طعم الحياة ، عمقها ، اشياء لم تعد مرئية او ملموسة ، لا تحس اليوم وهو ينسرب من بين يديك وكانى به لمحة ، الاسبوع يكر مسبحة متسارعة الحبات ، مما يخلط عليك الايام والاسابيع مع ذلك تحس رتابة سوى بين الفصول حين تتاخر الشمس عن مغيبها او تخرج باكرا ، فتدرك انك ابن
الموسم المحدد او حين ينزل الجليد فتدرك ان الوقت شتاء ، ربما لان الشتاء هو الفصل الوحيد المغاير
فاليوم الذى تقضيه فى البيت اثر اجاز ة فيدرالية او يوم تكون فيه خارج العمل ، ينصرم كالريح حاملة ساعاتك ، فى العمل تحسها لا تمر ؟؟
حين حللت على مدينة ( ايوا )لاول مرة شهدت المدينة شتاءا لم تر مثله منذ اعوام خلت كما حدثنى احد مواطنيها فى مناسبة ما ، فالثلج كان يغطى كل شئ ، تتساوى درجة الحرارة ليلا ونهارا ، تحس ان عظامك تصطك ، وانك لا تقوى على فعل
الحيا ة نفسها
كثيرا ما اعترانى احساس ان اعود من حيث اتيت لان ذلك البرد سيلحقنى بابى ذر خاصة لحظة ان اكون عائدة من العمل مشيا ، تحت زخات الجليد ، وصوته يصر تحت اقدامى كنت اتحسس جلدى حين اصل الى البيت لاتاكد انى ما زلت على قيد الحياة لاول مرة اهتم بما يعرف بالمذكرات ، كتبت اول يوم عدت من العمل ( كل شئ يمضى حسب ال(system )حتى انت نفسك صرت تدور فى هذا الفلك ، تؤدى نفس العمل ، نفس الاشياء منذ صحوك فى الصباح ( هذا ان كنت محظوظا ) ونلت قسطا من النوم ، تحتسى قهوتك التى لا تعرف لها مذاقا لان حاسة الذوق لديك اعتراها التعطل ، لا تعرف طعما لما تاكل ، لنفس السبب كنت احيانا اتساءل :هل لدىّ الوقت لتذوق الاطعمة ؟ والاستمتاع بما اكل ؟ فما هو دور الماكدونالز ان لم يكن لافساد ذوقك ؟ وكذا البيرجر كينج ، والكنتاكى ؟ حتى وان اتهموا هذا الاخير فى القنوات الرسمية من خلال عرض لفيلم شاهدناه كيف ان احد العمال اساء الى الدجاج !! وهذا ما اعتبروه خارجا عن الانسانية ، وان منظمات حقوق الحيوان رفعت دعوى ضد كنتاكى !!
اجد ان حاسة ذوقى اصابها العطب ضمن ما اصاب حواس اخرى لدى
فبعد ان( ينقطع نفسك )وتفقد القدرة على اداء كثير من الاشياء لا عليك سوى ان ترتمى الى سريرك ان استطعت ان تدخل الى الغرفة ، حينها سترتمى الى اقرب كرسى او اريكة ،ولسان حالك يردد ( كلها كم ساعة ) فالليل سواء كان صيفا او شتاءا لا يفى بالراحة المطلوبة ، الجسد منهك ، لا عليك تمدد ، لا يهم ان استبدلت ملابسك ام لا ؟ ستنام بما كنت تلبس منذ الازل ، حتى الحذاء احيانا لا تجد دافعا لخلعه ، لا يهم ان تمددت او انكمشت ، فكلاهما طريقتان للنوم ، ستصحو فى الصباح حتى ان كنت فى اشد حالات الاعياء ، لا عليك ، ما عليك حتى ان كنت فى المستشفى ان تبلغ الجهة التى تخدمك بانك مريض ، ولا عذر لك ان لم تخبرهم ، فحينها انت مفصول مفصول والنظام المحكم وراءك والفواتير امامك فى دائرة من جهنم مهما هفت نفسك لمغادرتها لن تستطيع
منذ ان حللت فى هذه المدينة وكل عملى مرتبط بالمطبخ كان علينا ان نرص الاطعمة الى ( صينية ) بيضاء مستطيلة ،مغطاة بورق ملون نضع عليها اصناف الاطعمة يمر عليك خط الطعام line فهناك وجهان للخط واحد للاطعمة الباردة والآخر للحارة بما فى ذلك لحم الخنزير ( الذى كانت رائحته تنعقد فى ملابسى حتى لحظة خروجى من المطبخ باتجاه البيت الامر الذى يدفعنى للاستحمام حتى لو كان البرد من نوع الذى قتل اخانا ابا ذر ) وكنت اتعجب كيف ياكل المريض هذا اللحم النتن ؟ وكل انواع البكتريا تعيش فى داخله ، يمكنك ان تراها داخل الاناء المعد لطبخ ذلك اللحم ، بل احيانا يطلب المريض مزيدا منه ؟ المهم ان الاطعمة بحارها وباردها توضع الى عربات كبيرة ندفعها باتجاه الغرف لافطار او لغداء او لعشاء المرضى ، لكل وجبة نوعها الذى يحدده الطبيب ، والمريض تجده حريصا على طعامه حرصه على الحياة نفسها ، عدا عن الاسناك(snacks ')وجبات تقدم بين الوجبات ، كنت اتحسر على مريضنا حين يجول بخاطرى ، اذكر كم هو صوفى حتى فى مرضه ، وهنا ان تصادف وتاخرت عن مواعيد الطعام فانت مزجور زجرا وازعم انه لو علم بمصدر الطعام لما اكله حتى ، فكل الاطعمة مجمدة ، السمك مجمد، اللحوم بانواعها احيانا اخال ان العواطف نفسها تخضع للتجميد ، كنت اخرج عن تلك الدائرة لحظة الراحة التى لا تتعدى الخمسة عشر دقيقة تجدنى اكتب واقرأ محاولة نسيان المطبخ وما اعتراه من روائح لا تطاق ،( اسرح ) احيانا فى الردهات فى المستشفى بين اللوحات التى تملا انحاء المستشفى من كل انحاء الدنيا جاءوا بها لوحات لبيكاسو ودافنشى ،ولفان جوخ ، وغيرهم من الفنانين العالميين ، معارض تقام ، اسواق تباع فيها المصوغات للمرضى والزوار ، اسواق خيرية لصالح المرضى ، عيادات متحركة للمتبرعين بالدم ، والشعر لمرضى السرطان ، نساء ورجال ، احيانا تجد واحدا نذر نفسه لهذا الفعل ، سواء ان كان رجلا او امرأة ، تحضر الى المستشفى كل حين ، او تحضر وتقوم بقص شعرها او يقوم بقص شعره للمرضى ، او تجدنى اركض باتجاه المكتبة او الى صالات الكونشيرتات الموزعة فيها البيانو فى كل ركن ، ما عليك هو ان تعزف ، سواء كنت مريضا او زائرا
حكم على طموحى ان اسافر الى ولاية مينسوتا شمال ولاية ايوا ، ولاية يسميها اهلها ولاية العشرة الف بحيرة ، وانت لا ترى سوى البحيرات اينما وجهت بصرك ، كانت زميلتى فى الغرفة من اهل نيويورك ، فى البداية كنت اعتقد ان مشكلتى معها شان فردى فى امر التخاطب ، لكنى اكتشفت ان الكل يعانى من امر التواصل معها ، فهى الى صعوبة التواصل معها كانت صعبة المراس وكنت ارد ذلك لصغر سنها والفارق الكبير بيننا ، فهى فى العشرين من عمرها ، اى انها من الممكن ان تكون فى سن ابنتى ، حين سالناها عن المدينة التى جاءت منها وحين اجابتنا لم اكن اتوقع كل تلك الدهشة ان تصدر عن بقية الطالبات اللاتى اعلن دهشتهن كونها جاءت من نيويورك!
