السبت 2019/03/16
قد يتفاجأ القراء باطلاعهم على تفاصيل خاصة يقولها الكتاب في الحوارات التي تجرى معهم، حيث يكشفون جوانبهم الخفية مثل آرائهم في كتاب آخرين التي قد تكون صادمة، أو طقوسهم في الكتابة أو حتى آرائهم حول أماكن وتواريخ أو حتى عن أمور عادية ويومية، ولهذا تبقى للحوارات نكهة خاصة دائما.
يعتبر الحوار الأدبي نوعا من التلصص على الكاتب من الباب الخلفي، يستهدف منه المحاور الوقوف على جوانب من السيرة الذاتية للمبدع، ففي الإجابات يعمل الكاتب على المزج ما بين الذاتية التي تظهر حتما في أعماله وبين الموضوعية التي تلزمه بالوقوف على الحياد في مواجهة النفس، خشية الاتهام بالغرور أو التكبر، وبالتالي يجب أن يرسم الحوار صورة حقيقية لذات المبدع تظهر جمالها لكن لا تخفي ما بها من عوار.
وفي كتابه الصادر حديثا عن دار الربيع العربي، بعنوان “رحيق العالم” يُترجم أحمد أبوالخير خمسة حوارات مطولة، يراها محققة لمفهومه للحوار الأدبي، ويشبهها بأنها مد جسر داخل روح الأديب في محاولة لاستكشاف المؤثرات في تكوينه الذاتي، ومعرفة الوصفات السحرية التي يستخدمها في كتابته فتكسبها ذائقتها المميزة.
ترددت سيمون دي بوفوار كثيرا قبل الموافقة على إجراء الحوار مع الصحافية مادلين جوبيل سائلة “لماذا يجب أن نتحدث عني؟ ألا تظنين بأنني قلت ما يكفي في الأجزاء الثلاثة من المذكرات؟”، لكنها وتحت ضغط إلحاح مادلين وافقت فتم الحوار، ونُشر في باريس ريفيو في 1965، قالت دي بوفوار إنها تكره بداية اليوم، لأن البدايات تدعوها للتعجل لشغفها بإتمام كل ما تبدأه، لذلك فهي تعمل دائما، من العاشرة صباحا وحتى الواحدة ما بعد الظهر، ثم تعاود العمل من الخامسة وحتى التاسعة مساء، وفي الوقت بينهما تحمل أوراقها وتقصد شقة سارتر وهناك أيضا تعمل، وتبدأ دائما بقراءة ما كتبته في اليوم السابق ثم تواصل من حيث توقفت.
[SIZE=5]دي بوفوار ونابوكوف[/SIZE]
تقر دي بوفوار أنها لا تجد وقتا للقراءة إلا حينما تسافر، لذا تأخذ معها حقيبة كبيرة تملأها بالكتب التي لم تجد وقتا لقراءتها، وتؤكد على أن طريقتها تلك تخصها وحدها وليست عامة بين الكتاب، فجيرار جينيت يكتب يوميا ولمدة 12 ساعة، ويواظب على ذلك حتى يتم عمله، قد يستغرق في ذلك ستة أشهر ثم يتوقف بعدها لستة أشهر أخرى دون أن يفعل أي شيء.
وعن معالجتها لمشكلة الزمن تنفي دي بوفوار تأثرها بجويس أو فوكنر، مؤكدة على أن ذلك شاغل شخصي بالنسبة لها، فمشكلة الوقت والزمن ترتبط عندها بالموت، وهي دائما مسكونة بفكرة مرور الزمن واقتراب الموت، وهذا يقترن بالرعب من التعفن والتحلل الذي هو حقيقة الأشياء، كالحب الذي يتلاشى. وهي تثق أن حياتها الشخصية ستختفي يوما ما، وهي في ذلك تختلف عن سارتر الذي لم يشعر أبدا بدنو الموت، ولديه قناعة بأن مصير أعماله الخلود بينما هي تعتقد بأن الناس سيقرأون كتبها لبعض الوقت.
