يمر أدب كل أمة بثلاثة أطوار كبرى تتبع عهود رقي الجماعة: فطور الهمجية يليه طور البداوة ويلي هذا طور الحضارة؛ وفي الطور الأول لا يكون للأدب وجود مستقل بنفسه، بل يكون الشعر تعبيراً ساذجاً عن بسيط العواطف ممتزجاً بالغناء والرقص، ويكون النثر شذوراً من الخرافات والمعتقدات المتوارثة عن الآلهة والجان وقوى الطبيعة؛ ويأتي الطور الثاني بارتقاء عقلية الجماعة بممارستها أعمالاً أرقى وأدق واختلاطها بالأمم الراقية؛ وفي هذا الطور يتميز الشعر ويستقل عن غيره من الفنون وتتسع جوانب النثر، ولكن يظل الشعب على رغم ارتقائه العقلي فطرياً متبدِّيا، حتى إذا عبر هذا الطور إلى طور الحضارة ازداد ترفاً في الحياة ومارس العلوم المنظمة وعرف الكتابة، فظهر في أدبه أثر الثقافة والفن والصناعة.
وقد مر الأدب العربي بالطور الثاني من هذه الأطوار في عهد الجاهلية وصدر من الإسلام: ففي ذلك العهد كان العرب على جانب يعتد به من الرقي العقلي لمزاولتهم التجارة ووقوفهم على حضارة الفرس والروم، وفي ذلك العهد نضجت اللغة العربية نضجاً عظيماً وبلغ الشعر من الرقي شأواً بعيداً، بيد أن الأدب ظل فطرياً بعيداً عن أثر لثقافة والدراسة والتدوين والصنعة، ثم نهض العرب نهضتين علميتين في مدى قرنين: أولاهما بظهور الإسلام ونزول القرآن وفتح الأقطار، والثانية بترجمة علوم الأقدمين، وبذلك انتقل الأدب العربي إلى الطور الثالث من أطوار رقيه: وطور الحضارة والثقافة.
وقد انتقل الأدب الإنكليزي إلى هذا الطور أيضاً بنهضتين متواليتين: الأولى في القرن السادس عشر بوصول حركة إحياء علوم الأقدمين - البونان والرومان - من أوربا إلى إنكلترا، والثانية في القرن التاسع عشر عقب التقدم الصناعي العلمي الذي كانت إنجلترا رائدته وكان من أبنائها كثير من أئمة النهضة العلمية الحديثة في علوم الفلك والحياة والطب والنفس وغيرها.
ويلاحظ أن هناك اختلافاً في توالي النهضتين في الأمتين: فقد كانت نهضة العرب العلمية الأولى داخلية وليدة الدين الذي نشأ بين أظهرهم، وكانت الثانية خارجية آتية من نقل علوم الأمم الأخرى، بينما في إنجلترا جاء هذا النقل عن الأقدمين أولاً ثم كانت النهضة التالية داخلية نتيجة لتحسين أبناء البلاد لما نقلوه من علوم غيرهم.
وقد أوفى العرب على الغاية في الشغف بالعلوم والجد في تحصيلها، وأظهر أمراؤهم من التقدير للعلم وأهله والرغبة في خدمته والبذل في سبيله ما لم يظهره ملوك دولة في التاريخ، وكانت رعايتهم للعلماء - بعكس ما كان تقريبهم للشعراء - جليل النفع بعيد الأثر.
وكان للعرب من اللغة العربية الرحبة الجوانب، الطيّعة الأسلوب، الغنية بطرائق الاشتقاق، خير معوان في جِدهم في درس العلوم، وامتلأت جوانب اللغة بضروب الدراسات والثقافات، وكان رقيها العلمي في عهد الدول الإسلامية يفوق كثيراً رقيها الأدبي: فبينما ظل أدباء الجاهلية دائماً أساتذة للمتأخرين يحتذونهم في الأدب، أمعن علماء الإسلام وفلاسفته في مذاهب من التفكير والبحث لم يسمع بها الجاهليون ولا خطرت لهم على بال.
