إنها السماء تنسكب وتذبل مثل ليمونة تنعصر فوق حجارة الأحياء الخالية من وجوه البشر، فكان الهواء الدافئ يلامس السطوح العتيقة، تلك الأحياء الحجرية المسيجة بانفاق دائري تمتد إلى حافات هائلة لبرار بعيدة.. قمة قطارات متعرجة ومعطوبة، وبقايا حطام لسيارات مهشمة، متروكة وسط عراء مكفهر (بخطى متعثرة تمر، وحدها تمرق ضوء الأشياء المضمخة بعبق الهواء الثقيل كالرصاص.. الغبار يهمي على الأسيجة الخالية التي تؤطرها تلال متماوجة، عبر كثافة السكون الذي يلفح خطاها المتنقلة فوق جادات الإسفلت: قدم فوق أخرى تضعهما، وتنحني للأرض الوطيئة.. الشعر المتماوج ينسرح وراء الكتفين.. فيما الصدر الهزيل تعريه، تتحسس في ظموره شيء ما.. قد تتلعثم، أو تتذكر لغطا، ووهما لكنها تصيخ.. تبقى تصيخ لذبذبات تضج بها كهوف الأعماق السحيقة: أين طريقي؟ لقد ضاع طريقي، أيها الهواء الكسول، وتثبت خطاها في الأرض تحشر الأصابع في فجوات التراب.. تأخذ حفنة وتشم الرائحة بعمق.. التراب الرمادي ينطق، ينطق:- ما الذي تبغين؟ أنت وحدك تغذين الخطى عبر التخوم.. ولن تبصيري المدى البعيد، لأن الرياح تمحو خطاك وتغيّب..،، الكف المنكمشة على حافة التراب تفتحها فينسرب التراب الندي مع الهواء.. ترتجف، والهواء يئن ويعشش في المقطورات المعطوبة، وفجوات الأرض المتماوجة، وفتحات الأسيجة الصلدة، وقمارات السيارت المحطمة..،، ثم تلوذ بالظلمات الحالكة إذ تتكور كالقطة المرضة في العتمة الباردة.).
* * *
لا يرضيه هذا النسق فيتململ، وتراه يضع اللفائف والكمادات على عينه التالفة.. القدح في كفه المنفعلة، وعينه السليمة تنحشر في سطور الورق، أما هي فتقترب، يفوح العطر من ثيابها الغالية.. تلك الرفيقة الرائعة، تربت على كتفه؛ لأنها تعلم بأن المدخل الذي يعلم عليه لا يرضي روحه القلقة.. وفيما القلم يجري فوق خطوط الورق فإن الحروف تشتعل، وتنطفئ.. إذ تدنو، وتنحني لتمسح المائدة المستطيلة تقلقها جلسته القاسية، فيغيرها ويبدو حائرا، ينزع اللفائف عن عينه التالفة، يعرضها للهواء والضوء قليلا ثم يغطيها، إنها مغامرة مريبة: أن يأتي بزورق بخاري ويتخفى بالمدينة؛ ثم يسكن بيتا من بيوت الأوقاف العتيقة، المبنية في القرن الماضي.. مغامرة مهمة حقا ومرة.. كل ذلك من اجل كتابة حكاية؛ فيما النار يتوقع اشتعالها في أية لحظة، وراء البرّ أو في غابة المخيلة،،، بعدها ينقل القلم إلى السطور البيض ويكتب بأناة.. يرشف قطرة من شايه البارد.. ،،، والأشياء المحيطة به هي: ثلاثة جدران. حجرتان. سلم حجري متآكل مطلي بجير مسود.. آجر المطبخ الذي تغطيه طبقة هشة من السخام متكور،، ثمة حمّام صغير، بلا باب وعليه ستارة رمادية من القماش السميك، إلى جواره مرفق صحي وسطح فسيح..،،، أما في الخارج هنالك الزقاق المستطيل، تشغله دكات حجر عالية، وخالية، يعلوها غبار دقيق، ووراء الزقاق خمسة أزقة تمتد قي نسق واحد، لتتوازى باستقامة ثابتة، وإلى الأمام أزقة أخرى متداخلة، مربعة تفضي إلى نهر قديم، صغير، فوقه جسر خشب مزخرف، يمرّ عليه بعض السابلة..،، يتأمل أشياء البيت والقدح بين الفينة والأخرى يلامس شفتيه.. تقترب منه وتهمس في أذنه: أكتبْ.. سأكتب يقول سأكتب، يقول سأكتب لكي نعود إلى الجزر.. ويواجهان معا الطريقة الهشة، الصفراء الكثيفة.. أكتب.. سأكتب.. يقول سأكتب..،، وخياله يسرح.. لكن.. أكتب.. يقول سأكتب، ثم يتابعها تنقي جسدها الأسمر الثقيل فوق درجات السلم. وهي تلهث. آ. تتسلّق بغنج؛ تلك العاشقة التي تركت وراءها أشياء الثراء وجاءت لتغامر معه، من أجل كتابة حكاية، صغيرة، لا غير؛ كم تعشق جنونه، غرابة أطواره.. وهو لا يقدر على حصر الامتنان ولو في سره.. الامتنان الذي يكنّه لها.. سنوات بيض مضت، رافقت حلمه، في الصعود معه إلى حجم كارثة الكتابة.. هو يسميها كارثة.. هه،، الكتابة كارثة حقيقية. حين يخلو إلى نفسه ليتابع حركة بطلته، ينطق فيه الشيء المتحرك، ينطق الهاجس المتحرك ينطق الهاجس المتعثر في النمو، نمو الحكاية الراسخة (..وهو؛ لن.. ين، ين… يتلكأ قليلا، حين يبري قلم الرصاص.. وحــــ.. يُبريه.. ثانية، يبريه ن وحـــــ، ..و ..و.. يبريه ثالثة. وحــــ. د.،،، يتماوج الهواء الكثيف سريعا وأنت تبقين في فجاج الأرض.. لكنك لن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمو خطاك وتغيب،،، تلك الأزمة الحروفية يخطها على شكل مقطعات صوتية عبر توتر الرؤى، يضخها القلم على خطوط الورق، سريعا، منفعلا، آ. ،،وفوق درجات السلم يأخذ الصمت ملاذا حقيقيا للتوحد مع نبض الأشياء الساكنة.. ،، ينظر إليها وهي تحاذي جدار السلم ذاهلة؛ القلم يركض ما بين السطور.. حين يغفو ويفيق، يرشف قليلا من مائه البارد..،، بعددها ينصت للسكون الذي يغمر الحجرات وثقوب الحيطان.. وإذا ما تطلعت إليه، يمسك القلم.. سطوره تحتدم فيكتب ك السكون الراكد يحط بجناحيه الأهيفين فوق أشلاء القطارات وحطام السيارات والأسيجة الترابية، فيتحرك رأسه عاليا؛ القلم يتدفق يثب فوق الفسحة الصقيلة المنبسطة. آ. وهي تقترب؛ هي تقترب. رسائله تنتظر الجواب. تذكره بها، في الدرج، تحت، في الخانة السفلى. رسائله الحميمة التي حملها معه من أقصى الجزر وجاءت معه في زورق البخار عبر محاذاة السواحل، وكان ذلك بأعجوبة،، هي رسائل جمة الحنان، آه الحنان القرمزي الذي يتدفق من سطورها الفياضة.. وهي الآن تهبط درجات السلم وتستعد للخروج، تحمل الشراشف وتشهق: خلل أحلامك عنهم وسطوتهم عليكن أحسهم، آ، أحس شيئا، أو عبئا قادما.. فماذا تقول؟ الذين يشغلون خيالك دوما ويؤرقونك، أحسهم قادمين..،، قد يسألون، أو يتخفون؟ ولكني أحس أصواتهم الكثيفة القادمة. قد يكون إيقاعهم محمولا عبر الهواء..،، قد يسألون ويغالبون. أو تظنهم يتسللون بثياب تنكرية على سبيل الافتراض؟ لا يجيب.. يضحك.. وهي كذلك تضحك. الكلمات السوداء أزحها عن الورق الآن، واللفائف أزحها عن عينك التالفة.. قد يسألون فبماذا تجيب؟ تلك أوهام فلا أجيب.. أو تظنين أقدامهم الهمجية، الثقيلة تتخلى وتنزل عن عرش السطور، لا أظنها تهبط إلى جادة الأرض. سيتركون علامة استفهام محيرة، لكنهم قد يخمنون.. أن رفاق الطفولة ستقودهم حدوسهم حتما، وسيكونون برابرة للحاضر. كلهم يعرفون جنوني وصبابتي بالمدن العتيقة لذا سيغيرون ذلك بفضل الزمن والصدفة، وأشياء أخرى سلطت قوانينها المجهولة/ ثم لا تنسي أن مسقط رأسي قبل ثلاثين عاما أو أكثر كان هنا، في تلك الأزقة العريقة، المنخورة بدبابيس الزمن/ وكان الذي كان،، يوح رحلت أسرتي إلى الجزر المبثوثة في عرض الخليج البعيد..،، وشرع يفكر: قد يقودهم دليل معتوه،، قد،، ثم يتدارك ((ها)) لا علينا.. سأكمل سطوري.. مجرد سطور، أو أكوام من الحروف البليدة، والبقية هم يكملونها،، يضحك حتى تدمع عيناه،، آ، اللعنة، أعني عينه السليمة، ثم يهمس في أذنها: جعلتها مسخا حقيقيا وسط كوارث مهولة. الحكايات يا صديقتي مسوخ هائلة..،، تتركه وتخطو بعيدا.. ينهض هو لكي يفتح النافذة الخشبية المطلة على الزقاق القديم يتطلع إلى السطوح الطينية التي حفرها المطر.. فيما الشرفات الصاجية، والشبابيك المزخرفة التي كانت يوما ما تتألق في الضوء البهر.. الجدران تكللها خيوط العناكب والسقوف تتدلى منها الخفافيش.. اختار العيش الوقتي هنا؛ لأن المكان يلهمه شحنة الكتابة؛ فهو في سره يقول: تلك الممرات الخالية، والشبابيك المرصوفة تحرك قواي وتضغط دمي.. باختصار؛ إتها تلهمني حقيقة غربتي عن طفولتي وزمني..،، امرأة نحيفة تجلس على دكّة مغبرة تقطع بالسكين أصابع البامياء، في ساعة ظهيرة خريفية؛ عندئذ تتجسد له أمه الراحلة.. الأعوام الثلاثون الميتة والزمن.. الزمن.. الزمن الذائب في عيون الهواء الذي يشهد أفول الخطى العامرة،، كانت، أو، كانت أو، كانت يوما عامرة؛ تلك الدروب، بوثوق الخطى..،، أقفل النافذة فتسقط على قدميه عتمة الروح).
حين تواجهه بوجهها الطفولي؛ وهي تستعد للذهاب إلى السوق البعيد.. تتطلع إليه بإمعان وتقول: أحس خطى تدب.. قلبي يقلقني، سأسرع قد يأتون.. أرجو أن يخونني إحساسي؛ تخيفني رؤاك الزاحفة على الورق،، يقفل خلفها الباب، مفكرا بالأشياء الأولى وهي ترتسم على شاشة الدماغ المقفل.. وإذ يستحم؛ أو، لا، في الحقيقة، إنه يغسل وجهه بالماء الفاتر؛ ثم يشرع في الكتابة التي تختمر الآن كليا،،..
* * *
عيناها التائهتان تشعشعان؛ وعبر خط السماء الغامقة بكثافة،، تحت الهدبين المقوسين ـــ تفوران (هي مجرد امرأة ـــ ملامحها العامة غامقة بعض الشيء، تبدو في أواخر العقد الثاني، شاحبة الوجه خصرها ضامر والخدان تنغرسان يتشنج في الأرض الرخوة..،، كأن صلادة المكان البعيد، تفرض سطوتها على الشكل..،، الرقبة المنعرجة طويلة، والراس مستطيل.. ترتدي ثوبا رصاصيا طويلا، وعباءة سوداء.. آ.. صدرها مسطح.. حين تخطو، حين تخطو، تستقيم، ثمة القماشة ارصاصية والعباءة السوداء، المفتوحة، تهف بها الريح..،، تشرع؛ إنها تشرع، بغذّ السير ببطء إذ يرتسم فوق حاجبيها قوس ظلامي فاحم، ولكما توقفت، فتحت كفيها المتصالبتين وأدارت وجهها إلى الوراء/ الوراء/ هناك البيوت الحجرية العتيقة، مخلعة الأبواب.. وهي تترك الخوف يتكاثف عبر التيقظ إزاء الخطر..،، أغلقت فتحة الثوب الرصاصي للأسفل وأزاحت العباءة.
سمعت صوتا عموديا واهنا.. ثمة دبيب.. تخطو. ثمة نأمات. تخطو..،، هناك الموارات. هنالك السيء. شيء. يحبو،، الصوت الآن يخترق أذنيها، لبثت تحدق في فراغ المسافة، وتراب الأرض.. تلفتت ثانية، إذ فوجئت به، عاريا.. رأته يخطو ببطء مثل جرو أعمى، يلامس بعينيه الصغيرتين سطوح الجدران المسودة،… كام لا يتجاوز عمره الثالثة. يحبون أجعد الشعر. عيناه ميتتان؟ يغمغم/ صوته مهصور.. يموء، آ، مواؤه: إيقاعات، غمغمات متلاشية، أوهان.. فقد شبّت هي على أرض الطريق. وأمالت رأسها الحاسر نحو الأرض: الحلم يسافر ويعود اللاحلم.. أنها تصيخ،، هناك الأعماق السحرية للأرض المتلاشية.. وهي تسمع قواه الضعيفة، تنطفئ/ يتفتت التراب، منتفضا: أيتها الشقية الحمقاء.. هنالك صوت واحد يتبع خطاك المتعثرة، ويملأ قلبك وروحك الحزينين.. لكنك لن تبصري مداك البعيد، لأن الريح تمحو خطاك وتغيب.).
حدقة نائية تمتص خيالا ينفلت كالخيط الرفيع وراء الأنفاق المسيجة. وراء الأقفاص الحديدية.. وراء القطارات المحروقة.. وراء السيارات المهشمة.. وراء التلال الملوثة.. حدقة مجهرية ترقب خيالا فياضا، خاطفا أسود.. ترقبه لماحا متواريا، تحسه طاغيا، عنيفا، وهو يتلاشى بعيدا، بعيدا..،، حدقة دائرية تمتص زئبق الضوء الفاتر.. الأشياء الترابية، هشاشتها المنسية.. دقائق غبارها. هواؤها الراكد قبل، آ، قبل مروق النسيم المتقلب، البارد، في العتمة الفجة حين تبتلع هواء الرصاص الثقيل.. ثم تخطو، وتحس الفجيعة، تمد لها خيطا قصيرا يطوق خطاها.. خطاها المنسحقة عبر المكان؛ فأي شيء مر أخضر يعبق شذاه، وهي عامدة لا تراه؛ لكنها تحسه بعنفوان. حدقة غالية ترقب الوجع الترابي.. لا،، أحيانا تبتها لسطوة اللاحضور.. فتراها غائبة حيث الوجع المرّ ينشب مخالبه في قلبه. في قلب المكان.. لا. لكنها تهزأ. لا. هي تهزأ بالوقت المتراجع، وبروحها المطوقة، لا غير حدقة موتورة، مجرد حدقة، لكنها لا تعرف لماذا ترقب المدى المعتم من خلالها، ولا تعرف خوار إرادتها هي؛ كل ذلك الخيال الأسيف جعلها تظن الظنون؛ فهنالك، تحت تل. قرب بيت خلف أحياء المدينة. قد تراها، لا تراها، هي حدقة قد يكون البعد. لا. قد تكون الوحشة.. لا.. وهي تمشي بين أسلاك هوت.. عثّرتها العبرات. والدمار من هنا. وسط فجاج.. وسط أرض، خطوطها غارقة وقد عثّر الحظ خطاها (مدينة الأشباح تراها على زجاج سكة: نسميها الأبدية. إذ تألف الروح مشاغل الخراب/ الحزن العام، لا، هي تمضي، هي لا تدري لمن تذهب، ولا تدري البتة من أين أتتْ؟ لا أحد، لا، لا..) وحدها ترقب حدقة وهمها، بعد أن شلّ الخوف خطاها، في عتمة الخراب، وهندسة الشجن المعلق، فوق مسافات أشجار، هوت، تعانق تراب الليل،،..
قبل أيام من سطوة الكارثة كانت الوجوه الأليفة تتطلع صوب مراكب الشمس. وكان الخريف يظفر شحوبه على سهل. وكانت العيون حزينة.. وكان هنالك رجل أعور، منسي، شبه معتوه، يمسك صفيحة صدئة يطرق عليها بحجارة صلدة فتراه العيون قلقا، يصهل: أعور المدينة يهيم على وجهه، في طرقات المدينة الموحشة، يصهل بأعلى صوتهن مقلدا الخيول البرية، يصهل، إسماعيل يصهل، محذرا الناس من كارثة مقبلة؟ لا أحد يدرك قدوم النهر السريع الذي يقترب،، كان يقترب/ يقترب/ ..،، إيقاعه: جماعي… دمدمته: صلدة،،، إيقاع جحافل لا مرئية، جحافل غازية،،، إسماعيل يحذر من وقوع كارثة: أية كارثة، إيقاع، إيقا، إيقــــ،، إيقاع جنازير رعناء. إيقاع حشرجات منتظمة، كاكية، في ساعات الليل يزداد صراخ الأعور: وهو يتطلع إلى النجوم، وحدها تذرف بريقها الفضي على أسطح البيوت، و، و، تتلاشى في طيات المخادع الوثيرة، حيث الأزواج الشبقون يتلوون عرايا،،، في ذلك الوقت الحزين، من ليل الدنيا، يصنعون أجنحة هلامية، ولا أحد، يدركن لا أحد يدرك أهمية التحذير الذي يعلنه الأعور، وبأعلى صوته، لا أحد، لا أحد…
* * *
الخطى، آ، ..الـــــــ، خ، ط، ط، ى/ ورمال فضاء.. وجهشات عنيفة: لقد ضاع طريقين يا إلهي لقد تعثرت خطاي..،، هي، آ، هي من أولئك النساء اللاتي يخطفن أحيانا وراء الدروب المنسية، التي تزخر بها مدن الحياة.. أتراها تنهض وتخلع الثوب الرصاصي؛ فيما الغبار يلتصق بكفيها..،، أتهرب؟ ثم تتعرى بجنون الحيوان الأعجم.. بين ممر وآخر، ثمة أبنية مهدومة. وأرصفة المداخل تعج بالقناني والنفايات، والعلب المبعوجة، والحجارة المتشظية.. ترقبه، ذلك العري المخيف. حين تطلق صرخات عنيفة الصدى يتردد، ددد، ددد… صراخ يتعرج، خال من التدرجات… وقفت تحدق في معراج السماء. ترتعد أوصالها. ترتعد، وعباراتها تتساقط؛ فيما الريح تعوي، صخابة في كهوف القلب/ الظلمات/ المنحنيات/ الأعماق المتخثرة.. وبلا ضوء ولا أشجار، ولا ستائر تقي من مطر السقوط والانكسار.. وتقيء زفراتها الوحشية: هي تتجه إليه تمسك يده الرفيعة.. يرقبها بغريزة العماء (كأنه الخلد. آ. كأنه جرذ الرمال؛ كأنه ابن السحالي الجرباء.. وبتصلبه البائد عبر اللحظة العائمة، تحتدم في أعضائه، في جوانحه، شتى التشنجات.. إذ ترتعد تسمّر قدميها المتصالبتين. تنهره، وتهزه بعنف.).
