ومن العوامل المؤثرة في الأدب الأديان وما يتصل بها من الأخلاق والمعتقدات، وتأثير الأديان في الأدب أمر ثابت بأدلة الطبع والسمع فأنها تخلق موضوعات جديدة لمصنفات جديدة. وتؤثر في الأخلاق والعواطف تأثيرا يتردد صداه في مناحي الأدب. على أن تأثيرها الذي يعنينا الآن هو إيجادها لأنواع خاصة من النظم والنثر، فان بنى الإنسان منذ أفزعتهم تهاويل الطبيعة وأدهشتهم تعاجيب الفلك أحسوا بقوة القوى فألهوها كما فعل اليونان والهنود، أو نسبوا الأعاجيب الممتعة الخيرة لمبدأ، والتهاويل المفزعة الشريرة إلى مبدأ آخر كما فعل الإيرانيون الأقدمون، ثم امتلأت نفوسهم بجلالها وجمالها وعظمتها ففاضت على ألسنتهم بالأناشيد والصلوات، فكان من ذلك الشعر الديني وهو مبدأ كل شعر في كل أمة، ومن أقدمه أناشيد (رع) عند المصريين، وأناشيد (فيدا) عند الهند البرهميين، وأناشيد (جالا) عند الإيرانيين، وأناشيد (أرفيه) عند اليونانيين، وسفر أيوب عند العرب.
وعندي أن الشعر العربي لم ينشأ في الصحراء على ظهور الإبل وإنما نشأ كذلك في المعابد العربية أبان انفصال العرب عن الأسرة السامية الأولى، فظهر على ألسنة الكهان باسم السجع ومن أقدمه سفر أيوب على أرجح الآراء. وربما عدت إلى بسط هذا الرأي في فرصة أخرى.
وتأثير الأديان في الآداب غير متحد ولا متشابه لاختلاف العقول في إدراك هذه القوة الخفية، فاليونان قد عددوا آلهتهم وجسدوها على صور البشر، ونسبوا إليها ما للإنسان من كرم ولؤم وغضب وحلم وحرب وسلم وعفة ودعارة وزواج ولذة، ولم يميزوهم من الناس الا بالقوة والخلود. لذلك كان شعرهم الديني في الآلهة أشبه بشعرهم الدنيوي في الملوك: يصف الخوارق والعظائم والقوة، ولا ينم عن رحمة الخالق وخشوع المخلوق، ولا يدل على الرجاء الذي يبعث على الطاعة، ولا على الخوف الذي يردع عن المعصية.
أما بنو إسرائيل فقد وحدوا الله وبرءوه من النقص، ونزهوه عن المثل وملئوا صدورهم بهيبته وعزته وجلالته، فكان شعرهم في ذاته العليا فياضاً بالتقديس والإجلال والابته والاتكال وللبكاء والرجاء والخوف. كذلك يختلف تأثير الدين الواحد في الأدب باختلاف الأزمان والبلدان وطبقات الناس ونظام الحكم، فان في كل دين من الأديان السماوية قسما وجدانيا اجتهاديا يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية. فأشعار الخوارج مثلا تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم، ورثاء من قتل من أعلامهم. وأشعار الصوفيين تصف مقاماتهم وتذكر إشاراتهم وتكثر من الكناية بالخمر والسكر والعشق والعبق عن شدة تعلقهم بالله. ولا يقتصر تأثير الأديان على النظم وإنما يؤثر كذلك في النثر، فلولاها لما كانت النبوءات عند الإسرائيليين، ولا التعازي عند الفرس، ولا خطب المنابر ومقامات الوعظ عند المسلمين والمسيحيين.
