ليس كاتب هذه الأحرف من المتحنثين، لكنه أحد عوام المسلمين الذين لا يستطيعون الترخص للغياب عن صلاة الجمعة. غير أني ما زلت أجد عناء في اختيار مكان لصلاة الجمعة أنى حللت. فنوعية الخطبة وموضوعها من أكثر الأمور التي تثقلني نفسيا كلما فكرت في الذهاب للصلاة يوم الجمعة.
وكنت قد وجدت خطيبا نموذجيا في الدوحة حوليْن كامليْن. لكني غيرت مكان سكني فأصبح مضربه بعيدا، فابتليتُ بآخر. كان الخطيب القديم مثاليا؛ إذ يأتي وبيده وُرَيْقةٌ صغيرة في جيبه. فيحمد الله ويثني عليه، ثم يدس يده في جيبه ويخرج الوريْقة المباركة ويتلو منها آيات وأحاديث عن موضوع وعظي ثم ينصرف. ولا تتجاوز مدة الخطبة دقائق عشرا.
لذلك كنت أدعو أصدقائي الجَفَلى على هذا الإمام ومسجده. غير أني الآن فقدت كل ذلك. فالمكان الذي انتقلت إليه حباه الله بإمام يجمع كل الصفات التي منها أنفر، والخصائص التي منها أهرب.
فهو يطيل الخطبة، وأنا أريدها قصيرة. وهو لُحَنَةٌ وأنا أحبذ الفصيح، وهو يتحدث بأسلوب تقريعي، وأنا أحبذ المبشرين الميسر ين والمتفائلين المحسنين والظانين بالله الظن الحسن.
ولعل أصعب جمعة عبرتْ بي كانت قبل أسابيع حين خصص فضيلته الخطبةَ كلها لعيد الحب.
وليته تحدث عن عيد الحب.
بل رفض العبارة وتحدث عن عيد الفلانتاينْ. واعتلى الرجل المنبر أربعين دقيقة، مُدندناً حول هذا الموضوع، وأنا مندسٌ وسط الناس، أكاد أخرج من جلدي غيظا وضيقا، غير أني أسيرٌ لسلطة المنبر.
فكنت أحيانا أعظ نفسي مذكرا إياها بأجر الرباط في المسجد، فأجدني مندفعا أستغفر وأحسبلُ (خلافا لرأي السادة المالكية). غير أني ما أكاد أصنع لنفسي مساحة متحررة من سلطان الخطيب حتى يوقظني بعبارة يرجعني بها إلى عالمه فأفقد ما جنيت، ويتشتت خاطري من جديد.
لقد أفتى الرجل أنه يحرم تحريما باتا بيع أي ملابس أو أدوات قد تستخدم في عيد الحب ذاك. وجزم بأنه يجب شرعا على أي بائع في محل الامتناعُ عن بيع أي منتوج إذا فهم أنه قد يستخدم في الاحتفال بهذا العيد.
كنت ألتفت يمنة ويسرة أثناء حديثه فأجد عمالا بسطاء قد يؤثر هذا الحديث على أعمالهم ويدخلهم في مشاكل مع مستأجريهم. ثم أعيد الكرة ناظرا إلى الخطيب، ثم أراوح بين الاعتماد على يمناي ويسراي، ولا يكاد مكان جلوسي يسعني غيظاً.
فكرت في الخروج أثناء الخطبة، ثم وعظت نفسي أن لا أخرج إلا إذا حكمَ الخطيب صراحةً بردة المحتفل بعيد حب.
قبل أعوام، كنت في إحدى المدن الأوروبية، وكان اليوم يوم عيد. فقررت مع رفيقي الذهاب للمسجد لنصلي العيد ونرى المسلمين محتفلين. غير أننا ابتلينا بإمام بليد تحدث عن موضوع لا علاقة له بحياة الناس ولا دينيهم. فما كان من صاحبيي إلا أن وقفا يشقان الصفوف خارجيْن والرجل يخطب. وبعد الصلاة، خرجت والتحقت بصاحبي وشجعتهما على فعلهما الذي أقعدني الجبن عن القيام به.