ريح تعوي/ صخب في الحجرات الخالية. المسافات تنضغط تتحرك إليه ثانية. تمسّد على كتفه وتتركه. يرمقها بعينيه المنفتحتين. تحمله على صدرها.. كل ذلك يجري ساعة غروب بطيئة (ينتفض الصدر الهزيل.. تجتاز طريقا متعرجا. تتحسس أنفاسه الزنخة. تدخل ممرا خاليا. على الإسفلت المغبر آثار تعرجات رصاصية: الممر الخالي يفضي إلى ساحة المدينة القديمة. ثمة الألفة الغامضة تشع من قلب المكان. تمسح بعينيها الحزينتين صفا طويلا من الشجار المتيبسة التي تحاذي خطا من البيوت المهجورة.. الريح تعوي، تنساب بوحشية، تقتحم الثغرات. الكوى. الأبواب المخلّعة.).
* * *
الأرض، صارت.. صارت،، سلما… ،،،صارت سلما ترابيا ينحدر بها: إلى قاع الأسرار.. إلى الظلموت الأبدي…،، فيما الخطى. الخطى، تتراجع، حيث الأرض صارت سلما ترابيا خاليا من الآثار، خاليا، من الروائح الميتة.. روائح، صارت، الأرض، روائح بلا طعم.. للأرض. الأرض: روائحها غامضة وقديمة.. ثمة إحساس غامض؛ ذلك الإحساس الذي صيّرها تدخل بابا وفي صمت الظلمة المزرقة الباردة وقفت وسط حوش خال، تغمره حجارة مفتتة، وتحيطه سقوف هائلة، مبتورة. في الداخل أمسكت رأس الطفل وقبّلتْ وجهه بقسوة (ارتعاش. أو اهتزاز.. وببطء. بطء.. انمـــــ.. ح.ا.ء. ،بط، بطء.. إذ يشرع هو؛ هو، يموء/ اللعنة/ يموء، يموء، يموء من جديد.. يموء برتابة صرصارية،، وهو يتأرجح من كف لكف، ثم جلس فوق الأرض المبلطة حيث الأتربة الكثيفة تفوح قربها.. أتربة متراكمة على طابوق الجدران.. كانت أرضعته ثديا الأيمن فغاص وجهه الصغير في صدرها العاري (بشراهة ذئب صغير، نظراته الوحشية المظلمة، في الكتلة الجلدية تزيغ.. تتطلع، هي تتطلع إلى شفتيه السوداوين، لم تكن قطرات الحليب؛ أو اللعاب تسيح على فمه اليابس؛ فهي تكاد تغرز مخالبها في شعره الأشعث ثم تسحبها بقوة، ولم تكن تشعر بأيما رغبة، أو ألم..،،.. ها هي تنظر إلى ثديها الأيمن. رأت الحلمة مفقودة، وعلى الصدر بقعة دم. لم تكن تحس، لأول وهلة، بها.. رمقته بذهول غريب وارتبكت، وأسرعت، تضع كفها اليسرى على حلمة الثدي الأخرى التي تشبه حبة زبيب.). يعلك شيئا، تراه يمضغ. رأته يعلك بهوس. كفها تتركها وتخرج إلى عرض الطريق/ الريح تنكسر. تلفحها زخات مطر باردة/ التراب يفح وبشفاه متشققة (آ، هنالك، المقابر القديمة. أمامك حروب الأرض كلها. فــــ.. إلى الأمام: ولكن لن تبصري المدى البعيد.. أيتها الخرقاء الريح تمحو خطاك وتغيب..).
ترقّبَ فزع المدينة العام،، يوم جاءوا ليلا؛ هجر الناس البيوت،، يمموا كل الوجوه صوب أنفاق المدينة/ المعاول في الأيادي،، هجر الناس البيوت،، يدركون الوقت/ كان الوقت سيفا قاطعا، مسموما (سيف الوقت القاطع بقبضة الغازي الليلية بأنامل كلها نار/ حديد ورصاص.) يحفرون. يعرفون. يظمأون. يهلكون: ثم يمضي الوقت/ أتراهم يحفرون الأرض التي مدت جذورا للجماجم/ إنها الأرض مدتها إلى عمق سحيق/ والوجوم/ والخراب الزاحف الآن عليهم؛ قد يكون محض وهم، وقد يكون (…،،… ،،،…،،،) طائرات ترجم الأرض. قذائف/ جماجم خنازير بشرية، كلسية، حشروها بالقاطرات: مثل غيوم سوداء/ يحاصرون المدينة) بنادق المدافعين عن الأهالي العزّل تطلق نيرانها على الأعداء، من ثغرات الأنفاق والمزاغل/ الصفوف الأولى ارتدتْ على أعقابها/ الأحياء الخلفية انهدمت: السقوف. الجدران. الحجرات/ وبدأ الانكسار المريع/ واحتشدت نيوب الغزاة/ ظلمات، غبار، برد الليل/ عواء الوحوش القاهرة/ الخراب الرمادي/ الليل، تعرجات أنفاق، ماتت، حفروها بشرايينهم النحاسية النازفة على حجارة الكارثة الكبرى..،، عواءات عووووووووو/ عووووووووو/ عواءات حيوانية لبشر أنكروا حقيقتهم المخزية،،، صلة الإنسان.. هه.. هه. أثمن صلة. هه. هه طبيعة الأرض. صلة طبيعية، أرض، صلة، هه، هه، أثمن صلة، لعين وقحة، ذئبية مرائية تفضح عورات الإنسان الباقي في المدينة.
الغزاة يطوفون الآفاق الرحبة، بقطارات رمادية جهمة مدرعة مدوا خطوطها إلى أعناق المداخل..،، كتل ديناصورية كالحة. سرفات سرطانية تثلم الأسيجة القديمة..،، وترقب: حيث لا إطلاقة.. مجرد سكون أرجواني فوق الأسيجة: فأين الناس؟! أين؟ حتى الأيادي لآخرها تنكمش على الأخامص والأزندة. تنطفئ رأت كل ذلك واختفت؛ لقد تلاشت عبر الهواء، وسقطت في بئر ناشفة، هناك تبعد عن المقابر.. حين تنحني الأرواح على الوحل، تنخسف، ويمر الليل سريعا.. فلا يدركون. لا أحد يدرك عودة الباقين، من الأهل والجيران؛ لكنها الصاعقة آن صواعق فولاذية البروق/ كأنها خيوط الآلهة المشتعلة/ المدينة تطلق صرخات الفناء؛ صرخات كبرى لا ينساها حتى التراب..،،..،، ومن تحت الأنفاق؛ ثمة شراذم، هربوا وهرب معهم الجبناء.. لا أحد يدري إلى أين؟ الظلام الكثيف يلفّ صورة الكون: البيوت صات كهوفا/ المدينة قبر مفتوح للزمن والأبدية (ثانية عادت، العين الذئبية المرائية، ترمق من بئرها أشباح الرعشات، خيوط الأيادي الذائبة/ رفسات الأرجل. رعشات العيون. رعشات غامضة، تحت الأنقاض، ولكن لا أحد.. لا صوت يسمع، لا، لا، أي آ، في عتمة الخراب الشامل.. قد ترتفع، أنفاسها المتقلصة. إلى عرش الإله، الإله…
لا أحد في الدرب. الشمس تتعرى فوق السطوح،، إسماعيل الأعور يمرّ متألقا بعينه التي تفضح جمود الأشياء. راقبته يوما، وراقبها.. في فتوتها (هي) وفي عنفوانه (هو).. (هي) معافاة..و(هو) معتوه.. تراه قادما.. كان ذلك من زمن ليس بالبعيد.. تراه وتحاول الدخول. ينحسر ثوبها الذي يلتصق بمسمار الحائط.. يرقب بياض اللحم وتغطي بكفيها الشيء.. يدنو؛ ثم يجفل. تضع كفيها على أذنيها ويضع كفا واحدة على عينه السليمة..،، تختفي أثناء تمزق الثوب، ويختفي هو،،، في مقبرة قريبة.. يبصق على عشبة حائلة كانت تطوق قبرا. يبكي أشياءه الغامضة ويعود إلى المدينة، يطرق الصفيحة بعنف: يا نيام.. الخطر قادم.. الخطر.. يا نيام.. الغزاة قادمون.. الخطر.. الخطر.. الخطر.. ولا، لا، أحد يصيخ إلى صرخاته المتقطعة، الميتة في نفوسهم الذابلة.. لا أحد يصيخ لمعتوه أعور يخبئ في سره نبوءة القدر…،…،..