ومنها: العلوم النظرية والتجريبية. وتأثيرها العام في ترقية العقل وتقوية الشعور وتنمية الصور لا يحتاج إلى تمثيل ولا تدليل، ولكن لها تأثيراً خاصاً في خلق أنواع طريفة من الآداب كالشعر التعليمي مثلا وهو نوع من الشعر يجمع بين رشاقة اللفظ ولطف التخيل وجودة الوصف ودقة البحث وحقائق العلم. وتراه في الآداب الأجنبية القديمة والحديثة أرفع وأمتع منه في الآداب العربية، فان من الغضاضة على الفن والإساءة إلى الذوق أن ندخل فيه منظومة ابن عبد ربه في التاريخ، وألفية ابن مالك في النحو. وقد استحدث اليونان في النثر المحاورات الفلسفية كمحاورات أفلاطون، وهي نوع طريف من الأدب الإغريقي قلده شيشرون في محاوراته في الأخلاق والفلسفة والبلاغة. كذلك احدث انتشار العلوم نوعا من القصص الخيالية تمتزج فيها حقائق العلم بروعة الخيال وغرابة الحوادث تحقيقا لرأي من الآراء أو تشويقا لعلم من العلوم كما فعل الفرنسيان فلا مريون الفلكي وجول فيرن القصصي. وكما صنع من قبلهما أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي في رسالة حي بن يقظان، فقد أراد بوضع هذه القصة أن يشرح كيف يستطيع الإنسان بمجرد عقله أن يتدرج من المحسوسات البسيطة إلى أسمى النظريات العلية، ولكنه يعجز عن إدراك أرقى الحقائق بغير وحي من الله أو هداية من نبي، ثم كان من نفاق العلوم التاريخية في صدر القرن التاسع عشر، وميل الجمهور إلى دراسة الماضي، أن ظهر في إنجلترا القصص التاريخي، ابتدعه الكاتب الإنجليزي (ولترسكوت) واقتفاه في فرنسا (الفريد دفني) في رواية خمسة مارس. وفي ألمانيا (جورج ايسبرس) في قصته المصرية وردة. وفي مصر جرجي زيدان في رواياته الإسلامية. وللعلوم فضل ظاهر على اللغة في المادة والاسلوب، وأثر قوي في ترقية النثر خاصة لأنها تكسبه القوة والدقة والوضوح. وما ارتقى النثر في أمة من الأمم إلا بعد تقدمها في الحضارة ورقيها في العلم، لأن النثر لغة العقل كما ان الشعر لغة الخيال. فالنثر اليوناني لم يرق الا بعد عصر هوميروس بأربعة قرون حين دون تاريخ توسيديد ومحاورات أفلاطون وخطب ديمستين. والنثر العربي لم يرق الا أوائل الدولة العباسية على يد ابن المقفع، والنثر الفرنسي لم يرق الا بتأثير الفلاسفة والرياضيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر كبسكال وديكارت.
ومن تلك العوامل: أحوال السياسة الداخلية، فإن لمدها وجزرها، ولانتقاض حبلها أو أتساق أمرها، أثراً بالغا في فنون الآداب يختلف باختلاف حاله.
