تعبر الأدعية الشعبية عن الشخصية والبيئة خير تعبير، أما تعبيرها عن الشخصية فيظهر فيما تفيض به تلك الأدعية من عواطف تكشف التكوين النفسي للمتفوه بها، من حب أو بغض أو تقدير أو احتقار أو تعجب أو استنكار تجاه فرد أو أكثر، وتجاه سلوك أو أكثر من سلوكيات الآخرين.
وأما تعبيرها عن البيئة فواضح من خلال ما يتميز به البناء اللغوي للدعاء من تشبيهات واستعارات يصنع الصورة الفنية الجميلة الدعائية ملتبسة بمكوناتها البيئية القريبة من صور ولغة.
وقد حظيت المأثورات الشعبية من المواويل والأغاني والسير، باهتمام الباحثين في الدراسات الشعبية والأدب الشعبي،وبقيت مجالات: النكتة والأحاجي والألغاز، بعيدة نسبياً عن اهتمام الباحثين لقلة النتاج، وصعوبة الرصد والجمع والتحقيق والتدوين وتعدد اللهجات. ولكنها – مع ذلك- حظيت ببعض المقالات وإن تكن محدودة.
وأما الأدعية الشعبية، فلم تحظ –فيما أعلم- بأدنى اهتمام، فلم يصادفني بحث علمي واحد، أو مقال يتناولها بالبحث والدرس. لذلك رأيت أن أمهد لفتح باب دراسة هذه الناحية المهملة من موروثنا الشفاهي الذي يتميز بتجدد الإبداع فيه عصراً بعد عصر، ومن بيئة إلى أخرى.
مفهوم الأدعية الشعبية:
يمكننا تعريف الأدعية الشعبية بأنها " تلك العبارات التي يتفوه بها الإنسان تعبيراً عما يجيش بصدره من مشاعر تجاه الآخرين حاملة رغباته إزاءهم، أياً ما كانت هذه الرغبات: خيراً أو شراً. وغالباً ما تكون الدعوات مرتبطة بمواقف يبدو فيه الداعي ممتناً للآخرين فيدعو لهم بالخير والسعادة والتوفيق، أو مواقف مغايرة يبدو فيها ناقماً عليهم نتيجة أذى ناله منهم، أو مبغضاً لهم لسوء سيرتهم أو لموقف معين بدر منهم."
وكبار السن من الآباء والأمهات والأجداد والجدات، هم الأكثر لجوءاً للدعاء، وربما يعود هذا إلى أسباب تدور جميعها حول التقدم في السن منها:
1- الاقتراب الفطري من النهاية يجعل الإنسان أكثر رغبة في استمرار تأثيره، وهو يرى في استجابة الدعاء بقاءً لأثره في غيره فيما لو عاجلته المنية.
2- تقدم السن مؤذن – بطبيعته- بالضعف الجسماني، وتضاؤل أو ( انعدام ) القدرة على النفع أو الإضرار بالقوة الجسمانية، وهنا يكون اللجوء إلى الدعاء بوصفه قوة معنوية.
3- يرتبط التقدم في السن عادة بالتوبة والندم على ما فات، ومن ثم يسرع الإنسان –ذكراً كان أم أنثى- بالعودة إلى رحاب الله، والانتظام في العبادات وعمل الطاعات لاستدراك ما فات، والمداومة على العبادة تتضمن الاستغفار والإكثار من الدعاء، مما ينسحب على سلوك الفرد المسنّ، ولغته خارج أوقات العبادة. فهو يتخذ الدعاء سلاحاً في كل موقف.
4- من اللوازم الصحية المصاحبة لكبر السن: ضيق الصدر، وارتفاع الضغط، وزيادة التوتر العصبي، وكثرة القلق، وكل ذلك يؤثر في سلوك المسنّين وفي لغتهم، فيكونون أعجل إلى الدعاء منهم إلى المحاجة والجدل والإقناع.
