يزول اللون و تبقى الرائحة, هذه هي حصيلة أيام القتال, تتحلل ذرات الدم القانية وتترك خلفها رائحة زنخة. في هذه الليلة كان أكتافيوس يحكم روما ـ يحكم العالم كله ـ بلا منافس, آن له أن يستريح بعد أن مات منافسه وصهره (مارك انطونيو), ولكن كيف يمكنه هذا وتلك الرائحة تلاحقه, ونافذة أخته (أوكتافيا) مضاءة طوال الليل, وظلها القلق يروح ويغدو خلف الأستار؟ هل انتقم حقا لشرفها المهان عندما هزم زوجها الخائن وأرغمه على الانتحار؟ أم أن كل ما فعله أنه تركها أرملة وحيدة منكودة الحظ مؤرقة الليل؟ لماذا تكون حرب الأقارب دامية لهذه الدرجة, ولماذا يكون الوصول إلى قمة السلطة بهذه القسوة؟
عندما دخل إلى غرفته في تلك الليلة لاحظ شيئا غريبا, كانت تتوسطها جرة (أنفورا) لم يرها من قبل, واحدة من تلك الجرار العادية التي ينقل فيها النبيذ وزيت الزيتون, ولكنها أصغر حجما ومزينة بنقوش مصرية لا تخطئها العين, كانت قادمة من مصر, كأن المشاكل التي جاءت من هذا البلد ليست كافية, من الذي سمح بإدخالها إلى غرفته, اقترب منها ورفع الغطاء, ونظر إلى داخلها, لم يكن فيها زيت ولا نبيذ, فقط مجرد لفائف من أوراق البردي, كان القادة والولاة الرومان قد تعودوا على استخدام تلك الرقائق المصرية الهشة, بسبب سهولة الكتابة عليها وخفة إرسالها, أخرج اللفائف المطوية من داخل الجرة, كانت محاطة برباط من الشمع الأحمر موسوم بعلامة الإمبراطور, أي أنه يجب ألا يقوم أحد بفتحها سوى الإمبراطور شخصيا. من بداية السطور الأولى تعرف أوكتافيوس على خط وأسلوب صديقه ومستشاره (رومولوس), هل انتهت مهمته, وهل هذا تقريره؟
(أي أوكتافيوس العظيم, لقد كلفتموني بالتحقيق في واقعة انتحار تلك العاهرة المدعوة كليوباترا, وسوف تجدون في الوثائق المرفقة وقائع كل التحقيقات التي قمت بها, إضافة إلى النتائج التي توصلت إليها. خادمك وصديقك إلى الأبد رومولوس).
تسللت إلى أنف أوكتافيوس رائحة غريبة, مزيج من خشب الصندل والمسك والزعفران, رائحة إفريقية دبقة, رائحة جسدها وقد سكنت في طيات هذه اللفائف, مزجت في عجينتها الأولى قبل أن تجف وتقد, كانت هذه المرأة هي غنيمته الثمينة التي يسعى إليها دون أن يدري, كانت هي التي ستمنحه الشرعية المحرمة, والمجد الآثم الذي منحه جسدها من قبله ليوليوس قيصر و(مارك أنطونيو) التعس, كان قد رآهما ذات ليلة, وهي تستقطر متعتها من خلايا زوج أخته المستسلم, تصرخ في وحشية, بينما لا يصدر عن انطونيو سوى صوت تنفسه الثقيل, كان اوكتافيوس مختبئا خلف الستائر بحيث لا يراه أحد, لحظتها تمنى لو أنه كان هو المهزوم, لو أنه يبلغ تلك النشوة التي بلغها أنطونيو والتي لا يتبعها سوى الموت, والغريب أنه أوشك أن يحقق هذه الرغبة بعد معركتهما الفاصلة, أوشك أن يتوج انتصاره على أنطونيو بالحصول عليها على نفس السرير, حتى قبل أن يتخلص من الدم العالق في ثيابه, ولكنه عندما أقبل على قصرها, لم يجد سوى جثتها وسلة من القش قالوا له إنها كانت تحوي خمسة من الثعابين, لم يستطع أن يصدق أن حفنة من ثعابين الصحراء البائسة يمكن أن تقتل جسدا يحمل كل هذه الشهوة العارمة.