ففي خلافة معاوية مثلا انتشر الهجاء المقذع في العراق، وفاضت بحور الغزل الرقيق في الحجاز، وما علة ذلك إلا سياسة هذا الخليفة، فقد كان يخشى العراق على عرشه الواهي الدعائم، فساسه بالتفريق وإحياء العصبية وإذكاء التنافس بين الشعراء والقبائل ليشغل الناس عن الخصومة في خلافته بالخصومة في أمر جرير والفرزدق والأخطل، وكان يستوحش من ناحية الحجاز فاعتقل شباب الهاشميين في مدنه، وسلط عليهم الترف وشغلهم بالمال وخلى بينهم وبين الفراغ فعكفوا على اللهو والصبابة والغزل. وبعد خلافة المتوكل العباسي ازدهر الأدب العربي وازداد ابتكارا وانتشارا وكثرة. وعلة ذلك السياسة أيضا، فان الخلافة العباسية قد انتقض حبلها في أواخر عهد المأمون وانصدع شملها في عهد المتوكل باستقلال الولاة في فارس والشام ومصر والمغرب. فكان ضعف السياسة قوة للأدب لأن الشعراء والأدباء والعلماء بعد أن كانوا مكدسين في بغداد لا يريمون عنها تفرقوا في الممالك الجديدة فوجدوا من أمرائها وأجوائها ما ساعدهم على وفرة الإنتاج ورفع شأن الأدب. وللأحوال السياسية كذلك أثر في خلق فنون جديدة من الأدب أو ترقية ما كان منها، ومثل ذلك النوع الذي يسميه الفرنج بالخطابة السياسية كالخطب الرائعة التي ألقاها ديمستين في مجالس اليونان العامة حين كان فيلبس ملك مقدونيا يتربص بحرية أثينا وسلامتها ريب المنون، وكتلك التي ألقاها شيشرون في مجالس الأعيان دفاعا عن شؤون الجمهورية الرومانية، وقد نفق هذا النوع في مصر الحديثة على لسان الزعيمين الكبيرين مصطفى باشا كامل وسعد باشا زغلول، وهذا الفن وليد الحرية السياسية والحياة الديمقراطية والأنظمة الدستورية. فإذا منيت الشعوب بالاستعباد أو طغيان الاستبداد تلاشى وانقرض، كما تلاشى في اليونان حينما وقعوا في العبودية، وانقرض عند الرومان حين فدحهم طغيان القياصرة، وهناك الشعر السياسي أيضا كالشعر الذي كانت تصطنعه الأحزاب والفرق في صدر الدولة الإسلامية. ومن ذا الذي ينسى فيضان بحور الشعر وطغيانها في بغداد ودمشق حين أعلن الدستور العثماني؟ لقد كان الظلام ضاربا على العيون، والجهل غالبا على الافئدة، والجمود مستوليا على العواطف، وقوى العرب المنتجة معطلة، وأياديهم العاملة مغللة، فكان إعلان الدستور بسمة الأمل في قطوب اليأس، وومضة المنارة في بحر مكفهر الجو بالضباب مضطرب الموج بالعواصف، فاهتزت النفوس وانطلقت الألسن وصدحت البلابل تنعى الليل وتبشر العيون بالصباح.
كذلك من هذه العوامل اختلاط الأجناس المختلفة العقليات والعادات والاعتقادات بالمصاهر والمجاورة في أمة واحدة، وأثر هذا العامل أظهر ما يكون في دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في قرطبة، فان حضارتيهما نتيجة اختلاط شعوب مختلفة لكل شعب منها خصائص ومزايا أكملت نقص الآخر وساعدته على العمل والإنتاج ففي البلدين اتصلت المدنية السامية بالمدنية الآرية فالتقى التصور العميق بالتصوير القوي، والعقلية العلمية بالوجدان الشعري، وكان من أثر هذا اللقاح في الفكر والعقل ما يعلل لنا وفرة المعاني الجديدة في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي. ولولا هذا اللقاح المخصب العجيب لظل الأدب العربي ظامئ الجذوع دقيق الفروع ذابل الأوراق واحد المذاق قليل الثمر.
ومنها التقليد والاحتذاء، والتقليد فطري في الإنسان لا يستطيع بدونه أن يتكلم ولا أن يتعلم ولا يملك لنفسه اكتساب عادة ولا تربية خلق، ولولا الاحتذاء لما كانت فنون الآداب، لأن الشعر والنثر إنما يصاغان على قواعد وأساليب خاصة. وما مراعاة هذه القواعد والأساليب إلا اقتداء الأديب بمن سبقه سواءً أكان إقتداؤه مقصودا منه أم غريزيا فيه.