البناء اللغوي للدعاء:
مع أن الدعاء باب من أبواب الأسلوب الإنشائي، فإن بنيته اللغوية –في المأثور الشعبي الشفاهي- تتنوع بين الأسلوبين: الخبري والإنشائي، كما هو الحال في نصوص الفصحى الأصيلة، وهو في حالة وروده على الأسلوب الخبري يكون أقوى دلالياً لكونه يُشعر بالتحقق وحتمية الاستجابة، ويظهر من بنيته اللغوية ذات الشكل الخبري، ما يوحي باليقين من أن الداعي واثق بأن ما يدعو به واقع لا محالة. كما سنرى في الأمثلة التالية بعد قليل.
وحين يرد الدعاء طبقاً لصورته الأصلية (أعني بوصفه نوعاً من الأساليب الإنشائية التي لا تحتمل الصدق أو الكذب لذاتها) يتخذ عدة صور منها:
1- سؤال الله مباشرة مثل:
( يا رب تنجح) وهو دعاء مباشر مقرون بياء النداء.
2- حذف المنادى وتحويله إلى مبتدأ مثل:
(ربنا ينجح مقاصدك) وهو دعاء غير مباشر حذفت منه أداة النداء ، فتحول المنادى إلى مبتدأ.
3- حذف المنادى وأداة النداء معاً مثل:
(يوقف لك أولاد الحلال) وهو دعاء غير مباشر محذوف الأداة والمنادى معاً.
4- اقتران الدعاء بفعل يفيد الرجاء مثل:
- (يجعل لك في كل خطوة سلامة) في الخير.
- ( جاتك داهية) – جاءتك داهية- في الشر.
5- استخدام النفي، مثل:
( اللي وراك ما يحصَّلك، واللي قدامك ما يفوتك)
وهذا دعاء في الخير، المقصود منه أن يكون المدعو له بارزاً، ناجحاً، متفوقاً على غيره، محرزاً لكل ما يبتغي من الخيرات، محصلاً لكل ما يسعى إليه من نجاح.
ومن أمثلة استخدام النفي في الدعاء بالشر:
(تشرِّق ما تلقى، تغرِّب ما تلقى !!)
فالداعي هنا يسال الله تعالى أن يضيق رزق المدعو عليه، بحيث تفوته أي فرصة لتحقيق ما يسعى إليه ، فتضيق عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يجد خيراً في المشرق، ولا هو يجد خيراً في المغرب، وذكر هاتين الجهتين في تلك الدعوة ليس للحصر، ولكن للاكتفاء بهما عن ذكر بقية الاتجاهات الجغرافية، وفي المذكور اكتفاء به عن المحذوف، والأصل ( وتبحِّر ما تلقى، وتقبِّل ما تلقى) أي أن الداعي يتمنى للمدعو عليه الفقر المدقع أينما يولِّ وجهه.
5- استخدام العطف، وتكرار العطف:
ومن أمثلته في دعوات الخير:
(من اللبن تكرِّع، ومن الوِلْد تفرِّع)
أي أن الداعي يسأل الله تعالى للمدعو له الرزق الحسن ( المعبّر عنه باللبن) والذرية الكثيرة.
وفي بناء هذه الدعوة ما يسميه البلاغيون :"المساواة"، بمعنى تساوي جملتي التعبير في البناء اللغوي، فكل جزء من الدعوة جملة اسمية خبرها شبه جملة متقدم، واسمها جملة فعلية متأخر وجوباً لتقدم شبه الجملة عليه. و(الوِلْد) –بكسر الواو وتسكين اللام- جمع وَلَد (بفتحهما) في العامية المصرية بعامة، وفي عامية الصعيد بنحو خاص.
والفعل (تكرع) بتشديد الراء المكسورة، أصله (كرع) ثلاثي فصيح، ولكن دلالته في العامية الصعيدية تكاد تساوي دلالة الفعل (يعب) في الفصحى القديمة: أي يشرب بنهم وعجلة. والفعل ( تفرع) بتشديد الراء المكسورة مساوٍ لمثيله الفصيح بناءً ودلالة.
ومن أمثلة العطف في أدعية الشر:
( لا كسَّبك، ولا رشَّدك، ولا عَطَاك عَدَل)
لا كسَّبك: بتشديد السين، أي : لا رزقك الله كسباً من أي نوع. وهو مساوٍ لمثيله الفصيح.
لا رشَّدك: أي لا رزقك الله الرُّشْد حيثما ذهبت.