أما فلاديمير نابوكوف فكان أول سؤال واجهه عن شعوره العميق بلا أخلاقية العلاقة بين همبرت همبرت ولوليتا، لكنه صدم المحاور بأنه غير معني بالأخلاق العامة، غير أنه عبر عن شعور همبرت نفسه بفجور علاقته بلوليتا الطفلة ذات 12 عاما، ويرى الكاتب أن همبرت مجرد شخص تافه تمكن من الظهور المؤثر. كذلك ينفي نابوكوف وجود ما يسمى بالواقع اليومي، لأنه تعبير ثابت يفترض مسبقا حالة يمكن ملاحظتها بشكل دائم وبموضوعية راسخة، وهذا ليس موجودا بالمرة.
كما نفى نابوكوف شعوره بالاغتراب، فهو ينتمي إلى روسيا البيضاء تاريخيا فقط، ويعرف الاغتراب بأنه ارتياب وشك مزيف، وعما إذا كان يعتبر نفسه مواطنا أميركيا يقول نابوكوف ساخرا “أنا أميركي مثل شهر أبريل في أريزونا”، ويرى أن ما يربطه بالقطب الشمالي الروسي والآسيوي يقتصر على نباتات وحيوانات وهواء الولايات الغربية، ويواصل بأنه يشعر بالفخر حينما يظهر جواز سفره الأميركي الأخضر على الحدود الأوروبية، وبأنه يشعر بالندم لأنه لم يأت إلى أميركا مبكرا.
وبالرغم من ذلك يقول إنه لا يعتبر نفسه جزءا من مجتمع ما، وأنه يشعر بالارتياح في صحبة المفكرين الأميركيين الذين قرأوا كتبه، وهكذا تتواصل إجاباته المبطنة بنزعة نرجسية خصوصا حينما تسأله عن أدباء آخرين، فمثلا يعلن أن فورستر لم يرق له، وجوجول كاتب لا قيمة له، ولم يتعلم شيئا من جويس، ولم يجد أي تورية عند بورخيس، ويقول عن بلوك وماندلشتام إنه قرأهما في طفولته فأعجب بهما بينما الآن يكتشف أن أعمالهما مصاغة بنغمة بدائية مزيفة.
[SIZE=5]كابوتي الأفقي[/SIZE]
الكاتب الأميركي ترومان كابوتي، يوضح أنه منذ كان طفلًا في العاشرة أو الحادية عشرة، كان يضطر إلى النزول للطبيب في المدينة أيام السبت، وانضم حينها إلى نادي الشمس المشرقة، الذي نظمته وكالة موبايل الصحافية، وأنه كانت توجد صفحة للأطفال فيها مسابقات عن الكتابة والتلوين، وكانت جائزة أفضل قصة قصيرة كلبا، وكان يحتاج لذلك، فكتب حول أنشطة بعض الجيران سيئي الطباع وحصل على المركز الأول.
ويضيف أنه في أحد أيام الآحاد، وبعدها أدرك أنه يريد أن يكون كاتبًا. ولا يعتقد كابوتي أن الكاتب يتوصل لأسلوبه بوعي، إلا بدرجة ضئيلة جدًا، كأن يتوصل المرء لمعرفة لون عينيه، ففي النهاية أسلوبك هو أنت، لكن الأسلوب وحده لا يصنع كاتبا كبيرا.
وعن طقوسه الإبداعية يؤكد على أن العمل هو الأداة الوحيدة التي يعرفها، ويصف نفسه بأنه مؤلف أفقي تماما، فلا يستطيع التفكير إلا إذا كان مستلقيا على سرير أو ممدا في أريكة، وفي متناول يده سيجارة وفنجان قهوة، فينفخ في السيجارة ويرتشف من القهوة ويكتب، وهو يحب الكتابة بالقلم الرصاص في النسخة الأولى أو عند المراجعة.