ولم يقصر أدباء العربية عن غيرهم في تلك الحلبة العلمية المحتدمة، ولم يكونوا دون سواهم غفاً بالعلم وطلباً لشوارده، بل كان أكثرهم مثقفين ثقافة علمية وأدبية عالية، وقد تلقوا علومهم على طريقة عهدهم: فمن نشأ في يسار أُحضر له المؤدبون، ومن ترعرع في بيت علم وفضل قام أبوه بتأديبه، ومن قصر به جده عن هذا وذاك بين الأدباء واختلف إلى العلماء حيث كانوا يجلسون للدرس؛ أما المدارس والجامعات فلم تنشأ إلا متأخرة، قبيل بدء عهد الركود الفكري، ولم يكد يتخرج فيها عَلم من أعلام الأدب.
وكان من خصائص الثقافة الإسلامية ترامي أطرافها واختلاف أجناس الخائضين غمارها وشمولها شتى العلوم والمذاهب والعقائد من متفرق الأمم وامتزاج العلم بالأدب والدين بالفلسفة فيها، وقد ظهر أثر كل هذا في المؤلفين وفي مؤلفاتهم: كانوا طموحين في طلبهم العلم يبغون تمثُّل كل ما في عصرهم من مناحي التفكير، وكانوا كذلك طموحين في مؤلفاتهم يحبون أن يودعوها كل فن. ولو أردنا أن نشير إلى الأدباء الذين نالوا حظاً عظيما من الثقافة لأحصينا أكثر أدباء العصر العباسي الزاهي بين القرنين الثاني والخامس الهجري. ويكفي أن نذكر من الشعراء المعري الحكيم المعنى بشؤون الكون والفلك والحياة الاجتماعية، ومن الكتاب الجاحظ العالم الكلف بدراسة الحيوان وتذوق كل قديم وجديد وقريب وبعيد في الحياة والكتب، والذي كان - كما قيل - يستأجر المكاتب ليلاً ليبيت فيها يستوعب محتوياتها.
تماثَلَ الكتاب والشعراء في الأخذ من الثقافة بنصيب، ولكن كان لكتاب على العموم أوفر حظاً من الثقافة عامة ومن العلوم خاصة، واقتصر بعض الشعراء على الدراسة الأدبية، لأن الكتاب كانوا يترشحون للوزارة وكتابة الدواوين والولاية وتأديب أبناء الأمراء، ولا بد لتلك المناصب من دراية واسعة وإلمام شامل، ولأن كثيراً من الشعراء لم يكن للشعر عندهم غاية وراء استدرار الصلات والجوائز، ولم تكن وظيفته عندهم تسجيل الآراء والخوالج النفسية، فلم يكن بهم كبير حاجة إلى دراسة العلوم التي تهذب الفكر، بل كن حسبهم أن يقفوا على مذاهب القول التي سلكها المتقدمون من الشعراء المداحين، والبحتري أبرز أولئك الشعراء الذين عاشوا في صميم عهد الثقافة بنجوة عنها، فقد كان حريصاً على استبقاء السذاجة البدوية، وجاء أكثر ديوانه الضخم مدحاً لمن يرجو عندهم العطاء، وهجواً لمن خيبوا منه ذلك الرجاء.
كان أعلام الأدب الإنجليزي كذلك على جانب عظيم من الثقافة، وقد حصلوا - عدا من قعدت بهم ظروف غير مواتية كشكسبير وجونسون - علومهم في الجامعات التي أخذ نظامها عن العرب وأصبحت مواطن العلم والدرس، ونَبُهَ صيت بعضهم وهم ما يزالون طلاباً بها، وتشترك ثقافتهم مع ثقافة أدباء العربية في الاشتمال على الفلسفة اليونانية؛ ولكن بينما كانت دراسة الأدب العربي القديم تتم الباقي من ثقافة الأديب العربي، كانت دراسة الأدب اليوناني تكمل ذلك الجانب من ثقافة الأديب الإنجليزي. ومن ثم كان معظم الأدباء الإنجليز ملمين باللغتين اليونانية واللاتينية؛ ولمعرفة اللغات أثرها العظيم في تكوين الأديب وتوسيع أغراض القول؛ ويكثر الالماع إلى اليونان والرومان: تاريخهم وأساطيرهم ومشهوري رجالهم في الأدب الإنجليزي، كما تكثر الإشارة إلى الجاهلية والجاهليين في الأدب العربي.