لا عَطَاك: أصله، لا أعطاك، والعامية المصرية تحذف همزة التعدية، فيسمون أبناءهم ( عبد العاطي) والمقصود (عبد المعطي).
عَدَل: العدل (بفتح الدال) أي الصواب والخير. والمعنى : لا أعطاك الله خيراً، ولا هداك إلى صواب.
ونلاحظ في هذه الدعوة تكرار العطف : لا ، ولا، ولا. . .
6- استخدام فعل مساعد:
يشيع في لغة الدعوات الشعبية استخدام فعل مساعد لا أثر له في بناء الدعوة مثل قولهم في الخير :(رُوح)= فعل أمر بمعنى اذهب محفوظاً. ومثل قولهم في الشر : (غُور)= فعل أمر بمعنى اذهب محفوفاً بالمهالك. ومثل قولهم في حالتي الخير والشر:(جاك كذا)
ومن أمثلته في دعوات الخير:
(روح يا شيخ . . ربنا يوتق حزامك، ويمشِّي كلامك)
يوتِّق= التاء فيه مبدلة من الثاء، والتوثيق بمعنى التأكيد، فالدعاء بتوثيق الحزام كناية عن الدعاء بالتمكن في الرزق أو الوظيفة.
ويمشِّي كلامك= أي لا يُرد لك رأي، ولا تُصادر لك رغبة، ولا يصيبك إحباط أو قهر أو كبت.
ومن أمثلته في الشر:
(غُور جاتك غارة)
أي: اذهب عني، دهتك الدواهي، ورماك الله بكل شر.
أبعاد الدلالة في بناء الدعوات الشعبية:
تفيض مفردات البناء اللغوي للأدعية الشعبية بدلالات تتخذ أبعاداً نفسية واجتماعية وثقافية ودينية من جهة المضمون، وتتخذ أبعاداً إفرادية وتركيبية من جهة الشكل، والسبب في الثراء الدلالي للدعوات الشعبية التغير الإبستمولوجي الذي يعكس الموروث الثقافي المجتمعي بما تتضمنه من تراكمات حضارية متنوعة الجذور، فضلاً عن التنوع المعرفي الذي يتكون منه المجتمع الذي يحتفظ كل فصيل منه بموروث هامشي من الوعي التاريخي بأصل الفصيل وتوجهاته، رغم ما يحاول الجميع –تحت وطأة التعقيد الذي ران على التركيب الطبقي للمجتمع- من إبداء صور الوحدة والتجانس الثقافي. فالموروث الثقافي، هو المحرك الحقيقي للسلوك، تختلف في الإسكندرية والمدن الساحلية – حديثة التكوين- عنه في كثير من مدن وقرى الصعيد الذي ما زال متمسكاً بأصوله القبلية والعشائرية، كما تختلف عنه في مدن صناعية سريعة التغير والتبدل، ديموجرافياً وإسكانياً، مثل القاهرة وطنطا والمنصورة وأسيوط، ويختلف عنه أيضاً في قرى ومدن الشمال في دلتا مصر.
ففي مقارنة دعوات شعبية شفاهية مدونة من تلك المدن التي ذكرناها، تظهر بوضوح الأبعاد الاجتماعية والثقافية، في مستوى المضمون، وتظهر الأبعاد الإفرادية والتركيبية في مستوى الباء التعبيري للجملة.
كما تتنوع الأبعاد الدلالية للدعوات الشعبية من حيث بلاغة التعبير، فتشمل أنماطاً مكررة من الكناية والاستعارة والتشبيه البليغ والحذف والقصر والمجاز المرسل، كما تتنوع فيها الفنون البديعية من جناس وطباق وتورية . . إلخ.
وفيما يلي نموذج للبعد الدلالي النفسي في الدعوات الشعبية:
يتمثل البعد الدلالي النفسي في الدعوة الشعبية في تلك النماذج التي تعكس مشاعر الحب والإيثار في الجانب الخيِّر من الدعوات مثل قول الأم حين تدعو لابنها أو ابنتها، أو لأحد أقاربها فتقول:
(الحلوة في طريقك، تكون من نصيبك)
فهي تتمنى للمدعو له أن يستأثر بكل خير يلقاه في طريقه، أو يسعى إليه. كما تظهر في قولهم:
( يحبب فيك البعيد والقريب . .
