عندما تحيطنا الأجواء الشتائية ، ونتنسم نسائمها المنعشة التي توحي برودتها بنقاء عجيب ، نتذكر طفولتنا ، وسني مراهقتنا الأولى ، ونحن نلعب أمام بيت الجدة تحت زخات المطر ، فإذا اشتد البرد وقرس الجو ، احتمينا بدفء الدار المبنية بالطوب اللبن ، تلك البيوت القديمة التي كانت - رغم بساطتها - تلم الجميع في حضنها ، فيلتفون حول راكية الفحم ، يسمعون طقطقات النار فيها ، وتمتزج في الأنوف روائح الشاي بشواء الكستناء ، فتسري في الأجساد قشعريرة دفء لذيذ ممزوج بهسهسات البرودة ، فنستشعر جمالهما معا .
إيهٍ يا بيوتنا القديمة ، كم لك من ذكريات في القلوب ! ذكريات نفتقدها كما افتقدنا الألفة والمحبة الخالصة بلا غرض أو منفعة ، نفتقد مساندة الجيران لنا وقت الأزمات ، وطرقهم أبوابنا لاستعارة أبسط الحاجات ، أتذكر يوم كنت طفلة لدي لثغة في اللسان ، وما زلت أقلب حروف الكلام ، أرسلتني جدتي لجارتها الحيية ، التي لا نراها كثيرا بسبب عزلتها الاجتماعية ، وكانت تدعى : الخالة خيرية .
أرسلتني جدتي لأستعير مصفاتها الكبيرة ، ووقفت حد الباب الخشبي الكبير أطرقه بيدي الصغيرة التي لا تكاد تبين طرقتها ، وقصر قامتي لا يعينني على تلمس مطرقته الحديدية المستديرة ، فجعلت أنادي عليها بصوت جهوري وهي لا تجيب ، وأنا لا آلو جهدا في رفع عقيرتي باسمها أعيد وأكرر ، وإذ بيدي جدتي تجذبني بقوة ، وتسحبني داخل الدار ووجهها ممتقع غضبا ، وعنفتني قائلة : من الأدب أن تعودي إن لم يرد عليك الجار ولا تلحي عليه ليفتح لك ، لا أن تنادي باسمه هكذا في الطرقات ؟
لكني سمعتها تحكي الموقف لأمي عندما أتت لتصطحبني من عندها ، واكتشفت أن غضبتها لم تكن لإلحاحي على الجارة فقط ، وإنما لخجلها الشديد من إحراجي للجارة ، لأنني كنت أنادي اسمها بقلب حرفي جعله اسما مهينا ، وصارت تردد ذلك في همس لأمي وتتضاحكان خجلا .
أتذكر أيضا لما كبرت قليلا ، وكانت حروفي قد تعدلت كثيرا ، ذهبت لاقتراض شيء من نفس الجارة وأنا أحمل خجلي القديم مما فعلت ، لكنها احتضنتني بقوة وهي تتبسم ، وظلت تذكرني بذلك اليوم ، وأنها لشدة خجلها من الجيران لم تفتح لي الباب ، و كلما تذكرته ضحكت ملء روحها وتحسرت على أيام زمان .
آهٍ ياخالة ، كم كانت أيام براءة ونقاء رغم ما فيها من تعب وشقاء ، وكنا فيها تجمعنا أفراحنا ، وتقوينا أتراحنا .
ماذا لو عادت تلك العادات الجميلة ، التي تقرب القلوب ، وتقوي الأواصر؟ ، ماذا لو غرسنا في أولادنا بصدق تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ، وتوصيته بالجار ؟ ، فقد جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .
إيهٍ يا بيوتنا القديمة ، كم لك من ذكريات في القلوب ! ذكريات نفتقدها كما افتقدنا الألفة والمحبة الخالصة بلا غرض أو منفعة ، نفتقد مساندة الجيران لنا وقت الأزمات ، وطرقهم أبوابنا لاستعارة أبسط الحاجات ، أتذكر يوم كنت طفلة لدي لثغة في اللسان ، وما زلت أقلب حروف الكلام ، أرسلتني جدتي لجارتها الحيية ، التي لا نراها كثيرا بسبب عزلتها الاجتماعية ، وكانت تدعى : الخالة خيرية .
أرسلتني جدتي لأستعير مصفاتها الكبيرة ، ووقفت حد الباب الخشبي الكبير أطرقه بيدي الصغيرة التي لا تكاد تبين طرقتها ، وقصر قامتي لا يعينني على تلمس مطرقته الحديدية المستديرة ، فجعلت أنادي عليها بصوت جهوري وهي لا تجيب ، وأنا لا آلو جهدا في رفع عقيرتي باسمها أعيد وأكرر ، وإذ بيدي جدتي تجذبني بقوة ، وتسحبني داخل الدار ووجهها ممتقع غضبا ، وعنفتني قائلة : من الأدب أن تعودي إن لم يرد عليك الجار ولا تلحي عليه ليفتح لك ، لا أن تنادي باسمه هكذا في الطرقات ؟
لكني سمعتها تحكي الموقف لأمي عندما أتت لتصطحبني من عندها ، واكتشفت أن غضبتها لم تكن لإلحاحي على الجارة فقط ، وإنما لخجلها الشديد من إحراجي للجارة ، لأنني كنت أنادي اسمها بقلب حرفي جعله اسما مهينا ، وصارت تردد ذلك في همس لأمي وتتضاحكان خجلا .
أتذكر أيضا لما كبرت قليلا ، وكانت حروفي قد تعدلت كثيرا ، ذهبت لاقتراض شيء من نفس الجارة وأنا أحمل خجلي القديم مما فعلت ، لكنها احتضنتني بقوة وهي تتبسم ، وظلت تذكرني بذلك اليوم ، وأنها لشدة خجلها من الجيران لم تفتح لي الباب ، و كلما تذكرته ضحكت ملء روحها وتحسرت على أيام زمان .
آهٍ ياخالة ، كم كانت أيام براءة ونقاء رغم ما فيها من تعب وشقاء ، وكنا فيها تجمعنا أفراحنا ، وتقوينا أتراحنا .
ماذا لو عادت تلك العادات الجميلة ، التي تقرب القلوب ، وتقوي الأواصر؟ ، ماذا لو غرسنا في أولادنا بصدق تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ، وتوصيته بالجار ؟ ، فقد جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .