ولد جوزيف كونراد (Joseph Conrad 1857-1924) في بولندا، ولعبت قوى مختلفة في تشكيل قيمه كانسان وفنان كبير، منها الاضطرابات السياسية في بلاده وكفاح ابيه ضد الهيمنة الروسية، ومنها مشاعر السخط واليأس بسبب قمع حرية ابناء شعبه في بولندا، ومنها انه عمل في الاسطول التجاري البريطاني فاعجب بروح الفريق بين افراد طاقم الاسطول واعجب بروح الانضباط والشعور بالمسؤولية، وسحرته مواجهة الانسان البطولية مع جبروت الطبيعة.
والواقع ان كونراد لم يبدأ كتابة رواياته بشكل جدي الا عندما كان في اواخر الثلاثينات من عمره. ومن الملفت للانتباه انه اختار الكتابة باللغة الانكليزية ولم يختر اللغة البولندية او حتى الفرنسية التي كان يتقنها. ومنذ البداية تميزت شخصياته بنقاط ضعف من الناحيتين النفسية والاخلاقية الامر الذي يحول دون ان تتصرف هذه الشخصيات بصورة تتسم بالمسؤولية الاخلاقية.
شيئا فشيئا ادرك كونراد ان من المتعذر ان يكون ثمة قيم موضوعية. وتحول الى التركيز على الراوي في محاولة لفهم خبراته المعقدة. ويركز كونراد في اغلب الاحيان على الراوي اكثر مما يركز على الرواية. ويصور كيف ان وعي الراوي يتغير بشكل رئيسي بفضل خبراته الحياتية، وبفضل الاشخاص الذين يلتقي بهم في الحياة. ونجد ان الهوية الاخلاقية للراوي تتكشف عن طريق رواية القصة، وهي طريقة تذكرنا بالحوار الدرامي. وهذا هو الاسلوب الذي يلجأ اليه كونراد في روايته "قلب الظلمة" فيركز فيها على تصوير الراوي مارلو كانسان. ويرمز مارلو الى مشاعر القلق التي انتابت كونراد في فترة من حياته شعر فيها بانه منعزل وراودته الشكوك بقدرته على الخلق والابداع. ولهذا السبب نستطيع القول ان مارلو هو كونراد نفسه بالاضافة الى كونه بطل رواية "قلب الظلمة".
وكان كونراد يعتقد - شأنه في ذلك شأن توماس هاردي - بان الانسان يعيش في عالم لا يكترث لطموحاته وحاجاته. وكما يقول مارلو في "قلب الظلمة": ان الواحد منا يعيش ويحلم – وحيدا. وفي العالم الذي صوره كونراد ليس هناك مكان للقيم الموضوعية، وعلى كل انسان ان يكتشف قيمه الذاتية في الحياة بنفسه. وقال كونراد في رسالة معروفة:
"ان نور الشخص الواحد منا لا يفيد الاخرين. هذا هو رأيي في الحياة، وهو رأي يرفض جميع الصيغ الموضوعة وجميع الاراء والمعتقدات التي يقتنع بها الاخرون. وما هذه الصيغ والاراء والمعتقدات الا اوهام. وان ما يعتبره الاخرون حقائق ما هو اكاذيب بالنسبة الي."
وفي رواية "قلب الظلمة" يلتقي مارلو بكورتز الذي هاجر من الغرب الى الكونغو وراح يرتكب اعمالا وحشية طمعا في الثراء. ومثل كورتز، ذهب مارلو الى الكونغو مسلحا باوهام الامبريالية. ولكنه اكتشف شيئا فشيئا كما اكتشف كورتز قبله ان ما يدعيه الغربيون من انهم يحملون النور والخير الى افريقيا ما هو الا كذبة كبرى. ويدرك ان الانسان الغربي هو في الواقع بدائي ومتوحش مثل سكان البلاد الاصليين على الاقل. وعندما يروي مارلو القصة فهو يريد قبل كل شيء ان يبرز التحول الاخلاقي الذي حققه كورتز. ولهذا السبب فهو يفسر عبارة (ياللهول! ياللهول!) التي ينطق بها كورتز بانها محاولة من جانب كورتز لنبذ ماضيه الظالم، مع ان كورتز ربما يشير بهذه العبارة الى فشل خططه لبناء ثروة من وراء همجيته.
ويؤكد كونراد اكثر مما يفعل من سبقوه من الروائيين البريطانيين ان سلوك الانسان ينجم عن مخاوف وهواجس اكثر مما ينجم عن قرارات واعية. وهكذا فان جيم في رواية "لورد جيم" يقفز من السفينة "باتنا" للنجاة بنفسه غير مكترث لغيره ممن على ظهر السفينة بالرغم من انه كان يفاخر ببطولته ومروءته كبحار. ومثل دوستويفسكي، اراد كونراد ان يكشف عن تلك الدوافع والنزعات الغامضة التي تتسم بكثير من الفوضى والتي تكمن تحت مظهر الانسان المتحضر الذي يحرص كل واحد منا على الظهور به امام الاخرين وامام نفسه ايضا.