واللي ماشي في الطريق . . .
والنصراني أبو صليب)
كما يتمثل البعد الدلالي النفسي، في تلك النماذج التي يظهر فيها المدعو له في صورة مبهجة محاطة بالاحترام والتوقير والهيبة كما في دعواتهم:
(تهيب ما تتهاب)
أي: اسأل الله تعالى أن يجعلك مهيباً، وأن يرزقك الشجاعة بحيث لا تهاب شيئاً ولا أحداً. والفعل (تتهاب) في العامية يساوي (تهاب) في الفصحى .
ومثل قولهم:
(ربنا يغلِّض عِمِّتك، ويمشِّي كلمتك)
يغلِّض: أي يغلظ، وغِلَظ العمّة (العمامة) وكِبرها كناية عن المهابة وارتفاع المكانة الاجتماعية.
وأما في الشر، فيظهر البعد النفسي الدلالي، في رغبة الداعي في زوال المدعو عليه، وانقطاع أثره، ومحوه من الوجود محواً كاملاً، كما في قولهم حين يدعون على الطفل المشاغب:
(لا تِطْلَع ولا تُجْرُد) : فهو دعاء عليه بالموت.
وكما في قولهم:
( يا رب ما تترْب ولا تدرِّي)
وفيه تورية، فليس المقصود هنا التراب، ولا ذراية الحبوب، وهما ما يُفهم في العامية من ظاهر الفعلين ( تترب- تدرّي) ولكن المعنى البعيد مأخوذ من [ التريِّب= بمعنى الأصول والفروع من الآباء والأبناء] والدرية [ وهي الذرية بالفصحى].
والبعد الدلالي النفسي في دعوات الشر أكثر وضوحاً منه في دعوات الخير، ذلك أن دعوات الشر، تتصل مباشرة بالغرائز النفسية، وتعبر عما يمكن في اللاشعور من رغبات مكبوتة في التخلص من مصادر الإيذاء (الآخرين) جذرياً . فتأتي بعض الأدعية معبرة عن رغبة الداعي في إيقاع أشد البلاء بالمؤذين من المدعو عليهم. كقولهم:
(جاك العمى وطولة العمر)
لأن الأعمى كما يراه العامة يشقى كثيراً إذا لم يكن هناك من يساعده، وكلما طال عمره، زاد شقاؤه وتعاسته.
وكما في دعائهم:
(العيا الشديد اللي ما تلقى له طبيب)
وقد تظهر نوازع سادية في الداعي تتمثل في استخدامه لدعوات حادة تظهر فيها الرغبة الجارفة في تعذيب المدعو عليه وتمني أسوأ النهايات كما في قولهم :
( جاتك شِنْعة في ضُهر جِمْعة)
والمعنى: أن الداعي يتمنى للمدعو عليه أن يموت ميتة شنيعة وقت صلاة الجمعة حيث يكون الوقت طيباً والدعاء مستجاباً. وأكثر العامة يكسرون حرف الجيم من كلمة (جمعة) مما يجعلها تصنع جناساً صوتياً مع كلمة (شِنعة) مكسورة الشين.
وكما في قولهم:
(الحكيم يُنُخّ، والسقَّا يُبُخّ)
والحكيم (=الطبيب) المقصود هنا الطبيب الشرعي الذي يؤتى به في أعقاب الحوادث المؤسفة لتشريح الجثث، والدعاء بأن (ينخ) الطبيب ( والنخّ هو وضع الجسم المتهيئ للجلوس حين يكون أقرب إلى الأرض) فيه دلالة على سوء حالة الجثة وتشوهها بحيث يحتاج الطبيب إلى التحرك لأعلى وأسفل حتى يتمكن من عمله، وأما وجود السقّاء في الدعوة ففيه دلالة على أن يكون الحادث المؤسف في يوم قيظ شديد، ومن المعروف أن أهل الصعيد خاصة يستعينون على تلطيف الجو الحار برش المياه على الأراضي الترابية، فإذا تبخرت المياه لطّفت الجو، والفعل (يَبُخّ) معناه يرش الماء من قربته. وبين (ينخ) للحكيم، و(يبخ) للسقّاء جناس واضح.