ويتشابه رجال الأدبين في الرحلة عن الوطن في نشدان العلم: فقد كان أدباء العربية يطوفون في البلاد في طلب أئمة العلوم يلزمونهم، وفي طلب نوادر الكتب يستنسخونها، وربما أضافوا إلى ذلك حج البيت الحرام. وكذلك جرت سنة الأدباء والمتعلمين عامة من ذوي اليسار الإنجليز على الارتحال بعد نيل درجاتهم العلمية إلى أوربا وخاصة إلى إيطاليا مبعث النهضة الأوربية، وربما أضافوا إلى ذلك الحج إلى آثار بلاد الإغريق مهد العلوم والآداب والفنون القديمة؛ ولهذه الرحلة عن الوطن - فضلاً عن كسب العلم ومصاحبة العلماء - أعظم الأثر في تكوين نفس الأديب وتوسيع أفق خياله.
وكان لانتشار الثقافة في الأمتين آثاره المتشابهة في الأدبين: فارتقيا خيالاً وأسلوباً وأغراضاً ومعاني، واتسعت جوانبهما، وظهر فيهما التفنن والصنعة المقصودة، وظهرت لغة علمية دقيقة التعبير بجانب لغة أدبية أنيقة التحبير، وظهرت روح النقد وتجلت نزعة الشك من جراء اصطدام العلوم المستحدثة بالعقائد الموروثة، واشتدت المنازعات الأدبية، واحتدمت المشادات بين أنصار القديم وأتباع الجديد، وظهرت آثار المذاهب الفلسفية واصطلاحات النظريات العلمية في رسائل الكتاب وقصائد الشعراء، ونبغ من المثقفين من يجمعون بين صناعتي العلم والأدب.
ولا ريب أن هذا الطور الثالث من أطوار رقي الأدب التي أُشير إليها في صدر هذه الكلمة - طور الحضارة والثقافة - هو أرقى ما يصل إليه الأدب وفيه ينال ما قدر له من أسباب الكمال، وفيه أنتج الأدب العربي خير نتاجه، فالأدب لا يبلغ غايته إلا في حضارة تحيط به، وثقافة تغذيه، وروح نقد تستحثه. وقد دام هذا الطور الأدبي في العربية زهاء ثلاثة قرون حافلة، تخلف لنا منها تراث زاخر يشهد بشغف العرب بالعلم وولوعهم بالأدب، ثم عملت عوامل الفساد السياسية والاجتماعية عملها، فاضطرب المجتمع، وجمدت الأفكار، ودخل الأدب في طور تدهوره الطويل.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 169
بتاريخ: 28 - 09 - 1936
وقد مر الأدب العربي بالطور الثاني من هذه الأطوار في عهد الجاهلية وصدر من الإسلام: ففي ذلك العهد كان العرب على جانب يعتد به من الرقي العقلي لمزاولتهم التجارة ووقوفهم على حضارة الفرس والروم، وفي ذلك العهد نضجت اللغة العربية نضجاً عظيماً وبلغ الشعر من الرقي شأواً بعيداً، بيد أن الأدب ظل فطرياً بعيداً عن أثر لثقافة والدراسة والتدوين والصنعة، ثم نهض العرب نهضتين علميتين في مدى قرنين: أولاهما بظهور الإسلام ونزول القرآن وفتح الأقطار، والثانية بترجمة علوم الأقدمين، وبذلك انتقل الأدب العربي إلى الطور الثالث من أطوار رقيه: وطور الحضارة والثقافة.
وقد انتقل الأدب الإنكليزي إلى هذا الطور أيضاً بنهضتين متواليتين: الأولى في القرن السادس عشر بوصول حركة إحياء علوم الأقدمين - البونان والرومان - من أوربا إلى إنكلترا، والثانية في القرن التاسع عشر عقب التقدم الصناعي العلمي الذي كانت إنجلترا رائدته وكان من أبنائها كثير من أئمة النهضة العلمية الحديثة في علوم الفلك والحياة والطب والنفس وغيرها.
