إلى هشام ،
وهو يمدّ ، كمتطفلٍ ،
عنقه الجميلة ، إلى داخل قلبي ،
ليرى صورته المثبّتة هنا
" هل أنت يوسف
وأخوتك لا يحصون ؟ "
قاسم حداد
(1)
" - يا سيدي ، ماذا افعل لكي أخلص ؟ " .
" - …………………. " .
أقول له والدموع تزدحم في عيني :
" أنا وحداني في هذا العالم ، قل لي ماذا أفعل لكي أخلص " .
(2)
قبل ثلاثة أعوام ، ولم يكن لي آنذاك من العمر سوى عشر سنوات ، قرر أبي أن يتخلى عنا ، فرحل دون أن نعرف دواعي رحيله ، أو نسمع عنه شيئاً . لم يكاتبنا ، ولم يكلمنا ، ولم يعلمنا بمكان وجوده ، وترك أمي وحدها تنوء بعبء إيواء وإطعام أولادها الثلاثة: محمود ويوسف وأنا .
كان يوماً كأي يوم مضى ، خرج في الصباح دون أن نلاحظ عليه شيئاً غير عادي. أعطاني مع محمود مصروف المدرسة اليومي ، وغادر البيت وهو يغمز لي بعينه دون أن يقول شيئاً. كانت هذه آخر مرة أراه فيها .
انتظرناه طوال النهار ، قلقت أمي كثيراً. فليس من عادته أن يتأخر في العودة . طلبت أمي من محمود أن يتصل بالمصنع من محل البقالة القريب ، لكن محموداً عاد دون نتيجة فقد اتضح ان أبي لم يذهب إلى العمل في ذلك اليوم.
طلبت أمي من محمود أن يعتني بالصغير يوسف ريثما تذهب إلى مركز الشرطة للإبلاغ عن اختفاء أبي . رافقتُ أمي إلى مركز الشرطة . كانت قلقة جداً وتتمتم خائفة : " يا رب .. يا رحيم . "
هناك قدمت بلاغاً عن اختفاء أبي ، فسألوها أسئلة كثيرة بطريقة ودية قدر الإمكان: عن مكان عمله ، وأوصافه ، وأصحابه ، ووضعه الصحي والمالي.
كانت مشتتة الفكر . تجيب على أسئلتهم وتقاطعهم طالبةً منهم أن يتصلوا بالمستشفيات ، لعل حادثاً وقع له ، ثم تسأل إن كان مقبوضاً عليه. لكن كل الاتصالات لم تسفر عن شيء. أبي ليس في العمل ، ولا في المستشفيات ، وليس مدرجاً ضمن قوائم المسافرين ، ولا في أقسام الشرطة . أمتعته وملابسه وأوراقه الثبوتية كلها موجودة بالبيت . هو هنا ، في مكان ما ، ولكن أين هو ؟ ماذا حدث له ؟ . لا أحد يعرف .
بعد مضي شهر من البحث والسؤال بدأ اليأس يدب في روح أمي . وصارت لا تنفك تردد على مسامعنا ، وهي تتفجع ، أنه تخلى عنا من أجل امرأة أخرى . لكنها كانت تدرك ، أنه لا نحن ، ولا هي ، نصدق ما تقوله.
ذات ليلة كنت أراقبها وهي مستلقية على فراشها ، تتحرك من جنب إلى آخر في قلق ظاهر ، ثم تنهض وتضرب بيدها على رأسها ضربات متتالية ، وتخفى رأسها بين ذراعيها . فجأة استخرطت كطفل صغير في بكاء متقطع ، ثم توقفت، وتفوهت بكلمات لم تصل إلى سمعي .
لم أكن أدري كيف يمكن أن أخفف من وطأة الألم الجاثم على صدرها ، فلم أتحرك من مكاني، وأخذت أراقبها وهي ضائعة في متاهة حيرتها المظلمة.
خطت نحونا وانحنت على يوسف وطبعت قبلة على خده ، واقتربت مني ومسحت برفق على شعري وقبلتني ، وقبلت محموداً بهدوء، ثم عادت إلى فراشها وهي تغطي وجهها بيديها . سمعت صوتها الحزين وهي تقول متضرعة :
" عد إلينا أرجوك ، لا أحد لنا سواك " .
(3)
كان أبي طويل القامة ، قوي البنية ، له وجه أنيس ، وشعر كثيف ، وشاربان جميلان ، ترى في عينيه العسليتين صفاء الذهب ، لكنه صموت قليل الكلام ، قليل الضحك ، يميل إلى الهدوء حتى وهو يوبخنا ويعاقبنا. كتومٌ عن أحواله في العمل ، وعن شئونه المالية ، رغم راتبه الضئيل . تزوج وهو في الثالثة والعشرين من العمر من ابنة عمه التي كانت في الثامنة عشرة ربيعاً ، وظلت سبع سنوات دون أن تنجب ، ثم رزقا بمحمود، الذي يكبرني بثلاث سنوات ، وبي ، وبيوسف الذي يصغرني بخمس سنوات .
كان أبي يحب يوسف كثيراً ، ولكنه لم يكن من ذلك النوع الذي يظهر لك حبه ، وإن كنت ترى ذلك في عينيه وتعابير وجهه . أحياناً كان يدللني ويلاطفني ، ويسأل عن أحوال المدرسة ، أما مع محمود فلم يكن يظهر ناحيته أي تعلق حقيقي لسبب أجهله، ولكن الأمر لم يصل بينهما إلى حد النفور.
لم يكن يخرج من البيت إلا نادراً، كان يحب المكوث في البيت ، يزجي فراغه بقضاء ساعات طويلة ، بعد رجوعه من المصنع ، في تصليح سيارة " فورد " قديمة ، صدئة ، تربض خلف البيت ، على أمل أن يعيد تشغيلها يوماً ما.
ذات مرة استطاع أن يدير المحرك بنجاح، فدخل البيت فرحاً ، وعلى غير عادته أخذ يصفق بيديه مبتهجاً ، ثم طلب مني أن أرافقه في جولة سريعة .
كنت سعيداً لأنها كانت لحظة نادرة من تلك اللحظات التي نرى فيها أبي مغموراً بالغبطة المخبوءة في صدره .
حرك ناقل السرعة بخفة ، وأخرج يده من نافذة السيارة تاركاً الهواء يعبث بخصلات شعره الناعم ، وفتح الراديو على موسيقى صاخبة تصم الآذان ، إلا أن السيارة بدأت ترتجف ، وتصدر أصواتاً غريبة ، ثم توقفت في منتصف الشارع العام .
نزلنا وأخذنا ندفعها بكل ما أوتينا من قوة في حين كانت عيون الآخرين الشزراء تلعننا وتلعن هذه السيارة القديمة التي شلت حركة المرور.
أعاد السيارة إلى مكانها معتكر المزاج، حزين النفس ، خائب الأمل ، لكنه لم يغضب ولم يطر صوابه رغم الشعور العارم بالخيبة الذي اعتراه. كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أراه فيها فرحاً .
ثم حدث ما أنساه أمر السيارة القديمة ، فقد فازت إحدى تذاكر اليانصيب ، التي كان يكثر من شرائها ، بالجائزة الخامسة وكانت منظاراً فلكياً يصل طوله إلى خمسة أقدام .
كان يقضي أوقاتاً طويلة على سطح المنزل يتأمل ، دونما ملل ، النجوم اللامعة البراقة والشهب المحترقة والبقع السوداء على سطح القمر.
سألته ذات مرة
: " هل وجدت شيئاً في الفضاء ؟ ".
قال بحماسة : "
تعال وانظر بنفسك ".
نظرتُ فرأيت جسماً يصدر ضوءاً باهراً أبيض مثل شلال لماع.
قلت مستخفاً بما رأيت : "
ما هذا الشيء ؟ ".
قال : "
لا أعرف ، ولكنه يقترب شيئاً فشيئاً من الأرض!" أمي اعتادت تسليته الجديدة فلم تتذمر، ولم تسأله عن مكوثه الطويل في تأمل الفضاء . بل كانت تأخذ إليه الشاي وتجلس تحدق في السماء دون أن تقول شيئاً .
