جهاد فاضل - قسوة العقاد وطه حسين على شعر ناجي..

العقاد اتهم إبراهيم ناجي بالميوعة والسطو على شعره
ما قاله العميد عن الديوان الأول لناجي أقسى نقد وجه إليه
ناجي يتهم نقاده بأنهم يريدون القضاء على البراعم الجديدة
مندور: طه حسين تصيد الأخطاء لناجي
عندما قال ناجي في لندن وداعاً أيها الشعر
ناجي لطه: بحق الله عليك ألاّ تذكر الأزهر إلا بالخير
صالح جودت: طه حسين أسرف في التجني على ناجي


لم يسلم من قلم عباس محمود العقاد، أو من لسانه، لا الشعراء المحافظون ولا الشعراء المجدّدون، فقد مات أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو شاعر محافظ حيناً ومجدّد حيناً آخر، وفي نفسه شيء من هذا الناقد الفظ الصدّاع، ولم يرحم العقاد الشعراء المجددين، وعلى رأسهم جماعة أبولو، بل نقدهم نقداً قاسياً، وعندما بدأ الشعر الحرّ في مصر في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، ألحق العقاد هذا الشعر بالنثر لا بالشعر وقامت بينه وبين ممثلي هذا الشعر، وعلى رأسهم صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، معارك قاسية.

ومع أن طه حسين كان ناقداً وباحثاً مجدداً في شبابه، إلا أنه كثيراً ما وقف فيما بعد بوجه الأدباء والشعراء المجددين، ومنهم جماعة أبولو.

شاعر الميوعة
ولا شك أن الشاعر إبراهيم ناجي ناله النصيب الأوفر من نقد العقاد وطه حسين، اتهمه العقاد "بالرقة العاطفية" أو "بالميوعة" على الأصح، كما اتهمه بالسطو على شعره، أي أن ناجي مرّ في شعر العقاد واقتبس منه.

أما أقسى نقد وُجه إلى ناجي وشعره، فهو ما قاله طه حسين عن ديوانه الأول «وراء الغمام». فما قاله:
«ونحن نكذّب شاعرنا الطبيب إن زعمنا له أنه نابغة، بل ونحن نكذبه إن زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يكدرنا، ويفر عنه الجمال قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل».

على هذا النحو يكتب طه حسين عن إبراهيم ناجي، ويضيف: «هو شاعر هيّن ليّن رقيق حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوي الجناح ولكن إلى حدّ»!.

ويعيب على الديوان «ما فيه من تكلف وحرص على إقامة الوزن والقافية». وعن قصيدة فيه عنوانها «قلب راقصة» : «إنما هي كلام مألوف، قد شبع الناس منه حتى كاد يدركهم الملل» !.

ويعيب على الشاعر الاستغراق في الفكر والسأم معاً، فالمفكر لا يسأم، والسَّئِم لا يفكر، وذلك في قوله:

أمسيتُ أشكو الضيق والأينا
مستغرقاً في الفكر والسأمِ
فمضيت لا أدري إلى أين
ومشيت حيث تجرّني قدمي

بعيد عن الفهم
ولم يعجب هذا النقد الدكتور محمد مندور، فقال عنه:
«يجري هذا النقد على منطق الفقهاء، إنه أبعد ما يكون عن الفهم الدقيق لحقائق النفس البشرية، في زعمه أن السأم لا يجتمع مع التفكير، كما أنه أبعد ما يكون عن عبقرية اللغة والفن عندما أخذ على الشاعر قوله: «إن قدمه أخذت تجرّه بدل أن يجرّها هو» فالسأم كما يكون نتيجة لفراغ النفس من كل فكر وإحساس قد يكون أيضاً من إطالة التفكير واجتراره، بل قد يكون منصباً على السأم نفسه، كما أن التعبير بالقدم التي تجر صاحبها تعبير رائع دقيق لأنه يوحي بالحالة النفسية التي سيطرت على الشاعر أكثر الأحيان، فهو لا يسير عن قصد وإرادة وهدف، بل يتحرك في شبه آلية، وعندئذ تجرّه قدمه لا العكس».

روح الشاعر وجوهره
كان نقد طه حسين لناجي نقداً فقهياً بحتاً دار حول الصياغة من الناحية اللغوية والنحوية دون النظر إلى روح الشاعر وجوهره كان نقده مبنياً على الخطأ دون نظر إلى أي إجادة أو حسنة تحسب للشاعر، وقد رأى محمد مندور أن طه حسين تغافل عما في شعر ناجي من جمال وصدق، وجرى وراء تصيد الأخطاء، وجحد كل فضل للشاعر.