"رحيق العالم" التلصص على المبدعين من ثقب في الباب الخلفي | أحمد رجب | صحيفة العرب
قد يتفاجأ القراء باطلاعهم على تفاصيل خاصة يقولها الكتاب في الحوارات التي تجرى معهم، حيث يكشفون جوانبهم الخفية مثل آرائهم في كتاب آخرين التي قد تكون صادمة، أو طقوسهم في الكتابة أو حتى آرائهم حول أماكن وتواريخ أو حتى عن أمور عادية ويومية، ولهذا تبقى للحوارات نكهة خاصة دائما.
يعتبر الحوار الأدبي نوعا من التلصص على الكاتب من الباب الخلفي، يستهدف منه المحاور الوقوف على جوانب من السيرة الذاتية للمبدع، ففي الإجابات يعمل الكاتب على المزج ما بين الذاتية التي تظهر حتما في أعماله وبين الموضوعية التي تلزمه بالوقوف على الحياد في مواجهة النفس، خشية الاتهام بالغرور أو التكبر، وبالتالي يجب أن يرسم الحوار صورة حقيقية لذات المبدع تظهر جمالها لكن لا تخفي ما بها من عوار.
وفي كتابه الصادر حديثا عن دار الربيع العربي، بعنوان “رحيق العالم” يُترجم أحمد أبوالخير خمسة حوارات مطولة، يراها محققة لمفهومه للحوار الأدبي، ويشبهها بأنها مد جسر داخل روح الأديب في محاولة لاستكشاف المؤثرات في تكوينه الذاتي، ومعرفة الوصفات السحرية التي يستخدمها في كتابته فتكسبها ذائقتها المميزة.
ترددت سيمون دي بوفوار كثيرا قبل الموافقة على إجراء الحوار مع الصحافية مادلين جوبيل سائلة “لماذا يجب أن نتحدث عني؟ ألا تظنين بأنني قلت ما يكفي في الأجزاء الثلاثة من المذكرات؟”، لكنها وتحت ضغط إلحاح مادلين وافقت فتم الحوار، ونُشر في باريس ريفيو في 1965، قالت دي بوفوار إنها تكره بداية اليوم، لأن البدايات تدعوها للتعجل لشغفها بإتمام كل ما تبدأه، لذلك فهي تعمل دائما، من العاشرة صباحا وحتى الواحدة ما بعد الظهر، ثم تعاود العمل من الخامسة وحتى التاسعة مساء، وفي الوقت بينهما تحمل أوراقها وتقصد شقة سارتر وهناك أيضا تعمل، وتبدأ دائما بقراءة ما كتبته في اليوم السابق ثم تواصل من حيث توقفت.
[SIZE=5]دي بوفوار ونابوكوف[/SIZE]
تقر دي بوفوار أنها لا تجد وقتا للقراءة إلا حينما تسافر، لذا تأخذ معها حقيبة كبيرة تملأها بالكتب التي لم تجد وقتا لقراءتها، وتؤكد على أن طريقتها تلك تخصها وحدها وليست عامة بين الكتاب، فجيرار جينيت يكتب يوميا ولمدة 12 ساعة، ويواظب على ذلك حتى يتم عمله، قد يستغرق في ذلك ستة أشهر ثم يتوقف بعدها لستة أشهر أخرى دون أن يفعل أي شيء.
وعن معالجتها لمشكلة الزمن تنفي دي بوفوار تأثرها بجويس أو فوكنر، مؤكدة على أن ذلك شاغل شخصي بالنسبة لها، فمشكلة الوقت والزمن ترتبط عندها بالموت، وهي دائما مسكونة بفكرة مرور الزمن واقتراب الموت، وهذا يقترن بالرعب من التعفن والتحلل الذي هو حقيقة الأشياء، كالحب الذي يتلاشى. وهي تثق أن حياتها الشخصية ستختفي يوما ما، وهي في ذلك تختلف عن سارتر الذي لم يشعر أبدا بدنو الموت، ولديه قناعة بأن مصير أعماله الخلود بينما هي تعتقد بأن الناس سيقرأون كتبها لبعض الوقت.