(4)
لا أدري لم كنت أشفق دائماً على أمي ، فلقد كانت من ذلك النوع من البشر الذين يلازمهم التعس طوال حياتهم . كانت مستسلمة ، صبورة ، قانعة ، لا تعتني بشخصها ولا بملابسها ، ولا تكترث أيما اكتراث بعسر الحال ، وبتواضع المكان ، وشح المال. لكن رغم سنواتها الثمانية والثلاثين كان وجهها لا يزال يحتفظ بجماله ورونقه ، بخاصة إذا نظرت إلى عينيها السوداوين الكبيرتين جداً ، اللتين تنمان عن طيبة النفس.
ذات ليلة أصيبت بحمى شديدة فأخذت ترتعد ارتعاداً قوياً ، وتئن أنين المقبل على الموت.. كان أبي منشغلاً بمشاهدة النجوم ، فبقيت قربها أخفف من حرارتها بوضع كمادات باردة على جبينها، حتى هدأت وبدأت تتصبب عرقاً غزيراً .
فتحت عينيها ونظرت إلي فاغرة الفم لوهلة ، ثم رفعت يدها بهدوء ومسحت على خدي قائلة بصوت حزين الرنة :
" لك قلب رؤوف ، نقي كل النقاء ، من مثلك سيتعذب كثيراً في هذه الدنيا ".
حاولتُ أن أقول شيئاً ولكنني لم أتجاسر، فمسحتُ على شعرها برفق علها تنام ، ولكنها عاودت فتح عينيها والدموع تستقطر منهما قائلة :
" سأكشف لك ما هو خاف عليك " .
وأخذت تتحدث عن حبها القديم لشاب كان يماثلها سناً رغم معارضة أبيها ، وكيف كانا يلتقيان خلسة تبادله الحب وتعاهده على الإخلاص والوفاء، وكيف حاولت أن تهرب معه ، ولكن اكتشف أمرها ، فحاولت الانتحار مرتين بصـب الكيروسين على جسمها ولكنهم أنقذوها من الموت في اللحظات الأخيرة ، فطردت من البيت شر طردة مصحوبة بلعنات والدها الذي أقسم على أن لا يراها مرة أخرى ، ولم ينقذها من الضياع سوى أبي الذي عرض عليها الزواج إنقاذاً لسمعتها وشرفها رغم معارضة أهله ، ورغم انه كان على علاقة عاطفية بفتاة أخرى.
وبكت كثيراً وهي تقول إنه رغم كل السنوات التي مضت إلا أنه لا أحد من عائلتها زارها أو حاول أن يسأل عنها .
اضطربتُ كثيراً وأنا اسمع حكايتها الغريبة، فلم أكن أدرى إن كانت تعي ما تقوله أو تراها كانت تهذي من شدة الحمى. وفيما بعد لم أحاول أن أعرف منها الحقيقة ، ولم أكشف هذا الأمر لأي شخص.
(5)
لم يمض عامان على رحيل أبي حتى توفت أمي ، بعد أن ذبلت في بطء ، وصارت شديدة النحول .
كانت غارقة في هاوية عميقة من اليأس، مهتاجة الأعصاب ، مكتئبة المزاج ، نافدة الصبر ، كثيرة البكاء . كانت مغمومة دائماً ، تسمع رنين الشكوى والحسرة في صوتها تستلقي على فراشها تنظر باتجاه الحائط بنظرات موجعة ، منسحقة . فلو كانت تعرف سبباً لغيابه ، لهان عليها الأمر ، لكنه هجرها دونما سبب وهذا ما كان يسهدها .
وبدأت تضربنا دون وعي ، حتى يوسف الذي كانت مولعة به صفعته ذات مرة على فمه فشقت له شفته ونزف دماً كثيراً . وحين رأت يوسف بدمائه بكت بصوت عال وشدت شعرها حتى أرعبت يوسف وأرعبتنا .
وبقيت على هذه الشاكلة أشهراً حتى بدأت تشكو من صداع لا يفارقها . أحياناً كنا نرى الدم ينزف من أنفها بغزارة شديدة فتكتفي بوضع قطعة من الثلج على أنفها حتى يتوقف النزيف .
زارت المركز الصحي أكثر من مرة وطلبوا منها أن تدخل المستشفى للعلاج لكنها رفضت بحجة أن لا أحد سيهتم بأولادها في غيابها .
ذات ليلة اشتكت صداعاً حاداً وتقيأت عدة مرات . كانت تعبة إلى حد إنها لم تستطع أن تمسح بقايا القيء عن فمها ، ثم تباطأت أنفاسها حتى أصبحت كالشخير ، واحمرّ وجهها، واحتقنت عيناها ، واتسعت حدقة إحداهما عن الأخرى ، ثم خرت كالمصعوقة ، وهمدت كل حركة في جسدها.
(6)
يوم دفنا أمي ، ضمنا محمود إلى صدره ونحن نبكي ، كأنه كان يشعرنا بأنه سيكون المسئول عنا منذ اليوم ، ولكنني كنت مدركاً كل الإدراك أن الأيام القادمة لن تكون سهلة ، وأننا سندخل نفقاً من الآلام لا نهاية له .
فأثناء مرض أمي اضطررنا لترك المدرسة ، والانتقال إلى منزل خالي الذي يعيش وحيداً . ولم نجد صعوبة في التآلف مع المكان الجديد وبخاصة أن خالي كثير السفر ، يترك لنا المنزل لنتدبر أمرنا كيفما اتفق .
منزل خالي كان عتيقاً ذا طابق واحد ، ولكنه كان صالحاً للسكن ، به ثلاث غرف واسعة تحتوي على أثاث قديم متواضع، وحمام مظلم ضيق ، ومطبخ صغير ، ومخزن حشرت فيه أدوات قديمة ، وبقايا أخشاب ، وأوانٍ مكسورة ، وأحذية بالية .
اضطررنا إلى العمل في غسل السيارات بعد أن نفد ما معنا من نقود ، أما يوسف فقد كان يلازمنا ملازمة الظل ، كان صعباً تركه مع أمي وهي على ذلك الحال.
عملنا في غسل السيارات لم يكن سهلاً ، كان علينا الخروج في الصباح الباكر قبل وصول الموظفين . في الشتاء نتحمل البرد القارس وتجمد الأصابع ، أما في الصيف فكنا نتصبب عرقاً تحت الشمس ، ونتهالك من شدة الحرارة، إضافة إلى اننا لم ندرك في البداية أن لكل منطقة زعيمها ومنظم عملها . وكدنا نُضرب في اليوم الأول حين دخلنا منطقة ما فوجدنا أمامنا رجلاً كث الشاربين ، أفطس الأنف ، كبير الفم ، أسنانه صفراء، ويعتمر طاقية ملونة ، يصيح مزمجراً : " هل تريدون قطع رزقي ورزق أولادي ؟ ".
وكاد محمود يتشاجر مع "بو شنب" كما كانوا يطلقون عليه ، ولكن تدخل آخرين حال دون نشوب معركة غير متكافئة بيننا وبين "بوشنب" وأتباعه .
(7)
بعد وفاة أمي ، كان محمود لا يخفي كراهيته الشديدة لأبي ، فمزق جميع صوره في المنزل ، وأقسم أنه لن يتردد ذات يوم عن محاسبته، إذ اعتبره مسؤولاً عن وفاة أمي ، وعما يحدث لنا. لكنني لم أستطع مجاراته في إظهار شعور البغض تجاه أبي الذي كنت أحبه دائماً ، مع ذلك لم أكن أجرؤ على ذكر اسمه أمام محمود .
بقيت عندي صورة له احتفظت بها سراً، وخبأت المنظار الفلكي في مكان أمين . وعلى عكس محمود كنت أتمنى لو يعود أو يظهر أو يسأل عنا، أو أعرف أين هو وماذا يفعل ، هل هو موجود ، هل يعرف عنا شيئاً ، هل يهتم بأمرنا ، هل نعني له شيئاً .