كنت اذن قد دخلت المدرسة فى مينسوتا ، لكن قبلها كنت دخلت الى فصول اخرى فى تكساس ، لم تكن المدرسة هى المشكلة بل كانت اللغة ، فحين تسالك المدرسة وتجيبها تقول لك هذا ليس انجليزى امريكى ، هذا تقراه هناك ، فى انجلترا ، ومن هنا فهمت ما كنت قد اطلعت عليه ذات مرة فى مجلة امريكية حول ( امركة اللغة الانجليزية ) وبالفعل بدت لى مختلفة ، فكل كلمة درسناها باللغة الانجليزية لا تصادف كثيرا ما تعلمناه مؤخرا ، لكن لابد لك من ان تتعلم تلك اللغة ولو على مضض لانها ستكون لغتك للاعوام التى ستعيشها هناك ، كانت الاستاذة التى تدرسنا من النوع الذى نسميه فى السودان ( متجهلة ) فهى معنية كل العناية بمكياجها رغم الحر ، وباظافرها الطويلة المقززة ، التى تحرص على صبغها كل يوم بلون جديد تبعا للفستان الذى ترتديه دائما ما كانت تلبس باروكة ربما لانها سوداء وشعرها كان قصيرا ، حتى احذيتها كانت غريبة ، كنت اناديها الانتيكة لغرابة ما كانت تلبس، يداها المعروقتان كانتا تتحركان كثيرا ، لعلها شاءت ان تشهدنا على الخواتم المزيفة اليواقيت نحن ابناء العالم الثالث
كنا نجلس فى فصل مزدحم بالاجانب من المكسيك وكوبا والصومال واثيوبيا ارتيريا ، وغيرها من البلدان ، معظم الطلاب كانوا ممن جاءت بهم المقادير الى هناك ، سواء كانوا لاجئين او داخلين بطرق غير شرعية الى الولايات المتحدة التى يراها البعض ( جنة الفردوس )
كنت حتى ذلك الوقت اداوم على مراسلة جريدة الاتحادى التى كانت تصدر فى القاهرة ، من هيوستون كنت ابعث بمقالاتى ، بعد توقف الجريدة بدأت رحلة البحث عن عمل
الفندق الذى تقدمت للعمل فيه ، كان من اكبرالفنادق فى المدينة ، بدأنا المعاينة للعمل ، فى المعاينة كانت المشرفة كل لحظة تسالنى هل انت متاكدة انك ستعملين هنا ؟ كنت اجيب بنعم ،لا لسبب سوى انها علمت اننى كنت ذات يوم صحفية ، كانت تقول لى لماذا عليك ان تقدمين لمثل هذه الوظيفة ؟ كنت بينى وبينى اقول ( المعايش جبارة )
لحسن الحظ او لسوء الحظ بدأنا العمل فى اليوم التالى كانوا اثناء ذلك اعدوا لنا الملابس التى كانت عبارة عن( مريلة ، فستان رمادى ، غطاء للرأس ، حذاء اسود ، وشراب ) واسمونا ال (maid)كنت امشى للعمل صحبة( حوا الصومالية) ، وصلنا الصباح التالى الى مكان العمل باكرا ، دخلنا الى غرف الغيار لنبدل ملابسنا ، ومضينا باتجاه مكان تجمع العمال ، او ان صحت التسمية العاملات ، منحوا كل واحدة منا معدات ( الشغل ) صابون ومنظفات ، اخبرونا اين نجد المعدات الخاصة بكل غرفة ، من ( اكياس المخدات ، الى الملاءات الشامبو للضيوف الذين ينزلون فى الغرف ، الصابون ، البشاكير ، وهذه لها ا نواع من كل الاحجام ) وكان علينا ان نحمل كل تلك المعدات الى الغرفة المراد نظافتها ، نبدأ النظافة التى كانت احيانا تصل عدد الغرف التى عليك نظافتها اكثر من العشرة غرف واحيانا تكون الغرفة مزدوجة !!!
