المأساة الإنجليزية كالمأساة اليونانية والمأساة اللاتينية هي أرقى ألوان الأدب الإنجليزي، وقد اعتمدت في نشأتها الأولى على مصدرين عظيمين، أولهما أهلي - أو إن شئت فقومي - والآخر خارجي. أما الأهلي فهو هذا الثبت التاريخي الحافل المسمى (المرآة لأولي الأمر) الذي بدأه توماس ساكفيل (أو لورد بكهرست 1532 - 1584) سنة 1557 وتوخى فيه سرد مآسي عظماء الإنجليز منذ الفتح النورماندي حتى نهاية القرن الرابع عشر. وقد قلد المؤلف ما جاء في أساطير اليونان من زيارة أحد أبطالها للدار الآخرة - أوهيدز - وذلك كما في أسطورة أرفيوس الموسيقي وأسطورة هرقل، وما جاء في إنيادة فرجيل ورؤيا دانتي حينما قاده دليله (سوء الطالع) إلى الجحيم ليجوب دركاتها دركة بعد دركة، وليسائل ثمة الذين كتب عليهم أن يكون مأواهم النار بعد الذي قدموا في دار الفناء من خير وشر. فهم يقصون عليه الويلات التي سودت صحائف حياتهم الدنيا، ويحدثونه أحاديث المصائب التي انصبت على رؤوسهم فيها. ولم يكتب ساكفيل غير مقدمة هذا السفر العظيم، وهي مقدمة سياسية رائعة، ثم كتب من مجموعة الأساطير الكبيرة التي بلغ عددها ثمانياً وعشرين، الأسطورة الأولى. . . أما الذي قام بهذا العمل الجليل فهو أديب يدعى ريتشارد بولدوين بمساعدة طائفة من الأدباء الآخرين عنوا عناية فائقة بمآسي عظماء حروب الوردتين. والظريف أن هذا الأثر الأدبي الخالد هو نفسه الذي أوحى - بعد تمامه - إلى ساكفيل والى زميله توماس نورتون موضوع أول مأساة تمثيلية إنجليزية بحتة، هي تمثيلة جوربودك أو فركس وبوركس. وجور بودك هذا هو أحد ملوك بريطانيا العظمى، وفيدنا هي زوجته، أما فركس وبوركس فهما ولداه اللذان قسم بينهما ملكه، فما لبثا أن تنازعا وقتل أحدهما (بوركس) الآخر، فتثور الملكة، وتقسم لتنتقمن لولدها من أخيه، وتنتهز لذلك فرصة سنحت لها إذ رأته نائماً يغط في سبات عميق، فتستل خنجرها وتغمده في صدره. . . ويثور ثائر الشعب حنقاً على الملك (جوربودك) وعلى الملكة فيقتلهما على السواء
فهذه هي المأساة الإنجليزية الأولى، وقد نظمها مؤلفها في شعر رصين وعبارات مشرق قوية، وصباها في قالب أخاذ، كما يمتدحها الناقد الإنجليزي العظيم الشاب السير فيليب سدني في كتابه (الاعتذار عن الشعر)، وإن يكن رجال لمسرح الحديث لا يجعلون لها تلك القيمة التي أسبغها عليها هو. والمأساة موضوعة على نمط المآسي الإغريقية تقريباً، وهو هذا النمط الفذ الذي لا تبدو فيه أشخاص المأساة، وإنما تأتي بأخبارهم رسل يروون الوقائع واحدة بعد أخرى، فهي أشبه بتمثيلية قصصية يسردها علينا رسلها الأربعة - بعد شخصيات المأساة، كما كان الشاعر في المأساة اليونانية - ولا سيما قبل سوفوكلي - هو الذي يؤدي أدوار شخصياته كلها بمعاونة الخورس في الإنشاد فقط، أو في حكاية بعض الحوادث التي تمهد لما بعدها من وقائع الرواية
وهكذا كانت المآسي التاريخية التي حفلت بها تلك (المرآة) مصدراً هاماً للشعراء الذين ألفوا للمسرح في نصف القرن السادس عشر الأخير على العموم، وفي ربعه الأخير خاصة