في كل ليلة قبل أن أخلد للنوم كنت أدعو في قرارة نفسي ضارعاً إلى الله: " اللهم احفظنا واحفظ أبي. "
علاقتي بمحمود كانت قوية جداً ، وإن كان ، مثل أبي ، لا يجيد أبداً إظهار عواطفه أو حبه للآخرين . ترى في وجهه تعابير زاخرة بالرجولة ، وكثيرا ما يقطب حاجبيه عابساً دون سبب . أما يوسف فقد كان وسيماً على نحو ملائكي .. بشعره الذهبي الذي يغطي جبهته ، ووجهه الأبيض الناعم ، وعينيه المدورتين الصغيرتين اللتين تومضان إيماضة الحياة نفسها ، وانسراحة وجهه المتوردة ، وابتسامته الرقيقة ، وميله للبهجة والسرور . إذا رأيته لن تستطيع أن تحوّل بصرك عنه .
كنا نخاف عليه كثيراً ، ونتحسر لأننا لم نتمكن من إدخاله المدرسة مثل كل الأطفال في سنه، وإن كنت ، قدر المستطاع ، أعلمه مبادئ الحساب وأوليات الكتابة وتهجي الحروف ، حتى عرف الأرقام ، و تمكن من كتابة اسمه بخط غير متناسق .
كان يقف طويلاً أمام محل لبيع الدراجات الهوائية ، يتأمل ، في كل يوم ، دراجة حمراء صغيرة. لم يكن يتكلم ، وإن كنت أحس كم هو يتمنى أن يشتري الدراجة . لم يكن يدري أننا ، محموداً وأنا ، اتفقنا على أن نوفر مما نحصله من مال لنشتري له الدراجة .
(8)
كان علينا أن نتدبر كل أمور حياتنا ، وأن نفكر كيف نستمر في هذه الدنيا دون أن نحتاج إلى عون أحد ، فما كنا نكسبه من عملنا في غسل السيارات كان يكفي لإطعامنا وللعيش بسلام.
أما إذا ضاقت بنا الدنيا، ولم يبق معنا ما نملكه من مال ، كنا نلتجئ إلى سيدة مسيحية في نحو الستين من عمرها. أسنانها نظيفة براقة رائعة المنظر ، وإن كانت مغضنة الوجه ، تلف رأسها بمنديل أسود ، تخفي شعراً أشيب ، وتغطي كتفها بشال أخضر كبير.
كانت تعيش وحيدة في بيت كبير به عشرات القطط السمينة المدللة. كنا نعرف أنها تخرج عصر كل أحد إلى الكنيسة المجاورة لمنزلها، فكنا ننتظر بفارغ الصبر عودتها من الكنيسة .
كانت تجد صعوبة في عبور الشارع لضخامة جسمها وبطء حركتها ، فكنا نسرع إليها، أمسك أنا بيدها ، بينما يوقف محمود السيارات بإشارة من يده ، ونتطوع لمساعدتها حتى تدخل البيت متوكئة على عصاها .
كانت ترجونا بلطف وتهذيب أن ندخل ولكننا كنا نتمانع ، ثم نرضخ لطلبها ، فتدخلنا غرفة المعيشة المرتبة والنظيفة ، المليئة بالسجاجيد الصغيرة الزاهية الألوان ، وحوض السمك المليء بالأسماك الملونة والسلاحف الصغيرة .
كنت أحب رؤية صورة المسيح المعلقة على الجدار بعينيه الحزينتين ، وبوجهه البريء المغمور بضوء كضوء القمر.
بالقرب من صورة المسيح هناك صورة لشاب في منتصف العشرينيات من عمره ، يميل برأسه ويستند بذقنه إلى إصبع واحدة . تحت الصورة منضدة صغيرة وضع عليها إبريق ماء مذهب وشمعدانان فضيان .
كانت تأتي لنا بالبسكويت والمكسرات والشاي بالليمون الأسود . يوسف كان يحتاط لنفسه فيملأ جيوبه بالمكسرات ، وقبل أن نخرج كانت تعطي كل واحد منا خمسمائة فلس ، وتقبّل يوسف وتضمه إلى صدرها بحنان طاغ .
أحياناً كانت تقف أمام صورة ابنها وتتلو صلاتها هادئة البال ، ساكنة النفس . لكنها ذات مرة جلست تنظر ملياً في وجه يوسف حتى اضطربت الدموع في عينيها ، ثم اتجهت ناحية سريرها العريض ، وجثت على الأرض تنتحب بأنين مفجع .
اضطربنا ولم نعرف ماذا نفعل . دفعتُ يوسف ناحيتها . لكنه تردد في الاقتراب منها. فدفعته بقوة . تقدم يوسف وربت كتفها بيده الصغيرة ، ثم وضعها على منديلها الأسود ، فرفعت رأسها، ونهضت نصف نهضة والدموع تبلل وجنتيها. حضنت يوسف بشدة وهي تنتحب وتهز رأسها قائلة: " ابني يوسف .. ابني يوسف " .
(9)
بعض الأحايين كنا نتسكع عند محلات بيع الأطعمة السريعة المنتشرة في كل مكان . كان يوسف يحب أن يشم رائحة البطاطس المقلية ، فيقول متلمظاً : " امسكوني ، سيغمى عليّ " .
بالداخل مكان نظيف وكراسيّ مرتبة ترتيباً هندسياً ، في حين تنتشر صور الأطعمة المتنوعة الملونة في كل أجزاء المحل . هناك قاعة لألعاب الأطفال : مخلوق الفضاء الغريب ، والتنين الأخضر ، والسيارة ذات المقودين . وهؤلاء الأطفال ، بثيابهم النظيفة ورائحتهم الحلوة، يضعون ، بكل سخاء ، قطع النقود المعدنية في هذه الألعاب العجيبة . وكلما هدأت اللعبة أعادوا وضع القطع المعدنية وأعادوا تشغيلها.
المكان كان يعج بالرواد ، يقضمون ويلوكون الطعام ، ويوسف يترنح دائخاً من رائحة البطاطس المقلية . ننظر إلى الداخل ورغبة عارمة تستعر في صدر كل منا في اقتحام المكان وأكل كل ما فيه من طعام.
ورغم محاولات منظف المحل إبعادنا عن زجاج الواجهة ، ظللنا واقفين على أمل أن يحدث شيء ما مثلما حدث ذات مرة . فقد رأيت رجلاً يدخل المطعم حاملاً طفلاً وسيماً أبيض كالثلج، ومعه زوجة جميلة لها حسنة كبيرة على خدها الأيمن ، وتعتمر قبعة سوداء أنيقة . التفت إليّ الرجل قبل أن يدخل . نظر إلى تلك النظرة الأبوية المشوبة بالعطف والرحمة التي طالما تمنيتها. نظرت إلى الصفاء الذي في وجهه ، ونظرت في عينيه اللتين حفلتا بضياء غريب لم أعرفه إلا في عيني أبي .
أجلس الرجل زوجته وأعطاها ابنه ثم رأيته يتكلم مع الموظف ويشير نحونا . جاء الموظف الذي بدت الدهشة مرسومة على وجهه العريض .
قال مظهراً المقت والاشمئزاز :
" تعالوا معي " .
ترددنا ثم دفعنا محمود بيده . شعرت بالحرج. أما يوسف فقد أمسك بطرف قميصي خشية أن يحدث له مكروه. محمود حرك رقبته يمنة ويسرة وعدل من وضع ياقته المهترئة.
أجلسنا الموظف على طاولة بعيدة عن رواد المطعم . كان منظرنا يبعث على الاشمئزاز ، ملابسنا البالية ، وأقدامنا المتسخة ، وشعورنا المشعثة ، ورائحتنا التي تشبه رائحة كلاب ضالة مبللة. شعرت بأننا أصبحنا هدفاً لنظرات جميع الموجودين.
قام الرجل من مكانه وجاء إلينا وألقى علينا بالتحية لكنه كان ينظر إليّ دون الآخرين. قال بأدب شديد:
" ماذا تطلبون للغداء " .
قلت بحرج : " أي شيء " .
طلب لنا ثلاث وجبات كاملة ودفع ثمنها دون أن يقول شيئاً . أخذت أنظر إليه وهو يداعب ابنه بحنان بالغ . سألت نفسي ماذا تحرك في دواخله كي يظهر هذا العطف علينا ، لماذا لم يأت شخص آخر ليسأل إن كنا جائعين؟.
بعد قليل كنا أشبه بضباع مهتاجة تمكنت من الإيقاع بفريستها . كنا نأكل بشره غريب ، أما يوسف فقد أتى على كل شرائح البطاطس المقلية دون رحمة.