وذُعر ناجي، كما ذُعر كثيرون وهم يقرأون لطه حسين أحكامه عن ديوان «وراء الغمام» ومنها: «إنها أشعار حسنة، ولكنها أشعار صالونات لا تتحمل أن تخرج إلى الخلاء فيأخذها البرد من جوانبها»!.

رد محكم
وردّ إبراهيم ناجي على طه حسين رداً منطقياً محكماً يدل على ثقافة رفيعة وعلى إدراك مسبق وواعٍ للنهج الذي ينهجه في شعره.

فمما ورد في ردّه: والآن.. كلمة فيما يختص بالشعر..
أنت تراني قوي الجناح إلى حّد، وتراني رقيقاً، وترى لي موسيقى تسميها موسيقى الغرفة، ويلوح لي من تفضيلك علي محمود طه أنك لست ترضى عن تلك الرقة، ولا تعجب بهذه الموسيقى، بل أنت من أنصار الشاعر الذي تراه مهيّأ ليكون جّباراً، أنت من أنصار الأدب العنيف، الأدب النيتشوي الهتلري، من أنصار النسر الذي يحطّ على الشجر الباسق ويبسط جناحيه بسطة عقـّادية.

الواقع أن هذا العصر في حاجة إلى مثل ما تحب، أما نحن فأدبنا مائع رخو، أدب نواح ودموع وضعف، وقد كنت أحب أن أعرف رأيك - يا مولاي - في ليالي ألفريد دو موسيه وروائع لامارتين كالبحيرة والوادي.

ما رأيك في هذا الضعف الشائن من شاعرين لم يخلد لهما إلا تلك الدموع الذاتية؟ ومع ذلك قُلْ لي منصفاً، وليقل العقاد: أي أنواع الأدب أحبّ إلى النفوس؟.

دموعنا هي التي عاشت
إن الموتى سيقومون من قبورهم، وستنبض كل صحيفة في كتبهم بالحياة صارخة: مآسينا خلدت ودموعنا هي التي عاشت.

وأنت لو سألت نفسك عن أحب كتبك إليك، لأجبت: «الأيام».
ولو سألت قراءك نفس السؤال، قالوا: «الأيام». لماذا؟
لأنها قصيدتك الكبري، فيها دموعك، وفيها ضعفك كذلك وهي أقوى ما كتبت.

ولو سألت العقاد: أي الشعراء تحب؟ لقال لك: هاردي.
وما شعر هاردي غير دموع وضعف من الصنف الذي تعيّرنا به.

أكاد أقسم أن هذا هو اعتقادكم، بينكم وبين أنفسكم. أما النقد فشيء آخر. النقد أن تتناولوا هراوة، وأن يصيح الحجاج من ورائكم هاكم رؤوساً أينعت»!.

يشّبه ناجي بعض نقاده، ومنهم طه والعقاد، بالحجاج بن يوسف والي العراق الدموي المستبد، فلا همّ لهؤلاء النقاد سوى القضاء على البراعم الجديدة، أما النقد البريء البنّاء فهم منه براء.


التصنّع
وكما أسرف طه في نقد ناجي، أسرف العقاد بدوره. فقد كتب عن ناجي ومجموعته الشعرية: وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة: الضعف المريض والتصنّع، فإن صاحبها كما يدلّ عليه كلامه، من أولئك الذين يفهمون أن الرقة ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكي ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى، وإذا تناجى مع حبيبة قال لها.. «مات حديث السقم والوصب» إلى غير ذلك من الأغراض المريضة التي لا نزال نحاربها منذ سنوات طويلة في الشعر والنثر والغناء».

وذهب العقاد أبعد من ذلك، فاتهم ناجي بالسرقة منه: "ولو كان صاحب «وراء الغمام» أكثر أدباً في الاعتراف بالفضل، لأعرضنا عنه وتجاوزنا له كما نتجاوز لغيره، ولكنه يحتاج لدرس كهذا الدرس، قد ينفعه إذا كان فيه منفع».

ظرفاء الشعراء
وفي عام 1961 يطلع العقاد على قرائه بمقال آخر عن ناجي يقول فيه: «هو في الحق واحد من أولئك الشعراء الذين تجمعهم الصنعة، ولا يجمعهم عصر واحد أو مكان واحد، وهم ظرفاء الشعراء الذين تشابهوا بالمزاج، وتفرّقوا بالزمن والمواطن من أوائل عهد الشعر العربي إلى عهده المذكور في هذه الأيام. فلا نخال أننا نتلقى ديواناً غير ديوان ناجي في هذا العصر إذا دعوناه بديوان الشاعر الظريف»!.
جعل العقاد ناجي من الظرفاء، وجمعه مع ابن الأحنف وابن سهل في كفة واحدة، وفرقه في العصور والأزمنة.