اكتشف أنه طوال فترة شروده لم تكف أصابعه عن التقليب في الأوراق, تداخلت لفائف البردي وفقدت تسلسلها, تداخلت الوقائع وأصبح من الصعب إعادة ترتيبها, حين كلف صديقه ومستشاره رومولوس بالبحث عن حقيقة موتها, لحظتها كان مصدوما, ولكنه الآن لم يعد متأكدا من أنه يريد أن يعرف شيئا, قرأ بالمصادفة أول السطور من الوثيقة التي كانت في يده (كادت أن تحدث مجزرة جديدة, كان جنودنا من الرومان البواسل متأهبين بسيوفهم, وأمامهم يقف صف من الكهنة المصريين, بملابسهم البيضاء التي تكشف عن سيقانهم النحيلة, رءوسهم حليقة, ووجوههم غائرة, وأنا في المنتصف, لا أريد أن تتصاعد حدة المواجهة, حتى لا تضر بالتحقيقات التي أقوم بها, كان علي أن أهدئ القائد فينيكوس استيولوس أولا, أنت تعرف كيف يكون عصبيا وعنيفا في مواجهة هؤلاء الناس من الشعوب السفلى, أبعدته هو وجنوده قليلا عن باب المعبد الذي كانوا يتأهبون لاقتحامه, وسرت دون سلاح إلى كبير الكهنة, قلت: (أيها الكاهن المبجل, نحن لا ننوي دخول معبدكم ولا إهانة عقيدتكم, كل ما في الأمر أنني أريد أن أدخل بيت التحنيط لأشاهد جثمان الملكة كليوباترا, قال في صوت حازم: إننا نعدها من أجل رحلة الخلود, ووجود أجنبي مثلك يمكن أن يتلف كل شيء, قلت: مجرد نظرة عابرة, إنه أمر صادر من إمبراطورنا المعظم ويجب أن أطيعه, وسار الحوار على هذه الوتيرة, توسل من جانبي, وإصرار أحمق من جانبهم, أي عقيدة يؤمن بها هؤلاء البلهاء, وأي أهمية لتحنيط أجساد من المستحيل أن تنجو من التحلل والفناء, المهم أنني بمزيج من اللين والتهديد استطعت إقناعه أخيرا بإدخالي وحدي فقط إلى داخل المعبد.
دخلت إلى غابة من الأعمدة الحجرية, أحاطت بي عتمة المعبد المقدسة, متاهة حقيقية من السهل الانزلاق إليها, ومن المستحيل الخلاص منها, هكذا أحسست والكهنة يقودونني إلى قدس الأقداس, وهم يشركون غريبا في سرهم للمرة الأولى, حتى هيرودوت نفسه لم يتسن له الدخول إلى هذا المستوى, بالرغم من الصرامة التي كانت تبدو على وجوهنا فقد كانوا خائفين من سطوتنا, دخلت إلى غرفة التحنيط حيث يوجد جسد العاهرة وهي ترقد على منضدة من الرخام, لا يسترها إلا طبقة رقيقة من الكتان, بجانبها الكاهن الطبيب الذي كان سيتولى عملية التحنيط, تفوح منه رائحة ثقيلة, كان أنفها لايزال على ارتفاعه, ووجهها نظيفا وشاحبا دون مساحيق, وملامحها فقدت حدتها وتراخت واكتست مسحة من الغموض, كشفت الغطاء عنها بهدوء, ظهر صدرها نافرا مثل أنفها, كأن مافيه من رغبة لم يتأثر بالموت, ولكن أصابع الزرقة كانت تواصل زحفها على بقية جسدها, تأخذها ببطء إلى عالم الظلال, ربما لم تكن شريرة لهذه الدرجة, فاستكانتها كانت مثيرة حقا للشفقة, مددت يدا مرتعدة وتحسست رقبتها, قلبت وجهها يمنة ويسرة, أزحت خصلات شعرها, (عن ماذا تبحث ياسيدي?), تحدث إلي الكاهن الطبيب, قلت: (عن آثار لدغة الثعبان, ربما كانت في الصدر أو في الرقبة) قال في صوت باتر:(لا يوجد شيء من هذا القبيل), حدقت فيه مذهولا, واصل القول: (لا توجد إلا تلك البثور الغائرة حول العنق, وهي بالقطع ليست آثار ثعبان) قلت مذهولا:(ما هي إذن?) قال: (آثار حبال, لقد ماتت خنقا, تحسس رقبتها, سوف تجد بروزا, إنه آثار كسر في قصبتها الهوائية, لقد فحصتها بنفسي, هذا هو سبب الوفاة).