بعد أن انتهينا طلبت منهما أن يأتيا معي . ذهبنا إليه وشكرته .
قال وفي صوته طيبة عظيمة :
" هل ترغبون في تذوق الآيسكريم ؟ " .
هززت رأسي نافياً ، ولكن يوسف قال بسرعة:
" نعم " .
نظرت إلى يوسف مؤنباً. أما محمود فقد كان يقف خلفنا ينظر باتجاه آخر كما لو أن الموضوع لا يعنيه. طلب الرجل لكل منا الآيسكريم ودفع الثمن .
كان يوماً أشبه بالحلم ، حدث كل شيء فجأة ، كأنما الله بعث لنا هذا الرجل الطيب لنتذوق أطايب الطعام ، لكننا لم نره مرة أخرى، ولم نلتق طيباً مثله يدعونا لوجبة مجانية وابتسامة أبوية حنونة .
ذات مرة اقترحت عليهما أن ندخل مطعماً حقيراً قريباً من الحارة يؤمه العمال المغتربون ، واتفقنا على أن نتصرف كما لو كان معنا نقود ، وبعد أن ننهي طعامنا يخرج محمود ويوسف ويختفيان ، وأغافل صاحب المطعم وأخرج متسللاً ثم أركض بأقصى سرعتي.
دخلنا المطعم وطلبنا عدساً وخبزاً وكولا. وحين انتهينا خرج محمود ومعه يوسف بهدوء . وبقيت ألمح صاحب المطعم ، الذي كان يحدجني بنظرة مريبة ، متحيناً لحظة الفرار .
حاولت النهوض إلا أن أحد العاملين بالمطعم أمسكني وسلمني إلى صاحب المطعم، فبكيت وطلبت منه أن يسامحني ، لكنه عاجلني بصفعة قاسية على خدي تلتها عدت لطمات على وجهي ، ولم يتوقف عن الضرب إلا حين تدخل أحد الزبائن وطلب منه أن يكف عن ضربي عارضاً عليه تسديد الحساب .
ضحكنا يومها كثيراً ، لكن ليلتها بكيت بحرقة ، فلقد داخلني شعور ساحق بالخزي والمهانة جعلني أكره نفسي ، وأكره حياتي .
(10)
ذات يوم قال لي محمود بصوت هامس :
" أمامنا مهمة ، إذا نفذناها ، سنحصل على ما يكفي لشراء دراجة يوسف " .
لم أعرف ماذا كان يقصد بالمهمة ، ولكنني كنت مستعداً لعمل أي شيء مقابل شراء دراجة يوسف .
في تلك الليلة ، وبعد أن نام يوسف ، طلب مني محمود أن أخرج معه .
" - وماذا عن يوسف ؟ .
" - سنعود قبل أن يصحو " .
" - إلى أين سنذهب ؟ "
" - المقبرة " .
" - المقبرة !" .
كان محمود يتقدمني بخطواته السريعة وبيده كيس يمسك به بعناية . وطوال الطريق كنت أفكر فيما يمكن أن نفعله في المقبرة . أية مهمة هذه التي تستدعي ذهابنا إلى هناك .
اتجه محمود إلى الجدار الخلفي للمقبرة وطلب مني أن أمسك الكيس . برشاقة ارتفع إلى أعلى الجدار ، ومد يده ليساعدني بعد أن أخذ الكيس مني . نزلنا في المقبرة فشعرت برعب شديد ورجفة في بدني . فأمسكت بكتف محمود ومشيت وراءه .
وقف محمود عند أحد القبور ، وبدأ يحفر طالباً منى أن أراقب المكان .
" - قبر من هذا الذي تحفره ؟ " .
" - لا أعرف " .
حفر حتى استطاع أن يصل إلى كفن الميت، فمزق بقوة قطعة كبيرة من الكفن ، ثم طلب منى الكيس ، فأخرج منها ثلاث بيضات ، ولفها في الكفن وأعادها إلى الكيس .
" - ماذا تفعل ؟ " .
" - لنخرج من هنا قبل أن يكتشف أمرنا " .
خرجنا مسرعين من المقبرة دون أن يرانا أحد ، وولينا فراراً.
في الطريق إلى البيت طلبت منه أن يفهمني ما الذي كنا نفعله . فقال لي محمود إن سيدة مطلقة في الحي طلبت منه ذلك مقابل عشرة دنانير . وقد قبل بالفكرة كي يكمل بها المبلغ الذي وفرناه لشراء دراجة يوسف .
" - وماذا ستفعل السيدة بالبيض الملفوف بالكفن؟".
" - هذه مسألة لا تعنينا " .
وصلنا البيت . طلب مني محمود البقاء مع يوسف ريثما يأخذ الكيس إلى السيدة . بعد حين عاد فرحاً ، منبسط الأسارير ، وبيده ورقة نقدية خضراء كتب عليها عشرة دنانير . الآن سيتحقق حلم يوسف .
(11)
اتفقت مع محمود على أن يشتري بنفسه الدراجة ويجلبها إلى البيت دون علم يوسف ، ونخفي الدراجة أسفل السلم المظلم ، كي نفاجئ بها يوسف بعد أن يستيقظ من النوم .
حين شاهد يوسف الدراجة الحمراء طغت على قسمات وجهه الجميل مشاعر مضطربة ، فامتزج الذهول بالشك بعدم التصديق بالابتهاج بالامتنان.
لم يقل شيئاً بل دنا من محمود وطبع قبلة حنونة على خده ، ثم قبلني فضممته إلى صدري قائلاً :
" ها هي دراجتك التي كنت تتمناها ".
وتركناه مع دراجته يحضنها ويقبلها.
قلت لمحمود :
" شكراً أخي العزيز " .
نظر إليّ لحظات وابتسم ابتسامة خجلى ثم أدار ظهره وتركني دون أن يقول شيئاً .
(12)
كنا نتسلى كثيراً بزيارة " العبقري " ، وهو رجل في منتصف الأربعينيات من العمر ، يسكن في نهاية الشارع . أهل الحي أطلقوا عليه تسمية "العبقري " تهكماً وسخرية من تصرفاته الغريبة.
تعرفنا عليه ذات مرة فيما كنا نعبر تحت شرفة منزله، فأطل علينا ودعانا للدخول ليتحدث معنا في أمر هام. ترددنا ثم دخلنا بدافع الفضول والتسلية. فرحب بنا وجلس على كرسي هزاز ، ولم يلبث أن بدأ يهز نفسه ، فمال إلى الوراء وعاد إلى الأمام ، ثم مال بقوة خشينا فيها أن يسقط على رأسه ، وما هي إلا لحظات حتى مال بقوة وسقط عن كرسيه ، فكتمنا ضحكنا ، إلا أن يوسف ضحك بصوت عال .
خشينا أن يغضب ولكنه ضحك على نفسه وأخذ يفرك مؤخرة رأسه بقوة قائلاً :
" لابد أنني أصبت بنزيف داخلي حاد " .
ثم ألفناه وصرنا نزوره بين حين وآخر ، وبخاصة أن يوسف تعلق به تعلقاً غريباً ، رغم أنني لم أفهم سر هذا التعلق بشخص غريب الأطوار مثله.
كان " العبقري " ينشغل بمظهره الجسماني، بشكل أنفه المجدر ، بأذنيه ، بأسنانه البارزة ، بالشعر الأبيض الكثيف في صدره ، بأمارات الصلع التي شرعت تبدو عليه . كانت شفته السفلي متشققة دائماً لشدة ما يضغط عليها بأسنانه .
كان يؤمن بأن كل شخص يناصبه العداء. يخاف من القطط ، وينتابه حالة من الهلع حين تمر قطة من أمامه . يدون أرقام السيارات التي تقف أسفل الشارع . وإذا سمع أحداً يضحك ظن أنه يعنيه هو .