وتركض هي بجنون. خلفها يعلو الصراخ. ذلك الطفل يصرخ،.. وهي تحدق في السماء الثابتة.. حين توقفت، وبدورة آلية أمسكت رأسه بقسوة مرة من المرات، عادت إليه باكية.. إنها تذوي ألما، حزنا، أزرق، هي ترقب وجهه الذابل حنينا، وترفع رأسه عاليا.. تمالكت أعصابها بقوة.. لتريه الفضاء الأبيض، حيث الريح الرمادية تتدحرج مدومة على جادة السماء الملتهبة،،، ثم طفقت تهذي: ضاع طريقي.. لقد ضاع طريقي، أيتها الريح الخرقاء..،، وظل يرمق الظلام البارد الدامس، حين شرعت تلعق فسحة الهواء العالية.. ولسانها المستدق يهف للذبذبات القصيرة.. لسانها الخشبي المتقوس يلمض ويغيب في ثغرة الفم المشوه.. جبهة الطفل في كفها، والهواء يراقص شعره المتسخ.. وعادت لتركض حين تطلّعت إلى الوراء.. رأت صف البيوت الطويل غارقا في عتمة الخوف؛ مثل قطار مهجور كانت تتقاطر الأسيجة والأبواب والسطوح.. وقفت فوق عتبة مثلمة وأمامها أفق البرّ الفسيح.. خطت وراء السياج الطويل في عطفة قصيرة أطلّت تواجهها بيوت أخرى مغبرة ذات شرفات مفخورة تستند إلى كتل حجرية تتجذر في أعماق إسمنتية تنغرز إلى مسافات، لا تني تنحرف عن حافة السياج. وراء الآفاق البرية الخالية تحشّدت كتائب الغزاة، وقد هشمتها قذائف الفرق/ الميكانيكية/ ثمة الريح الصهول، تفح التربة المسمومة في حجرات البيوت المهجورة ـــ تنخسف كتل حيطانها تحت أنقاض الخراب العام..، ولم تكن تصدق عينيها بأن حلمة ثديها صارت لقمة سائغة في فم الطفل المشوه، شرعت تتحسس صدرها الجريح: دماء ملتهبة تغطي قماشة الثوب الرصاصي الخشن.. الألم ينكمش؛ فجأة، ويوخز جرحها اللهاث المحموم، والحركات السريعة للمشي المتواصل..، فتلوذ بآخر الحجرات. رأت وجهه منكسا يرمق عينيها المظلمتين.. هبطت فوقها ظلمة ترابية موحشة… استكانت إلى الأرض وأعطته إصبعا يمتصها بنهم حيواني؛ كذلك غطس رأسه المكور في صدرها الجريح حين اندفع اللحم الذابل مضغوطا وهي تتحسس أنفاسه المتخثرة.. وراحت تشم روائح معدته الفاسدة؛ وظل هو يدفع بقوة، رأسه المكور في الحفرة النازفة؛ حتى دبّ دبيب القضم، و، وانبعث في جسمها نعاس دهري،،،
في ساعات المحنة اختفى آخر أثر لإسماعيل الأعور؛ لم يكن أحد يمنح نفسه انتباها ما،،، عداها هي التي أدركت بحدس غامض، مدى حضور ذلك المعتوه السري القادم من جهة غامضة.. كيف استفاق بحر دمها على معول كلماته الهدامة..،، لا، لا أحد، عداها هي،… عداها، يحس الآلهة السماوية، تسلط صواعقها، في ساعات، لا يمكن البوح بها لأحد وإن أمكن ذلك.. فلا أحد يستجيب، لفتاة شابة، أهملتها الأيام وتعيش في ظل أسرة معدمة..،، هو وحده، بعينه المخيفة؛ كان يعري ثيابها، يخلع شهوتها؛ فكأنها تواجه شيطانا بحريا ينشر ثيابها على الشاطئ الأجرد، ثم يتركها على صخرة العار الأزلي.. تبكي فردوس عذريتها المفقود…
رماد أمي وأبي.. عظام أخوتي الصغار.. جماجم الجيران.. تحت سقف البيت الذي تلاشى، وصار أنقاضا.. وأنا برعدتي لمحت البئر، التي عدت منها، البئر التي اختفيت فيها، أطياف عذاباتهم.. فوراء براري المدينة؛ هناك، وحدي تنبأت بقدوم الكارثة التي أعلن عنها المعتوه إسماعيل الأعور، لقد عدت لكي أواجه رمال الأرض المتفسخة، فرأيت الدروع والقطارات وجحافل السيارات، تحيط المدينة وكانت كلها معطوبة.. إنها ساعة دمار شاملة، عاث فيها الغزاة فسادا أسود؛ لكي يختفوا عن ذاكرة الزمن…
فتحت عينيها وظلت تحدث في الظلام الكثيف؛ ثم أصاخت لصوت الريح المهاجرة صوب المجهول: إلى أين تهاجر؛ تلك الريح التي أرّقت خيالي وعذّبت روحي وحياتي؟ حينئذ يهتف بها التراب: قريبا من خطاك، هناك نحو المقابر المحيطة بالأحياء القديمة.. الآن انهضي من خدرك الآسن، وتعالي معي نركض سويا، صوب مملكة الموت.. الموت.. المو.. لكنك لن تبصري مداك البعيد، لأن الريح تمحو خطاك وتغيب،،، حركتْ ساقيها وتشبثت بالجدار، فلم تستطع النهوض، ثم وضعت كفها اليابسة على صدرها الجريح فتحسست نتوءا بارزا بعدها استقرت كفها على قفص العظام وأصاخت ثانية إلى ذلك الصوت القريب؛ وهو يدنو، واهنا ميتا: انهضي من خدرك اللذيذ.. وتعالي معي، نرحل إلى مملكة الموت. الموت. المو.. و.. وقفزت مذعورة، حين سقط الطفل مغشيا عليه، لمست عروقه المنتفخة.
هزت رأسه بقوة، ثم انحنت عليه (أجفلت وانكمشت عيناها الترابيتان، وأبركت لتتذكر شيئا قديما لقد انتفض جوعها الخرافي من رقاده الطويل؛ ذلك الجوع النابت تحت أعماق الروح/ جوعها المتدثر بلحف العذاب.. رفعته بكفيها المتشنجتين ثم أعادته إلى الأرض، بعد تأكدها أنه فارق الحياة.. خرجت متوجسة إلى آخر الطريق؛ ثم عادت إليه، تتفحصه بعينيها الترابيتين. واندفع قلبها المتوثب، يدق بعنف.. غرزت مخالبها في عنقه/ عضت حنجرته الرخوة، فسقط رأسه الصغير بعضة ذئبية عنيفة.. وفيما تعلك لحم عينيه وشفتيه..،، وتمضغ..، وتزأر.. تتطلع إلى الأحشاء الملمومة، فكانت آخر لقمة ضخمة، ابتلعتها بشراسة خسيسة. راودا هاجس مقيت حين تركت باقي الأشلاء وشرعت تركض في الممرات المهجورة.. وقفت فوق سطح مرتفع: أحست بردا وشرعت تركض من جديد.. أوصالها ترتعش: أين طريقي أيتها الأعالي الخرقاء..،، هبطت سلما مجاورا لبيت مخسوف وفوق العتبة كانت تتطلع إلى دماء الأحياء الغارقة بجلال السكون.. ثمة حشود الريح/ الأتربة المتخثرة.. اجتازت العتبة ووطئت أقدامها المتحجرة سطح التراب الذي انتفض بوجهها المذعور: وحدك في عتمة السكون تمكثين.. فلن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمحو خطاك وتغيب…
* * *
خمد إحساسها المأزوم.. سارت ببطء.. أغمضت جفنيها.. وهناك خلف الفسحة البرية البعيدة، تمتد القبور العتيقة.. فجأة توقفت: عادت أدراجها حين ساد الظلام وخفّت حدة الريح. لفّها دثار فاحم واصطبغ وجهها ورأسها وعيناها بالعتمة الحالكة.. ثم جلست على الأرض، وأصابها مسّ فابتسمت للتراب.. وحين نهضت صوبت اتجاهها إلى هيكل الطفل الميت. نظرت إليه بانكسار. سحبت نفسا عميقا، باردا، أنعش مزاجها الموتور..،.. حيث الصوت القديم يفح، وعاد يحوط أذنيها بأسوار الرهبة والخوف؛ وحينئذ غمغمت ببلادة: إنه الصوت القديم نفسه.. يعلو الصوت بشكل صارخ: احمليه بكفيك المحرمتين إلى قبور الأحياء القديمة. ولكنك لن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمحو خطاك وتغيب…،.
( حملته بارتباك، ذعرت، فأطلقت ساقيها للريح. حين توقفت/ مشت/ بعدها ببطء/ مشت/ تبحث عن خطاها الضائعة، في ظلمات الطريق/ لم، لم، لم تجد لها أثرا، خطاها المتلاشية/ وفوق مشارف المنحدرات التي تفضي إلى طريق المقبرة، ارتخت أوصالها ارتخت/ وأفرجت ساقيها، فتحتهما للهواء.. ثم عاد الصوت القديم يشرخ أعماقها، مثل نهر حجري يخرق غابة مظلمة: إليه، إلى الموت.. إليه.. الموت.. الموت. المو. المو. مووو/ طق. مو. طق. مو: إسماعيل.. إسماعيل/ ألا تسمعني/ إسماعيل) وأفاق على طرقات عنيفة كانت تهز الباب. دخلت مخطوفة العينين: عزيزي إسماعيل إنهم قادمون. الحرائق تلنهم الأسواق والبيوت هناك نار. نار. وفي الدروب زمر غريبة. أحسهم قادمين. المدينة تخلى (وعبر فضاء الليل كان يعبّأ طيات الورق في جيوبه وهما يتجهان صوب البحر. كانت تجفف له عينيه وتمسد له شعره ثم تهمس له: أخشى أن تكون قد بشّرت بدمار مدينة أخرى. أرجو أن لا تجعل من نفسك بطلا، في حكايتك القادمة.. وفيما كانت تغفو على كتفه، كان الزورق يعلو مع الموج، صوب الجزر البعيدة).
قصي الخفاجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
* منقول عن:
قصي الخفاجي : سطوة الكارثة (ملف/20)
* * *
لا يرضيه هذا النسق فيتململ، وتراه يضع اللفائف والكمادات على عينه التالفة.. القدح في كفه المنفعلة، وعينه السليمة تنحشر في سطور الورق، أما هي فتقترب، يفوح العطر من ثيابها الغالية.. تلك الرفيقة الرائعة، تربت على كتفه؛ لأنها تعلم بأن المدخل الذي يعلم عليه لا يرضي روحه القلقة.. وفيما القلم يجري فوق خطوط الورق فإن الحروف تشتعل، وتنطفئ.. إذ تدنو، وتنحني لتمسح المائدة المستطيلة تقلقها جلسته القاسية، فيغيرها ويبدو حائرا، ينزع اللفائف عن عينه التالفة، يعرضها للهواء والضوء قليلا ثم يغطيها، إنها مغامرة مريبة: أن يأتي بزورق بخاري ويتخفى بالمدينة؛ ثم يسكن بيتا من بيوت الأوقاف العتيقة، المبنية في القرن الماضي.. مغامرة مهمة حقا ومرة.. كل ذلك من اجل كتابة حكاية؛ فيما النار يتوقع اشتعالها في أية لحظة، وراء البرّ أو في غابة المخيلة،،، بعدها ينقل القلم إلى السطور البيض ويكتب بأناة.. يرشف قطرة من شايه البارد.. ،،، والأشياء المحيطة به هي: ثلاثة جدران. حجرتان. سلم حجري متآكل مطلي بجير مسود.. آجر المطبخ الذي تغطيه طبقة هشة من السخام متكور،، ثمة حمّام صغير، بلا باب وعليه ستارة رمادية من القماش السميك، إلى جواره مرفق صحي وسطح فسيح..،،، أما في الخارج هنالك الزقاق المستطيل، تشغله دكات حجر عالية، وخالية، يعلوها غبار دقيق، ووراء الزقاق خمسة أزقة تمتد قي نسق واحد، لتتوازى باستقامة ثابتة، وإلى الأمام أزقة أخرى متداخلة، مربعة تفضي إلى نهر قديم، صغير، فوقه جسر خشب مزخرف، يمرّ عليه بعض السابلة..،، يتأمل أشياء البيت والقدح بين الفينة والأخرى يلامس شفتيه.. تقترب منه وتهمس في أذنه: أكتبْ.. سأكتب يقول سأكتب، يقول سأكتب لكي نعود إلى الجزر.. ويواجهان معا الطريقة الهشة، الصفراء الكثيفة.. أكتب.. سأكتب.. يقول سأكتب..،، وخياله يسرح.. لكن.. أكتب.. يقول سأكتب، ثم يتابعها تنقي جسدها الأسمر الثقيل فوق درجات السلم. وهي تلهث. آ. تتسلّق بغنج؛ تلك العاشقة التي تركت وراءها أشياء الثراء وجاءت لتغامر معه، من أجل كتابة حكاية، صغيرة، لا غير؛ كم تعشق جنونه، غرابة أطواره.. وهو لا يقدر على حصر الامتنان ولو في سره.. الامتنان الذي يكنّه لها.. سنوات بيض مضت، رافقت حلمه، في الصعود معه إلى حجم كارثة الكتابة.. هو يسميها كارثة.. هه،، الكتابة كارثة حقيقية. حين يخلو إلى نفسه ليتابع حركة بطلته، ينطق فيه الشيء المتحرك، ينطق الهاجس المتحرك ينطق الهاجس المتعثر في النمو، نمو الحكاية الراسخة (..وهو؛ لن.. ين، ين… يتلكأ قليلا، حين يبري قلم الرصاص.. وحــــ.. يُبريه.. ثانية، يبريه ن وحـــــ، ..و ..و.. يبريه ثالثة. وحــــ. د.،،، يتماوج الهواء الكثيف سريعا وأنت تبقين في فجاج الأرض.. لكنك لن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمو خطاك وتغيب،،، تلك الأزمة الحروفية يخطها على شكل مقطعات صوتية عبر توتر الرؤى، يضخها القلم على خطوط الورق، سريعا، منفعلا، آ. ،،وفوق درجات السلم يأخذ الصمت ملاذا حقيقيا للتوحد مع نبض الأشياء الساكنة.. ،، ينظر إليها وهي تحاذي جدار السلم ذاهلة؛ القلم يركض ما بين السطور.. حين يغفو ويفيق، يرشف قليلا من مائه البارد..،، بعددها ينصت للسكون الذي يغمر الحجرات وثقوب الحيطان.. وإذا ما تطلعت إليه، يمسك القلم.. سطوره تحتدم فيكتب ك السكون الراكد يحط بجناحيه الأهيفين فوق أشلاء القطارات وحطام السيارات والأسيجة الترابية، فيتحرك رأسه عاليا؛ القلم يتدفق يثب فوق الفسحة الصقيلة المنبسطة. آ. وهي تقترب؛ هي تقترب. رسائله تنتظر الجواب. تذكره بها، في الدرج، تحت، في الخانة السفلى. رسائله الحميمة التي حملها معه من أقصى الجزر وجاءت معه في زورق البخار عبر محاذاة السواحل، وكان ذلك بأعجوبة،، هي رسائل جمة الحنان، آه الحنان القرمزي الذي يتدفق من سطورها الفياضة.. وهي الآن تهبط درجات السلم وتستعد للخروج، تحمل الشراشف وتشهق: خلل أحلامك عنهم وسطوتهم عليكن أحسهم، آ، أحس شيئا، أو عبئا قادما.. فماذا تقول؟ الذين يشغلون خيالك دوما ويؤرقونك، أحسهم قادمين..،، قد يسألون، أو يتخفون؟ ولكني أحس أصواتهم الكثيفة القادمة. قد يكون إيقاعهم محمولا عبر الهواء..،، قد يسألون ويغالبون. أو تظنهم يتسللون بثياب تنكرية على سبيل الافتراض؟ لا يجيب.. يضحك.. وهي كذلك تضحك. الكلمات السوداء أزحها عن الورق الآن، واللفائف أزحها عن عينك التالفة.. قد يسألون فبماذا تجيب؟ تلك أوهام فلا أجيب.. أو تظنين أقدامهم الهمجية، الثقيلة تتخلى وتنزل عن عرش السطور، لا أظنها تهبط إلى جادة الأرض. سيتركون علامة استفهام محيرة، لكنهم قد يخمنون.. أن رفاق الطفولة ستقودهم حدوسهم حتما، وسيكونون برابرة للحاضر. كلهم يعرفون جنوني وصبابتي بالمدن العتيقة لذا سيغيرون ذلك بفضل الزمن والصدفة، وأشياء أخرى سلطت قوانينها المجهولة/ ثم لا تنسي أن مسقط رأسي قبل ثلاثين عاما أو أكثر كان هنا، في تلك الأزقة العريقة، المنخورة بدبابيس الزمن/ وكان الذي كان،، يوح رحلت أسرتي إلى الجزر المبثوثة في عرض الخليج البعيد..،، وشرع يفكر: قد يقودهم دليل معتوه،، قد،، ثم يتدارك ((ها)) لا علينا.. سأكمل سطوري.. مجرد سطور، أو أكوام من الحروف البليدة، والبقية هم يكملونها،، يضحك حتى تدمع عيناه،، آ، اللعنة، أعني عينه السليمة، ثم يهمس في أذنها: جعلتها مسخا حقيقيا وسط كوارث مهولة. الحكايات يا صديقتي مسوخ هائلة..،، تتركه وتخطو بعيدا.. ينهض هو لكي يفتح النافذة الخشبية المطلة على الزقاق القديم يتطلع إلى السطوح الطينية التي حفرها المطر.. فيما الشرفات الصاجية، والشبابيك المزخرفة التي كانت يوما ما تتألق في الضوء البهر.. الجدران تكللها خيوط العناكب والسقوف تتدلى منها الخفافيش.. اختار العيش الوقتي هنا؛ لأن المكان يلهمه شحنة الكتابة؛ فهو في سره يقول: تلك الممرات الخالية، والشبابيك المرصوفة تحرك قواي وتضغط دمي.. باختصار؛ إتها تلهمني حقيقة غربتي عن طفولتي وزمني..،، امرأة نحيفة تجلس على دكّة مغبرة تقطع بالسكين أصابع البامياء، في ساعة ظهيرة خريفية؛ عندئذ تتجسد له أمه الراحلة.. الأعوام الثلاثون الميتة والزمن.. الزمن.. الزمن الذائب في عيون الهواء الذي يشهد أفول الخطى العامرة،، كانت، أو، كانت أو، كانت يوما عامرة؛ تلك الدروب، بوثوق الخطى..،، أقفل النافذة فتسقط على قدميه عتمة الروح).