كنت جديدة عهد بمثل تلك الانواع من الاعمال ، فظللت اشكو لنفسى ما حل بى من قهر ، خفت ان يستمر طويلا ،لكن لابد لك من حيل تخرج بها من تلك المآزق ، علمتنى صبية امريكية حيلة طريفة كنت الجأ اليها كلما احسست بالاجهاد ، كان علىّ كما علمتنى حين تكون الغرفة غير ماهولة ان امرر قطعة على الاثاث وان ارش ارضية الغرفة بمعطر دون استخدام الهوفر ،وان اعيد ترتيب الاشياء بقدر المستطاع بحيث لا اترك انطباع اننى لم انظفها ، على ان اغير تاريخ الكتاب الخاص بالتلفزيون واكون فى حل من النظافة ، لكن الرئيس الصينى فى العمل كان لئيما لا يترك الامور تمشى كما نهوى ، احيانا ينغص علينا يومنا بملاحظاته الخائبة
لاسبوعين كاملين كنت اؤدى تلك الوظيفة ، فى اليوم السادس عشر صحوت من النوم وكنت لا اطيق ان اضع قدمى الى الارض ، كنت احس اننى ساموت ان عدت الى ذلك المكان ، كل اعضائى احسستها معطلة ، بكيت على ما آل اليه حالى ، وتحولت حياتى كل ذلك التحول ، وشخصى الى كائن آخر بت لا اعرفه ، لم ابك مثل ذلك اليوم الا حين فارقت القاهرة ، ففى المطار وكنت اغادر القاهرة فعلت بى ادمعى كما لم تفعل من قبل لم تكف عن النزول ، كانى افارق ضفة عزيزة على الى ضفة اخرى ، وحياة الى حياة لا اعرفها ، كنت فى القاهرة اصحو فجرا ، قبل ان تنام المدينة التى اشتهرت بصحيانها ، كنت كمن يسابقها ، ادخل الجريدة اول محرر ، قبل رئيس التحرير ( عم ابراهيم عبد القيوم ) ولشدة حضورى الباكر نسخوا لى نسخة من مفتاح باب الجريدة ،سواء فى شارع الميرغنى او شارع سته وعشرين يوليو ، كنت ادلف الى المكتب ، اعد قهوتى ، واشرع فى كتابة مقالى ( اليومى ، اوالاسبوعى ) واعد الصفحة الثقافية والرياضية لم اتوقف عن ذلك الفعل لمدة تزيد على السبعة اعوام ، كنت سعيدة بكل تلك الحياة من حولى ، لا ينغصها سوى شح المواد بعض الاحيان ، اخرج من الجريدة باتجاه القهوة او الندوات او المنتديات التى كنت ضيفا اصيلا فيها
المؤتمرات كانت متنفسا ثقافيا لكل المشتغلين بالصحافة ، وما اكثرها فى القاهرة ، وحين دخلت الى الاذاعة بعون الاستاذ فاروق الجوهرى ، الذى منحنى اخوته وصداقته اولا ثم وهبنى دافع ان اكتب المسلسل وانافس به داخل المؤسسة الكبيرة لماسبيرو ، وهذا فضل لن انساه له ما حييت ، ولطالما احب السودان واهل السودان للدرجة التى سافر اليه بعد نزوله المعاش مدرسا فى جامعة من جامعاته
كلما ارخيت اذنى وجدته يترنم بغناء سودانى يحفظه كما يحفظ اغانى المصريين سواء بسواء ، كنت اقول له
دى اغنية منو ؟
يابت ، انتى فاكرة انك بتعرفى الغنا السودان احسن منى ؟
فيسرد لى تاريخ الاغنية وشاعرها وملحنها ومناسبتها
كنا فى احد الجلسات صحبتنا الفنان ابو عركى البخيت والفنان زيدان ابراهيم ، فاذا باستاذ الجوهرى يطلب اغنية ( جبل مرة ) ويحكى قصة الاغنية ، كما فعل مع زيدان واغنية فى (الليلة ديك ) وجدته يحفظ تاريخا لا يعرفه الكثيرون منا
حين غادر فاروق الجوهرى الى السودان لم يشأ لمعرفتى به ان تنفصم عراها ، تعرّف الى كل اهل بيتى وصار واحدا منهم
أعود الى( هنا ) حيث كل يوم يمر تحس ان عبئا قد نزل عن ظهرك ، فانت حمار لا نفع فيك الا لسداد الفولتير ، والشغل المؤبد الذى تمارسه ، كتبت عن ذلك (الايام تتوالى ، يوما اثر يوم ، كل يوم ترى يحمل ما حمل سابقه
من خواص ، نفس الشغل ، نفس الواجب ، تعود اثره منهك الى البيت الذى لم يعد سوى مكان ، لا تسال نفسك اى سؤال ، الاشياء تتساوى لديك (عدمية ) ابدو قلقا يمشى معى اينما توجهت الاسئلة تطاردنى لا ادرى الى متى ؟
الذكرى هى الزيت الذى اوقد به محركات الروح فتدور بلا نهاية ، تجدنى اتذكر احيانا احداث قريبة التاريخ بصعوبة ، فيما احداث مضى عليها اكثر من ثلاثين عاما تكون حاضرة ، تجدنى هنا اقلب دفاتر ذاكرتى ، كثيرا ما افعل ، الآن ادخل فى جوف الزمن ، اخرج من باب المدرسة الابتدائية ، لا اعرف لماذا تلبسنى فى هذه اللحظة المدرسة الابتدائية ؟
اكتب عن مدرسة العباسية الابتدائية للبنات ،( واترحم على صديقتى وابنة خالتى رفيقتى الى تلك السنوات سمية محمد المكى عبد الحليم )
كانت المدرسة ( العباسية ) ولا اعرف من اين جاءت التسمية ؟ لكنها العباسية على كل حال ، تقع المدرسة على مبعدة ثلاثة شوارع من بيتنا (حوش الماذون ) فى شارع الفيل ، الملاصقة له طلمبة بنزين ( توتال )
فى طريقنا الى المدرسة كنا نعبر خور صغير يفصل بين الحى شرقا وغربا نمر عابرين يصادفنا اول ما يصادفنا ( كشك عم سعيد ) بلونه الاخضر ، يقودنا سيرنا الى زقاق يفضى الى المدرسة ، لا اعرف له اسما حتى الآن ،
عادة كنا نطلق الاسماء على الشوارع والازقة حسب المعالم البارزة فيها ، وكذا نفعل بالبيوت والشوارع ، فشارع بيتنا مثلا نطلق عليه شارع الفيل لكننى لم ار لافتة تشير الى ذلك الاسم !! وهذا الشارع يتقاطع مع شارع الموردة وهكذا ، كنا ايضا نسمى البيوت باسماء اصحابها ( بيت الامير محمود ، الامير يعقوب ، بيت ناس مخير ، او حوش البدوى ، حوش اسحاق حمد النيل ، حوش الماذون )والازقة لدينا منها ( زقاق العمايا ، زقاق بيت زيدان ابراهيم ) اما الزقاق المفضى الى المدرسة كنا نسميه (زقاق المدرسة ) ثم حولنا الاسم الى( زقاق بيت فاطمة عبد المحمود )
حيث اشترت بيتا هناك ، المهم ، ان الزقاق حين ينتهى تلوح لك المدرسة ، حتى المدرسة لم تكن تحمل علامة خاصة باسمها ؟؟
الباب الخشبى للمدرسة مفتوح دائما على مصراعيه صباحا ، حتى موعد الطابور
المدرسة مكونة من نهر واحد ، لاربعة صفوف ، حين تعبر البوابة اول ما يصادفك ممر مرصوف بالحصى ، ينتهى عند الصالة الطويلة التى تمر بالفصول الثلاثةعدا الصف الرابع الذى يقع على الطرف الآخر من المدرسة ، امامه فناء مستطيل تقف فيه على استحياء شجرة كبيرة من النيم تجعل المكان يبدو كمعبد يحفه الوقار ، تمتد الصالة المبلطة باسمنت خشن مقطوع الى مربعات من اول المدرسة الى آخرها ، كنا نتعب حين ننظفه ، لان التراب يدخل الى فرجات المربعات ، فناء المدرسة لم يكن بالشاسع المساحة ، تختصر المربعات كثيرا من مساحته ،مع ذلك كانت الفصول تبدو كالقلاع ، بابوابها العالية وكذا شبابيكها الزجاجية ،ومقاعد الدرس كانت من الخشب تجلس عليها كل اربعة طالبات
حين تم تعيينى لاول مرة كمدرسة للمرحلة الابتدائية كان ذلك فى الابيض والمدرسة كانت امير الابتدائية لم يكن فيها مقاعد للطالبات كل تلميذة عليها احضار كرسى من البيت والا فعليها الجلوس الى الارض ، المدرسات كن يجلسن بالتناوب ، لكل مدرسة الحق فى الجلوس فى غياب زميلتها ، حتى المديرة كانت تعانى مثلما كنا نعانى واحيانا تجدنا نجلس الى ظهر التربيزات كنا ننحشر الى ذلك الجحر الذى اسميناه جزافا المكتب !! ، وهى على قلتها لا تكفى لجلوسك لتصحيح كراسات التلميذات فنضطر اما الى ربطها فى شكل حزمات وحملها معنا الى البيوت او ان نثبت علها اسماء الفصول لنفرق بين الفصول والمواد ؟!!
