يسألني كثير من الإخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة الجسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته:
أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن اسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة انطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، وياما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العلمية. ثم إذا خرج من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأضل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي. . . فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص على هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ.
أما (تَعب البال) فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس، وأحكم في الأعراض وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلي، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاه القانون، وكان دينه عبادة حروفه، بل لأنقذ من خلال الفكر إلى مقصد القوانين وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من الباطل، وأنضو عن المتقاضيين ثياب التصنع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيّن، وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولابد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبها - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل أعلام الموقعين، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلا أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساسا لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء، ويجده مباحثه من العلماء، وهذا شر استطار شروره، وعم الأنام خبره، وشملهم ضرره - فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟
هذا وقد نجاني الله بما ركب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق من منغصات القضاء، من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات، وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً وأرجو دوام ذلك.
أما (علو المنزّلة) فلأن لاسم القاضي دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته، له في الأسماع رنة إكبار، وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجد عليه أولئك الأبطال نجوم فلك العدل، ودراريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان، الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر، وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها، قضاتنا الأولون شريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد، ويضيق الحصر.
ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقْول جديداً مسعفاً، والسامع مصغياً متشوقاً متلهفاً - لذلك يعظم الناس اسم القاضي، لأنهم يذكرون به هؤلاء وأمثالهم، وعهداً رحم الله ذلك العهد، كان فيه القاضي قاضياً في كل خصومة بشرع الله، حاكماً بما أنزل. لم يكن المسلمون يهجرون فيه جواهرهم ولآلئهم لخزيفات يستجدونها من أيدٍ أشحة بها لأنها لا تملك غيرها، ولا يدعون شرع أحكم الحاكمين لشرع بشر من ماء وطين، وكان من مشاغل علمائهم البحث في الحسن والقبح هل هما شرعيان أو عقليان وكثر في ذلك الكلام، فلما صرنا إلى هذه الأيام ذهب ذلك الخصام وحل مكانه الوئام. واصطلح أهل عصرنا من الناشئة والشبان على أن الحسن ما حسن (أولئك. . .) والقبح ما قبحوه، وارتضينا كلنا هذه النتيجة التي انتهينا إليها، وصممنا الوقوف عليها، وسكن الجدال فلا قيل ولا قال، وكفى الله (المؤمنين) القتال، والحمد لله على (كل) حال.
وأما (قلة المال) فلأن أجر القاضي الشرعي في بلادنا أي مرتبه قليل قليل، وهو أدنى من سائر الحكام المدنيين؛ مع أنه يشترط فيه إجازة (ليسانس) الحقوق، والفوز في الامتحان الملكي، وسبق الاشتغال مدة في المحاماة. . . وهذا حديث له مكان آخر.
وأما (اكتساب العلم) فهو النعمة المفردة بين نقم القضاء المتعددة، اللهم بعد نعمة الثواب إذا كان الله يكتبه لمقصر مثلي لا يستحقه بعمله ولم تصف له نيته ولم يتجرد بعد عن حب الشهرة والجاه، وإن ضِعفت رغبته فيهما وهانا عليه - أن المطالعة هي نعمة هذه المحنة في المهنة، لقد كنت أُطالع دائماً وأنا معلم، بل أني لا أعرف أنه مرّ عليّ يوم واحد منذ عقلت إلى اليوم لم أقرأ فيه شيئاً، غير أني استفدت من القضاء الأنس بكتب الفقه والاستمتاع بها مثل استمتاعي بكتب الأدب أو قريباً منه. وعندي مجموعة منها صالحة إذا أنا استمررت على النظر فيها رجوت أن أكون يوماً من الأيام من أوعية هذا العلم. ذلك لأني أدأب على القراءة ولا يمنعني من السؤال عما لا أعرف حياء ولا كبر؛ ولأن لي بحمد الله ذاكرة لا تمسك النصوص بحروفها ولا الأرقام ولا الأبيات، غير أنها في حفظ المسائل ومواطن وجودها من العجائب. وما أعهد أنى نسيت مسألة قرأتها أو سمعتها، وما أعهد أنى تعرفت بإنسان وحفظت اسمه إلا بعد المخالطة الشديدة الزمن الأطول، ثم إني أنسى اسمه إذا فارقته مع أنى لا أنسى والوجه ولو رأيته مرة واحدة، ولا أعرف تعليل هذا الأمر.