ويلاحظ أن هناك اختلافاً في توالي النهضتين في الأمتين: فقد كانت نهضة العرب العلمية الأولى داخلية وليدة الدين الذي نشأ بين أظهرهم، وكانت الثانية خارجية آتية من نقل علوم الأمم الأخرى، بينما في إنجلترا جاء هذا النقل عن الأقدمين أولاً ثم كانت النهضة التالية داخلية نتيجة لتحسين أبناء البلاد لما نقلوه من علوم غيرهم.
وقد أوفى العرب على الغاية في الشغف بالعلوم والجد في تحصيلها، وأظهر أمراؤهم من التقدير للعلم وأهله والرغبة في خدمته والبذل في سبيله ما لم يظهره ملوك دولة في التاريخ، وكانت رعايتهم للعلماء - بعكس ما كان تقريبهم للشعراء - جليل النفع بعيد الأثر.
وكان للعرب من اللغة العربية الرحبة الجوانب، الطيّعة الأسلوب، الغنية بطرائق الاشتقاق، خير معوان في جِدهم في درس العلوم، وامتلأت جوانب اللغة بضروب الدراسات والثقافات، وكان رقيها العلمي في عهد الدول الإسلامية يفوق كثيراً رقيها الأدبي: فبينما ظل أدباء الجاهلية دائماً أساتذة للمتأخرين يحتذونهم في الأدب، أمعن علماء الإسلام وفلاسفته في مذاهب من التفكير والبحث لم يسمع بها الجاهليون ولا خطرت لهم على بال.
ولم يقصر أدباء العربية عن غيرهم في تلك الحلبة العلمية المحتدمة، ولم يكونوا دون سواهم غفاً بالعلم وطلباً لشوارده، بل كان أكثرهم مثقفين ثقافة علمية وأدبية عالية، وقد تلقوا علومهم على طريقة عهدهم: فمن نشأ في يسار أُحضر له المؤدبون، ومن ترعرع في بيت علم وفضل قام أبوه بتأديبه، ومن قصر به جده عن هذا وذاك بين الأدباء واختلف إلى العلماء حيث كانوا يجلسون للدرس؛ أما المدارس والجامعات فلم تنشأ إلا متأخرة، قبيل بدء عهد الركود الفكري، ولم يكد يتخرج فيها عَلم من أعلام الأدب.
وكان من خصائص الثقافة الإسلامية ترامي أطرافها واختلاف أجناس الخائضين غمارها وشمولها شتى العلوم والمذاهب والعقائد من متفرق الأمم وامتزاج العلم بالأدب والدين بالفلسفة فيها، وقد ظهر أثر كل هذا في المؤلفين وفي مؤلفاتهم: كانوا طموحين في طلبهم العلم يبغون تمثُّل كل ما في عصرهم من مناحي التفكير، وكانوا كذلك طموحين في مؤلفاتهم يحبون أن يودعوها كل فن. ولو أردنا أن نشير إلى الأدباء الذين نالوا حظاً عظيما من الثقافة لأحصينا أكثر أدباء العصر العباسي الزاهي بين القرنين الثاني والخامس الهجري. ويكفي أن نذكر من الشعراء المعري الحكيم المعنى بشؤون الكون والفلك والحياة الاجتماعية، ومن الكتاب الجاحظ العالم الكلف بدراسة الحيوان وتذوق كل قديم وجديد وقريب وبعيد في الحياة والكتب، والذي كان - كما قيل - يستأجر المكاتب ليلاً ليبيت فيها يستوعب محتوياتها.
تماثَلَ الكتاب والشعراء في الأخذ من الثقافة بنصيب، ولكن كان لكتاب على العموم أوفر حظاً من الثقافة عامة ومن العلوم خاصة، واقتصر بعض الشعراء على الدراسة الأدبية، لأن الكتاب كانوا يترشحون للوزارة وكتابة الدواوين والولاية وتأديب أبناء الأمراء، ولا بد لتلك المناصب من دراية واسعة وإلمام شامل، ولأن كثيراً من الشعراء لم يكن للشعر عندهم غاية وراء استدرار الصلات والجوائز، ولم تكن وظيفته عندهم تسجيل الآراء والخوالج النفسية، فلم يكن بهم كبير حاجة إلى دراسة العلوم التي تهذب الفكر، بل كن حسبهم أن يقفوا على مذاهب القول التي سلكها المتقدمون من الشعراء المداحين، والبحتري أبرز أولئك الشعراء الذين عاشوا في صميم عهد الثقافة بنجوة عنها، فقد كان حريصاً على استبقاء السذاجة البدوية، وجاء أكثر ديوانه الضخم مدحاً لمن يرجو عندهم العطاء، وهجواً لمن خيبوا منه ذلك الرجاء.