الفصول خالية من المقاعد بالضرورة ، فالتلميذات اما جالسات الى الارض مباشرة او الى مقاعد حملنها من بيوتهن ، او الى بروش ، او طوب؟مع ذلك كان يدهشنى حضور البنات الى مثل تلك المدرسة بل وتفوقهن الذى مازلت اندهش له رغم كل تلك المعوقات
فى مدرسة العباسية ، كان اليوم الدراسى لا يبدأ بمجرد دخولنا الى حوش المدرسة ، كان علينا ان نغسل ( طرح وتياب المدرسات ؟؟؟؟) بعد النظافة كنا نرى فيها لعبة ، لكنى انظر اليها الآن على انه نوع من أنواع الاضطهاد رغم اننا كنا نجرى بتلك الملابس بين الفسحات بغرض ان نجففها سريعا يرن جرس الطابور ، الجرس كان من الحديد او النحاس ، يده كانت من الخشب ، كانت تهزه( ست الناظرة) نقف امام الصالة الطويلة التى تمر امام كل الفصول ، تمر امهات الفصول امامنا كطابور عسكرى يقف لتحية العلم ،لكن على ايامنا لم تكن تحية العلم قد دخلت المدارس بعد لكنه كان بغرض ( كشف الحال )كما اسميناه لاحقا ، حيث وجوه المدرسات الكالحة تحيله الى موقع للتعذيب ، ذلك انهن يحملن معهن ( سوط العنج ، او الفرع المقطوع من الشجرة ، او المساطر الخشبية ، او اقلام الرصاص ) وكن يجلدننا على نحو سادى بعقب المساطر او يدخلن الاقلام الى مفرق الاصابع( الوسطى والسبابة ) فقط اذا ما وجدن ان احدنا لم يكن فستانها نظيفا كفاية او انها كانت تلبس ما يخالف الزى المدرسى ، كنانحب يوم الجمعة كثيرا لانه يعفينا من تلك العقوبات ،لكن ثمة عقوبات من نوع آخر تنتظرنا فى البيت ، تبدو العقوبات المدرسية اهون منها تلكم هى ( الفطيرة ) او ( قرصة الورك )
الساعة الثامنة كانت الحصص تبدأ تحس وقع الزمن على روحك بطيئا خاصة ان كانت الحصة الاولى هى حصة الرياضيات ، كنت احيانا ادعى المرض لاجتاز وطأتها علىّ لان مدرسة الرياضيات كانت من معارف جدتى ، ودائما ما كانت تسعى الى تعنيفى امام التلميذات الامر الذى جعلنى اكره الرياضيات واكرهها من ثم ، وازدادت الجرعة فى الهروب من حصة الرياضيات بعد ان انتقلت الى مدرسة كانت زوجة خالى هى ناظرتها ، حين سافرت جدتى للحج ، ( مدرسة ميرغنى حمزة )ولسوء حظى كانت زوجة خالى لا تقل عنفا عن سابقتها فكانت اما تضربنى بعنف تفرغ فيه كل احقادها من خالى ، او تعاقبنى بالطرد لاننى لم احل الواجب ، كنت كرد فعل لذلك امتنع عن الطعام ، حتى اصبت بداء الامساك المزمن ، لكن ذلك لم يدخلنى الى باحة الرياضيات ابدا ، ولم يجعل منها صليحا لى
فى المرحلة الثانوية كان مدرسى فى الرياضيات مصرى ( استاذ بهاء ) وكان ان علم بكراهيتى للرياضيات منذ الحصة الاولى ،لم يستطع الى تغيير رائ كنت قد بقيت عليه منذ زمن ، لكنه كان يلقبنى ( بهيئة النقل العام حيث يكتب الحلول للمسائل ويطلب الى نقلها) ولو كنت تفاعلت معه فى الرياضيات تفاعلى معه فى النكات لكنت اليوم قد خرجت الى العالم بنظرية جديدة فى تعليم الرياضيات
فى مدرسة العباسية كانت( فسحة الفطور) من المبهجات ، ما ان يرن جرس انتهاء الحصة الثانية ، الا ونكون نحث الخطى باتجاه خالتى (؟؟؟) التى نسيت اسمها الان ، لكنى اذكر الحدث :
كانت تجلس دائما الى مقعد صغير من الخشب ، جسدها المترهل يصل الى الارض ، دائما صدرها كان يعلو ويهبط فى تراتب عال ، تضع قفة الرغيف الى يمينها ، وما تحشوه لنا الى يسارها ، او على الارض لم يكن يهمنا الغبار المنثور الى داخل تلك العبوات من الطعام ، كانت تامرنا ان نقف صفا ، لكننا لانسمع مع التدافع الذى كان عنيفا ، فالمكان يضيق ، كل مرة ، حتى لا تستطيع حشو الارغفة فتتوقف معلنة النهاية لكننا مع ذلك كنا نتدافع المهم اننا نظفر بالذى تدافعنا لاجله وتكون من ثم فساتيننا البيضاء حالت الى اللون البنى بفعل الغبار ، لم اكن من اللاتى يتدافعن على الاكل الذى تشتريه زميلاتى ، لان امى نفيسة كانت تخاف على من
( اكل النسوان ) الذى ترى انه ( ما نضيف ) لكن بالنسبة لى كان من اروع الاكلات التى اكلتها فى حياتى ، فما يزال طعم ( سلطة الاسود والطعمية ، والفول ، حتى الفول كان من الاكلات التى ما ازال على خصومة معها ، لكن فى ذلك الوقت كان من اعظم المأكولات ،رغم الحصى والغبار ، كنا ننزع الاوراق من قلب الكراسات او نفرش اوراق الصحف التى كانت جدتى تلف لى بها السندوتشاات ، لايهم اين نضعها وناكل ، المهم اننا سناكل معا ،
ونجلس الى الارض بنهاية الامر وناكل بخاطر طيب
من كتاب "كل الحمائم التى ربيناها طارت "
الموسم المحدد او حين ينزل الجليد فتدرك ان الوقت شتاء ، ربما لان الشتاء هو الفصل الوحيد المغاير
فاليوم الذى تقضيه فى البيت اثر اجاز ة فيدرالية او يوم تكون فيه خارج العمل ، ينصرم كالريح حاملة ساعاتك ، فى العمل تحسها لا تمر ؟؟
حين حللت على مدينة ( ايوا )لاول مرة شهدت المدينة شتاءا لم تر مثله منذ اعوام خلت كما حدثنى احد مواطنيها فى مناسبة ما ، فالثلج كان يغطى كل شئ ، تتساوى درجة الحرارة ليلا ونهارا ، تحس ان عظامك تصطك ، وانك لا تقوى على فعل
