المدينة .. بداية الكون وانطفاء الجنون .. أو هي امرأة مسكونة بالرغبات، أو مفجوعة بالذكريات أو ربما سرب فراشات ملونة محلقة فوق حقل من شقائق تتبدَّى، عبرَ الطَّريقِ القادمِ منَ البحرِ، مُعَلِّقةً حليَّها وأثوابَها على أعمدةِ إنارتِها الباهتةِ، سبعةُ أعمدةٍ بسبعِ قطعِ حليٍّ وثيابٍ .. معلنةً للقادمينَ إليالنعمان.. هي المدينة ندخلها: دمشق تتبدى عبر الطريق القادم من كل الاتجاهات..
هذهِ أنا، عاريةٌ منْ أثوابِ حشمتِي.. أنتظرُ وصولَكُمْ.
مفتوحةَ الذِّراعَيْنِ، تفوحُ منْ إبطَيْها رائحةُ الأعشابِ النَّديَّةِ، عاريةَ الصَّدرِ، ناعمةَ ملمسِ الجسدِ تحضنُ كلَّ القادمينَ إليها. وفي مكانِ العانةِ منها، حيثُ يتجذَّرُ شامخاً نصبُ أوَّلِ اتِّصالٍ لها بالحضارةِ الحديثةِ، تستقبلُهم، تمتصُّ رحيقَ أيَّامهِمْ، ثمَّ ترمي بهِمْ في فنادقِها الرَّخيصةِ، فينتظرُونَ قَدَرَهُمْ هناكَ سبعةَ أيَّامٍ، أوْ سبعةَ شهورٍ، أو سبعةَ دُهورٍ.!.
بعضُهمْ يقرفُ منها بعدَ الملامسةِ الأولَى، فيتركُها، ويعودُ. وبعضُهُمُ الآخَرُ يعشقُها، ويصبِرُ، ويتحوَّلُ إلى عبدٍ لها، أوْ سيِّدٍ أوْ خادمٍ لهذا أوْ ذاكَ..
وأنا واحدٌ منهُمْ.. أولئكَ العبيدُ.!.
أنـــــا،
الباحثُ عنْ أسرارِ الحكماءِ السَّبعةِ .. أتوجَّهُ الآنَ إليها.. محشوراً في مقعدٍ خشبيٍّ، في عربةٍ منَ الدَّرَجَةِ الثَّالثةِ، داخلَ قطارٍ يئِنُّ على السِّكةِ.. ويدخلُ إلى المدينةِ شيخاً مهترئاً، يبصقُ سعالَهُ دُخاناً أسودَ. فيُغطِّي مشهدَ المدينةِ البَهِيَّ..
دمشقُ عامَ 1966
ها أنذا أصلُ إلى المدينةِ بعدَ طولِ انتظارٍ وشوقٍ..
تستقبلُني المدينةُ للمرَّةِ الأولَى، وقدْ طرحَتْ عنها حليَّها وثيابَها قطعةً قطعةً. ثمَّ حرَّرَتْ ثديَيْها، وفتحَتْ ذراعَيْها، وكوَّرَتْ حضنَها المقدَّسَ، لتستقبلَ ولادَتِي الثَّانيةَ. أنا المولودُ أصلاً من رَحِمِ بحرٍ على كَتِفِ صحراءَ تنتهي بعُشْبٍ يابسٍ.
يستقبلُني بيتُ صديقِي، قبوٌ رَطْبٌ بنافذتَيْنِ عاليتَيْنِ.
في البيتِ ثلاثةُ أصدقاءَ مِمَّنْ أدمنُوا المدينةَ، أدمنُوا دمشقَ وباراتِها وأرصفتَها.
أدمنُوا عاهراتِها، وخمرَها الرَّخيصَ.. ونساءَها الجميلاتِ.
شدَّني صديقي مِنْ يدِي، فتحَ باباً، وقال: أدخُلْ.
قلتُ: مَنْ في الدَّاخلِ.؟.
قالَ: أدخُلْ، وابدأْ حياةَ المدينةِ.. أنتَ الآنَ في دمشقَ سيِّدةِ العاهراتِ، وربَّةِ الجنسِ.
دفعَني داخلَ الغرفةِ، دونَ أَنْ أستطيعَ الردَّ، وكنْتُ أصرخُ:
بلْ هيَ ربَّةُ العشقِ، وسيِّدةُ التَّاريخِ.
صرْتُ داخلَ الغرفةِ، كانَتْ تجلسُ على فراشٍ مهترئٍ امرأةٌ عاريةُ الفخذَيْنِ، بملابسَ داخليَّةٍ رثَّةٍ، ابتسمَتْ لي ابتسامةً مصطنعةً، وفي لكنتِها سخريةٌ ملغومةٌ، قالَتْ:
هوَ أنتَ.؟.