أ. د. مصطفى رجب
وأما تعبيرها عن البيئة فواضح من خلال ما يتميز به البناء اللغوي للدعاء من تشبيهات واستعارات يصنع الصورة الفنية الجميلة الدعائية ملتبسة بمكوناتها البيئية القريبة من صور ولغة.
وقد حظيت المأثورات الشعبية من المواويل والأغاني والسير، باهتمام الباحثين في الدراسات الشعبية والأدب الشعبي،وبقيت مجالات: النكتة والأحاجي والألغاز، بعيدة نسبياً عن اهتمام الباحثين لقلة النتاج، وصعوبة الرصد والجمع والتحقيق والتدوين وتعدد اللهجات. ولكنها – مع ذلك- حظيت ببعض المقالات وإن تكن محدودة.
وأما الأدعية الشعبية، فلم تحظ –فيما أعلم- بأدنى اهتمام، فلم يصادفني بحث علمي واحد، أو مقال يتناولها بالبحث والدرس. لذلك رأيت أن أمهد لفتح باب دراسة هذه الناحية المهملة من موروثنا الشفاهي الذي يتميز بتجدد الإبداع فيه عصراً بعد عصر، ومن بيئة إلى أخرى.
مفهوم الأدعية الشعبية:
يمكننا تعريف الأدعية الشعبية بأنها " تلك العبارات التي يتفوه بها الإنسان تعبيراً عما يجيش بصدره من مشاعر تجاه الآخرين حاملة رغباته إزاءهم، أياً ما كانت هذه الرغبات: خيراً أو شراً. وغالباً ما تكون الدعوات مرتبطة بمواقف يبدو فيه الداعي ممتناً للآخرين فيدعو لهم بالخير والسعادة والتوفيق، أو مواقف مغايرة يبدو فيها ناقماً عليهم نتيجة أذى ناله منهم، أو مبغضاً لهم لسوء سيرتهم أو لموقف معين بدر منهم."
وكبار السن من الآباء والأمهات والأجداد والجدات، هم الأكثر لجوءاً للدعاء، وربما يعود هذا إلى أسباب تدور جميعها حول التقدم في السن منها:
1- الاقتراب الفطري من النهاية يجعل الإنسان أكثر رغبة في استمرار تأثيره، وهو يرى في استجابة الدعاء بقاءً لأثره في غيره فيما لو عاجلته المنية.
2- تقدم السن مؤذن – بطبيعته- بالضعف الجسماني، وتضاؤل أو ( انعدام ) القدرة على النفع أو الإضرار بالقوة الجسمانية، وهنا يكون اللجوء إلى الدعاء بوصفه قوة معنوية.
3- يرتبط التقدم في السن عادة بالتوبة والندم على ما فات، ومن ثم يسرع الإنسان –ذكراً كان أم أنثى- بالعودة إلى رحاب الله، والانتظام في العبادات وعمل الطاعات لاستدراك ما فات، والمداومة على العبادة تتضمن الاستغفار والإكثار من الدعاء، مما ينسحب على سلوك الفرد المسنّ، ولغته خارج أوقات العبادة. فهو يتخذ الدعاء سلاحاً في كل موقف.
4- من اللوازم الصحية المصاحبة لكبر السن: ضيق الصدر، وارتفاع الضغط، وزيادة التوتر العصبي، وكثرة القلق، وكل ذلك يؤثر في سلوك المسنّين وفي لغتهم، فيكونون أعجل إلى الدعاء منهم إلى المحاجة والجدل والإقناع.
البناء اللغوي للدعاء:
مع أن الدعاء باب من أبواب الأسلوب الإنشائي، فإن بنيته اللغوية –في المأثور الشعبي الشفاهي- تتنوع بين الأسلوبين: الخبري والإنشائي، كما هو الحال في نصوص الفصحى الأصيلة، وهو في حالة وروده على الأسلوب الخبري يكون أقوى دلالياً لكونه يُشعر بالتحقق وحتمية الاستجابة، ويظهر من بنيته اللغوية ذات الشكل الخبري، ما يوحي باليقين من أن الداعي واثق بأن ما يدعو به واقع لا محالة. كما سنرى في الأمثلة التالية بعد قليل.