أحياناً كان ينظر إلينا شزراً ويسألنا عن غايتنا من زيارته . وأحياناً كان يخرج ثيابه كلها وينثرها واحداً واحداً في فوضى شاملة ، ثم يجلس بهدوء يعيد ترتيبها ووضعها في مكانها، ولا يلبث بعد قليل أن يخرجها من مكانها وينثرها . يتحرك في الغرفة ويحضر قطعة قماش مبللة وينظف الجدران ومقابض الأبواب والنوافذ . أو يضع نظارة سميكة مكسورة على عينيه ، فيرفع النظارة ، وينفخ على الزجاج ويظل يمسح الزجاج دون توقف ، ثم يضع النظارة ، ويرفعها مرة أخرى.
كان يقول لنا وهو يمسح المخاط بعنف شديد:
" أنا واثق أنهم وضعوا جهازاً للتنصت في منزلي ، ابحثوا في كل مكان ، وكونوا دقيقين لأن هذه الأجهزة صغيرة جداً ، قد تكون في حجم زر قميص ، أو حبة قمح " .
كان يحمل دائماً زجاجة ماء في يده ، يغسل بها قدمه قبل أن يدخل البيت . ذات مرة وقف في الشارع وصبّ دلواً من الماء على رأسه ثم دخل البيت. وفي مرة أخرى خرج من البيت مرتدياً معطفه الشتوي ولكن دون أن يلبس قميصاً فوق ملابسه الداخلية ، وحذاءً دون جورب.
حين يخرج من البيت يلتفت في كل الأنحاء لكي يتيقن من أن أحداً لا يتبعه ، ثم يقف عند أول الشارع ، يخاف العبور اعتقاداً منه أن كل السيارات ترغب في قتله .
قال لنا ذات مرة :
" إن سائقي السيارات أشخاص مكلفون بالقضاء عليّ ويعملون لحساب مخابرات دولة أجنبية " .
تراه أحياناً يقوم من كرسيه وينظر من ثقب المفتاح وقتاً طويلاً ، أو يطلّ من طرف ستارة النافذة. وحين يعاود الجلوس ليتحدث معنا تراه ينكش أسنانه بدبوس رفيع ، ويتحدث كأن أحداً يكلمه أو يبصر أشياء لا نراها . أحياناً كان يجيب "نعم " ، ويلتفت إلى ناحية ما وهو يلوي عضلات وجهه ، أو يصرخ فجأة " غير صحيح ، غير صحيح " ثم يحرك يديه ببعض الإشارات الغريبة.
ذات مرة تعززت شكوكه المتعاظمة ، وداخله خوف شديد ، حين رأي من النافذة شخصاً أسفل الشارع يرفع رأسه باتجاهه . أغلق الستائر وأطفأ الأنوار وشرع يمشي في طول الحجرة وعرضها وهو يعض على كفه قائلا :
" الخونة وشوا بي ، هاهم يبعثون شخصاً ليغتالني".
في يوم قال لي وهو يهز سبابته دون توقف :
" أنا مصاب بالزائدة الدودية ، وأعرف أنها ستنفجر في أية لحظة وأموت . أريدك أن تراقب المنزل جيداً إذا أخذوني إلى المستشفى " .
وكرر علي هذا الكلام مرات ومرات وهو جاد فيما يقوله حتى بدا عليه الإعياء والتعب كأنه مريض فعلاً .
وقبل أن اخرج قال متبرماً :
" وما فائدة الزائدة الدودية هذه ؟ أنا لم أطلبها، وما فائدتكم أنتم يا جواسيس ويا خونة؟ " .
ثم وضع إصبعه في فمه وتقيأ بهستيرية حتى خشينا أنه سيتلفظ أحشاءه . ثم قال :
" هل خرجت الدودة ؟ " .
في أحيان كان يكتب ، ويملأ الأوراق بالكتابة ، لكنه كان يحرق الأوراق ثم يفرك بقايا الورق المحترق حتى يتحوّل إلى رماد قائلاً:
" لديهم أجهزة تمكنهم من إعادة تصوير ما كتبت ".
ويرمي بالرماد تحت صنبور الماء .
طرقنا ذات مرة باب بيته ، فلم يخرج ، ولم نره ، كعادته كل يوم ، يحاول عبور الشارع دون جدوى. طرقنا مرة أخرى ، فلم يرد . نظر محمود من فتحة الباب فشهق خائفاً . قال انه رأي ساقاً مدلاة في الهواء . عدنا وطلبنا مساعدة الرجال لكسر الباب. حين فتحوا الباب عصف بنا خوف عظيم ، وحبس كل منا أنفاسه، فقد رأينا تأرجح رجليه البائستين وهو معلق في مروحة السقف عارياً تماماً ، فاغر الفم ، جاحظ العينين.
قبل أن ينتحر ترك ورقة دون أن يعنونها إلى أحد ، كتب فيها بخط رديء :
" هكذا تدفعين وتطرحين فتختفين إلى الأبد ، لن يُسمع فيك عزف موسيقى بعد ، لا صوت قيثارة ، ولا مزمار ، ولا بوق ، ولن تقوم فيك صناعة بعد الآن ، ولن يُسمع فيك صوت رحى ، ولن يضيء فيك نور مصباح ، ولن يُسمع فيك صوت عريس وعروس".
لم أتوقع أن يحزن يوسف لموته كل هذا الحزن ، فقد ظل صامتاً كئيباً فترة من الوقت كمن فقد إنساناً عزيزاً ، وطرح علينا الكثير من الأسئلة حول سبب انتحاره ، وكيف واتته الشجاعة لينهي حياته بيده ، وعن الوقت الذي استغرقه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. لم أعرف كيف أجيب على أسئلة يوسف ولكنني عرفتُ شيئاً أهم ، هو أن لدى الإنسان قدرة عجيبة على نسيان الموتى بعد مضي أيام معدودات .
(13)
خالي كان كثير السفر . ولكن إلى أين يسافر ، أو بماذا يشتغل ، فهذا ما لم أكن أعرفه على وجه التحديد ، ولا أحسب أن أحداً كان يهمه أن يعرف ، ولا أذكر أنني سألت أمي يوماً عنه وعن أسفاره , بل إن ذكره لم يكن يأتي على لسان أحد ، رغم أنه أنقذنا من التشرد بإيوائه لنا في منزله بعد اختفاء أبي ، ورغم أنه كان حين يزورنا ، بعد غياب شهرين أو أكثر ، يجلب معه دجاجة مشوية كاملة مع بعض الحلويات والملابس ويسدد فاتورة الكهرباء المتأخرة .
كان يمكث أسبوعاً أو أسبوعين ثم يغادرنا ، لا نسأل عن وجهته ، ولا يخبرنا إلى أين هو ذاهب . لكن خلال هذه الأيام القليلة كان حلو اللسان يحيطنا بعاطفته الصادقة ، ويردد عبارات الأسف لاضطراره للسفر وتركنا وحدنا دون رعاية وحماية، ثم يبدأ في كيل الشتائم لأفراد عائلته الذين قست قلوبهم وعادوا لا يسألون لا عنه ولا عنا ، وكان ينصحنا دائما بأنه إذا قدم أحد من أهل الخساسة إلى المنزل اطردوه ولا تدعوه يدخل . ولكن هذا لم يتحقق لأننا لم نلتق أي شخص منهم قط .
خالي كان في الستينيات من عمره ، طيب السريرة ، أعزب ، قصير القامة ، أبيض البشرة ، له أنف طويل معقوف ، وشارب أسود قصير .
كان شديد الاهتمام بحلاقة ذقنه ، ويحب أن يبدو أكثر شباباً، حتى أن من يرى هيئته يحسبه أصغر سناً .
سألته ذات مرة :
" خالي ، لماذا لم تتزوج بعد ؟ " .
فأجاب وقد أخجله السؤال :
" لأنني أبحث عن امرأة باسلة ، كثيرة اللحم ، وفمها ملوز ، ولها طرف كحيل ، وخد أسيل " .
تواقح محمود فقال له عامداً إغاظته :
" ولكنك كبرت يا خالي " .
اقترب من محمود وهو يرفع صوته عالياً:
" ها … "
فقد كان يشكو من ضعف في إحدى أذنيه .
كرر محمود ما قاله ، فرد عليه بسرعة وقد أثارته كلماته :
" سأشرب عند نومي كأساً من العسل الخاثر ، وأتناول عشرين حبة من اللوز ، ومائة حبة من الصنوبر ، وستراني أكثر شباباً منك أيها التيس" .