سقطت الورقة من يد أوكتافيوس, كيف حدث هذا, كيف تحولت حادثة الانتحار المؤكدة, إلى واقعة جريمة قتل, ومن الذي جرؤ على فعل ذلك? حان موعد نومه ولكن نافذة (أوكتافيا) مازالت مضاءة, صب لنفسه كأسا من النبيذ, وعاد يقلب في الأوراق المتداخلة, كانت لفائف البردي معبقة برطوبة البحر, هشة وعلى وشك التفتت, من الصعب محاولة إعادة ترتيبها, أمسك بواحدة أخرى كيفما اتفق وأخذ في القراءة
(..... استلزم الأمر ثلاث مرات من ممارسة الحب, حتى أصبحت طيعة, من لم يمارس الحب مع نساء الإسكندرية, لم يعرفه على الإطلاق, كان حزنها على ملكتها طاغيا في المرة الأولى, وقمت أنا بكل العمل دون أن تتجاوب معي, وفي المرة الثانية اكتشفت أن جوع جسدها أكثر حدة من فجيعتها, أما في المرة الثالثة فقد استلقيت أنا متعبا بينما لم يعد من الممكن إخماد نارها, عندما سألتني عن الموعد الثاني الذي سوف نلتقي فيه طلبت منها أن تقودني أولا إلى جناح ملكتها, إلى المكان الذي ماتت فيه على وجه التحديد, ترددت قليلا, ولكني حين لففت ساعدي حولها وافقت على أن تدخلني إلى القصر بواسطة أحد الممرات السرية التي لا يعرفها إلا الملكة وأقرب وصيفاتها, تحسسنا طريقنا بواسطة شعلة صغيرة, ولكن المكان كان موحشا وخاليا, مخدع الملكة محطم وممزق الأستار, الأثاث والتماثيل والأواني وقوارير العطر, كل شيء كان محطما, ولا أثر لأي مجوهرات, كنت متأكدا من أن جنودنا البواسل لم يقتحموا المكان, لقد اكتفوا كما أمرتهم بحصار القصر من الخارج, ولابد أن القتلة هم الذين فعلوا ذلك وأن الملكة التعيسة قد قاومتهم بشدة, فقد المكان بهاءه القديم, وكان الدمار الذي لحق به مثيرا للأسى, قلت لرفيقتي الوصيفة: (أين سلة الثعابين?) قالت بلا مبالاة: (هناك كثير من السلال), سارت أمامي مسرعة فلم أملك إلا أن أتبعها, قادتني إلى غرفة أكثر ضيقا خلف الجناح الذي كانت تنام فيه كليوباترا مباشرة, كشفت الأستار من فوق الحائط, كانت هناك أرفف مرصوص عليها عشرات من هذه السلال, مجدولة من القش الملون ومن غاب البحيرات, صغيرة وذات أغطية محكمة, قالت: (كان البدو يأتون بهذه السلال وهي ممتلئة بالثعابين), وقع قلبي من الرعب من هذه المرأة, قلت: (ألم تكن تخاف منها?), قالت: (كانت تقول إن التعامل مع الثعابين أسهل بكثير من التعامل مع الرجال), كنت لا أزال مدهوشا: (ماذا كانت تفعل بها?) قالت مستنكرة من جهلي: (لقد كانت ملكة, كانت تخرج سم هذه الثعابين بنفسها وتتناول منه كمية صغيرة كل يوم, ترياقا يحميها من أي سموم تدس لها, ألم تكن ملكا من قبل) عدنا إلى غرفتها المحطمة, تفحصت المكان لعلني أجد أي أثر للذين قاموا بقتلها, قلت لها: (هل رأيت الملكة بعد أن ماتت?), قالت: (أنا الذي استدعيت كهنة التحنيط), قلت: (ألم تشاهدي في الغرفة أي شيء غير عادي), قالت: (ما عدا موت الملكة وضياع المملكة, وتحطم كل شيء وسرقة كل ما هو ثمين فلا شيء غير عادي) , قلت: (أعني أي أثر يرشدني لمن فعل ذلك), قالت: (ترك القتلة خلفهم شيئا واحدا), مدت يدها إلى صدرها وأخرجت شيئا صغيرا وقدمته لي, نظرت إليه في دهشة و.........)