وحين يرد الدعاء طبقاً لصورته الأصلية (أعني بوصفه نوعاً من الأساليب الإنشائية التي لا تحتمل الصدق أو الكذب لذاتها) يتخذ عدة صور منها:
1- سؤال الله مباشرة مثل:
( يا رب تنجح) وهو دعاء مباشر مقرون بياء النداء.
2- حذف المنادى وتحويله إلى مبتدأ مثل:
(ربنا ينجح مقاصدك) وهو دعاء غير مباشر حذفت منه أداة النداء ، فتحول المنادى إلى مبتدأ.
3- حذف المنادى وأداة النداء معاً مثل:
(يوقف لك أولاد الحلال) وهو دعاء غير مباشر محذوف الأداة والمنادى معاً.
4- اقتران الدعاء بفعل يفيد الرجاء مثل:
- (يجعل لك في كل خطوة سلامة) في الخير.
- ( جاتك داهية) – جاءتك داهية- في الشر.
5- استخدام النفي، مثل:
( اللي وراك ما يحصَّلك، واللي قدامك ما يفوتك)
وهذا دعاء في الخير، المقصود منه أن يكون المدعو له بارزاً، ناجحاً، متفوقاً على غيره، محرزاً لكل ما يبتغي من الخيرات، محصلاً لكل ما يسعى إليه من نجاح.
ومن أمثلة استخدام النفي في الدعاء بالشر:
(تشرِّق ما تلقى، تغرِّب ما تلقى !!)
فالداعي هنا يسال الله تعالى أن يضيق رزق المدعو عليه، بحيث تفوته أي فرصة لتحقيق ما يسعى إليه ، فتضيق عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يجد خيراً في المشرق، ولا هو يجد خيراً في المغرب، وذكر هاتين الجهتين في تلك الدعوة ليس للحصر، ولكن للاكتفاء بهما عن ذكر بقية الاتجاهات الجغرافية، وفي المذكور اكتفاء به عن المحذوف، والأصل ( وتبحِّر ما تلقى، وتقبِّل ما تلقى) أي أن الداعي يتمنى للمدعو عليه الفقر المدقع أينما يولِّ وجهه.
5- استخدام العطف، وتكرار العطف:
ومن أمثلته في دعوات الخير:
(من اللبن تكرِّع، ومن الوِلْد تفرِّع)
أي أن الداعي يسأل الله تعالى للمدعو له الرزق الحسن ( المعبّر عنه باللبن) والذرية الكثيرة.
وفي بناء هذه الدعوة ما يسميه البلاغيون :"المساواة"، بمعنى تساوي جملتي التعبير في البناء اللغوي، فكل جزء من الدعوة جملة اسمية خبرها شبه جملة متقدم، واسمها جملة فعلية متأخر وجوباً لتقدم شبه الجملة عليه. و(الوِلْد) –بكسر الواو وتسكين اللام- جمع وَلَد (بفتحهما) في العامية المصرية بعامة، وفي عامية الصعيد بنحو خاص.
والفعل (تكرع) بتشديد الراء المكسورة، أصله (كرع) ثلاثي فصيح، ولكن دلالته في العامية الصعيدية تكاد تساوي دلالة الفعل (يعب) في الفصحى القديمة: أي يشرب بنهم وعجلة. والفعل ( تفرع) بتشديد الراء المكسورة مساوٍ لمثيله الفصيح بناءً ودلالة.
ومن أمثلة العطف في أدعية الشر:
( لا كسَّبك، ولا رشَّدك، ولا عَطَاك عَدَل)
لا كسَّبك: بتشديد السين، أي : لا رزقك الله كسباً من أي نوع. وهو مساوٍ لمثيله الفصيح.
لا رشَّدك: أي لا رزقك الله الرُّشْد حيثما ذهبت.
لا عَطَاك: أصله، لا أعطاك، والعامية المصرية تحذف همزة التعدية، فيسمون أبناءهم ( عبد العاطي) والمقصود (عبد المعطي).