وقد كان المسرح الفرنسي نبراساً يضيء على البعد للمسرح الإنجليزي في هذا المضمار، لكن المسرح الإنجليزي مع ذاك احتفظ بالطابع الذي يميزه ويبقى له استقلاله، ذلك أنه آثر كمال الوحدة للمأساة، واتساق الحوادث التاريخية وترابطها، دون أن يأبه بما كان هم المسرح الفرنسي أن يأبه له، ألا وهو ذلك النقد اللاذع، والسخرية الحادة، والمظهر العام الذي ينبغي أن يكون براقا خلابا. هذا، وقد ظهرت درامات تاريخية أخرى كانت مادة خصبة فيما بعد، أمدت شكسبير بموضوعات شائقة لكثير من مآسيه؛ فمن ذلك درامة (عهد الملك جون المضطرب) التي اقتبس منها شكسبير مأساته (الملك جون)، كما اقتبس مأساته (الملك لير) عن درامة مماثلة اسمها (التاريخ الحقيقي للملك لير وبناته الثلاث: جونرل وراجان وكورديلا). وقد وجد الشعراء الإنجليز غير شكسبير مدداً لا ينتهي في تاريخ ملوكهم، فاتخذوا منه موضوعات لمآسيهم الجميلة المشجية. فهذا بيل يؤلف في حياة إدورد الأول؛ وذلك مارلو ينفح المسرح بمآسيه عن إدورد الثاني وإدورد الثالث؛ وذاك شكسبير يسلم للخلود مآسيه عن رتشارد الثاني ولير وهنري الرابع وهنري الخامس وهنري السادس. . . الخ. ولم يقتصر الشعراء على مآسي الملوك، بل اتخذوا من الأحداث التاريخية نفسها التي وقعت في عصور هؤلاء الملوك موضوعات لطائفة طيبة من أروع مآسيهم كما صنع توماس هيوود في مأساته (إن لم تعرفني فأنت لم تعرف أحداً) التي اتخذ موضوعها من حوادث عصري ماري تيودور وإليزابث. على أن نوعاً جديداً من المأساة الإنجليزية الأهلية ابتدع الشاعر توماس كيد في أواخر القرن السادس عشر وأطلق عليه المسرحيون (مأساة الدم) لكثرة ما يتخلل فصولها من الذعر والقتل والفتك والبكاء والجنون والانتحار، وما إلى ذلك من ألوان الفزع. وتوماس كيد متأثر في هذا اللون الذي ابتدعه في المأساة الإنجليزية بشاعر الرومان وفيلسوفهم الأشهر سنكا. وليس يعرف المؤرخون كثيراً من حياة كيد. وهم مختلفون في تاريخ ميلاده وفي تاريخ وفاته، وإن اتفقوا أنه قضى حياته كلها في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويقولون إنه شدا شيئاً من العلم في مدرسة (مرشانت تايلور) وإنه كان ثمة زميلا للشاعر الكبير سبنسر. على أن الذي لا مراء فيه هو أنه مؤلف المأساة المشهورة (المأساة الأسبانية)، أو (هيرونيمو مجنون ثانية) التي يقال إنها جزء ثان لجزء أول من مأساة مفقودة اسمها (هيرونيمو - أو جيرونيمو) والمأساة تبدأ بحوار بين شبح دون أندريا وبين وكيله إلى العالم الآخر، واسمه الانتقام وتنتهي بمذبحة عامة بين جميع أبطالها، مذبحة أشنع مما تنتهي به مأساة (هملت) لشكسبير. . . ولكن مأساة دموية أخرى تسمى سليمان وبرسيدا لا تقل شناعة وتمزيقاً للأعصاب وتفجيراً للألم عن المأساة السابقة، بل تفوقها إلى الحد الذي لا تحتمله مشاعر القراء ولا تقوى عليه عواطفهم، ولهذا فنحن نضرب صفحاً حتى عن تلخيصها. وقد كتب أديب آخر يدعى هنري شتل مأساة دموية من طراز مآسي كيد اسمها هوفمان فساهم بها مع كيد في التمهيد لظهور المأساة الرومانتيكية (الإبداعية) في إنجلترا، وهي المأساة التي عفت على آثار الدرامات الدينية بنوعيها (الإنجليزية والقديسية) كما عفت على آثار الدرامة الأخلاقية أما الذي أنشأ هذه المأساة الإبداعية إنشاء، وسما بها إلى الذروة من الأدب المسرحي الإنجليزي فهو - خرستوفر مارلو الملقب