على أن التقليد الذي نقصد إليه هنا هو تقليد أمة لأخرى لشدة ارتباطها بها، أو لاعتقادها السمو في آدابها، وقد أشرت منذ هنيهة إلى مثال من ذلك وهو ظهور القصص التاريخية في إنجلترا وانتقالها إلى الأمم الأخرى بالاحتذاء، ولقد كان للتقليد في الآداب القديمة شأن نابه وأثر ظاهر. فالشعر اللاتيني في عصر أغسطس عاف أساليبه الفطرية وأوزانه القديمة، واغترف من بحور الشعر اليوناني فحاكاه في أوزانه وأنواعه ومعانيه، والأدب الفرنسي قبل (رنسار) و (ماليرب) كان حائراً بين اللاتينية والإغريقية، والتمثيل إنما نشأ بديا في كنائس رومية وباريس أثناء القرون الوسيطة لتمثيل صلب المسيح وآلام الشهداء الذين أوذوا وقتلوا في سبيل المسيحية على نحو ما يفعل الفرس من تمثيل ما أصاب أهل البيت من الخطوب والاضطهاد والمحن، ثم انتشر التمثيل بالتقليد في سائر الأمم. ولما حييت الآداب اليونانية واللاتينية واطلع أدباء الغرب على ما صنف فيهما من الروايات التمثيلية تهافتوا على تقليدها واقتباسها فدخل فن التمثيل من جراء ذلك في طور جديد. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والخطب والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك ولسدوا في الأدب العربي خللا ما بريء منه حتى اليوم. إنما استفادالأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككليلة ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها.
أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي، فان الفرس حينما استولى الإسلام على أفئدتهم ولغته على ألسنتهم ظلوا زهاء قرنين يقرضون الشعر بالعربية دون الفارسية. فلما هبوا في القرن الثالث يستردون مجد أجدادهم، ويطاردون العربية ونفوذها من بلادهم، ويوحون إلى شعرائهم من أمثال الدقيقي والفردوسي أن يجددوا مفاخر الأسلاف بتأليف المنظومات القصصية والأناشيد القومية لم يجدوا ذلك ميسورا إلا باحتذاء الشعر العربي واقتباس أوزانه وبديعه وكذلك فعلوا في النثر فقد أخذوا يوشونه منذ أوائل القرن الخامس برشيق الألفاظ وغريب المجاز وزخرف البديع اقتداء بما نشر في أقاليم العجم الشمالية الشرقية من الكتب التاريخية العربية التي كتبت بالسجع المونق ككتاب اليميني الذي ألفه أبو نصر العتبي للسلطان محمود الغزنوي.
وأما الأتراك العثمانيون فانهم حين أخذوا يدونون أشعارهم في أوائل القرن الثامن اقتبسوا من الفرس بعض الأوزان العربية مدداً لأوزانهم القديمة، ولكنهم ابتداءً من القرن التاسع أغفلوا أوزانهم واصطنعوا العروض الفارسي فجروا علىمناهجه وفنونه. وظل الأدب التركي صورة من الأدب الفارسي يترسم خطاه ويردد صداه حتى منتصف القرن الماضي حين هب الوزير ضيا باشا المتوفى سنة 1295 للهجرة يقوض دعائم الشعر القديم وينعى على الشعراء ما هم فيه من جمود وقصور ورق، فانضوى إليه رهط من الشعراء المجددين ككمال يكن وأكرم بك وناجي أفندي فأنقذوا أدبهم من سخف التقليد، وقووه بالابتكار والتجديد، هذا مثل من التقليد العاجز الذليل الأعمى. أما التقليد البصير القوي المستقل فهو الذي يهذب أدبنا اليوم ويتمم نقصه، فالأقصوصة والقصة والرواية، والأسلوب المهذب والفن التمثيلي، كل أولئك قد أخذ بفضل تقليد الفرنج ينبت في حقوله، ويضيف فصولا خالدة على فصوله.