الحيا ة نفسها
كثيرا ما اعترانى احساس ان اعود من حيث اتيت لان ذلك البرد سيلحقنى بابى ذر خاصة لحظة ان اكون عائدة من العمل مشيا ، تحت زخات الجليد ، وصوته يصر تحت اقدامى كنت اتحسس جلدى حين اصل الى البيت لاتاكد انى ما زلت على قيد الحياة لاول مرة اهتم بما يعرف بالمذكرات ، كتبت اول يوم عدت من العمل ( كل شئ يمضى حسب ال(system )حتى انت نفسك صرت تدور فى هذا الفلك ، تؤدى نفس العمل ، نفس الاشياء منذ صحوك فى الصباح ( هذا ان كنت محظوظا ) ونلت قسطا من النوم ، تحتسى قهوتك التى لا تعرف لها مذاقا لان حاسة الذوق لديك اعتراها التعطل ، لا تعرف طعما لما تاكل ، لنفس السبب كنت احيانا اتساءل :هل لدىّ الوقت لتذوق الاطعمة ؟ والاستمتاع بما اكل ؟ فما هو دور الماكدونالز ان لم يكن لافساد ذوقك ؟ وكذا البيرجر كينج ، والكنتاكى ؟ حتى وان اتهموا هذا الاخير فى القنوات الرسمية من خلال عرض لفيلم شاهدناه كيف ان احد العمال اساء الى الدجاج !! وهذا ما اعتبروه خارجا عن الانسانية ، وان منظمات حقوق الحيوان رفعت دعوى ضد كنتاكى !!
اجد ان حاسة ذوقى اصابها العطب ضمن ما اصاب حواس اخرى لدى
فبعد ان( ينقطع نفسك )وتفقد القدرة على اداء كثير من الاشياء لا عليك سوى ان ترتمى الى سريرك ان استطعت ان تدخل الى الغرفة ، حينها سترتمى الى اقرب كرسى او اريكة ،ولسان حالك يردد ( كلها كم ساعة ) فالليل سواء كان صيفا او شتاءا لا يفى بالراحة المطلوبة ، الجسد منهك ، لا عليك تمدد ، لا يهم ان استبدلت ملابسك ام لا ؟ ستنام بما كنت تلبس منذ الازل ، حتى الحذاء احيانا لا تجد دافعا لخلعه ، لا يهم ان تمددت او انكمشت ، فكلاهما طريقتان للنوم ، ستصحو فى الصباح حتى ان كنت فى اشد حالات الاعياء ، لا عليك ، ما عليك حتى ان كنت فى المستشفى ان تبلغ الجهة التى تخدمك بانك مريض ، ولا عذر لك ان لم تخبرهم ، فحينها انت مفصول مفصول والنظام المحكم وراءك والفواتير امامك فى دائرة من جهنم مهما هفت نفسك لمغادرتها لن تستطيع
منذ ان حللت فى هذه المدينة وكل عملى مرتبط بالمطبخ كان علينا ان نرص الاطعمة الى ( صينية ) بيضاء مستطيلة ،مغطاة بورق ملون نضع عليها اصناف الاطعمة يمر عليك خط الطعام line فهناك وجهان للخط واحد للاطعمة الباردة والآخر للحارة بما فى ذلك لحم الخنزير ( الذى كانت رائحته تنعقد فى ملابسى حتى لحظة خروجى من المطبخ باتجاه البيت الامر الذى يدفعنى للاستحمام حتى لو كان البرد من نوع الذى قتل اخانا ابا ذر ) وكنت اتعجب كيف ياكل المريض هذا اللحم النتن ؟ وكل انواع البكتريا تعيش فى داخله ، يمكنك ان تراها داخل الاناء المعد لطبخ ذلك اللحم ، بل احيانا يطلب المريض مزيدا منه ؟ المهم ان الاطعمة بحارها وباردها توضع الى عربات كبيرة ندفعها باتجاه الغرف لافطار او لغداء او لعشاء المرضى ، لكل وجبة نوعها الذى يحدده الطبيب ، والمريض تجده حريصا على طعامه حرصه على الحياة نفسها ، عدا عن الاسناك(snacks ')وجبات تقدم بين الوجبات ، كنت اتحسر على مريضنا حين يجول بخاطرى ، اذكر كم هو صوفى حتى فى مرضه ، وهنا ان تصادف وتاخرت عن مواعيد الطعام فانت مزجور زجرا وازعم انه لو علم بمصدر الطعام لما اكله حتى ، فكل الاطعمة مجمدة ، السمك مجمد، اللحوم بانواعها احيانا اخال ان العواطف نفسها تخضع للتجميد ، كنت اخرج عن تلك الدائرة لحظة الراحة التى لا تتعدى الخمسة عشر دقيقة تجدنى اكتب واقرأ محاولة نسيان المطبخ وما اعتراه من روائح لا تطاق ،( اسرح ) احيانا فى الردهات فى المستشفى بين اللوحات التى تملا انحاء المستشفى من كل انحاء الدنيا جاءوا بها لوحات لبيكاسو ودافنشى ،ولفان جوخ ، وغيرهم من الفنانين العالميين ، معارض تقام ، اسواق تباع فيها المصوغات للمرضى والزوار ، اسواق خيرية لصالح المرضى ، عيادات متحركة للمتبرعين بالدم ، والشعر لمرضى السرطان ، نساء ورجال ، احيانا تجد واحدا نذر نفسه لهذا الفعل ، سواء ان كان رجلا او امرأة ، تحضر الى المستشفى كل حين ، او تحضر وتقوم بقص شعرها او يقوم بقص شعره للمرضى ، او تجدنى اركض باتجاه المكتبة او الى صالات الكونشيرتات الموزعة فيها البيانو فى كل ركن ، ما عليك هو ان تعزف ، سواء كنت مريضا او زائرا
حكم على طموحى ان اسافر الى ولاية مينسوتا شمال ولاية ايوا ، ولاية يسميها اهلها ولاية العشرة الف بحيرة ، وانت لا ترى سوى البحيرات اينما وجهت بصرك ، كانت زميلتى فى الغرفة من اهل نيويورك ، فى البداية كنت اعتقد ان مشكلتى معها شان فردى فى امر التخاطب ، لكنى اكتشفت ان الكل يعانى من امر التواصل معها ، فهى الى صعوبة التواصل معها كانت صعبة المراس وكنت ارد ذلك لصغر سنها والفارق الكبير بيننا ، فهى فى العشرين من عمرها ، اى انها من الممكن ان تكون فى سن ابنتى ، حين سالناها عن المدينة التى جاءت منها وحين اجابتنا لم اكن اتوقع كل تلك الدهشة ان تصدر عن بقية الطالبات اللاتى اعلن دهشتهن كونها جاءت من نيويورك!