وقبل عامين، كنت أصلي الجمعة في أحد مساجد الدوحة فتحدث الإمام طيلة خمس وأربعين دقيقة عن سلوك جنسي شاذ، محذرا منه. غير أنه بالغ في الوصف والتفاصيل. وكان يجلس بجنبي أحد أصدقائي ومعه ابنٌ له حدث السن.
فلما خرجنا من المسجد، التفت الطفل لوالده وقال: “بابا، ألا يعلم هذا الإمام أن في المسجد أقواما تحت سن الثامنة عشرة؟”
لهذه الأسباب أستعذب هذه الأيام فكرة عدم وجوب صلاة الجمعة في غياب الإمام العادل. كما قادني الهم إلى التفكير في تبني السنة اليوم للفكرة الشيعية بترك إقامة الجمعة انتظارا لظهور المهدي (وإن تركوها منذ الثورة الإيرانية). فلمَ لا يقرر علماء السنة في هذا الزمان تأخير صلاة الجمعة لغاية ظهور الديمقراطية والعدل والمساواة في ربوع الإسلام؟ فالسنة اليوم مستضعفون مطاردون منكشفون استيراتيجيا، يتامى لا راعيَ لهم. بل هم رعاع يموج بين طيش داعش، ونيران المستبدين.
أذكر أني حاولت مرة تقليد ابن الماجشون –من المالكية- في أن الخطبة ليست فرضا عينيا، ففكرت أن لا أدخل المسجد إلا لحظة الإقامة كي أسلم من الاستماع أكثر من نصف ساعة للخطباء.
إن صلاة الجمعة كنز إيماني عظيم، ووسيلة فائقة التأثير للإصلاح لو أحسن استخدامها. ثم هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لاجتماع قدر من الناس خارج سلطة الأنظمة الاستبدادية. لذلك أذكر أن الجمع أيام الربيع العربي المجيد كانت أيام أعياد. يصبح فيها الساعي إلى الإصلاح متلهفا لخروج الناس، ويصبح فيها المستبد خبيث النفس معكر المزاج.
فمن لنا بتدارك هذه الشعيرة العظيمة؟
وكنت قد وجدت خطيبا نموذجيا في الدوحة حوليْن كامليْن. لكني غيرت مكان سكني فأصبح مضربه بعيدا، فابتليتُ بآخر. كان الخطيب القديم مثاليا؛ إذ يأتي وبيده وُرَيْقةٌ صغيرة في جيبه. فيحمد الله ويثني عليه، ثم يدس يده في جيبه ويخرج الوريْقة المباركة ويتلو منها آيات وأحاديث عن موضوع وعظي ثم ينصرف. ولا تتجاوز مدة الخطبة دقائق عشرا.
لذلك كنت أدعو أصدقائي الجَفَلى على هذا الإمام ومسجده. غير أني الآن فقدت كل ذلك. فالمكان الذي انتقلت إليه حباه الله بإمام يجمع كل الصفات التي منها أنفر، والخصائص التي منها أهرب.
فهو يطيل الخطبة، وأنا أريدها قصيرة. وهو لُحَنَةٌ وأنا أحبذ الفصيح، وهو يتحدث بأسلوب تقريعي، وأنا أحبذ المبشرين الميسر ين والمتفائلين المحسنين والظانين بالله الظن الحسن.
ولعل أصعب جمعة عبرتْ بي كانت قبل أسابيع حين خصص فضيلته الخطبةَ كلها لعيد الحب.
وليته تحدث عن عيد الحب.
بل رفض العبارة وتحدث عن عيد الفلانتاينْ. واعتلى الرجل المنبر أربعين دقيقة، مُدندناً حول هذا الموضوع، وأنا مندسٌ وسط الناس، أكاد أخرج من جلدي غيظا وضيقا، غير أني أسيرٌ لسلطة المنبر.