حين تواجهه بوجهها الطفولي؛ وهي تستعد للذهاب إلى السوق البعيد.. تتطلع إليه بإمعان وتقول: أحس خطى تدب.. قلبي يقلقني، سأسرع قد يأتون.. أرجو أن يخونني إحساسي؛ تخيفني رؤاك الزاحفة على الورق،، يقفل خلفها الباب، مفكرا بالأشياء الأولى وهي ترتسم على شاشة الدماغ المقفل.. وإذ يستحم؛ أو، لا، في الحقيقة، إنه يغسل وجهه بالماء الفاتر؛ ثم يشرع في الكتابة التي تختمر الآن كليا،،..
* * *
عيناها التائهتان تشعشعان؛ وعبر خط السماء الغامقة بكثافة،، تحت الهدبين المقوسين ـــ تفوران (هي مجرد امرأة ـــ ملامحها العامة غامقة بعض الشيء، تبدو في أواخر العقد الثاني، شاحبة الوجه خصرها ضامر والخدان تنغرسان يتشنج في الأرض الرخوة..،، كأن صلادة المكان البعيد، تفرض سطوتها على الشكل..،، الرقبة المنعرجة طويلة، والراس مستطيل.. ترتدي ثوبا رصاصيا طويلا، وعباءة سوداء.. آ.. صدرها مسطح.. حين تخطو، حين تخطو، تستقيم، ثمة القماشة ارصاصية والعباءة السوداء، المفتوحة، تهف بها الريح..،، تشرع؛ إنها تشرع، بغذّ السير ببطء إذ يرتسم فوق حاجبيها قوس ظلامي فاحم، ولكما توقفت، فتحت كفيها المتصالبتين وأدارت وجهها إلى الوراء/ الوراء/ هناك البيوت الحجرية العتيقة، مخلعة الأبواب.. وهي تترك الخوف يتكاثف عبر التيقظ إزاء الخطر..،، أغلقت فتحة الثوب الرصاصي للأسفل وأزاحت العباءة.
سمعت صوتا عموديا واهنا.. ثمة دبيب.. تخطو. ثمة نأمات. تخطو..،، هناك الموارات. هنالك السيء. شيء. يحبو،، الصوت الآن يخترق أذنيها، لبثت تحدق في فراغ المسافة، وتراب الأرض.. تلفتت ثانية، إذ فوجئت به، عاريا.. رأته يخطو ببطء مثل جرو أعمى، يلامس بعينيه الصغيرتين سطوح الجدران المسودة،… كام لا يتجاوز عمره الثالثة. يحبون أجعد الشعر. عيناه ميتتان؟ يغمغم/ صوته مهصور.. يموء، آ، مواؤه: إيقاعات، غمغمات متلاشية، أوهان.. فقد شبّت هي على أرض الطريق. وأمالت رأسها الحاسر نحو الأرض: الحلم يسافر ويعود اللاحلم.. أنها تصيخ،، هناك الأعماق السحرية للأرض المتلاشية.. وهي تسمع قواه الضعيفة، تنطفئ/ يتفتت التراب، منتفضا: أيتها الشقية الحمقاء.. هنالك صوت واحد يتبع خطاك المتعثرة، ويملأ قلبك وروحك الحزينين.. لكنك لن تبصري مداك البعيد، لأن الريح تمحو خطاك وتغيب.).
حدقة نائية تمتص خيالا ينفلت كالخيط الرفيع وراء الأنفاق المسيجة. وراء الأقفاص الحديدية.. وراء القطارات المحروقة.. وراء السيارات المهشمة.. وراء التلال الملوثة.. حدقة مجهرية ترقب خيالا فياضا، خاطفا أسود.. ترقبه لماحا متواريا، تحسه طاغيا، عنيفا، وهو يتلاشى بعيدا، بعيدا..،، حدقة دائرية تمتص زئبق الضوء الفاتر.. الأشياء الترابية، هشاشتها المنسية.. دقائق غبارها. هواؤها الراكد قبل، آ، قبل مروق النسيم المتقلب، البارد، في العتمة الفجة حين تبتلع هواء الرصاص الثقيل.. ثم تخطو، وتحس الفجيعة، تمد لها خيطا قصيرا يطوق خطاها.. خطاها المنسحقة عبر المكان؛ فأي شيء مر أخضر يعبق شذاه، وهي عامدة لا تراه؛ لكنها تحسه بعنفوان. حدقة غالية ترقب الوجع الترابي.. لا،، أحيانا تبتها لسطوة اللاحضور.. فتراها غائبة حيث الوجع المرّ ينشب مخالبه في قلبه. في قلب المكان.. لا. لكنها تهزأ. لا. هي تهزأ بالوقت المتراجع، وبروحها المطوقة، لا غير حدقة موتورة، مجرد حدقة، لكنها لا تعرف لماذا ترقب المدى المعتم من خلالها، ولا تعرف خوار إرادتها هي؛ كل ذلك الخيال الأسيف جعلها تظن الظنون؛ فهنالك، تحت تل. قرب بيت خلف أحياء المدينة. قد تراها، لا تراها، هي حدقة قد يكون البعد. لا. قد تكون الوحشة.. لا.. وهي تمشي بين أسلاك هوت.. عثّرتها العبرات. والدمار من هنا. وسط فجاج.. وسط أرض، خطوطها غارقة وقد عثّر الحظ خطاها (مدينة الأشباح تراها على زجاج سكة: نسميها الأبدية. إذ تألف الروح مشاغل الخراب/ الحزن العام، لا، هي تمضي، هي لا تدري لمن تذهب، ولا تدري البتة من أين أتتْ؟ لا أحد، لا، لا..) وحدها ترقب حدقة وهمها، بعد أن شلّ الخوف خطاها، في عتمة الخراب، وهندسة الشجن المعلق، فوق مسافات أشجار، هوت، تعانق تراب الليل،،..
قبل أيام من سطوة الكارثة كانت الوجوه الأليفة تتطلع صوب مراكب الشمس. وكان الخريف يظفر شحوبه على سهل. وكانت العيون حزينة.. وكان هنالك رجل أعور، منسي، شبه معتوه، يمسك صفيحة صدئة يطرق عليها بحجارة صلدة فتراه العيون قلقا، يصهل: أعور المدينة يهيم على وجهه، في طرقات المدينة الموحشة، يصهل بأعلى صوتهن مقلدا الخيول البرية، يصهل، إسماعيل يصهل، محذرا الناس من كارثة مقبلة؟ لا أحد يدرك قدوم النهر السريع الذي يقترب،، كان يقترب/ يقترب/ ..،، إيقاعه: جماعي… دمدمته: صلدة،،، إيقاع جحافل لا مرئية، جحافل غازية،،، إسماعيل يحذر من وقوع كارثة: أية كارثة، إيقاع، إيقا، إيقــــ،، إيقاع جنازير رعناء. إيقاع حشرجات منتظمة، كاكية، في ساعات الليل يزداد صراخ الأعور: وهو يتطلع إلى النجوم، وحدها تذرف بريقها الفضي على أسطح البيوت، و، و، تتلاشى في طيات المخادع الوثيرة، حيث الأزواج الشبقون يتلوون عرايا،،، في ذلك الوقت الحزين، من ليل الدنيا، يصنعون أجنحة هلامية، ولا أحد، يدركن لا أحد يدرك أهمية التحذير الذي يعلنه الأعور، وبأعلى صوته، لا أحد، لا أحد…
* * *
الخطى، آ، ..الـــــــ، خ، ط، ط، ى/ ورمال فضاء.. وجهشات عنيفة: لقد ضاع طريقين يا إلهي لقد تعثرت خطاي..،، هي، آ، هي من أولئك النساء اللاتي يخطفن أحيانا وراء الدروب المنسية، التي تزخر بها مدن الحياة.. أتراها تنهض وتخلع الثوب الرصاصي؛ فيما الغبار يلتصق بكفيها..،، أتهرب؟ ثم تتعرى بجنون الحيوان الأعجم.. بين ممر وآخر، ثمة أبنية مهدومة. وأرصفة المداخل تعج بالقناني والنفايات، والعلب المبعوجة، والحجارة المتشظية.. ترقبه، ذلك العري المخيف. حين تطلق صرخات عنيفة الصدى يتردد، ددد، ددد… صراخ يتعرج، خال من التدرجات… وقفت تحدق في معراج السماء. ترتعد أوصالها. ترتعد، وعباراتها تتساقط؛ فيما الريح تعوي، صخابة في كهوف القلب/ الظلمات/ المنحنيات/ الأعماق المتخثرة.. وبلا ضوء ولا أشجار، ولا ستائر تقي من مطر السقوط والانكسار.. وتقيء زفراتها الوحشية: هي تتجه إليه تمسك يده الرفيعة.. يرقبها بغريزة العماء (كأنه الخلد. آ. كأنه جرذ الرمال؛ كأنه ابن السحالي الجرباء.. وبتصلبه البائد عبر اللحظة العائمة، تحتدم في أعضائه، في جوانحه، شتى التشنجات.. إذ ترتعد تسمّر قدميها المتصالبتين. تنهره، وتهزه بعنف.).