كنت اذن قد دخلت المدرسة فى مينسوتا ، لكن قبلها كنت دخلت الى فصول اخرى فى تكساس ، لم تكن المدرسة هى المشكلة بل كانت اللغة ، فحين تسالك المدرسة وتجيبها تقول لك هذا ليس انجليزى امريكى ، هذا تقراه هناك ، فى انجلترا ، ومن هنا فهمت ما كنت قد اطلعت عليه ذات مرة فى مجلة امريكية حول ( امركة اللغة الانجليزية ) وبالفعل بدت لى مختلفة ، فكل كلمة درسناها باللغة الانجليزية لا تصادف كثيرا ما تعلمناه مؤخرا ، لكن لابد لك من ان تتعلم تلك اللغة ولو على مضض لانها ستكون لغتك للاعوام التى ستعيشها هناك ، كانت الاستاذة التى تدرسنا من النوع الذى نسميه فى السودان ( متجهلة ) فهى معنية كل العناية بمكياجها رغم الحر ، وباظافرها الطويلة المقززة ، التى تحرص على صبغها كل يوم بلون جديد تبعا للفستان الذى ترتديه دائما ما كانت تلبس باروكة ربما لانها سوداء وشعرها كان قصيرا ، حتى احذيتها كانت غريبة ، كنت اناديها الانتيكة لغرابة ما كانت تلبس، يداها المعروقتان كانتا تتحركان كثيرا ، لعلها شاءت ان تشهدنا على الخواتم المزيفة اليواقيت نحن ابناء العالم الثالث
كنا نجلس فى فصل مزدحم بالاجانب من المكسيك وكوبا والصومال واثيوبيا ارتيريا ، وغيرها من البلدان ، معظم الطلاب كانوا ممن جاءت بهم المقادير الى هناك ، سواء كانوا لاجئين او داخلين بطرق غير شرعية الى الولايات المتحدة التى يراها البعض ( جنة الفردوس )
كنت حتى ذلك الوقت اداوم على مراسلة جريدة الاتحادى التى كانت تصدر فى القاهرة ، من هيوستون كنت ابعث بمقالاتى ، بعد توقف الجريدة بدأت رحلة البحث عن عمل
الفندق الذى تقدمت للعمل فيه ، كان من اكبرالفنادق فى المدينة ، بدأنا المعاينة للعمل ، فى المعاينة كانت المشرفة كل لحظة تسالنى هل انت متاكدة انك ستعملين هنا ؟ كنت اجيب بنعم ،لا لسبب سوى انها علمت اننى كنت ذات يوم صحفية ، كانت تقول لى لماذا عليك ان تقدمين لمثل هذه الوظيفة ؟ كنت بينى وبينى اقول ( المعايش جبارة )
لحسن الحظ او لسوء الحظ بدأنا العمل فى اليوم التالى كانوا اثناء ذلك اعدوا لنا الملابس التى كانت عبارة عن( مريلة ، فستان رمادى ، غطاء للرأس ، حذاء اسود ، وشراب ) واسمونا ال (maid)كنت امشى للعمل صحبة( حوا الصومالية) ، وصلنا الصباح التالى الى مكان العمل باكرا ، دخلنا الى غرف الغيار لنبدل ملابسنا ، ومضينا باتجاه مكان تجمع العمال ، او ان صحت التسمية العاملات ، منحوا كل واحدة منا معدات ( الشغل ) صابون ومنظفات ، اخبرونا اين نجد المعدات الخاصة بكل غرفة ، من ( اكياس المخدات ، الى الملاءات الشامبو للضيوف الذين ينزلون فى الغرف ، الصابون ، البشاكير ، وهذه لها ا نواع من كل الاحجام ) وكان علينا ان نحمل كل تلك المعدات الى الغرفة المراد نظافتها ، نبدأ النظافة التى كانت احيانا تصل عدد الغرف التى عليك نظافتها اكثر من العشرة غرف واحيانا تكون الغرفة مزدوجة !!!
