حيث تهتم بالنظر العلمي في الكيفيات التي يتم بها الوقوف على الأشياء ومعرفتها ، أما الدلالة اللغوية فتعني الأساس أو التأسيس لفهم جديد ولمفهمات جديدة على الصعيد المعرفة الإنسانية والاجتماعي(2
أن التأسيساتية كابستمولوجيا أي كنظر علمي (6) تخترقه عبر عدة أدوات مفهوميه وملامح وتصورات تعبر عنها، وقد اتخذت صورا متعددة هي :
1ـ النظر العلمي في كل ما يتصل بالأدوات النظرية المستخدمة في :
ـ الوقوف على المفاهيم
ـ توليدها وإنتاجها.
ـ2ـ النظر العلمي في الموضوع الذي يِؤطر الفعل المعرفي من حيث: منجزه، الباعث عليه، آثاره....
3ـ النظر العلمي في المعايير التي يحتكم إليها(لغوية،منطقية،أخلاقية،سياسية، اجتماعية،دينية)في تقويم موضوع المعرفية وكيفيات تحققها وإنتاجها وأطوارها التاريخية7....أن يحيط بالمكون الثقافي على مستوى الأدوار والوظائف وعلى مستوى المتون، كما على مستوى التفاعل مع الغير...فقد كان المثقفون قبل الثورات مقسمين إلى توجيهين: توجه مساند لأنظمة الاستبداد، وتوجه معارض لها،إلا انه أثناء الثورات لم يعود فاعلين في الأحداث بقدر ما انحسر دورهم،وظهر مثقف جديد مشاكس سماه الباحث السوسيولوجي أحمد الشراك ب"المثقف التأسيسيساتي"(ص: 251 ـ252) غير متخندق في اتجاه ما، بل هو هامشي وميتاثوري، نزيه ولا مزيف،..الخبير والرقمي والمدون الذي يستعمل تكنولوجيا الاتصال ضمن أجل تنوير الواقع. إن هذا التوصيف الجديد للمثقف تم استثباته في الحقل الابستمولوجي، لان المفاهيم الكلاسيكية للمثقف( العضوي والدعوي ولرسولي) تحتاج إلى تحيين ولا تستجيب للتحولات والتغيرات، او على الأقل للإحداث والاحتجاجات الكبرى التي شهدها العالم العربي, وعلى هذا الأساس فالمستوى السياسي أتى بأسئلة جديدة على المستوى الثقافي تراوحت في نظر الباحث أحمد الشراك ما بين الجدة والتطور من جهة،وما بين النكوص نحو القدامة والظلامية من جهة أخرى، وبما لا شك فيه فان هذه الثورات أسست لثقافة سياسية جديدة قد يكون لها أثر بالضرورة في اللحظة الراهنة، بل قد يمتد هذا الأثر بعيدا في الزمن السياسي العربي القادم10
وفي خضم هذه التحولات الفكرية والسياسية الثقافية التي تعرفها مصر ظهرت نخبة مثقفة واكبت هذه التحولات وتفاعلت معها من خلال إبداعاتها الفنية التشكيلية. ومن بين هذه النخبة "المثقف التأسيسيساتي" نذكر على سبيل المثل لا الحصر التشكيلي أحمد محروس والتشكيلية لمياء السيد وغيرهما، والذين ظهروا على الساحة المصرية والعربية بشكل ملموس. في قراءاتي النقدية التشكيلية المنفتحة على الساحة العربية سأتناول كل تجربة بالدراسة والتحليل من خلال اعمال التشكيلي أحمد محروس.
ترتبط عناصر العمل الفني ارتباطا وثيقا لا سبيل إلى انفصاله،نظرا لارتباط المادة بالصورة، وعند دراستنا للوحة أو الشكل لا نستطيع أن نجعلها منفصلة عن باقي العناصر المكونة "المادة، التعبير، المحتوى"، إلا في الذهن أو أثناء الدراسة والتحليل للإجابة على مجموعة من الإشكاليات. وفي دراستي لأعمال التشكيلي أحمد محروس و تتبع مساره الفني منذ بداية مساره إلى ان أقف عند مجموعة من الإشكاليات بشكل مفصل كالتالي : ماهية المدرسة التشكيلية التي يمكن أن نصنف فيها أعمال الفنان ؟ من أين يستلهم مواضيع لوحاته وما هي الفلسفة الجمالية التي حركت إبداعه؟ كيف تعاملت مع المنجز التشكيلي من حيث الفضاء والخلفية ؟ كيف تعامل مع الكتلة اللونية والضوء والتوزيع لهما على منشئها الفني ؟ ما هي القيمة الفنية التي يمكن أن تشكل إضافة فنية له كبصمة شخصية له في التشكيل المصري خاصة في ظل التحولات التي تطرقنا لها في مدخل المقال ؟ هل استطاع التشكيلي احمد محروس العبور الى مستوى الفنان او المثقف التأسيساتي ؟
أحمد محروس اختار المدرسة الواقعية للتعبير عن نستلجيا للزمن الفرعوني الجميل لمصر كمسقط للرأس و هي أعمال واقعية تستمد مشروعيتها من سحر حارته الشعبية وبعض الحدائق المصرية قد لا يخلوا أي مسكن منها و قد تكبر أو تصغر من حيث المساحة ، مما جعله على انفتاح عن الرهانات الاقتصادية بالمنطقة عموما من زاوية ابعد وأشمل في ظل التحولات التي يشهدها العالم العربي بأسره .