قلْتُ: ماذا تعنِيْنَ.؟.
قالَتْ: لمْ يدخلْ واحدٌ منهُمْ عليَّ اليومَ إلاَّ وتكلَّمَ عنكَ، أيُّها الرَّجلُ البتولُ..
حاولْتُ الخروجَ، وقدِ استبَدَّ بيَ الغضبُ.
كانَ البابُ مقفَلاً.
قالَتْ: تعالَ إلى حضنِي، يا رجُلِي.. لا أشكُّ في أَنَّ ما ستقذِفُه فِيَّ سيكونُ ممتِعاً؛ وأردفَتْ:
هيَ المرَّةُ الأولَى كما فهمْتُ؛
قلْتُ: لسْتُ رَجُلَكِ.. ولا أريدُ أَنْ أقذِفَ فيكِ، ولا حتَّى أَنْ ألمسَكِ.
صرْتُ أُخبطُ البابَ، أريدُ الخروجَ، وقدْ شعرْتُ بالحاجةِ إلى الإقياءِ. ويبدُو أَنَّ أصدقائِيَ خافُوا مِنْ صوتِ الخَبْطِ على البابِ، ففتَحَهُ صاحبُ البيتِ.
ماذا دهاكَ، اختصرْنا مصروفَنا ثلاثةَ أيَّامٍ، لِنُحْضِرَ لكَ هذه المرأةَ. نُريدُ الاحتفالَ بكَ.
خرجْتُ ملهوفاً، أداري حالةَ الإِقياءِ .. نظرْتُ إليهِمْ صارخاً:
إذا كانَتْ هذهِ دمشقَ، فلا أريدُها.
قالَ صديقي: وماذا تريدُ إِذَنْ.؟.
قلْتُ أريدُ دمشقَ. فقطْ دمشقَ، ولا شيءَ غيرَ عطرِها، وأريجِها، نكهةَ ياسمينِها، وبيوتَها القديمةَ، كلَّ قبورِ العظماءِ الَّذينَ دُفِنُوا فيها، وحينَ أريدُ امرأةً، فسأريدُها حبيبةً.
مبهوتِينَ نظرُوا إليَّ، وصديقي يقولُ:
ولَكِنْ هذهِ هِيَ دمشقُ، خَمْرٌ وعاهِراتٌ و....
قلَتُ، وأنا أفتحُ البابَ وأخرجُ:
لكُمْ دمشقُكُمْ، ولِي دمشقِي .
* نقلا عن:
https://aleftoday.info/article.php?id=14551
هذهِ أنا، عاريةٌ منْ أثوابِ حشمتِي.. أنتظرُ وصولَكُمْ.
مفتوحةَ الذِّراعَيْنِ، تفوحُ منْ إبطَيْها رائحةُ الأعشابِ النَّديَّةِ، عاريةَ الصَّدرِ، ناعمةَ ملمسِ الجسدِ تحضنُ كلَّ القادمينَ إليها. وفي مكانِ العانةِ منها، حيثُ يتجذَّرُ شامخاً نصبُ أوَّلِ اتِّصالٍ لها بالحضارةِ الحديثةِ، تستقبلُهم، تمتصُّ رحيقَ أيَّامهِمْ، ثمَّ ترمي بهِمْ في فنادقِها الرَّخيصةِ، فينتظرُونَ قَدَرَهُمْ هناكَ سبعةَ أيَّامٍ، أوْ سبعةَ شهورٍ، أو سبعةَ دُهورٍ.!.
بعضُهمْ يقرفُ منها بعدَ الملامسةِ الأولَى، فيتركُها، ويعودُ. وبعضُهُمُ الآخَرُ يعشقُها، ويصبِرُ، ويتحوَّلُ إلى عبدٍ لها، أوْ سيِّدٍ أوْ خادمٍ لهذا أوْ ذاكَ..
وأنا واحدٌ منهُمْ.. أولئكَ العبيدُ.!.
أنـــــا،
الباحثُ عنْ أسرارِ الحكماءِ السَّبعةِ .. أتوجَّهُ الآنَ إليها.. محشوراً في مقعدٍ خشبيٍّ، في عربةٍ منَ الدَّرَجَةِ الثَّالثةِ، داخلَ قطارٍ يئِنُّ على السِّكةِ.. ويدخلُ إلى المدينةِ شيخاً مهترئاً، يبصقُ سعالَهُ دُخاناً أسودَ. فيُغطِّي مشهدَ المدينةِ البَهِيَّ..