كان يجلس معنا إلى وقت متأخر من الليل يقص علينا حكايات مملة ومكررة عن (بنت الغول) و (غصون .. غصون) و (سيرة حمزة البهلوان ) .. حكايات تبعث على النوم لكثرة ما سمعناها منه . كان يبدأ حكاياته بفرك مسبحته الكهرمانية الطويلة التي جلبها معه من الحج قبل عشرين عاماً، ثم يقول : " ذاك سلطان من السلاطين ، لعن الله الشياطين ، نرش بالطيب والترتيب حتى قلوب العاشقين تطيب ، ويا عاشقين النبي صلوا عليه" .
فنقول بصوت واحد :
" اللهم صلي عليه وسلم " .
أحياناً كان يغني أغنيات قديمة بصوت أجش مزعج ، لكنه كان أكثر إزعاجاً حين ينام ، فهو يشخر في ضجيج عنيف ، أشبه بصوت محرك سيارة " فورد " القديمة ، وينساب من فمه لعاب غزير .
في إحدى المرات وبعد أن تأكد لي نوم محمود ويوسف سألته بفضول غريب :
" خالي ، لماذا لا تخبرنا إلى أين تسافر ، وبماذا تشتغل ؟ " .
لكنه لم يتفاجأ بالسؤال بل بدا وكأنه ينتظره منذ وقت طويل .
قال وهو ينفخ الهواء الذي في صدره :
" سأخبرك يا ولدي بسرٍ لم أطلع أحداً عليه ، أنا أتاجر منذ زمن بعيد في تهريب المخدرات ، لذا لا استقر في مكان واحد . تحت إمرتي عشر سفن ، ورجال أشداء يخاطرون بحياتهم من أجلي ، لن تستطيع أن تحصي ثروتي وأملاكي .
كنت غير مصدق ما يقوله ، ابتسمت ببلاهة وأنا أسأله :
" أنت مهرب مخدرات ؟ !" .
" - هذا جوابي على سؤالك " .
وغط في نومه تاركاً إياي في حيرة من أمري .
هل أصدق ما يقوله . خالي مهرب مخدرات؟ . لقد كان أحياناً يروي لنا بجدية تامة حكايات وهمية وأمازيح طريفة عن مغامراته وبطولاته أيام شبابه ، حتى يخيل إليك أنه صادق في كل كلمة يقولها ، فهو لا يبتسم ، ولا يفصح في نهاية حكايته على أنها قصة ملفقة من بنات أفكاره، بل كان يوحي بأنها قصة حدثت بالفعل. ولكن حكايته الأخيرة مريبة جداً . ماذا لو كان يقول الحقيقة هذه المرة . ماذا لو كان فعلاً مهرب مخدرات ؟ . ماذا نفعل لو قبضوا عليه وصادروا المنزل الذي نسكن فيه ، أين نذهب من هنا ؟ . ثم أقنعت نفسي بأنه لا يمكن أن يفشي سراً خطيراً مثل هذا لفتى مثلي ، وأنه لا بد كان يقصد تجنب الإجابة على سؤالي .
كنت على وشك أن أوقظه من نومه لأستريح من شكوكي ، ولكنه كان يغط في نوم عميق . هززته عدة مرات ولكنه لم يتحرك ، وتركني في حيرة شديدة.
في صباح اليوم التالي تعمدت الاستيقاظ باكراً ولكنني اكتشفت أنه لم يكن في المنزل فقد سافر مرة أخرى .
وانتظرت زيارته القادمة بصبر نافد وأنا في قلق دائم. وحين جاء نسى أنه تحدث معي في هذا الموضوع ، وأفهمني بأن هذا ليس إلا أضغاث أحلام . لكنني ألححت في السؤال فطلب مني الانتظار ريثما ينام محمود ويوسف ويطلعني على سر آخر .
في تلك الليلة كرر لنا حكاياته المملة حتى نام يوسف أولاً ، ثم لم يصمد محمود طويلاً فنام هو أيضاً . كنت أقاوم حتى لا أنام ، ولما حانت الفرصة سألته :
" خالي هل حقاً أنت مهرب مخدرات ؟ " .
قال هامساً:
" هذا ليس مهماً الآن ، سأطلعك على أمر غريب صادفته في رحلتي الأخيرة " .
ثم تدفق في الكلام وهو يكرّ سبحته الكهرمانية:
" ذات ليلة ونحن نيام على ظهر السفينة شاهدنا نوراً غامراً يقترب من السماء حتى حطّ على مقدمة السفينة ، فشهقنا رعباً مما رأيناه ، فقد وقف أمامنا شيخ جليل يلبس جبة رمادية اللون ويلفّ نفسه بعباءة سوداء ، تحرك بضع خطوات وجلس دون أن يتفوه بكلمة . صمت مدة طويلة ولكننا لم نجرؤ أن نقترب منه . كان مغمض العينين ، يشعّ من وجهه نور كالشمس . ثم ارتفع في الهواء حتى وصل رأسه إلى صارية السفينة ، ونزل بهدوء . سألناه فلم يجب على أسئلتنا ، ولكنه استطاع أن يجعل نعليه تتناطحان ، فقد نظر إليهما وتفوه بأقوال غير مفهومة ، فقام النعلان في الهواء وبدآ في المناطحة كالديوك الوحشية ، ثم مدّ يده في الهواء فإذا بيده كوز أحمر فيه ماء ، شرب منه بضع رشفات . ثم بدأ يغني بصوت رخيم لم أسمع مثله في حياتي ، فازداد وجهه جمالاً ونوراً ، ورقص رقصاً عظيماً دون أن يتعب، ثم انتابه إغماء طويل . وظل معنا في السفينة عدة أيام لم يكن يأكل فيها إلا الخبز والزبيب الأسود مرة واحدة في اليوم ، وطلب منا إذا مات أن نضعه في تابوت مملوء بالعسل بعد أن نغسله بماء الورد ونغمره بالكافور" .
حكايته عن الشيخ أرجفت قلبي وأبعدت الوسن عن عيني .
أكمل خالي حكايته قائلاً:
" سألته إلى أين وجهته ، فقال لي إنه ذاهب إلى مدينة الأولياء التي لا يدخلها من لم يبلغ الأربعين. وحين سألته عن هذه المدينة قال إنها دار لا يضيق فيها المكان ، ولا ينتزع منها السكان، ولا يزعجها حوادث الزمان ، أما حدودها فأربعة ، الحد الأول ينتهي إلى منازل الراجين ، والحد الثاني ينتهي إلى منازل الخائفين المحزونين ، والحد الثالث ينتهي إلى منازل المحبين ، والحد الرابع ينتهي إلى منازل الصابرين " .
سألت خالي بلهفة :
" وهل وصل إلى هذه المدينة الغريبة ؟ " .
كان واضحاً أن خالي بدأ يتلذذ بلهفتي في معرفة بقية الحكاية فأخذ يتثاءب دون داع ويقول ببرود :
" طلبت منه أن يأخذني معه إلى مدينة الأولياء، لكنه انتفض انتفاضة قوية ، وفتح عينيه الواسعتين ، وقال لي : لن تتبدى لك المكاشفات والمشاهدات حتى يصبح قلبك مستعداً لقبول نور اليقين . ونصحني بأن أصوم أربعين يوماً فأمنع نفسي عن الطعام والشراب ولا أشرب إلا طاساً واحداً من الماء وتمرة واحدة لتقيني من الموت . وقال لي إذا اقتربت من نور اليقين فدع لسانك ناعماً وطرياً ، مسترخياً في قاع فمك ، ودع رقبتك طلقة مرنة، ودع فروة رأسك سائبة مسترخية ، ودع جبهتك ناعمة هادئة كطفل حديث الولادة ، ودع جفنيك يثقلان حتى لا تتحمل رقة هدبك ، وعندما يصل جسمك في حالة راحة تامة دع عقلك يلج منابع القوة في رأسك واشعر بالحرية كما لو أن غيمة بيضاء تملأ تجويف جسمك كله ، حينها فقط ينكشف لك الغيب ويحصل لك اليقين ، وتستطيع أن ترتفع بجسمك في الهواء وتنتقل عبر الزمان والمكان فتلتقي من لم تلتقيه ، وتتعرف على من لم تتعرف عليه حتى وإن كان يبعد عنك مائة مائة سنة " .