كنت جديدة عهد بمثل تلك الانواع من الاعمال ، فظللت اشكو لنفسى ما حل بى من قهر ، خفت ان يستمر طويلا ،لكن لابد لك من حيل تخرج بها من تلك المآزق ، علمتنى صبية امريكية حيلة طريفة كنت الجأ اليها كلما احسست بالاجهاد ، كان علىّ كما علمتنى حين تكون الغرفة غير ماهولة ان امرر قطعة على الاثاث وان ارش ارضية الغرفة بمعطر دون استخدام الهوفر ،وان اعيد ترتيب الاشياء بقدر المستطاع بحيث لا اترك انطباع اننى لم انظفها ، على ان اغير تاريخ الكتاب الخاص بالتلفزيون واكون فى حل من النظافة ، لكن الرئيس الصينى فى العمل كان لئيما لا يترك الامور تمشى كما نهوى ، احيانا ينغص علينا يومنا بملاحظاته الخائبة
لاسبوعين كاملين كنت اؤدى تلك الوظيفة ، فى اليوم السادس عشر صحوت من النوم وكنت لا اطيق ان اضع قدمى الى الارض ، كنت احس اننى ساموت ان عدت الى ذلك المكان ، كل اعضائى احسستها معطلة ، بكيت على ما آل اليه حالى ، وتحولت حياتى كل ذلك التحول ، وشخصى الى كائن آخر بت لا اعرفه ، لم ابك مثل ذلك اليوم الا حين فارقت القاهرة ، ففى المطار وكنت اغادر القاهرة فعلت بى ادمعى كما لم تفعل من قبل لم تكف عن النزول ، كانى افارق ضفة عزيزة على الى ضفة اخرى ، وحياة الى حياة لا اعرفها ، كنت فى القاهرة اصحو فجرا ، قبل ان تنام المدينة التى اشتهرت بصحيانها ، كنت كمن يسابقها ، ادخل الجريدة اول محرر ، قبل رئيس التحرير ( عم ابراهيم عبد القيوم ) ولشدة حضورى الباكر نسخوا لى نسخة من مفتاح باب الجريدة ،سواء فى شارع الميرغنى او شارع سته وعشرين يوليو ، كنت ادلف الى المكتب ، اعد قهوتى ، واشرع فى كتابة مقالى ( اليومى ، اوالاسبوعى ) واعد الصفحة الثقافية والرياضية لم اتوقف عن ذلك الفعل لمدة تزيد على السبعة اعوام ، كنت سعيدة بكل تلك الحياة من حولى ، لا ينغصها سوى شح المواد بعض الاحيان ، اخرج من الجريدة باتجاه القهوة او الندوات او المنتديات التى كنت ضيفا اصيلا فيها
المؤتمرات كانت متنفسا ثقافيا لكل المشتغلين بالصحافة ، وما اكثرها فى القاهرة ، وحين دخلت الى الاذاعة بعون الاستاذ فاروق الجوهرى ، الذى منحنى اخوته وصداقته اولا ثم وهبنى دافع ان اكتب المسلسل وانافس به داخل المؤسسة الكبيرة لماسبيرو ، وهذا فضل لن انساه له ما حييت ، ولطالما احب السودان واهل السودان للدرجة التى سافر اليه بعد نزوله المعاش مدرسا فى جامعة من جامعاته
كلما ارخيت اذنى وجدته يترنم بغناء سودانى يحفظه كما يحفظ اغانى المصريين سواء بسواء ، كنت اقول له
دى اغنية منو ؟
يابت ، انتى فاكرة انك بتعرفى الغنا السودان احسن منى ؟
فيسرد لى تاريخ الاغنية وشاعرها وملحنها ومناسبتها
كنا فى احد الجلسات صحبتنا الفنان ابو عركى البخيت والفنان زيدان ابراهيم ، فاذا باستاذ الجوهرى يطلب اغنية ( جبل مرة ) ويحكى قصة الاغنية ، كما فعل مع زيدان واغنية فى (الليلة ديك ) وجدته يحفظ تاريخا لا يعرفه الكثيرون منا
حين غادر فاروق الجوهرى الى السودان لم يشأ لمعرفتى به ان تنفصم عراها ، تعرّف الى كل اهل بيتى وصار واحدا منهم
أعود الى( هنا ) حيث كل يوم يمر تحس ان عبئا قد نزل عن ظهرك ، فانت حمار لا نفع فيك الا لسداد الفولتير ، والشغل المؤبد الذى تمارسه ، كتبت عن ذلك (الايام تتوالى ، يوما اثر يوم ، كل يوم ترى يحمل ما حمل سابقه
من خواص ، نفس الشغل ، نفس الواجب ، تعود اثره منهك الى البيت الذى لم يعد سوى مكان ، لا تسال نفسك اى سؤال ، الاشياء تتساوى لديك (عدمية ) ابدو قلقا يمشى معى اينما توجهت الاسئلة تطاردنى لا ادرى الى متى ؟
الذكرى هى الزيت الذى اوقد به محركات الروح فتدور بلا نهاية ، تجدنى اتذكر احيانا احداث قريبة التاريخ بصعوبة ، فيما احداث مضى عليها اكثر من ثلاثين عاما تكون حاضرة ، تجدنى هنا اقلب دفاتر ذاكرتى ، كثيرا ما افعل ، الآن ادخل فى جوف الزمن ، اخرج من باب المدرسة الابتدائية ، لا اعرف لماذا تلبسنى فى هذه اللحظة المدرسة الابتدائية ؟
اكتب عن مدرسة العباسية الابتدائية للبنات ،( واترحم على صديقتى وابنة خالتى رفيقتى الى تلك السنوات سمية محمد المكى عبد الحليم )
كانت المدرسة ( العباسية ) ولا اعرف من اين جاءت التسمية ؟ لكنها العباسية على كل حال ، تقع المدرسة على مبعدة ثلاثة شوارع من بيتنا (حوش الماذون ) فى شارع الفيل ، الملاصقة له طلمبة بنزين ( توتال )
فى طريقنا الى المدرسة كنا نعبر خور صغير يفصل بين الحى شرقا وغربا نمر عابرين يصادفنا اول ما يصادفنا ( كشك عم سعيد ) بلونه الاخضر ، يقودنا سيرنا الى زقاق يفضى الى المدرسة ، لا اعرف له اسما حتى الآن ،
عادة كنا نطلق الاسماء على الشوارع والازقة حسب المعالم البارزة فيها ، وكذا نفعل بالبيوت والشوارع ، فشارع بيتنا مثلا نطلق عليه شارع الفيل لكننى لم ار لافتة تشير الى ذلك الاسم !! وهذا الشارع يتقاطع مع شارع الموردة وهكذا ، كنا ايضا نسمى البيوت باسماء اصحابها ( بيت الامير محمود ، الامير يعقوب ، بيت ناس مخير ، او حوش البدوى ، حوش اسحاق حمد النيل ، حوش الماذون )والازقة لدينا منها ( زقاق العمايا ، زقاق بيت زيدان ابراهيم ) اما الزقاق المفضى الى المدرسة كنا نسميه (زقاق المدرسة ) ثم حولنا الاسم الى( زقاق بيت فاطمة عبد المحمود )
حيث اشترت بيتا هناك ، المهم ، ان الزقاق حين ينتهى تلوح لك المدرسة ، حتى المدرسة لم تكن تحمل علامة خاصة باسمها ؟؟
الباب الخشبى للمدرسة مفتوح دائما على مصراعيه صباحا ، حتى موعد الطابور
المدرسة مكونة من نهر واحد ، لاربعة صفوف ، حين تعبر البوابة اول ما يصادفك ممر مرصوف بالحصى ، ينتهى عند الصالة الطويلة التى تمر بالفصول الثلاثةعدا الصف الرابع الذى يقع على الطرف الآخر من المدرسة ، امامه فناء مستطيل تقف فيه على استحياء شجرة كبيرة من النيم تجعل المكان يبدو كمعبد يحفه الوقار ، تمتد الصالة المبلطة باسمنت خشن مقطوع الى مربعات من اول المدرسة الى آخرها ، كنا نتعب حين ننظفه ، لان التراب يدخل الى فرجات المربعات ، فناء المدرسة لم يكن بالشاسع المساحة ، تختصر المربعات كثيرا من مساحته ،مع ذلك كانت الفصول تبدو كالقلاع ، بابوابها العالية وكذا شبابيكها الزجاجية ،ومقاعد الدرس كانت من الخشب تجلس عليها كل اربعة طالبات
حين تم تعيينى لاول مرة كمدرسة للمرحلة الابتدائية كان ذلك فى الابيض والمدرسة كانت امير الابتدائية لم يكن فيها مقاعد للطالبات كل تلميذة عليها احضار كرسى من البيت والا فعليها الجلوس الى الارض ، المدرسات كن يجلسن بالتناوب ، لكل مدرسة الحق فى الجلوس فى غياب زميلتها ، حتى المديرة كانت تعانى مثلما كنا نعانى واحيانا تجدنا نجلس الى ظهر التربيزات كنا ننحشر الى ذلك الجحر الذى اسميناه جزافا المكتب !! ، وهى على قلتها لا تكفى لجلوسك لتصحيح كراسات التلميذات فنضطر اما الى ربطها فى شكل حزمات وحملها معنا الى البيوت او ان نثبت علها اسماء الفصول لنفرق بين الفصول والمواد ؟!!