دمشقُ عامَ 1966
ها أنذا أصلُ إلى المدينةِ بعدَ طولِ انتظارٍ وشوقٍ..
تستقبلُني المدينةُ للمرَّةِ الأولَى، وقدْ طرحَتْ عنها حليَّها وثيابَها قطعةً قطعةً. ثمَّ حرَّرَتْ ثديَيْها، وفتحَتْ ذراعَيْها، وكوَّرَتْ حضنَها المقدَّسَ، لتستقبلَ ولادَتِي الثَّانيةَ. أنا المولودُ أصلاً من رَحِمِ بحرٍ على كَتِفِ صحراءَ تنتهي بعُشْبٍ يابسٍ.
يستقبلُني بيتُ صديقِي، قبوٌ رَطْبٌ بنافذتَيْنِ عاليتَيْنِ.
في البيتِ ثلاثةُ أصدقاءَ مِمَّنْ أدمنُوا المدينةَ، أدمنُوا دمشقَ وباراتِها وأرصفتَها.
أدمنُوا عاهراتِها، وخمرَها الرَّخيصَ.. ونساءَها الجميلاتِ.
شدَّني صديقي مِنْ يدِي، فتحَ باباً، وقال: أدخُلْ.
قلتُ: مَنْ في الدَّاخلِ.؟.
قالَ: أدخُلْ، وابدأْ حياةَ المدينةِ.. أنتَ الآنَ في دمشقَ سيِّدةِ العاهراتِ، وربَّةِ الجنسِ.
دفعَني داخلَ الغرفةِ، دونَ أَنْ أستطيعَ الردَّ، وكنْتُ أصرخُ:
بلْ هيَ ربَّةُ العشقِ، وسيِّدةُ التَّاريخِ.
صرْتُ داخلَ الغرفةِ، كانَتْ تجلسُ على فراشٍ مهترئٍ امرأةٌ عاريةُ الفخذَيْنِ، بملابسَ داخليَّةٍ رثَّةٍ، ابتسمَتْ لي ابتسامةً مصطنعةً، وفي لكنتِها سخريةٌ ملغومةٌ، قالَتْ:
هوَ أنتَ.؟.
قلْتُ: ماذا تعنِيْنَ.؟.
قالَتْ: لمْ يدخلْ واحدٌ منهُمْ عليَّ اليومَ إلاَّ وتكلَّمَ عنكَ، أيُّها الرَّجلُ البتولُ..
حاولْتُ الخروجَ، وقدِ استبَدَّ بيَ الغضبُ.
كانَ البابُ مقفَلاً.
قالَتْ: تعالَ إلى حضنِي، يا رجُلِي.. لا أشكُّ في أَنَّ ما ستقذِفُه فِيَّ سيكونُ ممتِعاً؛ وأردفَتْ:
هيَ المرَّةُ الأولَى كما فهمْتُ؛
قلْتُ: لسْتُ رَجُلَكِ.. ولا أريدُ أَنْ أقذِفَ فيكِ، ولا حتَّى أَنْ ألمسَكِ.
صرْتُ أُخبطُ البابَ، أريدُ الخروجَ، وقدْ شعرْتُ بالحاجةِ إلى الإقياءِ. ويبدُو أَنَّ أصدقائِيَ خافُوا مِنْ صوتِ الخَبْطِ على البابِ، ففتَحَهُ صاحبُ البيتِ.
ماذا دهاكَ، اختصرْنا مصروفَنا ثلاثةَ أيَّامٍ، لِنُحْضِرَ لكَ هذه المرأةَ. نُريدُ الاحتفالَ بكَ.
خرجْتُ ملهوفاً، أداري حالةَ الإِقياءِ .. نظرْتُ إليهِمْ صارخاً:
إذا كانَتْ هذهِ دمشقَ، فلا أريدُها.
قالَ صديقي: وماذا تريدُ إِذَنْ.؟.
قلْتُ أريدُ دمشقَ. فقطْ دمشقَ، ولا شيءَ غيرَ عطرِها، وأريجِها، نكهةَ ياسمينِها، وبيوتَها القديمةَ، كلَّ قبورِ العظماءِ الَّذينَ دُفِنُوا فيها، وحينَ أريدُ امرأةً، فسأريدُها حبيبةً.
مبهوتِينَ نظرُوا إليَّ، وصديقي يقولُ:
ولَكِنْ هذهِ هِيَ دمشقُ، خَمْرٌ وعاهِراتٌ و....
قلَتُ، وأنا أفتحُ البابَ وأخرجُ:
لكُمْ دمشقُكُمْ، ولِي دمشقِي .
* نقلا عن:
https://aleftoday.info/article.php?id=14551