انتهت هذه البردية أيضا, ألقى أوكتافيوس الكأس في حنق, قلب بقية اللفائف في سرعة, توالت أمام عينه شذرات من التفاصيل, شهادات متناثرة ومتناقضة, عبيد وجنود وحراس وصيادون وكهنة وبغايا وأوباش, محاولة يائسة من (رومولوس) للبحث عن الحقيقة وسط مدينة تسودها فوضى الهزيمة, ألقى الأوراق في يأس, كان قد عمل حسابه لهذه الفوضى, وأعطى أوامره المشددة لقائد الحامية (فينيكوس استيولوس) أن يتم محاصرة القصر من الخارج وألا يسمح للجنود أو الدهماء بالدخول, فكيف تمكن القتلة من الوصول إلى جسدها? حمل كأسه وسار إلى حافة الشرفة, كانت نافذة أخته مضاءة ولكنه لم يلمح طيفها هل استكانت للنوم أخيرا? هل استطاعت التغلب على إحساسها بالحزن والفضيحة? نظر أوكتافيوس إلى اللفائف في ضيق, كانت تحتوي على حقيقة لا يستطيع الوصول إليها, ضربها بقدمه فتناثرت في كل أجزاء الغرفة, لقد ماتت كليوباترا, انتهت, ضاعت, بعد أشهر قليلة سوف ينساها الجميع وسيتحول هذا الشريط الطيني الضيق على ضفاف النيل إلى ولاية خانعة, بعد أن كانت دولة مشاغبة, حتى نيران الرغبة ستبرد عندما يستعر القتال في مكان ما, وستنسيه رائحة الدم كل شيء, إنه وقت نومه هو أيضا, سار عبر الغرفة, ولكنه داس على إحدى اللفائف, رفعها في ضيق, كانت سميكة, ربما كانت هذه هي البردية الأخيرة التي تلتف بقية البرديات في طياتها, لمح في رأس السطر الأول منها اسم (فينيكوس استيولوس) قائد حامية الإسكندرية, جلس مرة أخرى وبدأ في القراءة:
(.... أمسك (فينيكوس) بذراعي والسفينة تستعد لرفع مراسيها, والجنود ينفجرون بالغناء فرحا بمغادرة هذه الأرض الحارة والعودة إلى روما, هتف بي: (بالله عليك يارومولوس النبيل انس هذا الأمر, كأنك لم تر شيئا ولم تسمع شيئا, إنها أرض ملعونة وكل ما يأتي منها ملعون), قلت له: (إنه أمر أكتافيوس العظيم نفسه, يجب أن أقول له الحقيقة), قال: (لم تعد الحقيقة تهم أحدا الآن, تظاهر بالغباء وقل له إنك لم تتوصل لشيء, وأن الثعابين هي التي قامت بكل العمل) قلت له مؤنبا: (أيها الصديق فينيكوس, إنه أنت الذي أدخل القتلة إلى القصر), قال: (ليسا قاتلين, لقد كانا ينفذان أمر الدولة ويحملان خاتم قيصر), تأملته قليلا, كنت حزينا, ولكنه قال قبل أن يدفع بي إلى السفينة: (لعل ما حدث هو الأفضل للجميع, فليكن الصمت هو فضيلتك), وكيف لي أن أصمت يا أكتافيوس العظيم, إن وطأة الحقيقة ثقيلة على قلبي, ودليل الإثبات الذي أخذته من الجارية المصرية يثقل كاهلي, لذلك أضع كل شيء بين يديك, وسوف تجد في قاعة الجرة الدليل الذي.....)
توقف أوكتافيوس عن القراءة حائرا, لا يدري ماذا يفعل, سار متثاقلا إلى جرة (الأنفورا) وأدخل يده فيها, بحث فيها بأصابعه حتى عثر على لفافة صغيرة, أخرجها, كانت لفافة من الكتان, فضها بسرعة فانكشفت عن خاتم له فص من العقيق, لا يخطئه أحد, خاتم (يوليوس قيصر) ذاته الذي كان يمهر به كل قرارات الدولة, , الخاتم نفسه الذي أخذه عنه (مارك أنطونيو) بعد مقتله, وكان من المفروض أن يئول إليه ليضعه في إصبعه ويختم به قرارات حكمه, كيف وصل هذا الخاتم إلى أيدي القتلة, وأصبح جواز مرورهما إلى مخدع الملكة المغدورة?
ـ أرى أنك قد عثرت على الخاتم أيها الأخ العزيز.
استدار إليها, كانت لاتزال ساهرة, في لحظة وجد نفسه يرتجف, تحول إلى الأخ الصغير الذي خنع دوما لإرادتها, , قال في صوت خافت متردد:
ـ أنت التي أعطيتهما الخاتم يا أختاه.
سارت (أوكتافيا) ببطء إلى داخل الغرفة, صبت لنفسها كأسا من النبيذ وأخذت منها رشفة صغيرة, قالت:
ـ كان مارك أنطونيو زوجي, وكانت هي عشيقته, هل كنت تريد من أختك ألا تثأر لشرفها الضائع?
ـ كانت ستموت على أي حال, فلماذا ورطت نفسك في هذه المحاولة?
ـ كان يجب أن أسرع, حتى لا تصل إليك أنت أيضا.
جلس أوكتافيوس على أحد المقاعد وأخذ كل واحد منهما يلتقط أنفاسه في صعوبة, عادت أوكتافيا تقول:
ـ صديقك (رومولوس) هو الذي أرسل إليك هذه الأشياء, أليس كذلك?