وفي اطار الدراسة والتمحيص نلاحظ أن أغلب لوحاته وإن لم نقل جميعها ستعمل فيها وبدقة متناهية تفاصيل دقيقة وبتمكن تقني من الرسم عالي فلوحاتها تحكي عبق التاريخ وأصالة الحرف وشموخ الأزقة القديمة وغالبا يستعمل اللون البني وهو رمز للتراب او الآثار الفرعوني والى عراقة وأصالة عمله .فاللون البني يحيلنا على شيء من الماضي والانكسارات الضوئية عليه تتميز بتوزيع متجانس يتداخل مع اللون الأسود مما يذل على عملية التذكر ورسوخ ذكريات الطفولة للفنان احمد محروس ، وأحيانا يتم مزج اللونين بحبكة متناهية وتمكن واضح وهو ما يعكس الرغبة في الإنعتاق من هذه الذكريات القديمة نحو واقع حديث يفتقد لتلك المشاهد المرسومة بدقة. فنجده في كل لوحة يحكي حكاية وتنسج علاقة بين اختلاف اللوحات والحكايات وفي نفس الوقت تصبح مشاهد حية يداعبها بذهنه المرهق أحيانا والمتفائل أحيانا أخرى، وكأنه بهذا يذكرنا بأبجدية تاريخ مصر بسلعها ومحلاتها وبواباتها و أبوابها العتيقة..... معلنا أن وراء الأبواب أسرار وعائلات ودفء العلاقات بينها .... والأزقة الضيقة وساحتها الواسعة وحرفها وألوانها المتناهية الانسجام . وذلك في أعمال جميلة وبقدرة فائقة في التعامل مع الألوان وأحيانا يتعمد عدم تحديد منبع الضوء في رسم الملوك الفراعنة ...لتكون اللوحة أكثر جمالية و تعبيرا على أن الضوء يسكن اللوحة في حد ذاتها كما تسكن الروح الفرعونية الجسد المحنط وهذه قمة التمكن من التلاعب بالظلال والانكسارات الضوئية وخطوط مستوى الرؤية مازجا بين تقنيات التماثل والتناظر والتوازي والتركيب والترميد والترميز ................ إنها أعمال فنية تمجد التاريخ والروح المعلقة بأرواح أهلها من خلال رسوم تزين جدران الأهرامات المصرية مما يجعل معظم أعماله بل كل أعماله تحمل الروح التراثية واﻻصالة ورائحة الماضي الجميل ....... بلوحات حالمة ومرهفة الحس.
لكن نلاحظ في أعماله الاخير أنه بدأ يشتغل كثيرا على النحت وخصوصا على الفيبر كلاس ، وهو عنوان لغز الحاضر للماضي مما يعكس إحساس الفنان بالانفتاح على العالم الغربي وما يحمله من مستجدات فنية رغم أنه في نفس الوقت يحس باغتراب ذاته العربية وانكسار الرؤية الجمالية المحلية......ومع ذلك انه إعلان للفنان على بداية الخروج من نفق التراث المحلي إلى القضايا الإنسانية العالمية بما حملته من مستجدات والإحساس بالمسؤولية التي أتت لما بعد الثورة لينظر إليه ليس كفرد عادي بل كفنان تشكيلي محترف وليست كمبدع إقليمي عربي لكن كمبدع كوني.
عموما إن الدارس لفنه يلاحظ الدقة في تقنية الرسم والتنظيم الفاريقي و نستا لجية الاحساس إلى كل ما هو تراثي فرعوني مصري محض مع تمرير الخطاب السلمي الكوني . فتمنحك من خلاله إشباع فني وثقافة جمالية ورسائل إنسانية وبناء جسور للسلام داخل المجتمع المصري بين جميع مكوناته السياسية والدينية لتمتد على أطراف الكرة الأرضية ضاربة بذلك عرض الحائط النظرة الضيقة للتشكيل وفاتحة للمجال لكي يتحدث فنه جميع لغات العالم من خلال الألوان والتقاطعات الخطية و واللونية والمرجعية الفكرية والثقافية للعمل الفني ككل ، مرسخة فكرة أن التشكيل لغة عالمية يمكن أن نتحدثها ونفهمها جميعا ونمرر من خلالها رسائل سلام مهما اختلفت اللغة الأم وهذا يرجع لمكون شخصي له وهو كونه رسام ونحاة على جميع الخامات ، تاركا المجال مفتوح لمخيلة المتأمل لأعماله ليقرأ ما وراء الرسم بخطوطه وتقاطعاته وضوئه وانكساراته ونسبة تردد حكاياته خصوصا حين يرسم لوحة تراثية وينحتها على الفيبر كلاس.
بعض المراجع:
ـ1ـ أحمد الشراك، سوسيولوجية الربيع العربي ص: 8
ـ2ـ احمد الشراك ص94و95
-6و7 : حمو النقاري،روح المنهج ،المؤسسة العربية للفكر والإبداع،بيروت،لبنان،ط1 ص33و40 ـ2018