ريح تعوي/ صخب في الحجرات الخالية. المسافات تنضغط تتحرك إليه ثانية. تمسّد على كتفه وتتركه. يرمقها بعينيه المنفتحتين. تحمله على صدرها.. كل ذلك يجري ساعة غروب بطيئة (ينتفض الصدر الهزيل.. تجتاز طريقا متعرجا. تتحسس أنفاسه الزنخة. تدخل ممرا خاليا. على الإسفلت المغبر آثار تعرجات رصاصية: الممر الخالي يفضي إلى ساحة المدينة القديمة. ثمة الألفة الغامضة تشع من قلب المكان. تمسح بعينيها الحزينتين صفا طويلا من الشجار المتيبسة التي تحاذي خطا من البيوت المهجورة.. الريح تعوي، تنساب بوحشية، تقتحم الثغرات. الكوى. الأبواب المخلّعة.).
* * *
الأرض، صارت.. صارت،، سلما… ،،،صارت سلما ترابيا ينحدر بها: إلى قاع الأسرار.. إلى الظلموت الأبدي…،، فيما الخطى. الخطى، تتراجع، حيث الأرض صارت سلما ترابيا خاليا من الآثار، خاليا، من الروائح الميتة.. روائح، صارت، الأرض، روائح بلا طعم.. للأرض. الأرض: روائحها غامضة وقديمة.. ثمة إحساس غامض؛ ذلك الإحساس الذي صيّرها تدخل بابا وفي صمت الظلمة المزرقة الباردة وقفت وسط حوش خال، تغمره حجارة مفتتة، وتحيطه سقوف هائلة، مبتورة. في الداخل أمسكت رأس الطفل وقبّلتْ وجهه بقسوة (ارتعاش. أو اهتزاز.. وببطء. بطء.. انمـــــ.. ح.ا.ء. ،بط، بطء.. إذ يشرع هو؛ هو، يموء/ اللعنة/ يموء، يموء، يموء من جديد.. يموء برتابة صرصارية،، وهو يتأرجح من كف لكف، ثم جلس فوق الأرض المبلطة حيث الأتربة الكثيفة تفوح قربها.. أتربة متراكمة على طابوق الجدران.. كانت أرضعته ثديا الأيمن فغاص وجهه الصغير في صدرها العاري (بشراهة ذئب صغير، نظراته الوحشية المظلمة، في الكتلة الجلدية تزيغ.. تتطلع، هي تتطلع إلى شفتيه السوداوين، لم تكن قطرات الحليب؛ أو اللعاب تسيح على فمه اليابس؛ فهي تكاد تغرز مخالبها في شعره الأشعث ثم تسحبها بقوة، ولم تكن تشعر بأيما رغبة، أو ألم..،،.. ها هي تنظر إلى ثديها الأيمن. رأت الحلمة مفقودة، وعلى الصدر بقعة دم. لم تكن تحس، لأول وهلة، بها.. رمقته بذهول غريب وارتبكت، وأسرعت، تضع كفها اليسرى على حلمة الثدي الأخرى التي تشبه حبة زبيب.). يعلك شيئا، تراه يمضغ. رأته يعلك بهوس. كفها تتركها وتخرج إلى عرض الطريق/ الريح تنكسر. تلفحها زخات مطر باردة/ التراب يفح وبشفاه متشققة (آ، هنالك، المقابر القديمة. أمامك حروب الأرض كلها. فــــ.. إلى الأمام: ولكن لن تبصري المدى البعيد.. أيتها الخرقاء الريح تمحو خطاك وتغيب..).
ترقّبَ فزع المدينة العام،، يوم جاءوا ليلا؛ هجر الناس البيوت،، يمموا كل الوجوه صوب أنفاق المدينة/ المعاول في الأيادي،، هجر الناس البيوت،، يدركون الوقت/ كان الوقت سيفا قاطعا، مسموما (سيف الوقت القاطع بقبضة الغازي الليلية بأنامل كلها نار/ حديد ورصاص.) يحفرون. يعرفون. يظمأون. يهلكون: ثم يمضي الوقت/ أتراهم يحفرون الأرض التي مدت جذورا للجماجم/ إنها الأرض مدتها إلى عمق سحيق/ والوجوم/ والخراب الزاحف الآن عليهم؛ قد يكون محض وهم، وقد يكون (…،،… ،،،…،،،) طائرات ترجم الأرض. قذائف/ جماجم خنازير بشرية، كلسية، حشروها بالقاطرات: مثل غيوم سوداء/ يحاصرون المدينة) بنادق المدافعين عن الأهالي العزّل تطلق نيرانها على الأعداء، من ثغرات الأنفاق والمزاغل/ الصفوف الأولى ارتدتْ على أعقابها/ الأحياء الخلفية انهدمت: السقوف. الجدران. الحجرات/ وبدأ الانكسار المريع/ واحتشدت نيوب الغزاة/ ظلمات، غبار، برد الليل/ عواء الوحوش القاهرة/ الخراب الرمادي/ الليل، تعرجات أنفاق، ماتت، حفروها بشرايينهم النحاسية النازفة على حجارة الكارثة الكبرى..،، عواءات عووووووووو/ عووووووووو/ عواءات حيوانية لبشر أنكروا حقيقتهم المخزية،،، صلة الإنسان.. هه.. هه. أثمن صلة. هه. هه طبيعة الأرض. صلة طبيعية، أرض، صلة، هه، هه، أثمن صلة، لعين وقحة، ذئبية مرائية تفضح عورات الإنسان الباقي في المدينة.
الغزاة يطوفون الآفاق الرحبة، بقطارات رمادية جهمة مدرعة مدوا خطوطها إلى أعناق المداخل..،، كتل ديناصورية كالحة. سرفات سرطانية تثلم الأسيجة القديمة..،، وترقب: حيث لا إطلاقة.. مجرد سكون أرجواني فوق الأسيجة: فأين الناس؟! أين؟ حتى الأيادي لآخرها تنكمش على الأخامص والأزندة. تنطفئ رأت كل ذلك واختفت؛ لقد تلاشت عبر الهواء، وسقطت في بئر ناشفة، هناك تبعد عن المقابر.. حين تنحني الأرواح على الوحل، تنخسف، ويمر الليل سريعا.. فلا يدركون. لا أحد يدرك عودة الباقين، من الأهل والجيران؛ لكنها الصاعقة آن صواعق فولاذية البروق/ كأنها خيوط الآلهة المشتعلة/ المدينة تطلق صرخات الفناء؛ صرخات كبرى لا ينساها حتى التراب..،،..،، ومن تحت الأنفاق؛ ثمة شراذم، هربوا وهرب معهم الجبناء.. لا أحد يدري إلى أين؟ الظلام الكثيف يلفّ صورة الكون: البيوت صات كهوفا/ المدينة قبر مفتوح للزمن والأبدية (ثانية عادت، العين الذئبية المرائية، ترمق من بئرها أشباح الرعشات، خيوط الأيادي الذائبة/ رفسات الأرجل. رعشات العيون. رعشات غامضة، تحت الأنقاض، ولكن لا أحد.. لا صوت يسمع، لا، لا، أي آ، في عتمة الخراب الشامل.. قد ترتفع، أنفاسها المتقلصة. إلى عرش الإله، الإله…
لا أحد في الدرب. الشمس تتعرى فوق السطوح،، إسماعيل الأعور يمرّ متألقا بعينه التي تفضح جمود الأشياء. راقبته يوما، وراقبها.. في فتوتها (هي) وفي عنفوانه (هو).. (هي) معافاة..و(هو) معتوه.. تراه قادما.. كان ذلك من زمن ليس بالبعيد.. تراه وتحاول الدخول. ينحسر ثوبها الذي يلتصق بمسمار الحائط.. يرقب بياض اللحم وتغطي بكفيها الشيء.. يدنو؛ ثم يجفل. تضع كفيها على أذنيها ويضع كفا واحدة على عينه السليمة..،، تختفي أثناء تمزق الثوب، ويختفي هو،،، في مقبرة قريبة.. يبصق على عشبة حائلة كانت تطوق قبرا. يبكي أشياءه الغامضة ويعود إلى المدينة، يطرق الصفيحة بعنف: يا نيام.. الخطر قادم.. الخطر.. يا نيام.. الغزاة قادمون.. الخطر.. الخطر.. الخطر.. ولا، لا، أحد يصيخ إلى صرخاته المتقطعة، الميتة في نفوسهم الذابلة.. لا أحد يصيخ لمعتوه أعور يخبئ في سره نبوءة القدر…،…،..