ـ أجل.
ـ سوف يثرثر بالكلام خاصة عندما يشرب, وسوف يشيع الخبر في كل حانات روما.
ـ وماذا يمكن أن نفعل?
ـ الأفضل أن يصمت (رومولوس) تماما, هل تفعل ذلك من أجلي يا أخي الصغير.
ـ أجل يا أختاه.
محمد المنسي قنديل
يناير 2006
عندما دخل إلى غرفته في تلك الليلة لاحظ شيئا غريبا, كانت تتوسطها جرة (أنفورا) لم يرها من قبل, واحدة من تلك الجرار العادية التي ينقل فيها النبيذ وزيت الزيتون, ولكنها أصغر حجما ومزينة بنقوش مصرية لا تخطئها العين, كانت قادمة من مصر, كأن المشاكل التي جاءت من هذا البلد ليست كافية, من الذي سمح بإدخالها إلى غرفته, اقترب منها ورفع الغطاء, ونظر إلى داخلها, لم يكن فيها زيت ولا نبيذ, فقط مجرد لفائف من أوراق البردي, كان القادة والولاة الرومان قد تعودوا على استخدام تلك الرقائق المصرية الهشة, بسبب سهولة الكتابة عليها وخفة إرسالها, أخرج اللفائف المطوية من داخل الجرة, كانت محاطة برباط من الشمع الأحمر موسوم بعلامة الإمبراطور, أي أنه يجب ألا يقوم أحد بفتحها سوى الإمبراطور شخصيا. من بداية السطور الأولى تعرف أوكتافيوس على خط وأسلوب صديقه ومستشاره (رومولوس), هل انتهت مهمته, وهل هذا تقريره؟
(أي أوكتافيوس العظيم, لقد كلفتموني بالتحقيق في واقعة انتحار تلك العاهرة المدعوة كليوباترا, وسوف تجدون في الوثائق المرفقة وقائع كل التحقيقات التي قمت بها, إضافة إلى النتائج التي توصلت إليها. خادمك وصديقك إلى الأبد رومولوس).
تسللت إلى أنف أوكتافيوس رائحة غريبة, مزيج من خشب الصندل والمسك والزعفران, رائحة إفريقية دبقة, رائحة جسدها وقد سكنت في طيات هذه اللفائف, مزجت في عجينتها الأولى قبل أن تجف وتقد, كانت هذه المرأة هي غنيمته الثمينة التي يسعى إليها دون أن يدري, كانت هي التي ستمنحه الشرعية المحرمة, والمجد الآثم الذي منحه جسدها من قبله ليوليوس قيصر و(مارك أنطونيو) التعس, كان قد رآهما ذات ليلة, وهي تستقطر متعتها من خلايا زوج أخته المستسلم, تصرخ في وحشية, بينما لا يصدر عن انطونيو سوى صوت تنفسه الثقيل, كان اوكتافيوس مختبئا خلف الستائر بحيث لا يراه أحد, لحظتها تمنى لو أنه كان هو المهزوم, لو أنه يبلغ تلك النشوة التي بلغها أنطونيو والتي لا يتبعها سوى الموت, والغريب أنه أوشك أن يحقق هذه الرغبة بعد معركتهما الفاصلة, أوشك أن يتوج انتصاره على أنطونيو بالحصول عليها على نفس السرير, حتى قبل أن يتخلص من الدم العالق في ثيابه, ولكنه عندما أقبل على قصرها, لم يجد سوى جثتها وسلة من القش قالوا له إنها كانت تحوي خمسة من الثعابين, لم يستطع أن يصدق أن حفنة من ثعابين الصحراء البائسة يمكن أن تقتل جسدا يحمل كل هذه الشهوة العارمة.