كان أعلام الأدب الإنجليزي كذلك على جانب عظيم من الثقافة، وقد حصلوا - عدا من قعدت بهم ظروف غير مواتية كشكسبير وجونسون - علومهم في الجامعات التي أخذ نظامها عن العرب وأصبحت مواطن العلم والدرس، ونَبُهَ صيت بعضهم وهم ما يزالون طلاباً بها، وتشترك ثقافتهم مع ثقافة أدباء العربية في الاشتمال على الفلسفة اليونانية؛ ولكن بينما كانت دراسة الأدب العربي القديم تتم الباقي من ثقافة الأديب العربي، كانت دراسة الأدب اليوناني تكمل ذلك الجانب من ثقافة الأديب الإنجليزي. ومن ثم كان معظم الأدباء الإنجليز ملمين باللغتين اليونانية واللاتينية؛ ولمعرفة اللغات أثرها العظيم في تكوين الأديب وتوسيع أغراض القول؛ ويكثر الالماع إلى اليونان والرومان: تاريخهم وأساطيرهم ومشهوري رجالهم في الأدب الإنجليزي، كما تكثر الإشارة إلى الجاهلية والجاهليين في الأدب العربي.
ويتشابه رجال الأدبين في الرحلة عن الوطن في نشدان العلم: فقد كان أدباء العربية يطوفون في البلاد في طلب أئمة العلوم يلزمونهم، وفي طلب نوادر الكتب يستنسخونها، وربما أضافوا إلى ذلك حج البيت الحرام. وكذلك جرت سنة الأدباء والمتعلمين عامة من ذوي اليسار الإنجليز على الارتحال بعد نيل درجاتهم العلمية إلى أوربا وخاصة إلى إيطاليا مبعث النهضة الأوربية، وربما أضافوا إلى ذلك الحج إلى آثار بلاد الإغريق مهد العلوم والآداب والفنون القديمة؛ ولهذه الرحلة عن الوطن - فضلاً عن كسب العلم ومصاحبة العلماء - أعظم الأثر في تكوين نفس الأديب وتوسيع أفق خياله.
وكان لانتشار الثقافة في الأمتين آثاره المتشابهة في الأدبين: فارتقيا خيالاً وأسلوباً وأغراضاً ومعاني، واتسعت جوانبهما، وظهر فيهما التفنن والصنعة المقصودة، وظهرت لغة علمية دقيقة التعبير بجانب لغة أدبية أنيقة التحبير، وظهرت روح النقد وتجلت نزعة الشك من جراء اصطدام العلوم المستحدثة بالعقائد الموروثة، واشتدت المنازعات الأدبية، واحتدمت المشادات بين أنصار القديم وأتباع الجديد، وظهرت آثار المذاهب الفلسفية واصطلاحات النظريات العلمية في رسائل الكتاب وقصائد الشعراء، ونبغ من المثقفين من يجمعون بين صناعتي العلم والأدب.
ولا ريب أن هذا الطور الثالث من أطوار رقي الأدب التي أُشير إليها في صدر هذه الكلمة - طور الحضارة والثقافة - هو أرقى ما يصل إليه الأدب وفيه ينال ما قدر له من أسباب الكمال، وفيه أنتج الأدب العربي خير نتاجه، فالأدب لا يبلغ غايته إلا في حضارة تحيط به، وثقافة تغذيه، وروح نقد تستحثه. وقد دام هذا الطور الأدبي في العربية زهاء ثلاثة قرون حافلة، تخلف لنا منها تراث زاخر يشهد بشغف العرب بالعلم وولوعهم بالأدب، ثم عملت عوامل الفساد السياسية والاجتماعية عملها، فاضطرب المجتمع، وجمدت الأفكار، ودخل الأدب في طور تدهوره الطويل.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 169
بتاريخ: 28 - 09 - 1936
مجلة الرسالة/العدد 169/في الأدب المقارن - ويكي مصدر
ar.wikisource.org