هذه هي أقوى العوامل التي تؤثر في الآداب على اختلاف لغاتها، وهي تعمل أما مجتمعة وأما منفردة، والواجب على مؤرخ الآداب أن يحلل ما تركب من أفعالها المتنوعة كما يحلل العالم بالميكانيكا القوة الناتجة ثم يردها إلى القوى البسيطة الفاعلة. وهيهات أن يقف الأديب على هذه العوامل ما لم يكن المؤرخ في عونه، ولا يتسنى للمؤرخ أدراك كنهها الا بالاستقصاء البالغ والبحث الشديد في أحوال الشعب الذي يدرسه ويؤرخه. وكل تعليل لأطوار الأدب وظواهره قبل دراسة هذه العوامل ضرب من التخرص لا يطمئن عليه القلب.
مجلة الرسالة - العدد 4
بتاريخ: 01 - 03 - 1933
وعندي أن الشعر العربي لم ينشأ في الصحراء على ظهور الإبل وإنما نشأ كذلك في المعابد العربية أبان انفصال العرب عن الأسرة السامية الأولى، فظهر على ألسنة الكهان باسم السجع ومن أقدمه سفر أيوب على أرجح الآراء. وربما عدت إلى بسط هذا الرأي في فرصة أخرى.
وتأثير الأديان في الآداب غير متحد ولا متشابه لاختلاف العقول في إدراك هذه القوة الخفية، فاليونان قد عددوا آلهتهم وجسدوها على صور البشر، ونسبوا إليها ما للإنسان من كرم ولؤم وغضب وحلم وحرب وسلم وعفة ودعارة وزواج ولذة، ولم يميزوهم من الناس الا بالقوة والخلود. لذلك كان شعرهم الديني في الآلهة أشبه بشعرهم الدنيوي في الملوك: يصف الخوارق والعظائم والقوة، ولا ينم عن رحمة الخالق وخشوع المخلوق، ولا يدل على الرجاء الذي يبعث على الطاعة، ولا على الخوف الذي يردع عن المعصية.
أما بنو إسرائيل فقد وحدوا الله وبرءوه من النقص، ونزهوه عن المثل وملئوا صدورهم بهيبته وعزته وجلالته، فكان شعرهم في ذاته العليا فياضاً بالتقديس والإجلال والابته والاتكال وللبكاء والرجاء والخوف. كذلك يختلف تأثير الدين الواحد في الأدب باختلاف الأزمان والبلدان وطبقات الناس ونظام الحكم، فان في كل دين من الأديان السماوية قسما وجدانيا اجتهاديا يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية. فأشعار الخوارج مثلا تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم، ورثاء من قتل من أعلامهم. وأشعار الصوفيين تصف مقاماتهم وتذكر إشاراتهم وتكثر من الكناية بالخمر والسكر والعشق والعبق عن شدة تعلقهم بالله. ولا يقتصر تأثير الأديان على النظم وإنما يؤثر كذلك في النثر، فلولاها لما كانت النبوءات عند الإسرائيليين، ولا التعازي عند الفرس، ولا خطب المنابر ومقامات الوعظ عند المسلمين والمسيحيين.