[email protected]
لندن - بريطانيا
والواقع ان كونراد لم يبدأ كتابة رواياته بشكل جدي الا عندما كان في اواخر الثلاثينات من عمره. ومن الملفت للانتباه انه اختار الكتابة باللغة الانكليزية ولم يختر اللغة البولندية او حتى الفرنسية التي كان يتقنها. ومنذ البداية تميزت شخصياته بنقاط ضعف من الناحيتين النفسية والاخلاقية الامر الذي يحول دون ان تتصرف هذه الشخصيات بصورة تتسم بالمسؤولية الاخلاقية.
شيئا فشيئا ادرك كونراد ان من المتعذر ان يكون ثمة قيم موضوعية. وتحول الى التركيز على الراوي في محاولة لفهم خبراته المعقدة. ويركز كونراد في اغلب الاحيان على الراوي اكثر مما يركز على الرواية. ويصور كيف ان وعي الراوي يتغير بشكل رئيسي بفضل خبراته الحياتية، وبفضل الاشخاص الذين يلتقي بهم في الحياة. ونجد ان الهوية الاخلاقية للراوي تتكشف عن طريق رواية القصة، وهي طريقة تذكرنا بالحوار الدرامي. وهذا هو الاسلوب الذي يلجأ اليه كونراد في روايته "قلب الظلمة" فيركز فيها على تصوير الراوي مارلو كانسان. ويرمز مارلو الى مشاعر القلق التي انتابت كونراد في فترة من حياته شعر فيها بانه منعزل وراودته الشكوك بقدرته على الخلق والابداع. ولهذا السبب نستطيع القول ان مارلو هو كونراد نفسه بالاضافة الى كونه بطل رواية "قلب الظلمة".
وكان كونراد يعتقد - شأنه في ذلك شأن توماس هاردي - بان الانسان يعيش في عالم لا يكترث لطموحاته وحاجاته. وكما يقول مارلو في "قلب الظلمة": ان الواحد منا يعيش ويحلم – وحيدا. وفي العالم الذي صوره كونراد ليس هناك مكان للقيم الموضوعية، وعلى كل انسان ان يكتشف قيمه الذاتية في الحياة بنفسه. وقال كونراد في رسالة معروفة:
"ان نور الشخص الواحد منا لا يفيد الاخرين. هذا هو رأيي في الحياة، وهو رأي يرفض جميع الصيغ الموضوعة وجميع الاراء والمعتقدات التي يقتنع بها الاخرون. وما هذه الصيغ والاراء والمعتقدات الا اوهام. وان ما يعتبره الاخرون حقائق ما هو اكاذيب بالنسبة الي."
وفي رواية "قلب الظلمة" يلتقي مارلو بكورتز الذي هاجر من الغرب الى الكونغو وراح يرتكب اعمالا وحشية طمعا في الثراء. ومثل كورتز، ذهب مارلو الى الكونغو مسلحا باوهام الامبريالية. ولكنه اكتشف شيئا فشيئا كما اكتشف كورتز قبله ان ما يدعيه الغربيون من انهم يحملون النور والخير الى افريقيا ما هو الا كذبة كبرى. ويدرك ان الانسان الغربي هو في الواقع بدائي ومتوحش مثل سكان البلاد الاصليين على الاقل. وعندما يروي مارلو القصة فهو يريد قبل كل شيء ان يبرز التحول الاخلاقي الذي حققه كورتز. ولهذا السبب فهو يفسر عبارة (ياللهول! ياللهول!) التي ينطق بها كورتز بانها محاولة من جانب كورتز لنبذ ماضيه الظالم، مع ان كورتز ربما يشير بهذه العبارة الى فشل خططه لبناء ثروة من وراء همجيته.
ويؤكد كونراد اكثر مما يفعل من سبقوه من الروائيين البريطانيين ان سلوك الانسان ينجم عن مخاوف وهواجس اكثر مما ينجم عن قرارات واعية. وهكذا فان جيم في رواية "لورد جيم" يقفز من السفينة "باتنا" للنجاة بنفسه غير مكترث لغيره ممن على ظهر السفينة بالرغم من انه كان يفاخر ببطولته ومروءته كبحار. ومثل دوستويفسكي، اراد كونراد ان يكشف عن تلك الدوافع والنزعات الغامضة التي تتسم بكثير من الفوضى والتي تكمن تحت مظهر الانسان المتحضر الذي يحرص كل واحد منا على الظهور به امام الاخرين وامام نفسه ايضا.
[email protected]
لندن - بريطانيا