وسكت خالي ، في حين كنت متلهفاً لسماع بقية الحكاية لكنه قال لي وهو يتمطى كقط عجوز:
" اذهب وأرح نفسك ، واتركني أنام " .
توسلت إليه أن يكمل الحكاية ، لكنه استلقى على فراشه واغمض عينيه .
كنت في حالة من الغيظ الشديد كدت أهزه بعنف وأطلب منه أن يكمل الحكاية ، فقد كرر فعلته السابقة معي وتركني في حيرة من أمري ، هل أصدق ما يقوله ، أم أن كل هذا من خرافاته العجيبة ؟. ومرة أخرى سافر خالي دون أن يجيب على أسئلتي .
(14)
ذات ليلة حلمتُ بأنني في باص يشق طريقاً صحراوياً بسرعة فائقة ، ويترك وراءه غباراً متصاعداً إلى السماء . لم يكن بالباص أحد سوانا: محمود ويوسف وأنا ، كنا جالسين في مقاعد متباعدة لا نتحدث ولا يلتفت أحدنا إلى الآخر ، أما السائق فلم أر سوى أعلى ظهره ورأسه الذي كان يشبه أبي كثيراً .
اخترق الباص نوراً لامعاً غمرنا جميعاً. سمعت دوي صوت عظيم من السماء لا يدانيه صوت ، فحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزال عنيف ، وتساقط من السماء بَرد كبير .
رأيت الخيول وعليها فرسان يلبسون دروعاً بعضها أحمر ناري ، وبعضها بنفسجي ، وبعضها أصفر كبريتي ، وكانت رؤوس الخيل مثل رؤوس الأسود ، تلفظ من أفواهها ناراً ودخاناً وكبريتاً.
توقف الباص . فتح السائق الباب ونزل. حاولت أن أرى وجهه ، لكنه كان يخطو خطوات سريعة متجهاً إلى عمق الصحراء . ركضت وراءه أناديه ، لكنه لم يجب ولم يلتفت . " - أبي .. أبي " .
ابتعد عنا وتركنا في صحراء قاحلة يستوطنها الرمل ولظى الشمس . التفتُ فلم أر محموداً ولا يوسف ، ففزعت واستغثت بهما .
الصحراء بساط أصفر ممتد إلى ما لا نهاية ، والانتظار أصبح اضطراباً وتحوّل إلى خوف شديد .
وحيداً في الصحراء المحرقة أبحث عن أبي وأخوتي ، أرى برميلاً يكبرني حجماً مفتوح الغطاء. دخلت في البرميل احتمي من لفح الشمس . أعدت الغطاء مكانه فأظلمت الدنيا.
بعد قليل حاولت أن أطل برأسي من البرميل علهم قد عادوا . دفعت الغطاء فلم يتحرك. بذلت كل قوتي لدفعه فلم يتحرك. خفت . فتكوّرتُ في البرميل ، وضربت بقدمي الغطاء ليفتح فلم يتحرك. صرخت بأعلى صوتي :
" أنقذوني .. أنقذوني " .
بدأ دم حار غليظ يتسرب من شقوق كثيرة في أسفل البرميل ويغطي قدمي . صرخت وضربت الغطاء فلم يتحرك. ازداد تدفق الدم . غطى الساقين . الصدر . الرقبة . الرأس . وغرقت في الدم.
نهضت مفزوعاً من نومي . كان قلبي يدق دقات عنيفة ، وعرقٌ يتصبب من جسمي كله. نظرت إلى محمود . كان نائماً . ونظرت إلى يوسف فلم أر سوى فراشه ، ثم سمعت صوت بكاء خارج الغرفة. قمت على عجل وخرجت فإذا بيوسف واقعاً على الأرض وهو ينزف دماً من فمه. صرخت بأعلى صوتي على محمود الذي هب مفزوعاً وجاء على عجل.
أخذنا يوسف إلى فراشه ، كان الدم يغطي ثيابه . والخوف يخنق صدري مما يمكن أن يحدث . أحضر محمود قماشاً مبلولاً بالماء ومسح فمه ووجهه بحثاً عن أثر لجرح ، لكننا لم نجد شيئاً.
" - يبدو انه تقيأ دماً " .
قال محمود ذلك وهو يحشرج .
" - ولماذا يتقيأ دماً ؟ " .
" - لا أعرف . يوسف .. هل تشعر بأي ألم ؟ " .
لكن يوسف لم يرد علينا ، فقد كان غائباً عن الوعي.
حاولنا إيقاظه ولكن دون جدوى. طلب مني محمود أن أبلل وجهه بالماء ريثما يعود .
" - إلى أين أنت ذاهب ؟ " .
لكنه أسرع في الخروج من المنزل . أخذت أنادي يوسف عله يفيق ولكن كان أشبه بالميت . بعد قليل عاد محمود ورفع يوسف وأسرع في الخروج.
في الخارج كانت سيارة صغيرة واقفة بها امرأة متلفعة يبدو عليها الارتباك والخوف. فيما بعد عرفت أنها السيدة المطلقة التي دفعت الدنانير العشرة مقابل مهمة المقبرة.
(15)
عند باب المستشفى قالت المرأة لمحمود إنها مضطرة للعودة ، وطلبت أن لا نذكر اسمها إن سألنا أحد عمن أوصلنا إلى المستشفى .
رفع محمود يوسف وجرى به إلى داخل المستشفى وأنا أركض وراءه أردد على نفسي هذا السؤال : لماذا تقيأ يوسف دماً ؟
وضعوا يوسف في غرفة الطواريء وطلب الطبيب منا أن ننتظر خارجاً . رفض محمود ولكنه رضخ تحت إصرار الطبيب .
انتظرنا ساعات طويلة في غرفة الانتظار ، لم يسمحوا لنا بالدخول لمعرفة ماذا يجري بالداخل . بدا محمود مضطرباً ، قلقاً ، يتصنع الهدوء ، في حين كنت على وشك الانهيار ، هل يمكن أن يحدث مكروه ليوسف ، هذا الطفل الجميل الذي لم يعش حياته بعد؟، هل يمكن أن تكون هذه أيامه الأخيرة في الدنيا؟ .
" - لماذا تقيأ يوسف دما ؟ " .
نظر محمود في وجهي ملياً كأنه يفكر في إجابة على سؤالي ، لكنه لم يقل شيئاً .
كانت الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل حين خرجت ممرضة تتلفت في القاعة ، ثم تقدمت نحونا قائلة :
" - ماذا تقربون للمريض ؟ " .
أجاب محمود :
" - هو أخونا الصغير ، ماذا به ؟ " .
قالت ببرود شديد :
" - لا شيء ، سيظل بالمستشفى عدة أيام لإجراء بعض الفحوصات الطبية " . قلت لها :
" - هل سيكون بخير ؟ " .
أجابت :
" - بإذن الله .. بإذن الله " .
كلامها لم يكن مطمئناً إلى نفوسنا. كانت تخفي عنا حقيقة مرض يوسف .
" - هل يمكننا رؤيته ؟ " .
قالت بعد تردد :
" - تعالا معي " .
ومشينا وراءها في ممرات طويلة ثم صعدنا إلى الطابق السادس . وأخذتنا إلى غرفة خاصة نظيفة ، هادئة . كان يوسف نائماً على السرير مرتدياً ثياب المستشفى البيضاء .
كان مشهداً مثيراً للألم لم يبارح مخيلتي وقتاً طويلاً : كمامة أوكسجين تسد فمه ، في يده إبرة محكمة موصولة بزجاجة بيضاء معلقة بالقرب منه ، بقع دم متناثرة على ثوبه الأبيض ، ويوسف غارق في نوم عميق.
أشارت إلينا الممرضة بالخروج ، وطلبت منا العودة يوم غد حيث يكون أفاق من نومه . لم استطع أن أتحكم في دموعي فبكيت بصوت ضعيف وخرجت مع محمود من المستشفى .
جلسنا ساعتين على الأقل في محطة الباص دون أن نقول شيئاً . ولما جاء الباص أخيراً قام محمود لكنه لم يركب الباص بل عاد إلى المستشفى ثانية.