بأبي المأساة الإنجليزية وصاحب الفضل الأكبر في (تكييف الذوق الإنجليزي العام) وتوجيهه على الوجهة الرومانتيكية الرفيعة التي أزهرت أيما إزهار فيما بعد. ويعود فضله إلى تلك العملية الاختزالية الواسعة التي قام بها في الدرامة المسرحية بوجه عام، فلقد وجد تراثاً مختلطاً من المسرحيات الكلاسيكية المشوهة التي ترتكز على الناحية الاستعراضية وتحفل بها قبل أن ترتكز على الموضوع المتماسك المتسق، والتي تعتمد على زيف المناظر وبهارجها وما يقحم خلالها من مواقف التهريج المضحك إقحاماً، قبل أن تعتمد على جمال الأداء وتسلسله. فلما أخذ مارلو ينظم أولى دراماته رأى أن يهمل كل هذا الزبد ليذهب جفاء، وأن يقدم للمسرح سبيكة خالصة من كل تلك الشوائب التي وقع فيها أسلافه وأكثر معاصريه، فعمد إلى الشعر المرسل الذي لا يرتبط بقافية فعظم به مآسيه، وأتى فيه بالغرر والدرر، فلم يصدم الذوق العام بكلام لا هو شعر ولا هو نثر، ولم ينفر منه ذلك الذوق العام، بل أقبل عليه وانجذب إليه، وقدره قدره الذي هو له أهل؛ ولم تنفر منه اللغة ولا موسيقى النظم ولا أوزان الشعر، ولم يفر منه الجمهور ولا ثار به الممثلون، بل كانوا جميعاً أصدقاءه المؤتلفين معه، المعجبين به
لقد ترك مارلو للأدب الإنجليزي سبع تمثيليات شهد منها المسرح خمساً بين عامي 1586، 1593، أي في أقل من سبع سنوات. أما أولى دراماته فهي تامبورلين الأكبر (تيمورلنك) وقد صور فيها الفاتح الشرقي صورة شاعرية شائقة إذ جعله بطلاً مثالياً ينشد الجمال المحض، وهو ينشد هذا الجمال خلال مناظر الدم والرعب والتقتيل والفزع، وهو مع ذاك يذوب أسى ويلتهب وجداً حينما يصف مرض زوجته الملكة وشحوبها، ثم احتضارها، وهو يبلغ آية الآيات في السمو حينما ينعى هذه الزوجة (التي تعدل الدنيا بأسرها) إلى صديقه ملك فاس
لقد نظم مارلو درامته بالشعر المرسل، أي غير المقفى، فكانت أول تمثيلية ملكت زمام هذا الشعر للمسرح الإنجليزي. . . والمدهش أن مارلو فاجأ قومه بلون طريف من ألوان الشعر هو عندهم مدهش اليوم أرقى هذه الألوان وأفتنها وأحبها إلى نفوس الإنجليز. . . وقد أطلق النقاد على شعر مارلو - في عصره بالطبع - لقب البيت العظيم أو ما نسميه نحن تجوزا القريض الفريد. ومع أن مارلو لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين إذ ذاك، فقد نجحت درامته نجاحاً عظماً، بموضوعها وبشعرها المفاجئ المجود، وباستغنائه عن تلك الزوائد المسرحية التي لا تربطها بصلب الرواية صلة
وقد تجلت عبقرية مارلو بكل جبروتها في مأساته الخالدة (الدكتور فاوست)، أو كما سماها هو (تاريخ الدكتور فاوست المحزن) ولا شك في أنه ابتدع هذه المأساة بعد قراءته لترجمة مأساة حياة الدكتور جون فاوست عن الألمانية كما ابتدع مأساة تيمورلنك من ترجمة حياته عن الأسبانية بقلم الكاتب الأسباني بدرو مكسيا. وقد قرأ نابغة الألمان العظيم جوته مأساة مارلو وأعجب بها غاية الإعجاب، وربما كانت هي التي أوحت إليه موضوع آيته العظيمة (فاوست)، بل إننا لنرجح أنه لم يكتبها إلا ليعارض بها مارلو، ففي الأسطورة الألمانية ترى مجرد اللذة، أو دافع السرور هو الذي يجعل فاوست بعد الشيطان بأن يلقي إليه زمامه إذا هو - أي الشيطان - استطاع أن يبعد الأحزان عن قلب فاوست، وأن يبلغه مشتهاه من لذائذ الحياة جميعاً. أما مارلو فقد جعل عقدة الرهان بين فاوست وبين الشيطان في أن يمنحه الشيطان السلطان المطلق والقدرة على كل شيء. . . فإذا أمكنه من هذا فله روحه وله نفسه، وله منه ما يشاء. أما جوته فقد أراد أن يجعل العقدة في هذا الرهان شيئاً آخر غير الذي رما إليه مارلو، وغير الذي رمت إليه الأسطورة الألمانية. لقد جعل عقدة هذا الرهان في أن يمنح الشيطان غريمه العلم المطلق بكل شيء، وفي سبيل هذا العلم أوقعه الشيطان في جميع الكبائر، فشرب الخمر وزنى وسرق ثم قتل. . . ومع ذاك فلم يؤته الشيطان من العلم شيئاً. . . يؤثر أن جوته صاح قائلاً عند فراغه من قراءة فاوست لمارلو: (ألا ما أعظم الفكرة!) وقد شهد سونبرن بما لتلك المأساة من التفرد بين جميع المآسي في جميع العصور؛ مع أن قارئ مارلو في فاوست يشعر في الصفحات الأولى للمأساة بخيبة شديدة، لأنه يجد تفاهة وسطحية تشبهان تفاهة الأطفال وسطحيتهم، ولا يكاد يفهم معنى لكل تلك الكهانات وألوان العرافة السخيفة التي يحشدها مارلو على نطاق واسع في مأساته. . . وسرعان ما يفطن القارئ إلى السبب فيكبر مارلو ويعلم أنه إنما قصد إلى حشد ذلك السخف كله ولم يأت به عبثاً. . . لقد أراد به تصوير سخفنا نحن. . . سخف الإنسانية. . . وإلا فلماذا يرتفع مارلو ارتفاعاً شاهقاً في آخر المأساة، وذلك عندما يصور هلاك فاوست، عندما تقبل عليه الشياطين من كل حدب فتحدق به وتطلب إليه وفاء الرهان
وقد خلت فاوست من العنصر النسائي
ومأساته الثالثة هي (يهودي مالطة) التي عرضها شكسبير بتاجر البندقية ولولا أن مارلو بالغ في تصوير بطله باراباس حتى جعله شخصاً خرافياً لبذ شكسبير في بطله شيلوك الذي لا يجافي الحقيقة في نفسيات المرابين. ومع ذلك فقد فضل سونبرن شخصية باراباس على شيلوك بالرغم من وجود هذا الفارق
أما مأساته الرابعة (إدورد الثاني) فتعتبر أكمل أعماله المسرحية، وإن افتقرت إلى العنصر الفكاهي الذي لابد منه لتخفيف فعل المأساة في نفوس النظارة
وتعتبر مأساته الخامسة (مجزرة باريس) أضعف مآسيه، وهي تصور النضال الهائل بين دوق دي جيز، وبين حزب الهوجونوت
وقد فتح مارلو جنة الشعر المرسل لشكسبير الذي أنبت فيها المعجزات، وقد وجدت في مخلفاته نسخة بخط مارلو لقصيدته الخالدة (هيرو ولياندر) ويؤثر أن شكسبير لم يكن يفضل عليها شيئاً من الشعر جميعاً. وقد نعرض لذلك في مقالاتنا عن الشعر المرسل والشعر الحر قريباً إن شاء الله.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 534
بتاريخ: 27 - 09 - 1943
فهذه هي المأساة الإنجليزية الأولى، وقد نظمها مؤلفها في شعر رصين وعبارات مشرق قوية، وصباها في قالب أخاذ، كما يمتدحها الناقد الإنجليزي العظيم الشاب السير فيليب سدني في كتابه (الاعتذار عن الشعر)، وإن يكن رجال لمسرح الحديث لا يجعلون لها تلك القيمة التي أسبغها عليها هو. والمأساة موضوعة على نمط المآسي الإغريقية تقريباً، وهو هذا النمط الفذ الذي لا تبدو فيه أشخاص المأساة، وإنما تأتي بأخبارهم رسل يروون الوقائع واحدة بعد أخرى، فهي أشبه بتمثيلية قصصية يسردها علينا رسلها الأربعة - بعد شخصيات المأساة، كما كان الشاعر في المأساة اليونانية - ولا سيما قبل سوفوكلي - هو الذي يؤدي أدوار شخصياته كلها بمعاونة الخورس في الإنشاد فقط، أو في حكاية بعض الحوادث التي تمهد لما بعدها من وقائع الرواية