في نقده الأول جعله لاشيء، وهنا جعله شيئاً وسمّاه شاعر «الرقة العاطفية».
ونحن إذا عددنا اليوم الهفوات التي تردّى فيها ناجي فسنجدها من قبيل الخطأ اللفظي أو المعنوي الذي لا يستعصي على الحل السليم، أو الفهم السريع. وربما يكون الخطأ راجعاً إلى صورة شعرية لا يسيغها ذوق الناقد، ولكنها لا يمكن أن تعّد من قبيل الخطأ الفاحش أو فساد الذوق الأدبي.

حادث سير
في لندن التي كان يزورها، يصاب إبراهيم ناجي يوماً بكسر في ساقه، سبّبه له حادث سير عقب إطلاعه على النقد القاسي الذي وجهه له طه حسين في أثناء غيابه عن مصر، غامت الدنيا في عيني الشاعر وهو يهيم على غير هدى في شوارع العاصمة البريطانية، ويظلم العالم أمامه، ويطلق الشعر قائلاً: «وداعاً أيها الشعر، وداعاً أيها الفن، وداعا أيها الفكر»..

ويبعث ناجي برسالة إلى طه حسين يقول له فيها:
«سيدي لا أتمنى لك ليلة كهذه، ولو أنك إذا ذاك ستنصفني وتفهمني. ستسأم وتفكر، وتفكر وتسأم، وسترى، رجليك تجرّانك جرّاً إلى حيث لا تدري، على أني أقسم لك أنه إذا اقتضي إنصافي أن تذوق هذا الضيق بحق، فإني أفضل أن أظل عندك متهماً بأني أجاري وأقلّد، ولا أصدر عن وحي قوي وحقيقة رائعة.
إنك تقول متهكماً عن شطرة: «جاء الأمر بالعكس» إن هذه ألفاظ اهتدت إليّ من الأزهر. أنا أرجوك بحق الله عليك ألاّ تذكر الأزهر إلا بالخير.

أتعلم لمَ أحبه؟ أحبه لتلك الحلقة التي تجعل المعلم وتلاميذه في صعيد واحد فلا يعلو عليهم إلا بعلمه. وعلى ذكر الأزهر، لأجلسنّ في تلك الحلقة وأتعلّم الصبر على المكاره.

وبعد يا سيدي الدكتور الكبير.. عفواً إذا صدرت مني حدة في القول، فقد أخرجت ديواني ليكون طاقة زهر للأحباب الخلاّن أو نسمة منعشة.. فلا الطاقة راقتكم، ولا "نسمة أعجبتكم، فلي ألف عذر إذا سئمت ففكرت، وفكرت حتى سئمت، وأصابني الكلال، فجرّتني قدماي إلى هذا المكان لأكتب إليك مؤكداً احترامي الكبير، ومقدماً تحية طبيب كان يعدّ نفسه ضيفاً على أهل الأدب منكم، فأسأتم قِراه»!.

كتاب صالح جودت
في الكتاب الذي كتبه الشاعر صالح جودت عن ناجي، وكانا معاً في «أبولو»، يعلّق صالح جودت على رسالة ناجي إلى طه بقوله:

«إن الدكتور طه حسين أسرف في التجني على ناجي حين راح يحاسبه على كل لفظة ويعيب عليه حتى تسمية الديوان، التي لا يستطيع أي منصف أن يرى فيها أي غبار».

بعد ذلك يراجع طه حسين نفسه ويجد أنه أخطأ بحق ناجي فحاول استرضاءه حتى يعود إلى تغريده وإنشاده. وكان مما قاله:

"إني لم أحزن حين رأيت الدكتور ناجي يعلن زهده في الشعر، لأني قدرت أنه إن كان شاعراً حقاً فسيعود إلى الشعر راضياً أم كارهاً، سواء ألححتُ عليه في النقد أو رفقت به. وإن لم يكن شاعراً فليس على الشعر بأس في أن ينصرف عنه ويزهد فيه. وأنا منتظر أن يعود الدكتور ناجي إلى جنة الشعر، فإني أرى فيه استعداداً لا بأس به، وأظنه إن عنى بشعره واستكمل أدوات الفن، خليقاً أن يبلغ منه شيئاً حسناً».

وفي آخر مقاله، وبعد أن هوّن عليه من نقد الناقدين، قال له: «أرأيت أني أحسن ظناً منك بالأدب والأدباء، وأجمل منك رأياً في الثقافة والمثقفين أرى أدباءنا رجالاً يستحقون النقد، وتراهم أنت أطفالاً يستحقون المداعبة، هون عليك، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

إنها مصالحة ولا شك، وفيها تحريض للشاعر حتى يعود إلى تغريده لأن الأدب أخلد من النقد إن صبر عليه، والأديب أخلد من الناقد إن تصدّى له.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى