلات من الموت!
فابتسم في بلاهة قط مندهش جائع وقال:
عندك ألف حق لقد فكرت هكذا بالفعل.. الصداقة قد تكون وقاية من الإعدام!!
كان الفأر صاحب الغليون يعرف أنه يكذب، ولكنه سر بموافقته علي الفكرة وقبول صداقته، فهز رأسه مبتسماً وقال:
علي كل حال وبرغم ما أكدته التقارير عنك، أنا كنت متأكد أنك قط عاقل وستفهم وسنتفق بسرعة وبوضوح.. ولكن..
وسكت الفأر وتطلع القط نحو الباب الذي صلصلت فوقه السلاسل ودار فيه المفتاح فاتحاً أقفاله الحديدية..
ثم فتح الباب ودخل «ظربان» والظرب هو نوع من الفئران يحملان صينية عليها قطع من اللحم المطهي ببراعة جعلت رائحته الطيبة تفوح.. محولة المكان إلي مدخل مطبخ فاخر في إحدي غابات الحيوانات الأكولة.. فانقلبت معدة «مشكاح» الخاوية وتفجرت في أعماقه آهة جوع مؤلم، وصرخة فرح يائس ترجمت حين وصلت حلقه الجاف إلي صرخة أقرب إلي زئير الأسود، فاضطر لاطلاقها وتلوي مانعاً نفسه من الانقضاض علي الطعام.. لا خوفاً من أن يبدونهما أمام صديقه المحترم.. ولكن تعباً وعجزاً من شدة الجوع.
غمز الفأر للظربان أن ينتظرا.. والتفت إلي القط وأشار بطرف غليونه:
اتفقنا؟..
رد القط في ضعف وشوق جارف لإنهاء الحديث والتهام الطعام..
طبعاً.. علي كل شيء..
وهنا صافحه الفأر مصافحة الأصدقاء القدماء. وأمر الظربان بالانصراف بعد أن وضع الصينية أمام «مشكاح» الذي أغمض عينيه ووسع منخريه متشمماً مستمتعاً ولما فتحهما في شوق ونهم كان الفأر والظربان قد غادروا المكان متسللين فانقض في سرعة المشتاق إلي الطعام.
وما أن تذوق أول قضمة حتي تحجر فكاه وتراجع جسمه للخلف مذعوراً وقد اتسعت عيناه دهشة وفزعاً.. ومضغ ليتأكد وتذوق ليزداد يقيناً.. ثم اندفع يمضغ ويتذوق فصدق ثم ازداد وبلع ما مضغه غير مصدق.
ثم أسرع يقضم قطعة أخري فازداد عدم تصديقه.. فالتهم وراءها عدة قطع ليصدق مرة أخري وليتأكد أن ما قدم إليه في سجن العرين الامبراطوري وما يأكله وهو المتهم بمخالفة قوانين صيد الفئران.. ما هو إلا لحم فئران متبل ولذيذ ومطهي بأحدث وأغرب طرق الطهي الهندية!