وهكذا كانت المآسي التاريخية التي حفلت بها تلك (المرآة) مصدراً هاماً للشعراء الذين ألفوا للمسرح في نصف القرن السادس عشر الأخير على العموم، وفي ربعه الأخير خاصة
وقد كان المسرح الفرنسي نبراساً يضيء على البعد للمسرح الإنجليزي في هذا المضمار، لكن المسرح الإنجليزي مع ذاك احتفظ بالطابع الذي يميزه ويبقى له استقلاله، ذلك أنه آثر كمال الوحدة للمأساة، واتساق الحوادث التاريخية وترابطها، دون أن يأبه بما كان هم المسرح الفرنسي أن يأبه له، ألا وهو ذلك النقد اللاذع، والسخرية الحادة، والمظهر العام الذي ينبغي أن يكون براقا خلابا. هذا، وقد ظهرت درامات تاريخية أخرى كانت مادة خصبة فيما بعد، أمدت شكسبير بموضوعات شائقة لكثير من مآسيه؛ فمن ذلك درامة (عهد الملك جون المضطرب) التي اقتبس منها شكسبير مأساته (الملك جون)، كما اقتبس مأساته (الملك لير) عن درامة مماثلة اسمها (التاريخ الحقيقي للملك لير وبناته الثلاث: جونرل وراجان وكورديلا). وقد وجد الشعراء الإنجليز غير شكسبير مدداً لا ينتهي في تاريخ ملوكهم، فاتخذوا منه موضوعات لمآسيهم الجميلة المشجية. فهذا بيل يؤلف في حياة إدورد الأول؛ وذلك مارلو ينفح المسرح بمآسيه عن إدورد الثاني وإدورد الثالث؛ وذاك شكسبير يسلم للخلود مآسيه عن رتشارد الثاني ولير وهنري الرابع وهنري الخامس وهنري السادس. . . الخ. ولم يقتصر الشعراء على مآسي الملوك، بل اتخذوا من الأحداث التاريخية نفسها التي وقعت في عصور هؤلاء الملوك موضوعات لطائفة طيبة من أروع مآسيهم كما صنع توماس هيوود في مأساته (إن لم تعرفني فأنت لم تعرف أحداً) التي اتخذ موضوعها من حوادث عصري ماري تيودور وإليزابث. على أن نوعاً جديداً من المأساة الإنجليزية الأهلية ابتدع الشاعر توماس كيد في أواخر القرن السادس عشر وأطلق عليه المسرحيون (مأساة الدم) لكثرة ما يتخلل فصولها من الذعر والقتل والفتك والبكاء والجنون والانتحار، وما إلى ذلك من ألوان الفزع. وتوماس كيد متأثر في هذا اللون الذي ابتدعه في المأساة الإنجليزية بشاعر الرومان وفيلسوفهم الأشهر سنكا. وليس يعرف المؤرخون كثيراً من حياة كيد. وهم مختلفون في تاريخ ميلاده وفي تاريخ وفاته، وإن اتفقوا أنه قضى حياته كلها في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويقولون إنه شدا شيئاً من العلم في مدرسة (مرشانت تايلور) وإنه كان ثمة زميلا للشاعر الكبير سبنسر. على أن الذي لا مراء فيه هو أنه مؤلف المأساة المشهورة (المأساة الأسبانية)، أو (هيرونيمو مجنون ثانية) التي يقال إنها جزء ثان لجزء أول من مأساة مفقودة اسمها (هيرونيمو - أو جيرونيمو) والمأساة تبدأ بحوار بين شبح دون أندريا وبين وكيله إلى العالم الآخر، واسمه الانتقام وتنتهي بمذبحة عامة بين جميع أبطالها، مذبحة أشنع مما تنتهي به مأساة (هملت) لشكسبير. . . ولكن مأساة دموية أخرى تسمى سليمان وبرسيدا لا تقل شناعة وتمزيقاً للأعصاب وتفجيراً للألم عن المأساة السابقة، بل