اكتشف أنه طوال فترة شروده لم تكف أصابعه عن التقليب في الأوراق, تداخلت لفائف البردي وفقدت تسلسلها, تداخلت الوقائع وأصبح من الصعب إعادة ترتيبها, حين كلف صديقه ومستشاره رومولوس بالبحث عن حقيقة موتها, لحظتها كان مصدوما, ولكنه الآن لم يعد متأكدا من أنه يريد أن يعرف شيئا, قرأ بالمصادفة أول السطور من الوثيقة التي كانت في يده (كادت أن تحدث مجزرة جديدة, كان جنودنا من الرومان البواسل متأهبين بسيوفهم, وأمامهم يقف صف من الكهنة المصريين, بملابسهم البيضاء التي تكشف عن سيقانهم النحيلة, رءوسهم حليقة, ووجوههم غائرة, وأنا في المنتصف, لا أريد أن تتصاعد حدة المواجهة, حتى لا تضر بالتحقيقات التي أقوم بها, كان علي أن أهدئ القائد فينيكوس استيولوس أولا, أنت تعرف كيف يكون عصبيا وعنيفا في مواجهة هؤلاء الناس من الشعوب السفلى, أبعدته هو وجنوده قليلا عن باب المعبد الذي كانوا يتأهبون لاقتحامه, وسرت دون سلاح إلى كبير الكهنة, قلت: (أيها الكاهن المبجل, نحن لا ننوي دخول معبدكم ولا إهانة عقيدتكم, كل ما في الأمر أنني أريد أن أدخل بيت التحنيط لأشاهد جثمان الملكة كليوباترا, قال في صوت حازم: إننا نعدها من أجل رحلة الخلود, ووجود أجنبي مثلك يمكن أن يتلف كل شيء, قلت: مجرد نظرة عابرة, إنه أمر صادر من إمبراطورنا المعظم ويجب أن أطيعه, وسار الحوار على هذه الوتيرة, توسل من جانبي, وإصرار أحمق من جانبهم, أي عقيدة يؤمن بها هؤلاء البلهاء, وأي أهمية لتحنيط أجساد من المستحيل أن تنجو من التحلل والفناء, المهم أنني بمزيج من اللين والتهديد استطعت إقناعه أخيرا بإدخالي وحدي فقط إلى داخل المعبد.
دخلت إلى غابة من الأعمدة الحجرية, أحاطت بي عتمة المعبد المقدسة, متاهة حقيقية من السهل الانزلاق إليها, ومن المستحيل الخلاص منها, هكذا أحسست والكهنة يقودونني إلى قدس الأقداس, وهم يشركون غريبا في سرهم للمرة الأولى, حتى هيرودوت نفسه لم يتسن له الدخول إلى هذا المستوى, بالرغم من الصرامة التي كانت تبدو على وجوهنا فقد كانوا خائفين من سطوتنا, دخلت إلى غرفة التحنيط حيث يوجد جسد العاهرة وهي ترقد على منضدة من الرخام, لا يسترها إلا طبقة رقيقة من الكتان, بجانبها الكاهن الطبيب الذي كان سيتولى عملية التحنيط, تفوح منه رائحة ثقيلة, كان أنفها لايزال على ارتفاعه, ووجهها نظيفا وشاحبا دون مساحيق, وملامحها فقدت حدتها وتراخت واكتست مسحة من الغموض, كشفت الغطاء عنها بهدوء, ظهر صدرها نافرا مثل أنفها, كأن مافيه من رغبة لم يتأثر بالموت, ولكن أصابع الزرقة كانت تواصل زحفها على بقية جسدها, تأخذها ببطء إلى عالم الظلال, ربما لم تكن شريرة لهذه الدرجة, فاستكانتها كانت مثيرة حقا للشفقة, مددت يدا مرتعدة وتحسست رقبتها, قلبت وجهها يمنة ويسرة, أزحت خصلات شعرها, (عن ماذا تبحث ياسيدي?), تحدث إلي الكاهن الطبيب, قلت: (عن آثار لدغة الثعبان, ربما كانت في الصدر أو في الرقبة) قال في صوت باتر:(لا يوجد شيء من هذا القبيل), حدقت فيه مذهولا, واصل القول: (لا توجد إلا تلك البثور الغائرة حول العنق, وهي بالقطع ليست آثار ثعبان) قلت مذهولا:(ما هي إذن?) قال: (آثار حبال, لقد ماتت خنقا, تحسس رقبتها, سوف تجد بروزا, إنه آثار كسر في قصبتها الهوائية, لقد فحصتها بنفسي, هذا هو سبب الوفاة).