وأما (ازدياد أعداء) القاضي العدل القائم بإحقاق الحق، والموظف النزيه المستقيم، فشيء مشاهد مسلم به لا يحتاج إلى بيان. وإذا كان قد روى عن أبى ذر أنه قال (كلمة الحق ما تركت لي صاحباً) وذلك على عهد الصحابة وفي أفضل القرون، فما بالك بعصرنا؟ وماذا يقول القاضي وما قضية يعرض عليه إلا وفيها اثنان يقضي لأحدهما على الآخر، فمن قضي عليه جعله عدواً له ما عدا النادر الأندر من الناس الذي يرضى بالحق ولو كان على نفسه. وأكبر المصيبة أنه قد يكون المبطل المقضي عليه، أو الشفيع المردودة شفاعته كبيراً في قومه، وجيهاً في بلده، فإذا ألزمته ما يلزمه شرعاً أثار عليك الشعب والحكومة، وافترى عليك الفِرَى، وأساء فيك رأي رؤسائك فآذوك وضروك وأخروا ترفيعك. والمعروف عند أولي الأمر أن الموظف الصالح هو الذي لا يسخط عليه أحداً ولا يثير مشكلة، ولا يكون ذلك لقاض عادل وموظف نزيه، وإنما يكون لمنافق في جيبه ألف وجه في كل وجه مائة لسان، يقابل كلا بالوجه الذي يحبه، ويخاطبه بالسان الذي يرضيه
وخلاصة القول أن القضاء (حمل ثقيل) وهم طويل، ولو أن الله أغناني عنه وكتب لي أن أعيش بقلمي ومؤلفاتي، أو لو أني رزقت مرتبة أهل الورع لما أقدمت عليه ولآثرت التعليم فهو أسلم، ولكني وقعت والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإن وسعى وغاية جهدي العزم الصحيح وبالله التوفيق على أن لا أحكم في قضية ما لم أعرف حكم الشرع فيها على مقدار طاقتي فأسير عليه، وأن لا أتعمد الزيغ والظلم تعمداً، ولا أنوي الميل مع أحد الخصمين، وأن لا تأخذني في الحق رغبة صديق ولا رهبة ذي سلطان. أما الخطاء فلا املك دفعه إلا بالانتباه، أما الجهل فلا أقدر معه إلا على التعلم والسؤال.
هذا وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين الذين في النار هما قاض يقضي بالجور وقاض يقضي بالجهل. ونحن نسأل الله لنا ولكل محب بالحق أن يوفقنا إلى أتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويرزقنا العمل بما علمنا ويزيدنا علماً.
(النبك - سوية)
علي الطنطاوي
مجلة الرسالة - العدد 462
بتاريخ: 11 - 05 - 1942
أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن اسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة انطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، وياما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العلمية. ثم إذا خرج من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأضل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي. . . فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص على هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ.
أما (تَعب البال) فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس، وأحكم في الأعراض وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلي، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاه القانون، وكان دينه عبادة حروفه، بل لأنقذ من خلال الفكر إلى مقصد القوانين وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من الباطل، وأنضو عن المتقاضيين ثياب التصنع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيّن، وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولابد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبها - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل أعلام الموقعين، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلا أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساسا لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء، ويجده مباحثه من العلماء، وهذا شر استطار شروره، وعم الأنام خبره، وشملهم ضرره - فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟
هذا وقد نجاني الله بما ركب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق من منغصات القضاء، من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات، وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً وأرجو دوام ذلك.
أما (علو المنزّلة) فلأن لاسم القاضي دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته، له في الأسماع رنة إكبار، وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجد عليه أولئك الأبطال نجوم فلك العدل، ودراريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان، الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر، وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها، قضاتنا الأولون شريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد، ويضيق الحصر.
ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقْول جديداً مسعفاً، والسامع مصغياً متشوقاً متلهفاً - لذلك يعظم الناس اسم القاضي، لأنهم يذكرون به هؤلاء وأمثالهم، وعهداً رحم الله ذلك العهد، كان فيه القاضي قاضياً في كل خصومة بشرع الله، حاكماً بما أنزل. لم يكن المسلمون يهجرون فيه جواهرهم ولآلئهم لخزيفات يستجدونها من أيدٍ أشحة بها لأنها لا تملك غيرها، ولا يدعون شرع أحكم الحاكمين لشرع بشر من ماء وطين، وكان من مشاغل علمائهم البحث في الحسن والقبح هل هما شرعيان أو عقليان وكثر في ذلك الكلام، فلما صرنا إلى هذه الأيام ذهب ذلك الخصام وحل مكانه الوئام. واصطلح أهل عصرنا من الناشئة والشبان على أن الحسن ما حسن (أولئك. . .) والقبح ما قبحوه، وارتضينا كلنا هذه النتيجة التي انتهينا إليها، وصممنا الوقوف عليها، وسكن الجدال فلا قيل ولا قال، وكفى الله (المؤمنين) القتال، والحمد لله على (كل) حال.