فكنت أحيانا أعظ نفسي مذكرا إياها بأجر الرباط في المسجد، فأجدني مندفعا أستغفر وأحسبلُ (خلافا لرأي السادة المالكية). غير أني ما أكاد أصنع لنفسي مساحة متحررة من سلطان الخطيب حتى يوقظني بعبارة يرجعني بها إلى عالمه فأفقد ما جنيت، ويتشتت خاطري من جديد.
لقد أفتى الرجل أنه يحرم تحريما باتا بيع أي ملابس أو أدوات قد تستخدم في عيد الحب ذاك. وجزم بأنه يجب شرعا على أي بائع في محل الامتناعُ عن بيع أي منتوج إذا فهم أنه قد يستخدم في الاحتفال بهذا العيد.
كنت ألتفت يمنة ويسرة أثناء حديثه فأجد عمالا بسطاء قد يؤثر هذا الحديث على أعمالهم ويدخلهم في مشاكل مع مستأجريهم. ثم أعيد الكرة ناظرا إلى الخطيب، ثم أراوح بين الاعتماد على يمناي ويسراي، ولا يكاد مكان جلوسي يسعني غيظاً.
فكرت في الخروج أثناء الخطبة، ثم وعظت نفسي أن لا أخرج إلا إذا حكمَ الخطيب صراحةً بردة المحتفل بعيد حب.
قبل أعوام، كنت في إحدى المدن الأوروبية، وكان اليوم يوم عيد. فقررت مع رفيقي الذهاب للمسجد لنصلي العيد ونرى المسلمين محتفلين. غير أننا ابتلينا بإمام بليد تحدث عن موضوع لا علاقة له بحياة الناس ولا دينيهم. فما كان من صاحبيي إلا أن وقفا يشقان الصفوف خارجيْن والرجل يخطب. وبعد الصلاة، خرجت والتحقت بصاحبي وشجعتهما على فعلهما الذي أقعدني الجبن عن القيام به.
وقبل عامين، كنت أصلي الجمعة في أحد مساجد الدوحة فتحدث الإمام طيلة خمس وأربعين دقيقة عن سلوك جنسي شاذ، محذرا منه. غير أنه بالغ في الوصف والتفاصيل. وكان يجلس بجنبي أحد أصدقائي ومعه ابنٌ له حدث السن.
فلما خرجنا من المسجد، التفت الطفل لوالده وقال: “بابا، ألا يعلم هذا الإمام أن في المسجد أقواما تحت سن الثامنة عشرة؟”
لهذه الأسباب أستعذب هذه الأيام فكرة عدم وجوب صلاة الجمعة في غياب الإمام العادل. كما قادني الهم إلى التفكير في تبني السنة اليوم للفكرة الشيعية بترك إقامة الجمعة انتظارا لظهور المهدي (وإن تركوها منذ الثورة الإيرانية). فلمَ لا يقرر علماء السنة في هذا الزمان تأخير صلاة الجمعة لغاية ظهور الديمقراطية والعدل والمساواة في ربوع الإسلام؟ فالسنة اليوم مستضعفون مطاردون منكشفون استيراتيجيا، يتامى لا راعيَ لهم. بل هم رعاع يموج بين طيش داعش، ونيران المستبدين.
أذكر أني حاولت مرة تقليد ابن الماجشون –من المالكية- في أن الخطبة ليست فرضا عينيا، ففكرت أن لا أدخل المسجد إلا لحظة الإقامة كي أسلم من الاستماع أكثر من نصف ساعة للخطباء.
إن صلاة الجمعة كنز إيماني عظيم، ووسيلة فائقة التأثير للإصلاح لو أحسن استخدامها. ثم هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لاجتماع قدر من الناس خارج سلطة الأنظمة الاستبدادية. لذلك أذكر أن الجمع أيام الربيع العربي المجيد كانت أيام أعياد. يصبح فيها الساعي إلى الإصلاح متلهفا لخروج الناس، ويصبح فيها المستبد خبيث النفس معكر المزاج.
فمن لنا بتدارك هذه الشعيرة العظيمة؟