سقطت الورقة من يد أوكتافيوس, كيف حدث هذا, كيف تحولت حادثة الانتحار المؤكدة, إلى واقعة جريمة قتل, ومن الذي جرؤ على فعل ذلك? حان موعد نومه ولكن نافذة (أوكتافيا) مازالت مضاءة, صب لنفسه كأسا من النبيذ, وعاد يقلب في الأوراق المتداخلة, كانت لفائف البردي معبقة برطوبة البحر, هشة وعلى وشك التفتت, من الصعب محاولة إعادة ترتيبها, أمسك بواحدة أخرى كيفما اتفق وأخذ في القراءة
(..... استلزم الأمر ثلاث مرات من ممارسة الحب, حتى أصبحت طيعة, من لم يمارس الحب مع نساء الإسكندرية, لم يعرفه على الإطلاق, كان حزنها على ملكتها طاغيا في المرة الأولى, وقمت أنا بكل العمل دون أن تتجاوب معي, وفي المرة الثانية اكتشفت أن جوع جسدها أكثر حدة من فجيعتها, أما في المرة الثالثة فقد استلقيت أنا متعبا بينما لم يعد من الممكن إخماد نارها, عندما سألتني عن الموعد الثاني الذي سوف نلتقي فيه طلبت منها أن تقودني أولا إلى جناح ملكتها, إلى المكان الذي ماتت فيه على وجه التحديد, ترددت قليلا, ولكني حين لففت ساعدي حولها وافقت على أن تدخلني إلى القصر بواسطة أحد الممرات السرية التي لا يعرفها إلا الملكة وأقرب وصيفاتها, تحسسنا طريقنا بواسطة شعلة صغيرة, ولكن المكان كان موحشا وخاليا, مخدع الملكة محطم وممزق الأستار, الأثاث والتماثيل والأواني وقوارير العطر, كل شيء كان محطما, ولا أثر لأي مجوهرات, كنت متأكدا من أن جنودنا البواسل لم يقتحموا المكان, لقد اكتفوا كما أمرتهم بحصار القصر من الخارج, ولابد أن القتلة هم الذين فعلوا ذلك وأن الملكة التعيسة قد قاومتهم بشدة, فقد المكان بهاءه القديم, وكان الدمار الذي لحق به مثيرا للأسى, قلت لرفيقتي الوصيفة: (أين سلة الثعابين?) قالت بلا مبالاة: (هناك كثير من السلال), سارت أمامي مسرعة فلم أملك إلا أن أتبعها, قادتني إلى غرفة أكثر ضيقا خلف الجناح الذي كانت تنام فيه كليوباترا مباشرة, كشفت الأستار من فوق الحائط, كانت هناك أرفف مرصوص عليها عشرات من هذه السلال, مجدولة من القش الملون ومن غاب البحيرات, صغيرة وذات أغطية محكمة, قالت: (كان البدو يأتون بهذه السلال وهي ممتلئة بالثعابين), وقع قلبي من الرعب من هذه المرأة, قلت: (ألم تكن تخاف منها?), قالت: (كانت تقول إن التعامل مع الثعابين أسهل بكثير من التعامل مع الرجال), كنت لا أزال مدهوشا: (ماذا كانت تفعل بها?) قالت مستنكرة من جهلي: (لقد كانت ملكة, كانت تخرج سم هذه الثعابين بنفسها وتتناول منه كمية صغيرة كل يوم, ترياقا يحميها من أي سموم تدس لها, ألم تكن ملكا من قبل) عدنا إلى غرفتها المحطمة, تفحصت المكان لعلني أجد أي أثر للذين قاموا بقتلها, قلت لها: (هل رأيت الملكة بعد أن ماتت?), قالت: (أنا الذي استدعيت كهنة التحنيط), قلت: (ألم تشاهدي في الغرفة أي شيء غير عادي), قالت: (ما عدا موت الملكة وضياع المملكة, وتحطم كل شيء وسرقة كل ما هو ثمين فلا شيء غير عادي) , قلت: (أعني أي أثر يرشدني لمن فعل ذلك), قالت: (ترك القتلة خلفهم شيئا واحدا), مدت يدها إلى صدرها وأخرجت شيئا صغيرا وقدمته لي, نظرت إليه في دهشة و.........)