وأما (قلة المال) فلأن أجر القاضي الشرعي في بلادنا أي مرتبه قليل قليل، وهو أدنى من سائر الحكام المدنيين؛ مع أنه يشترط فيه إجازة (ليسانس) الحقوق، والفوز في الامتحان الملكي، وسبق الاشتغال مدة في المحاماة. . . وهذا حديث له مكان آخر.
وأما (اكتساب العلم) فهو النعمة المفردة بين نقم القضاء المتعددة، اللهم بعد نعمة الثواب إذا كان الله يكتبه لمقصر مثلي لا يستحقه بعمله ولم تصف له نيته ولم يتجرد بعد عن حب الشهرة والجاه، وإن ضِعفت رغبته فيهما وهانا عليه - أن المطالعة هي نعمة هذه المحنة في المهنة، لقد كنت أُطالع دائماً وأنا معلم، بل أني لا أعرف أنه مرّ عليّ يوم واحد منذ عقلت إلى اليوم لم أقرأ فيه شيئاً، غير أني استفدت من القضاء الأنس بكتب الفقه والاستمتاع بها مثل استمتاعي بكتب الأدب أو قريباً منه. وعندي مجموعة منها صالحة إذا أنا استمررت على النظر فيها رجوت أن أكون يوماً من الأيام من أوعية هذا العلم. ذلك لأني أدأب على القراءة ولا يمنعني من السؤال عما لا أعرف حياء ولا كبر؛ ولأن لي بحمد الله ذاكرة لا تمسك النصوص بحروفها ولا الأرقام ولا الأبيات، غير أنها في حفظ المسائل ومواطن وجودها من العجائب. وما أعهد أنى نسيت مسألة قرأتها أو سمعتها، وما أعهد أنى تعرفت بإنسان وحفظت اسمه إلا بعد المخالطة الشديدة الزمن الأطول، ثم إني أنسى اسمه إذا فارقته مع أنى لا أنسى والوجه ولو رأيته مرة واحدة، ولا أعرف تعليل هذا الأمر.
وأما (ازدياد أعداء) القاضي العدل القائم بإحقاق الحق، والموظف النزيه المستقيم، فشيء مشاهد مسلم به لا يحتاج إلى بيان. وإذا كان قد روى عن أبى ذر أنه قال (كلمة الحق ما تركت لي صاحباً) وذلك على عهد الصحابة وفي أفضل القرون، فما بالك بعصرنا؟ وماذا يقول القاضي وما قضية يعرض عليه إلا وفيها اثنان يقضي لأحدهما على الآخر، فمن قضي عليه جعله عدواً له ما عدا النادر الأندر من الناس الذي يرضى بالحق ولو كان على نفسه. وأكبر المصيبة أنه قد يكون المبطل المقضي عليه، أو الشفيع المردودة شفاعته كبيراً في قومه، وجيهاً في بلده، فإذا ألزمته ما يلزمه شرعاً أثار عليك الشعب والحكومة، وافترى عليك الفِرَى، وأساء فيك رأي رؤسائك فآذوك وضروك وأخروا ترفيعك. والمعروف عند أولي الأمر أن الموظف الصالح هو الذي لا يسخط عليه أحداً ولا يثير مشكلة، ولا يكون ذلك لقاض عادل وموظف نزيه، وإنما يكون لمنافق في جيبه ألف وجه في كل وجه مائة لسان، يقابل كلا بالوجه الذي يحبه، ويخاطبه بالسان الذي يرضيه
وخلاصة القول أن القضاء (حمل ثقيل) وهم طويل، ولو أن الله أغناني عنه وكتب لي أن أعيش بقلمي ومؤلفاتي، أو لو أني رزقت مرتبة أهل الورع لما أقدمت عليه ولآثرت التعليم فهو أسلم، ولكني وقعت والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإن وسعى وغاية جهدي العزم الصحيح وبالله التوفيق على أن لا أحكم في قضية ما لم أعرف حكم الشرع فيها على مقدار طاقتي فأسير عليه، وأن لا أتعمد الزيغ والظلم تعمداً، ولا أنوي الميل مع أحد الخصمين، وأن لا تأخذني في الحق رغبة صديق ولا رهبة ذي سلطان. أما الخطاء فلا املك دفعه إلا بالانتباه، أما الجهل فلا أقدر معه إلا على التعلم والسؤال.
هذا وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين الذين في النار هما قاض يقضي بالجور وقاض يقضي بالجهل. ونحن نسأل الله لنا ولكل محب بالحق أن يوفقنا إلى أتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويرزقنا العمل بما علمنا ويزيدنا علماً.
(النبك - سوية)
علي الطنطاوي
مجلة الرسالة - العدد 462
بتاريخ: 11 - 05 - 1942