تفوقها إلى الحد الذي لا تحتمله مشاعر القراء ولا تقوى عليه عواطفهم، ولهذا فنحن نضرب صفحاً حتى عن تلخيصها. وقد كتب أديب آخر يدعى هنري شتل مأساة دموية من طراز مآسي كيد اسمها هوفمان فساهم بها مع كيد في التمهيد لظهور المأساة الرومانتيكية (الإبداعية) في إنجلترا، وهي المأساة التي عفت على آثار الدرامات الدينية بنوعيها (الإنجليزية والقديسية) كما عفت على آثار الدرامة الأخلاقية أما الذي أنشأ هذه المأساة الإبداعية إنشاء، وسما بها إلى الذروة من الأدب المسرحي الإنجليزي فهو - خرستوفر مارلو الملقب بأبي المأساة الإنجليزية وصاحب الفضل الأكبر في (تكييف الذوق الإنجليزي العام) وتوجيهه على الوجهة الرومانتيكية الرفيعة التي أزهرت أيما إزهار فيما بعد. ويعود فضله إلى تلك العملية الاختزالية الواسعة التي قام بها في الدرامة المسرحية بوجه عام، فلقد وجد تراثاً مختلطاً من المسرحيات الكلاسيكية المشوهة التي ترتكز على الناحية الاستعراضية وتحفل بها قبل أن ترتكز على الموضوع المتماسك المتسق، والتي تعتمد على زيف المناظر وبهارجها وما يقحم خلالها من مواقف التهريج المضحك إقحاماً، قبل أن تعتمد على جمال الأداء وتسلسله. فلما أخذ مارلو ينظم أولى دراماته رأى أن يهمل كل هذا الزبد ليذهب جفاء، وأن يقدم للمسرح سبيكة خالصة من كل تلك الشوائب التي وقع فيها أسلافه وأكثر معاصريه، فعمد إلى الشعر المرسل الذي لا يرتبط بقافية فعظم به مآسيه، وأتى فيه بالغرر والدرر، فلم يصدم الذوق العام بكلام لا هو شعر ولا هو نثر، ولم ينفر منه ذلك الذوق العام، بل أقبل عليه وانجذب إليه، وقدره قدره الذي هو له أهل؛ ولم تنفر منه اللغة ولا موسيقى النظم ولا أوزان الشعر، ولم يفر منه الجمهور ولا ثار به الممثلون، بل كانوا جميعاً أصدقاءه المؤتلفين معه، المعجبين به
لقد ترك مارلو للأدب الإنجليزي سبع تمثيليات شهد منها المسرح خمساً بين عامي 1586، 1593، أي في أقل من سبع سنوات. أما أولى دراماته فهي تامبورلين الأكبر (تيمورلنك) وقد صور فيها الفاتح الشرقي صورة شاعرية شائقة إذ جعله بطلاً مثالياً ينشد الجمال المحض، وهو ينشد هذا الجمال خلال مناظر الدم والرعب والتقتيل والفزع، وهو مع ذاك يذوب أسى ويلتهب وجداً حينما يصف مرض زوجته الملكة وشحوبها، ثم احتضارها، وهو يبلغ آية الآيات في السمو حينما ينعى هذه الزوجة (التي تعدل الدنيا بأسرها) إلى صديقه ملك فاس
لقد نظم مارلو درامته بالشعر المرسل، أي غير المقفى، فكانت أول تمثيلية ملكت زمام هذا الشعر للمسرح الإنجليزي. . . والمدهش أن مارلو فاجأ قومه بلون طريف من ألوان الشعر هو عندهم مدهش اليوم أرقى هذه الألوان وأفتنها وأحبها إلى نفوس الإنجليز. . . وقد أطلق النقاد على شعر مارلو - في عصره بالطبع - لقب البيت العظيم أو ما نسميه نحن تجوزا القريض الفريد. ومع أن مارلو لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين إذ ذاك، فقد نجحت درامته نجاحاً عظماً، بموضوعها وبشعرها المفاجئ المجود، وباستغنائه عن تلك الزوائد المسرحية التي لا تربطها بصلب الرواية صلة