ومنها: العلوم النظرية والتجريبية. وتأثيرها العام في ترقية العقل وتقوية الشعور وتنمية الصور لا يحتاج إلى تمثيل ولا تدليل، ولكن لها تأثيراً خاصاً في خلق أنواع طريفة من الآداب كالشعر التعليمي مثلا وهو نوع من الشعر يجمع بين رشاقة اللفظ ولطف التخيل وجودة الوصف ودقة البحث وحقائق العلم. وتراه في الآداب الأجنبية القديمة والحديثة أرفع وأمتع منه في الآداب العربية، فان من الغضاضة على الفن والإساءة إلى الذوق أن ندخل فيه منظومة ابن عبد ربه في التاريخ، وألفية ابن مالك في النحو. وقد استحدث اليونان في النثر المحاورات الفلسفية كمحاورات أفلاطون، وهي نوع طريف من الأدب الإغريقي قلده شيشرون في محاوراته في الأخلاق والفلسفة والبلاغة. كذلك احدث انتشار العلوم نوعا من القصص الخيالية تمتزج فيها حقائق العلم بروعة الخيال وغرابة الحوادث تحقيقا لرأي من الآراء أو تشويقا لعلم من العلوم كما فعل الفرنسيان فلا مريون الفلكي وجول فيرن القصصي. وكما صنع من قبلهما أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي في رسالة حي بن يقظان، فقد أراد بوضع هذه القصة أن يشرح كيف يستطيع الإنسان بمجرد عقله أن يتدرج من المحسوسات البسيطة إلى أسمى النظريات العلية، ولكنه يعجز عن إدراك أرقى الحقائق بغير وحي من الله أو هداية من نبي، ثم كان من نفاق العلوم التاريخية في صدر القرن التاسع عشر، وميل الجمهور إلى دراسة الماضي، أن ظهر في إنجلترا القصص التاريخي، ابتدعه الكاتب الإنجليزي (ولترسكوت) واقتفاه في فرنسا (الفريد دفني) في رواية خمسة مارس. وفي ألمانيا (جورج ايسبرس) في قصته المصرية وردة. وفي مصر جرجي زيدان في رواياته الإسلامية. وللعلوم فضل ظاهر على اللغة في المادة والاسلوب، وأثر قوي في ترقية النثر خاصة لأنها تكسبه القوة والدقة والوضوح. وما ارتقى النثر في أمة من الأمم إلا بعد تقدمها في الحضارة ورقيها في العلم، لأن النثر لغة العقل كما ان الشعر لغة الخيال. فالنثر اليوناني لم يرق الا بعد عصر هوميروس بأربعة قرون حين دون تاريخ توسيديد ومحاورات أفلاطون وخطب ديمستين. والنثر العربي لم يرق الا أوائل الدولة العباسية على يد ابن المقفع، والنثر الفرنسي لم يرق الا بتأثير الفلاسفة والرياضيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر كبسكال وديكارت.
ومن تلك العوامل: أحوال السياسة الداخلية، فإن لمدها وجزرها، ولانتقاض حبلها أو أتساق أمرها، أثراً بالغا في فنون الآداب يختلف باختلاف حاله.
ففي خلافة معاوية مثلا انتشر الهجاء المقذع في العراق، وفاضت بحور الغزل الرقيق في الحجاز، وما علة ذلك إلا سياسة هذا الخليفة، فقد كان يخشى العراق على عرشه الواهي الدعائم، فساسه بالتفريق وإحياء العصبية وإذكاء التنافس بين الشعراء والقبائل ليشغل الناس عن الخصومة في خلافته بالخصومة في أمر جرير والفرزدق والأخطل، وكان يستوحش من ناحية الحجاز فاعتقل شباب الهاشميين في مدنه، وسلط عليهم الترف وشغلهم بالمال وخلى بينهم وبين الفراغ فعكفوا على اللهو والصبابة والغزل. وبعد خلافة المتوكل العباسي ازدهر الأدب العربي وازداد ابتكارا وانتشارا وكثرة. وعلة ذلك السياسة أيضا، فان الخلافة العباسية قد انتقض حبلها في أواخر عهد المأمون وانصدع شملها في عهد المتوكل باستقلال الولاة في فارس والشام ومصر والمغرب. فكان ضعف السياسة قوة للأدب لأن الشعراء والأدباء والعلماء بعد أن كانوا مكدسين في بغداد لا يريمون عنها تفرقوا في الممالك الجديدة فوجدوا من أمرائها وأجوائها ما ساعدهم على وفرة الإنتاج ورفع شأن الأدب. وللأحوال السياسية كذلك أثر في خلق فنون جديدة من الأدب أو ترقية ما كان منها، ومثل ذلك النوع الذي يسميه الفرنج بالخطابة السياسية كالخطب الرائعة التي ألقاها ديمستين في مجالس اليونان العامة حين كان