الفصول خالية من المقاعد بالضرورة ، فالتلميذات اما جالسات الى الارض مباشرة او الى مقاعد حملنها من بيوتهن ، او الى بروش ، او طوب؟مع ذلك كان يدهشنى حضور البنات الى مثل تلك المدرسة بل وتفوقهن الذى مازلت اندهش له رغم كل تلك المعوقات
فى مدرسة العباسية ، كان اليوم الدراسى لا يبدأ بمجرد دخولنا الى حوش المدرسة ، كان علينا ان نغسل ( طرح وتياب المدرسات ؟؟؟؟) بعد النظافة كنا نرى فيها لعبة ، لكنى انظر اليها الآن على انه نوع من أنواع الاضطهاد رغم اننا كنا نجرى بتلك الملابس بين الفسحات بغرض ان نجففها سريعا يرن جرس الطابور ، الجرس كان من الحديد او النحاس ، يده كانت من الخشب ، كانت تهزه( ست الناظرة) نقف امام الصالة الطويلة التى تمر امام كل الفصول ، تمر امهات الفصول امامنا كطابور عسكرى يقف لتحية العلم ،لكن على ايامنا لم تكن تحية العلم قد دخلت المدارس بعد لكنه كان بغرض ( كشف الحال )كما اسميناه لاحقا ، حيث وجوه المدرسات الكالحة تحيله الى موقع للتعذيب ، ذلك انهن يحملن معهن ( سوط العنج ، او الفرع المقطوع من الشجرة ، او المساطر الخشبية ، او اقلام الرصاص ) وكن يجلدننا على نحو سادى بعقب المساطر او يدخلن الاقلام الى مفرق الاصابع( الوسطى والسبابة ) فقط اذا ما وجدن ان احدنا لم يكن فستانها نظيفا كفاية او انها كانت تلبس ما يخالف الزى المدرسى ، كنانحب يوم الجمعة كثيرا لانه يعفينا من تلك العقوبات ،لكن ثمة عقوبات من نوع آخر تنتظرنا فى البيت ، تبدو العقوبات المدرسية اهون منها تلكم هى ( الفطيرة ) او ( قرصة الورك )
الساعة الثامنة كانت الحصص تبدأ تحس وقع الزمن على روحك بطيئا خاصة ان كانت الحصة الاولى هى حصة الرياضيات ، كنت احيانا ادعى المرض لاجتاز وطأتها علىّ لان مدرسة الرياضيات كانت من معارف جدتى ، ودائما ما كانت تسعى الى تعنيفى امام التلميذات الامر الذى جعلنى اكره الرياضيات واكرهها من ثم ، وازدادت الجرعة فى الهروب من حصة الرياضيات بعد ان انتقلت الى مدرسة كانت زوجة خالى هى ناظرتها ، حين سافرت جدتى للحج ، ( مدرسة ميرغنى حمزة )ولسوء حظى كانت زوجة خالى لا تقل عنفا عن سابقتها فكانت اما تضربنى بعنف تفرغ فيه كل احقادها من خالى ، او تعاقبنى بالطرد لاننى لم احل الواجب ، كنت كرد فعل لذلك امتنع عن الطعام ، حتى اصبت بداء الامساك المزمن ، لكن ذلك لم يدخلنى الى باحة الرياضيات ابدا ، ولم يجعل منها صليحا لى
فى المرحلة الثانوية كان مدرسى فى الرياضيات مصرى ( استاذ بهاء ) وكان ان علم بكراهيتى للرياضيات منذ الحصة الاولى ،لم يستطع الى تغيير رائ كنت قد بقيت عليه منذ زمن ، لكنه كان يلقبنى ( بهيئة النقل العام حيث يكتب الحلول للمسائل ويطلب الى نقلها) ولو كنت تفاعلت معه فى الرياضيات تفاعلى معه فى النكات لكنت اليوم قد خرجت الى العالم بنظرية جديدة فى تعليم الرياضيات
فى مدرسة العباسية كانت( فسحة الفطور) من المبهجات ، ما ان يرن جرس انتهاء الحصة الثانية ، الا ونكون نحث الخطى باتجاه خالتى (؟؟؟) التى نسيت اسمها الان ، لكنى اذكر الحدث :
كانت تجلس دائما الى مقعد صغير من الخشب ، جسدها المترهل يصل الى الارض ، دائما صدرها كان يعلو ويهبط فى تراتب عال ، تضع قفة الرغيف الى يمينها ، وما تحشوه لنا الى يسارها ، او على الارض لم يكن يهمنا الغبار المنثور الى داخل تلك العبوات من الطعام ، كانت تامرنا ان نقف صفا ، لكننا لانسمع مع التدافع الذى كان عنيفا ، فالمكان يضيق ، كل مرة ، حتى لا تستطيع حشو الارغفة فتتوقف معلنة النهاية لكننا مع ذلك كنا نتدافع المهم اننا نظفر بالذى تدافعنا لاجله وتكون من ثم فساتيننا البيضاء حالت الى اللون البنى بفعل الغبار ، لم اكن من اللاتى يتدافعن على الاكل الذى تشتريه زميلاتى ، لان امى نفيسة كانت تخاف على من
( اكل النسوان ) الذى ترى انه ( ما نضيف ) لكن بالنسبة لى كان من اروع الاكلات التى اكلتها فى حياتى ، فما يزال طعم ( سلطة الاسود والطعمية ، والفول ، حتى الفول كان من الاكلات التى ما ازال على خصومة معها ، لكن فى ذلك الوقت كان من اعظم المأكولات ،رغم الحصى والغبار ، كنا ننزع الاوراق من قلب الكراسات او نفرش اوراق الصحف التى كانت جدتى تلف لى بها السندوتشاات ، لايهم اين نضعها وناكل ، المهم اننا سناكل معا ،
ونجلس الى الارض بنهاية الامر وناكل بخاطر طيب
من كتاب "كل الحمائم التى ربيناها طارت "