انتهت هذه البردية أيضا, ألقى أوكتافيوس الكأس في حنق, قلب بقية اللفائف في سرعة, توالت أمام عينه شذرات من التفاصيل, شهادات متناثرة ومتناقضة, عبيد وجنود وحراس وصيادون وكهنة وبغايا وأوباش, محاولة يائسة من (رومولوس) للبحث عن الحقيقة وسط مدينة تسودها فوضى الهزيمة, ألقى الأوراق في يأس, كان قد عمل حسابه لهذه الفوضى, وأعطى أوامره المشددة لقائد الحامية (فينيكوس استيولوس) أن يتم محاصرة القصر من الخارج وألا يسمح للجنود أو الدهماء بالدخول, فكيف تمكن القتلة من الوصول إلى جسدها? حمل كأسه وسار إلى حافة الشرفة, كانت نافذة أخته مضاءة ولكنه لم يلمح طيفها هل استكانت للنوم أخيرا? هل استطاعت التغلب على إحساسها بالحزن والفضيحة? نظر أوكتافيوس إلى اللفائف في ضيق, كانت تحتوي على حقيقة لا يستطيع الوصول إليها, ضربها بقدمه فتناثرت في كل أجزاء الغرفة, لقد ماتت كليوباترا, انتهت, ضاعت, بعد أشهر قليلة سوف ينساها الجميع وسيتحول هذا الشريط الطيني الضيق على ضفاف النيل إلى ولاية خانعة, بعد أن كانت دولة مشاغبة, حتى نيران الرغبة ستبرد عندما يستعر القتال في مكان ما, وستنسيه رائحة الدم كل شيء, إنه وقت نومه هو أيضا, سار عبر الغرفة, ولكنه داس على إحدى اللفائف, رفعها في ضيق, كانت سميكة, ربما كانت هذه هي البردية الأخيرة التي تلتف بقية البرديات في طياتها, لمح في رأس السطر الأول منها اسم (فينيكوس استيولوس) قائد حامية الإسكندرية, جلس مرة أخرى وبدأ في القراءة:
(.... أمسك (فينيكوس) بذراعي والسفينة تستعد لرفع مراسيها, والجنود ينفجرون بالغناء فرحا بمغادرة هذه الأرض الحارة والعودة إلى روما, هتف بي: (بالله عليك يارومولوس النبيل انس هذا الأمر, كأنك لم تر شيئا ولم تسمع شيئا, إنها أرض ملعونة وكل ما يأتي منها ملعون), قلت له: (إنه أمر أكتافيوس العظيم نفسه, يجب أن أقول له الحقيقة), قال: (لم تعد الحقيقة تهم أحدا الآن, تظاهر بالغباء وقل له إنك لم تتوصل لشيء, وأن الثعابين هي التي قامت بكل العمل) قلت له مؤنبا: (أيها الصديق فينيكوس, إنه أنت الذي أدخل القتلة إلى القصر), قال: (ليسا قاتلين, لقد كانا ينفذان أمر الدولة ويحملان خاتم قيصر), تأملته قليلا, كنت حزينا, ولكنه قال قبل أن يدفع بي إلى السفينة: (لعل ما حدث هو الأفضل للجميع, فليكن الصمت هو فضيلتك), وكيف لي أن أصمت يا أكتافيوس العظيم, إن وطأة الحقيقة ثقيلة على قلبي, ودليل الإثبات الذي أخذته من الجارية المصرية يثقل كاهلي, لذلك أضع كل شيء بين يديك, وسوف تجد في قاعة الجرة الدليل الذي.....)
توقف أوكتافيوس عن القراءة حائرا, لا يدري ماذا يفعل, سار متثاقلا إلى جرة (الأنفورا) وأدخل يده فيها, بحث فيها بأصابعه حتى عثر على لفافة صغيرة, أخرجها, كانت لفافة من الكتان, فضها بسرعة فانكشفت عن خاتم له فص من العقيق, لا يخطئه أحد, خاتم (يوليوس قيصر) ذاته الذي كان يمهر به كل قرارات الدولة, , الخاتم نفسه الذي أخذه عنه (مارك أنطونيو) بعد مقتله, وكان من المفروض أن يئول إليه ليضعه في إصبعه ويختم به قرارات حكمه, كيف وصل هذا الخاتم إلى أيدي القتلة, وأصبح جواز مرورهما إلى مخدع الملكة المغدورة?
ـ أرى أنك قد عثرت على الخاتم أيها الأخ العزيز.
استدار إليها, كانت لاتزال ساهرة, في لحظة وجد نفسه يرتجف, تحول إلى الأخ الصغير الذي خنع دوما لإرادتها, , قال في صوت خافت متردد:
ـ أنت التي أعطيتهما الخاتم يا أختاه.
سارت (أوكتافيا) ببطء إلى داخل الغرفة, صبت لنفسها كأسا من النبيذ وأخذت منها رشفة صغيرة, قالت:
ـ كان مارك أنطونيو زوجي, وكانت هي عشيقته, هل كنت تريد من أختك ألا تثأر لشرفها الضائع?
ـ كانت ستموت على أي حال, فلماذا ورطت نفسك في هذه المحاولة?
ـ كان يجب أن أسرع, حتى لا تصل إليك أنت أيضا.
جلس أوكتافيوس على أحد المقاعد وأخذ كل واحد منهما يلتقط أنفاسه في صعوبة, عادت أوكتافيا تقول:
ـ صديقك (رومولوس) هو الذي أرسل إليك هذه الأشياء, أليس كذلك?
ـ أجل.
ـ سوف يثرثر بالكلام خاصة عندما يشرب, وسوف يشيع الخبر في كل حانات روما.
ـ وماذا يمكن أن نفعل?
ـ الأفضل أن يصمت (رومولوس) تماما, هل تفعل ذلك من أجلي يا أخي الصغير.
ـ أجل يا أختاه.
محمد المنسي قنديل
يناير 2006