عَدَل: العدل (بفتح الدال) أي الصواب والخير. والمعنى : لا أعطاك الله خيراً، ولا هداك إلى صواب.
ونلاحظ في هذه الدعوة تكرار العطف : لا ، ولا، ولا. . .
6- استخدام فعل مساعد:
يشيع في لغة الدعوات الشعبية استخدام فعل مساعد لا أثر له في بناء الدعوة مثل قولهم في الخير :(رُوح)= فعل أمر بمعنى اذهب محفوظاً. ومثل قولهم في الشر : (غُور)= فعل أمر بمعنى اذهب محفوفاً بالمهالك. ومثل قولهم في حالتي الخير والشر:(جاك كذا)
ومن أمثلته في دعوات الخير:
(روح يا شيخ . . ربنا يوتق حزامك، ويمشِّي كلامك)
يوتِّق= التاء فيه مبدلة من الثاء، والتوثيق بمعنى التأكيد، فالدعاء بتوثيق الحزام كناية عن الدعاء بالتمكن في الرزق أو الوظيفة.
ويمشِّي كلامك= أي لا يُرد لك رأي، ولا تُصادر لك رغبة، ولا يصيبك إحباط أو قهر أو كبت.
ومن أمثلته في الشر:
(غُور جاتك غارة)
أي: اذهب عني، دهتك الدواهي، ورماك الله بكل شر.
أبعاد الدلالة في بناء الدعوات الشعبية:
تفيض مفردات البناء اللغوي للأدعية الشعبية بدلالات تتخذ أبعاداً نفسية واجتماعية وثقافية ودينية من جهة المضمون، وتتخذ أبعاداً إفرادية وتركيبية من جهة الشكل، والسبب في الثراء الدلالي للدعوات الشعبية التغير الإبستمولوجي الذي يعكس الموروث الثقافي المجتمعي بما تتضمنه من تراكمات حضارية متنوعة الجذور، فضلاً عن التنوع المعرفي الذي يتكون منه المجتمع الذي يحتفظ كل فصيل منه بموروث هامشي من الوعي التاريخي بأصل الفصيل وتوجهاته، رغم ما يحاول الجميع –تحت وطأة التعقيد الذي ران على التركيب الطبقي للمجتمع- من إبداء صور الوحدة والتجانس الثقافي. فالموروث الثقافي، هو المحرك الحقيقي للسلوك، تختلف في الإسكندرية والمدن الساحلية – حديثة التكوين- عنه في كثير من مدن وقرى الصعيد الذي ما زال متمسكاً بأصوله القبلية والعشائرية، كما تختلف عنه في مدن صناعية سريعة التغير والتبدل، ديموجرافياً وإسكانياً، مثل القاهرة وطنطا والمنصورة وأسيوط، ويختلف عنه أيضاً في قرى ومدن الشمال في دلتا مصر.
ففي مقارنة دعوات شعبية شفاهية مدونة من تلك المدن التي ذكرناها، تظهر بوضوح الأبعاد الاجتماعية والثقافية، في مستوى المضمون، وتظهر الأبعاد الإفرادية والتركيبية في مستوى الباء التعبيري للجملة.
كما تتنوع الأبعاد الدلالية للدعوات الشعبية من حيث بلاغة التعبير، فتشمل أنماطاً مكررة من الكناية والاستعارة والتشبيه البليغ والحذف والقصر والمجاز المرسل، كما تتنوع فيها الفنون البديعية من جناس وطباق وتورية . . إلخ.
وفيما يلي نموذج للبعد الدلالي النفسي في الدعوات الشعبية:
يتمثل البعد الدلالي النفسي في الدعوة الشعبية في تلك النماذج التي تعكس مشاعر الحب والإيثار في الجانب الخيِّر من الدعوات مثل قول الأم حين تدعو لابنها أو ابنتها، أو لأحد أقاربها فتقول:
(الحلوة في طريقك، تكون من نصيبك)
فهي تتمنى للمدعو له أن يستأثر بكل خير يلقاه في طريقه، أو يسعى إليه. كما تظهر في قولهم:
( يحبب فيك البعيد والقريب . .
واللي ماشي في الطريق . . .