أما فلاديمير نابوكوف فكان أول سؤال واجهه عن شعوره العميق بلا أخلاقية العلاقة بين همبرت همبرت ولوليتا، لكنه صدم المحاور بأنه غير معني بالأخلاق العامة، غير أنه عبر عن شعور همبرت نفسه بفجور علاقته بلوليتا الطفلة ذات 12 عاما، ويرى الكاتب أن همبرت مجرد شخص تافه تمكن من الظهور المؤثر. كذلك ينفي نابوكوف وجود ما يسمى بالواقع اليومي، لأنه تعبير ثابت يفترض مسبقا حالة يمكن ملاحظتها بشكل دائم وبموضوعية راسخة، وهذا ليس موجودا بالمرة.
كما نفى نابوكوف شعوره بالاغتراب، فهو ينتمي إلى روسيا البيضاء تاريخيا فقط، ويعرف الاغتراب بأنه ارتياب وشك مزيف، وعما إذا كان يعتبر نفسه مواطنا أميركيا يقول نابوكوف ساخرا “أنا أميركي مثل شهر أبريل في أريزونا”، ويرى أن ما يربطه بالقطب الشمالي الروسي والآسيوي يقتصر على نباتات وحيوانات وهواء الولايات الغربية، ويواصل بأنه يشعر بالفخر حينما يظهر جواز سفره الأميركي الأخضر على الحدود الأوروبية، وبأنه يشعر بالندم لأنه لم يأت إلى أميركا مبكرا.
وبالرغم من ذلك يقول إنه لا يعتبر نفسه جزءا من مجتمع ما، وأنه يشعر بالارتياح في صحبة المفكرين الأميركيين الذين قرأوا كتبه، وهكذا تتواصل إجاباته المبطنة بنزعة نرجسية خصوصا حينما تسأله عن أدباء آخرين، فمثلا يعلن أن فورستر لم يرق له، وجوجول كاتب لا قيمة له، ولم يتعلم شيئا من جويس، ولم يجد أي تورية عند بورخيس، ويقول عن بلوك وماندلشتام إنه قرأهما في طفولته فأعجب بهما بينما الآن يكتشف أن أعمالهما مصاغة بنغمة بدائية مزيفة.
[SIZE=5]كابوتي الأفقي[/SIZE]
الكاتب الأميركي ترومان كابوتي، يوضح أنه منذ كان طفلًا في العاشرة أو الحادية عشرة، كان يضطر إلى النزول للطبيب في المدينة أيام السبت، وانضم حينها إلى نادي الشمس المشرقة، الذي نظمته وكالة موبايل الصحافية، وأنه كانت توجد صفحة للأطفال فيها مسابقات عن الكتابة والتلوين، وكانت جائزة أفضل قصة قصيرة كلبا، وكان يحتاج لذلك، فكتب حول أنشطة بعض الجيران سيئي الطباع وحصل على المركز الأول.
ويضيف أنه في أحد أيام الآحاد، وبعدها أدرك أنه يريد أن يكون كاتبًا. ولا يعتقد كابوتي أن الكاتب يتوصل لأسلوبه بوعي، إلا بدرجة ضئيلة جدًا، كأن يتوصل المرء لمعرفة لون عينيه، ففي النهاية أسلوبك هو أنت، لكن الأسلوب وحده لا يصنع كاتبا كبيرا.
وعن طقوسه الإبداعية يؤكد على أن العمل هو الأداة الوحيدة التي يعرفها، ويصف نفسه بأنه مؤلف أفقي تماما، فلا يستطيع التفكير إلا إذا كان مستلقيا على سرير أو ممدا في أريكة، وفي متناول يده سيجارة وفنجان قهوة، فينفخ في السيجارة ويرتشف من القهوة ويكتب، وهو يحب الكتابة بالقلم الرصاص في النسخة الأولى أو عند المراجعة.
"رحيق العالم" التلصص على المبدعين من ثقب في الباب الخلفي | أحمد رجب | صحيفة العرب