وتركض هي بجنون. خلفها يعلو الصراخ. ذلك الطفل يصرخ،.. وهي تحدق في السماء الثابتة.. حين توقفت، وبدورة آلية أمسكت رأسه بقسوة مرة من المرات، عادت إليه باكية.. إنها تذوي ألما، حزنا، أزرق، هي ترقب وجهه الذابل حنينا، وترفع رأسه عاليا.. تمالكت أعصابها بقوة.. لتريه الفضاء الأبيض، حيث الريح الرمادية تتدحرج مدومة على جادة السماء الملتهبة،،، ثم طفقت تهذي: ضاع طريقي.. لقد ضاع طريقي، أيتها الريح الخرقاء..،، وظل يرمق الظلام البارد الدامس، حين شرعت تلعق فسحة الهواء العالية.. ولسانها المستدق يهف للذبذبات القصيرة.. لسانها الخشبي المتقوس يلمض ويغيب في ثغرة الفم المشوه.. جبهة الطفل في كفها، والهواء يراقص شعره المتسخ.. وعادت لتركض حين تطلّعت إلى الوراء.. رأت صف البيوت الطويل غارقا في عتمة الخوف؛ مثل قطار مهجور كانت تتقاطر الأسيجة والأبواب والسطوح.. وقفت فوق عتبة مثلمة وأمامها أفق البرّ الفسيح.. خطت وراء السياج الطويل في عطفة قصيرة أطلّت تواجهها بيوت أخرى مغبرة ذات شرفات مفخورة تستند إلى كتل حجرية تتجذر في أعماق إسمنتية تنغرز إلى مسافات، لا تني تنحرف عن حافة السياج. وراء الآفاق البرية الخالية تحشّدت كتائب الغزاة، وقد هشمتها قذائف الفرق/ الميكانيكية/ ثمة الريح الصهول، تفح التربة المسمومة في حجرات البيوت المهجورة ـــ تنخسف كتل حيطانها تحت أنقاض الخراب العام..، ولم تكن تصدق عينيها بأن حلمة ثديها صارت لقمة سائغة في فم الطفل المشوه، شرعت تتحسس صدرها الجريح: دماء ملتهبة تغطي قماشة الثوب الرصاصي الخشن.. الألم ينكمش؛ فجأة، ويوخز جرحها اللهاث المحموم، والحركات السريعة للمشي المتواصل..، فتلوذ بآخر الحجرات. رأت وجهه منكسا يرمق عينيها المظلمتين.. هبطت فوقها ظلمة ترابية موحشة… استكانت إلى الأرض وأعطته إصبعا يمتصها بنهم حيواني؛ كذلك غطس رأسه المكور في صدرها الجريح حين اندفع اللحم الذابل مضغوطا وهي تتحسس أنفاسه المتخثرة.. وراحت تشم روائح معدته الفاسدة؛ وظل هو يدفع بقوة، رأسه المكور في الحفرة النازفة؛ حتى دبّ دبيب القضم، و، وانبعث في جسمها نعاس دهري،،،
في ساعات المحنة اختفى آخر أثر لإسماعيل الأعور؛ لم يكن أحد يمنح نفسه انتباها ما،،، عداها هي التي أدركت بحدس غامض، مدى حضور ذلك المعتوه السري القادم من جهة غامضة.. كيف استفاق بحر دمها على معول كلماته الهدامة..،، لا، لا أحد، عداها هي،… عداها، يحس الآلهة السماوية، تسلط صواعقها، في ساعات، لا يمكن البوح بها لأحد وإن أمكن ذلك.. فلا أحد يستجيب، لفتاة شابة، أهملتها الأيام وتعيش في ظل أسرة معدمة..،، هو وحده، بعينه المخيفة؛ كان يعري ثيابها، يخلع شهوتها؛ فكأنها تواجه شيطانا بحريا ينشر ثيابها على الشاطئ الأجرد، ثم يتركها على صخرة العار الأزلي.. تبكي فردوس عذريتها المفقود…
رماد أمي وأبي.. عظام أخوتي الصغار.. جماجم الجيران.. تحت سقف البيت الذي تلاشى، وصار أنقاضا.. وأنا برعدتي لمحت البئر، التي عدت منها، البئر التي اختفيت فيها، أطياف عذاباتهم.. فوراء براري المدينة؛ هناك، وحدي تنبأت بقدوم الكارثة التي أعلن عنها المعتوه إسماعيل الأعور، لقد عدت لكي أواجه رمال الأرض المتفسخة، فرأيت الدروع والقطارات وجحافل السيارات، تحيط المدينة وكانت كلها معطوبة.. إنها ساعة دمار شاملة، عاث فيها الغزاة فسادا أسود؛ لكي يختفوا عن ذاكرة الزمن…
فتحت عينيها وظلت تحدث في الظلام الكثيف؛ ثم أصاخت لصوت الريح المهاجرة صوب المجهول: إلى أين تهاجر؛ تلك الريح التي أرّقت خيالي وعذّبت روحي وحياتي؟ حينئذ يهتف بها التراب: قريبا من خطاك، هناك نحو المقابر المحيطة بالأحياء القديمة.. الآن انهضي من خدرك الآسن، وتعالي معي نركض سويا، صوب مملكة الموت.. الموت.. المو.. لكنك لن تبصري مداك البعيد، لأن الريح تمحو خطاك وتغيب،،، حركتْ ساقيها وتشبثت بالجدار، فلم تستطع النهوض، ثم وضعت كفها اليابسة على صدرها الجريح فتحسست نتوءا بارزا بعدها استقرت كفها على قفص العظام وأصاخت ثانية إلى ذلك الصوت القريب؛ وهو يدنو، واهنا ميتا: انهضي من خدرك اللذيذ.. وتعالي معي، نرحل إلى مملكة الموت. الموت. المو.. و.. وقفزت مذعورة، حين سقط الطفل مغشيا عليه، لمست عروقه المنتفخة.
هزت رأسه بقوة، ثم انحنت عليه (أجفلت وانكمشت عيناها الترابيتان، وأبركت لتتذكر شيئا قديما لقد انتفض جوعها الخرافي من رقاده الطويل؛ ذلك الجوع النابت تحت أعماق الروح/ جوعها المتدثر بلحف العذاب.. رفعته بكفيها المتشنجتين ثم أعادته إلى الأرض، بعد تأكدها أنه فارق الحياة.. خرجت متوجسة إلى آخر الطريق؛ ثم عادت إليه، تتفحصه بعينيها الترابيتين. واندفع قلبها المتوثب، يدق بعنف.. غرزت مخالبها في عنقه/ عضت حنجرته الرخوة، فسقط رأسه الصغير بعضة ذئبية عنيفة.. وفيما تعلك لحم عينيه وشفتيه..،، وتمضغ..، وتزأر.. تتطلع إلى الأحشاء الملمومة، فكانت آخر لقمة ضخمة، ابتلعتها بشراسة خسيسة. راودا هاجس مقيت حين تركت باقي الأشلاء وشرعت تركض في الممرات المهجورة.. وقفت فوق سطح مرتفع: أحست بردا وشرعت تركض من جديد.. أوصالها ترتعش: أين طريقي أيتها الأعالي الخرقاء..،، هبطت سلما مجاورا لبيت مخسوف وفوق العتبة كانت تتطلع إلى دماء الأحياء الغارقة بجلال السكون.. ثمة حشود الريح/ الأتربة المتخثرة.. اجتازت العتبة ووطئت أقدامها المتحجرة سطح التراب الذي انتفض بوجهها المذعور: وحدك في عتمة السكون تمكثين.. فلن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمحو خطاك وتغيب…
* * *
خمد إحساسها المأزوم.. سارت ببطء.. أغمضت جفنيها.. وهناك خلف الفسحة البرية البعيدة، تمتد القبور العتيقة.. فجأة توقفت: عادت أدراجها حين ساد الظلام وخفّت حدة الريح. لفّها دثار فاحم واصطبغ وجهها ورأسها وعيناها بالعتمة الحالكة.. ثم جلست على الأرض، وأصابها مسّ فابتسمت للتراب.. وحين نهضت صوبت اتجاهها إلى هيكل الطفل الميت. نظرت إليه بانكسار. سحبت نفسا عميقا، باردا، أنعش مزاجها الموتور..،.. حيث الصوت القديم يفح، وعاد يحوط أذنيها بأسوار الرهبة والخوف؛ وحينئذ غمغمت ببلادة: إنه الصوت القديم نفسه.. يعلو الصوت بشكل صارخ: احمليه بكفيك المحرمتين إلى قبور الأحياء القديمة. ولكنك لن تبصري مداك البعيد؛ لأن الريح تمحو خطاك وتغيب…،.
( حملته بارتباك، ذعرت، فأطلقت ساقيها للريح. حين توقفت/ مشت/ بعدها ببطء/ مشت/ تبحث عن خطاها الضائعة، في ظلمات الطريق/ لم، لم، لم تجد لها أثرا، خطاها المتلاشية/ وفوق مشارف المنحدرات التي تفضي إلى طريق المقبرة، ارتخت أوصالها ارتخت/ وأفرجت ساقيها، فتحتهما للهواء.. ثم عاد الصوت القديم يشرخ أعماقها، مثل نهر حجري يخرق غابة مظلمة: إليه، إلى الموت.. إليه.. الموت.. الموت. المو. المو. مووو/ طق. مو. طق. مو: إسماعيل.. إسماعيل/ ألا تسمعني/ إسماعيل) وأفاق على طرقات عنيفة كانت تهز الباب. دخلت مخطوفة العينين: عزيزي إسماعيل إنهم قادمون. الحرائق تلنهم الأسواق والبيوت هناك نار. نار. وفي الدروب زمر غريبة. أحسهم قادمين. المدينة تخلى (وعبر فضاء الليل كان يعبّأ طيات الورق في جيوبه وهما يتجهان صوب البحر. كانت تجفف له عينيه وتمسد له شعره ثم تهمس له: أخشى أن تكون قد بشّرت بدمار مدينة أخرى. أرجو أن لا تجعل من نفسك بطلا، في حكايتك القادمة.. وفيما كانت تغفو على كتفه، كان الزورق يعلو مع الموج، صوب الجزر البعيدة).
قصي الخفاجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
* منقول عن:
قصي الخفاجي : سطوة الكارثة (ملف/20)