وقد تجلت عبقرية مارلو بكل جبروتها في مأساته الخالدة (الدكتور فاوست)، أو كما سماها هو (تاريخ الدكتور فاوست المحزن) ولا شك في أنه ابتدع هذه المأساة بعد قراءته لترجمة مأساة حياة الدكتور جون فاوست عن الألمانية كما ابتدع مأساة تيمورلنك من ترجمة حياته عن الأسبانية بقلم الكاتب الأسباني بدرو مكسيا. وقد قرأ نابغة الألمان العظيم جوته مأساة مارلو وأعجب بها غاية الإعجاب، وربما كانت هي التي أوحت إليه موضوع آيته العظيمة (فاوست)، بل إننا لنرجح أنه لم يكتبها إلا ليعارض بها مارلو، ففي الأسطورة الألمانية ترى مجرد اللذة، أو دافع السرور هو الذي يجعل فاوست بعد الشيطان بأن يلقي إليه زمامه إذا هو - أي الشيطان - استطاع أن يبعد الأحزان عن قلب فاوست، وأن يبلغه مشتهاه من لذائذ الحياة جميعاً. أما مارلو فقد جعل عقدة الرهان بين فاوست وبين الشيطان في أن يمنحه الشيطان السلطان المطلق والقدرة على كل شيء. . . فإذا أمكنه من هذا فله روحه وله نفسه، وله منه ما يشاء. أما جوته فقد أراد أن يجعل العقدة في هذا الرهان شيئاً آخر غير الذي رما إليه مارلو، وغير الذي رمت إليه الأسطورة الألمانية. لقد جعل عقدة هذا الرهان في أن يمنح الشيطان غريمه العلم المطلق بكل شيء، وفي سبيل هذا العلم أوقعه الشيطان في جميع الكبائر، فشرب الخمر وزنى وسرق ثم قتل. . . ومع ذاك فلم يؤته الشيطان من العلم شيئاً. . . يؤثر أن جوته صاح قائلاً عند فراغه من قراءة فاوست لمارلو: (ألا ما أعظم الفكرة!) وقد شهد سونبرن بما لتلك المأساة من التفرد بين جميع المآسي في جميع العصور؛ مع أن قارئ مارلو في فاوست يشعر في الصفحات الأولى للمأساة بخيبة شديدة، لأنه يجد تفاهة وسطحية تشبهان تفاهة الأطفال وسطحيتهم، ولا يكاد يفهم معنى لكل تلك الكهانات وألوان العرافة السخيفة التي يحشدها مارلو على نطاق واسع في مأساته. . . وسرعان ما يفطن القارئ إلى السبب فيكبر مارلو ويعلم أنه إنما قصد إلى حشد ذلك السخف كله ولم يأت به عبثاً. . . لقد أراد به تصوير سخفنا نحن. . . سخف الإنسانية. . . وإلا فلماذا يرتفع مارلو ارتفاعاً شاهقاً في آخر المأساة، وذلك عندما يصور هلاك فاوست، عندما تقبل عليه الشياطين من كل حدب فتحدق به وتطلب إليه وفاء الرهان
وقد خلت فاوست من العنصر النسائي
ومأساته الثالثة هي (يهودي مالطة) التي عرضها شكسبير بتاجر البندقية ولولا أن مارلو بالغ في تصوير بطله باراباس حتى جعله شخصاً خرافياً لبذ شكسبير في بطله شيلوك الذي لا يجافي الحقيقة في نفسيات المرابين. ومع ذلك فقد فضل سونبرن شخصية باراباس على شيلوك بالرغم من وجود هذا الفارق
أما مأساته الرابعة (إدورد الثاني) فتعتبر أكمل أعماله المسرحية، وإن افتقرت إلى العنصر الفكاهي الذي لابد منه لتخفيف فعل المأساة في نفوس النظارة
وتعتبر مأساته الخامسة (مجزرة باريس) أضعف مآسيه، وهي تصور النضال الهائل بين دوق دي جيز، وبين حزب الهوجونوت
وقد فتح مارلو جنة الشعر المرسل لشكسبير الذي أنبت فيها المعجزات، وقد وجدت في مخلفاته نسخة بخط مارلو لقصيدته الخالدة (هيرو ولياندر) ويؤثر أن شكسبير لم يكن يفضل عليها شيئاً من الشعر جميعاً. وقد نعرض لذلك في مقالاتنا عن الشعر المرسل والشعر الحر قريباً إن شاء الله.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 534
بتاريخ: 27 - 09 - 1943