والنصراني أبو صليب)
كما يتمثل البعد الدلالي النفسي، في تلك النماذج التي يظهر فيها المدعو له في صورة مبهجة محاطة بالاحترام والتوقير والهيبة كما في دعواتهم:
(تهيب ما تتهاب)
أي: اسأل الله تعالى أن يجعلك مهيباً، وأن يرزقك الشجاعة بحيث لا تهاب شيئاً ولا أحداً. والفعل (تتهاب) في العامية يساوي (تهاب) في الفصحى .
ومثل قولهم:
(ربنا يغلِّض عِمِّتك، ويمشِّي كلمتك)
يغلِّض: أي يغلظ، وغِلَظ العمّة (العمامة) وكِبرها كناية عن المهابة وارتفاع المكانة الاجتماعية.
وأما في الشر، فيظهر البعد النفسي الدلالي، في رغبة الداعي في زوال المدعو عليه، وانقطاع أثره، ومحوه من الوجود محواً كاملاً، كما في قولهم حين يدعون على الطفل المشاغب:
(لا تِطْلَع ولا تُجْرُد) : فهو دعاء عليه بالموت.
وكما في قولهم:
( يا رب ما تترْب ولا تدرِّي)
وفيه تورية، فليس المقصود هنا التراب، ولا ذراية الحبوب، وهما ما يُفهم في العامية من ظاهر الفعلين ( تترب- تدرّي) ولكن المعنى البعيد مأخوذ من [ التريِّب= بمعنى الأصول والفروع من الآباء والأبناء] والدرية [ وهي الذرية بالفصحى].
والبعد الدلالي النفسي في دعوات الشر أكثر وضوحاً منه في دعوات الخير، ذلك أن دعوات الشر، تتصل مباشرة بالغرائز النفسية، وتعبر عما يمكن في اللاشعور من رغبات مكبوتة في التخلص من مصادر الإيذاء (الآخرين) جذرياً . فتأتي بعض الأدعية معبرة عن رغبة الداعي في إيقاع أشد البلاء بالمؤذين من المدعو عليهم. كقولهم:
(جاك العمى وطولة العمر)
لأن الأعمى كما يراه العامة يشقى كثيراً إذا لم يكن هناك من يساعده، وكلما طال عمره، زاد شقاؤه وتعاسته.
وكما في دعائهم:
(العيا الشديد اللي ما تلقى له طبيب)
وقد تظهر نوازع سادية في الداعي تتمثل في استخدامه لدعوات حادة تظهر فيها الرغبة الجارفة في تعذيب المدعو عليه وتمني أسوأ النهايات كما في قولهم :
( جاتك شِنْعة في ضُهر جِمْعة)
والمعنى: أن الداعي يتمنى للمدعو عليه أن يموت ميتة شنيعة وقت صلاة الجمعة حيث يكون الوقت طيباً والدعاء مستجاباً. وأكثر العامة يكسرون حرف الجيم من كلمة (جمعة) مما يجعلها تصنع جناساً صوتياً مع كلمة (شِنعة) مكسورة الشين.
وكما في قولهم:
(الحكيم يُنُخّ، والسقَّا يُبُخّ)
والحكيم (=الطبيب) المقصود هنا الطبيب الشرعي الذي يؤتى به في أعقاب الحوادث المؤسفة لتشريح الجثث، والدعاء بأن (ينخ) الطبيب ( والنخّ هو وضع الجسم المتهيئ للجلوس حين يكون أقرب إلى الأرض) فيه دلالة على سوء حالة الجثة وتشوهها بحيث يحتاج الطبيب إلى التحرك لأعلى وأسفل حتى يتمكن من عمله، وأما وجود السقّاء في الدعوة ففيه دلالة على أن يكون الحادث المؤسف في يوم قيظ شديد، ومن المعروف أن أهل الصعيد خاصة يستعينون على تلطيف الجو الحار برش المياه على الأراضي الترابية، فإذا تبخرت المياه لطّفت الجو، والفعل (يَبُخّ) معناه يرش الماء من قربته. وبين (ينخ) للحكيم، و(يبخ) للسقّاء جناس واضح.
أ. د. مصطفى رجب