فيلبس ملك مقدونيا يتربص بحرية أثينا وسلامتها ريب المنون، وكتلك التي ألقاها شيشرون في مجالس الأعيان دفاعا عن شؤون الجمهورية الرومانية، وقد نفق هذا النوع في مصر الحديثة على لسان الزعيمين الكبيرين مصطفى باشا كامل وسعد باشا زغلول، وهذا الفن وليد الحرية السياسية والحياة الديمقراطية والأنظمة الدستورية. فإذا منيت الشعوب بالاستعباد أو طغيان الاستبداد تلاشى وانقرض، كما تلاشى في اليونان حينما وقعوا في العبودية، وانقرض عند الرومان حين فدحهم طغيان القياصرة، وهناك الشعر السياسي أيضا كالشعر الذي كانت تصطنعه الأحزاب والفرق في صدر الدولة الإسلامية. ومن ذا الذي ينسى فيضان بحور الشعر وطغيانها في بغداد ودمشق حين أعلن الدستور العثماني؟ لقد كان الظلام ضاربا على العيون، والجهل غالبا على الافئدة، والجمود مستوليا على العواطف، وقوى العرب المنتجة معطلة، وأياديهم العاملة مغللة، فكان إعلان الدستور بسمة الأمل في قطوب اليأس، وومضة المنارة في بحر مكفهر الجو بالضباب مضطرب الموج بالعواصف، فاهتزت النفوس وانطلقت الألسن وصدحت البلابل تنعى الليل وتبشر العيون بالصباح.
كذلك من هذه العوامل اختلاط الأجناس المختلفة العقليات والعادات والاعتقادات بالمصاهر والمجاورة في أمة واحدة، وأثر هذا العامل أظهر ما يكون في دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في قرطبة، فان حضارتيهما نتيجة اختلاط شعوب مختلفة لكل شعب منها خصائص ومزايا أكملت نقص الآخر وساعدته على العمل والإنتاج ففي البلدين اتصلت المدنية السامية بالمدنية الآرية فالتقى التصور العميق بالتصوير القوي، والعقلية العلمية بالوجدان الشعري، وكان من أثر هذا اللقاح في الفكر والعقل ما يعلل لنا وفرة المعاني الجديدة في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي. ولولا هذا اللقاح المخصب العجيب لظل الأدب العربي ظامئ الجذوع دقيق الفروع ذابل الأوراق واحد المذاق قليل الثمر.
ومنها التقليد والاحتذاء، والتقليد فطري في الإنسان لا يستطيع بدونه أن يتكلم ولا أن يتعلم ولا يملك لنفسه اكتساب عادة ولا تربية خلق، ولولا الاحتذاء لما كانت فنون الآداب، لأن الشعر والنثر إنما يصاغان على قواعد وأساليب خاصة. وما مراعاة هذه القواعد والأساليب إلا اقتداء الأديب بمن سبقه سواءً أكان إقتداؤه مقصودا منه أم غريزيا فيه.
على أن التقليد الذي نقصد إليه هنا هو تقليد أمة لأخرى لشدة ارتباطها بها، أو لاعتقادها السمو في آدابها، وقد أشرت منذ هنيهة إلى مثال من ذلك وهو ظهور القصص التاريخية في إنجلترا وانتقالها إلى الأمم الأخرى بالاحتذاء، ولقد كان للتقليد في الآداب القديمة شأن نابه وأثر ظاهر. فالشعر اللاتيني في عصر أغسطس عاف أساليبه الفطرية وأوزانه القديمة، واغترف من بحور الشعر اليوناني فحاكاه في أوزانه وأنواعه ومعانيه، والأدب الفرنسي قبل (رنسار) و (ماليرب) كان حائراً بين اللاتينية والإغريقية، والتمثيل إنما نشأ بديا في كنائس رومية وباريس أثناء القرون الوسيطة لتمثيل صلب المسيح وآلام الشهداء الذين أوذوا وقتلوا في سبيل المسيحية على نحو ما يفعل الفرس من تمثيل ما أصاب أهل البيت من الخطوب والاضطهاد والمحن، ثم انتشر التمثيل بالتقليد في سائر الأمم. ولما حييت الآداب اليونانية واللاتينية واطلع أدباء الغرب على ما صنف فيهما من الروايات التمثيلية تهافتوا على تقليدها واقتباسها فدخل فن التمثيل من جراء ذلك في طور جديد. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والخطب والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك ولسدوا في الأدب العربي خللا ما بريء منه حتى اليوم. إنما استفادالأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككليلة ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها.
أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي، فان الفرس حينما استولى الإسلام على أفئدتهم ولغته على ألسنتهم ظلوا زهاء قرنين يقرضون الشعر بالعربية دون الفارسية. فلما هبوا في القرن الثالث يستردون مجد أجدادهم، ويطاردون العربية ونفوذها من بلادهم، ويوحون إلى شعرائهم من أمثال الدقيقي والفردوسي أن يجددوا مفاخر الأسلاف بتأليف المنظومات القصصية والأناشيد القومية لم يجدوا ذلك ميسورا إلا باحتذاء الشعر العربي واقتباس أوزانه وبديعه وكذلك فعلوا في النثر فقد أخذوا يوشونه منذ أوائل القرن الخامس برشيق الألفاظ وغريب المجاز وزخرف البديع اقتداء بما نشر في أقاليم العجم الشمالية الشرقية من الكتب التاريخية العربية التي كتبت بالسجع المونق ككتاب اليميني الذي ألفه أبو نصر العتبي للسلطان محمود الغزنوي.
وأما الأتراك العثمانيون فانهم حين أخذوا يدونون أشعارهم في أوائل القرن الثامن اقتبسوا من الفرس بعض الأوزان العربية مدداً لأوزانهم القديمة، ولكنهم ابتداءً من القرن التاسع أغفلوا أوزانهم واصطنعوا العروض الفارسي فجروا علىمناهجه وفنونه. وظل الأدب التركي صورة من الأدب الفارسي يترسم خطاه ويردد صداه حتى منتصف القرن الماضي حين هب الوزير ضيا باشا المتوفى سنة 1295 للهجرة يقوض دعائم الشعر القديم وينعى على الشعراء ما هم فيه من جمود وقصور ورق، فانضوى إليه رهط من الشعراء المجددين ككمال يكن وأكرم بك وناجي أفندي فأنقذوا أدبهم من سخف التقليد، وقووه بالابتكار والتجديد، هذا مثل من التقليد العاجز الذليل الأعمى. أما التقليد البصير القوي المستقل فهو الذي يهذب أدبنا اليوم ويتمم نقصه، فالأقصوصة والقصة والرواية، والأسلوب المهذب والفن التمثيلي، كل أولئك قد أخذ بفضل تقليد الفرنج ينبت في حقوله، ويضيف فصولا خالدة على فصوله.
هذه هي أقوى العوامل التي تؤثر في الآداب على اختلاف لغاتها، وهي تعمل أما مجتمعة وأما منفردة، والواجب على مؤرخ الآداب أن يحلل ما تركب من أفعالها المتنوعة كما يحلل العالم بالميكانيكا القوة الناتجة ثم يردها إلى القوى البسيطة الفاعلة. وهيهات أن يقف الأديب على هذه العوامل ما لم يكن المؤرخ في عونه، ولا يتسنى للمؤرخ أدراك كنهها الا بالاستقصاء البالغ والبحث الشديد في أحوال الشعب الذي يدرسه ويؤرخه. وكل تعليل لأطوار الأدب وظواهره قبل دراسة هذه العوامل ضرب من التخرص لا يطمئن عليه القلب.
مجلة الرسالة - العدد 4
بتاريخ: 01 - 03 - 1933