(16)
مكث يوسف في المستشفى أسبوعين وهو يتلقى العلاج ، لكن لم يطلعنا أحد على مرضه ، رغم محاولاتنا الدائمة .
لم يعد يوسف ذلك الطفل الجميل ، كان خائر القوى ، شاحباً يزداد اصفراراً . عيناه اتسعتا وأصفر بياضهما حتى كأنك ترى الموت يسكن داخلهما. أصبح ذاوياً وشعره الأشقر الناعم بدأ يتناقص بوضوح .
كان يشيخ في كل لحظة .. ثقلت حركته، وصعب تنفسه ، وانتفخ بطنه ، وبدأ يقول كلاماً لا نفهمه ، أحياناً كان يذكر أمي ، وأحياناً يلحّ على طلب دراجته الحمراء .
خالي كان الشخص الوحيد الذي زاره في هذه المدة . حين وقعت عيناه على يوسف ارتجفت شفتاه وتساقطت من عينيه دمعتان كبيرتان ، وضرب كفاً بكف وهو يتلو بعض الأدعية والآيات القرآنية.
بعد أن هدأ همس في أذني قائلاً :
" اسقوه كأساً من البول يقوّي جهاز مناعته ويمنع عنه المرض " .
ولما رأي تعجبي مما قاله همس قائلاً:
" اسمع أيها التيس .. البول يحتوي على كمية كبيرة من الهرمونات والأملاح والمعادن والبروتينات المفيدة ".
(17)
في نهاية الأسبوع الثالث كان يوسف قد تغير شكله تماماً . كان واضحاً أنه يصارع الموت في كل لحظة ، رغم أننا كنا نحاول رفع معنوياته ورسم الابتسامة على شفتيه . وحتى ذلك الوقت لم يطلعنا أحد على المرض الذي أصابه، أو متى سيشفى مما هو فيه .
كانت الساعة الرابعة ظهراً حين دخلت غرفة يوسف. كان مستيقظاً يحدّق في السقف . لما أحس بوجودي فتح ذراعيه وابتسم ابتسامة ناحلة . اقتربت منه وطبعت قبلة حارة على خده .
قال لي بصوت واهن :
" حلمت حلماً جميلاً ، رأيت أنني في غابة عجيبة، سماؤها صفراء بلون الذهب ، وأرضها زرقاء بلون البحر . كنت أمشي على عشب مخضل بالندى دون أن ألمس الأرض بقدمي العاريتين . كلما مشيت ظللتني فراشات سوداء كانت تحلق على رأسي . ما أجمل الفراشات ، كانت تتبعني أينما ذهبت . ليتني أنام على العشب الأزرق لأرنو إلى الفراشات السوداء " .
كنت أسمع ما يقوله دون أن أقاطعه ، لكنه تعب وتوقف عن الكلام ، ثم صعدت منه زفرة عميقة ، بعدها غرق في صمت طويل .
كنت في ضربٍ من القلق والخوف ، وخشيت من السكون المرهق الثقيل الوطأة على قلبي . قمت واقتربت بتمهل من يوسف عسى أن يكون نائماً.
رأيت عينيه خاويتين لا حياة فيهما ، ولسانه وقد أنحرف تدريجياً مع انفراجة فمه ، وبرز طرفه من فمه ، فشعرت برعب شديد زلزل كياني كله.
أخذت أهز يده الصغيرة بلطف وأناديه بصوت مرتعش :
" يوسف .. يوسف .. حبيبي " .
محمود دخل الغرفة وبيده كيس صغير اشتراه من بائع قريب من المستشفى . رأي عيني المذعورتين وارتجافة بدني . لم يقل شيئاً رغم أنه فغر فاه واسعاً . اقترب من السرير . وضع يده على خد يوسف ، ثم مسح بأصابعه على عينيه وشهق وزفر بعنف شديد . خلته سيصرخ بأعلى صوته، لكنه جلس على الكرسي المقابل لي دون أن ينبس بحرف . نظر إليّ طويلاً نظرة لم أفهمها . فلم أحتمل نظرته تلك .
قلت مدمدماً:
" لم نستطع أن ننقذه . لقد مات يوسف " .
ودفنت رأسي في السرير وبكيت بحرقة شديدة. ليتني متّ بدلاً عنه . ووجدتني أهتف بداخلي :
" أبي .. أين أنت .. لم تخليت عنا ؟ " .
سمعت محموداً يقول متهدجاً:
" أريد أن أفهم شيئاً واحداً فقط ، لماذا كل هذا العذاب ؟ . أي ذنب أذنبنا ، وأي جرم أجرمنا لنستحق كل هذا العذاب ؟ " .
(18)
صباح اليوم التالي كنا ثلاثة في المقبرة، محمود وأنا وسائق سيارة الإسعاف ، ومعنا حفار القبور ، لا أحد هنا ليصلي على يوسف ، ولا ليبكي عليه ، من يكون يوسف هذا حتى يأتي الناس ليصلوا ويطلبوا له الرحمة ؟ .
جلسنا على المصطبة منتظرين ، في حين تولى حفار القبور غسله وتكفينه . بعد لحظات استأذن سائق سيارة الإسعاف في الذهاب ، فلم يبق غيرنا في المقبرة .
بعد قليل أطل حفار القبور وطلب منا مساعدته . دخلنا . كان يوسف ملفوفاً في كفن أبيض لا يخرج منه نفس ، ولا تصدر عنه حركة، ولا يفتر ثغره عن ابتسامة جميلة ، ولا يبعثر الهواء شعره الأشقر ، ولا تهفو روحه لركوب دراجته الحمراء . لاشيء بقي من يوسف إلا جثة هامدة لا حركة فيها .
طلب منا وضعه على النعش بعناية ، ثم رفعنا النعش ومشينا به إلى مقامه الأخير. كان حفار القبور يمشي أمامنا يحمل بيديه طرفي النعش في حين رفع محمود الجهة اليسرى الخلفية ورفعت أنا الجهة اليمنى .
من بين كل الناس في هذه الدنيا ثلاثة أشخاص فقط يمشون في جنازة طفل بريء.
حين أهال حفار القبور التراب على جسد يوسف انفجرت في البكاء كما لم أبك طوال حياتي. حتى تلك اللحظة لم أصدق أن يوسف انتهى ورحل . كنت في قرارة نفسي أتمنى لو ينهض فجأة ويمزق كفنه ويعود معنا إلى البيت ، لكن كل ذلك التراب الذي انهال عليه أكد لي أن يوسف لن يعود ثانية إلى الحياة .
على النقيض كان محمود صامتاً ، لا يبكي، يحاول مساعدة حفار القبور في إنجاز مهمته . بعد الدفن تقدم بخطوات سريعة خارجاً من المقبرة فأخذت أجرجر نفسي وراءه باكياً بصوت عال . كان كمن يحاول الخروج من المقبرة بأسرع ما يمكنه مما أثار في نفسي خوفاً عليه .
بدأ محمود يجمع الحجارة ويركمها على ذراعه ، ثم أخذ يركض باتجاه الشارع العام غير آبه بالسيارات التي كادت تصدمه ، وأخذ يصرخ بهستيرية ويشتم الناس ويقذف المارة والسيارات والمتاجر بالحجارة ، وحاول أن يركض إلى الجهة المقابلة من الشارع لكنه ارتطم بمقدمة سيارة مسرعة قذفته مسافة عالية في الهواء وعاد ليشدخ رأسه بالأرض.
استطعت أن أراه وهو يرفع ظهره عن الأرض عدة مرات ويحرك رأسه يمنة ويسرة ، ويحرك ساقيه ويتصلب كأنه يحشرج ، ثم توقف فجأة عن الحركة.
ركضت إليه وأنا ذاهل مما حدث ، دسست نفسي بين المتجمهرين . كان ساكناً لا يتحرك ، وعيناه مفتوحتان خامدتان وبقعة كبيرة من الدم تحت رأسه.
وقفت بعيداً عنه أبكي وأرتجف لكنني لم أقترب منه خشية أن أرى وجهه المتمزق . جاءت سيارة إسعاف فأخذوه مسرعين وتركوا بقعة الدم وفردة حذائه على الأرض .
لما ابتعد الناس اقتربت من المكان الذي سقط فيه وأخذت فردة الحذاء وضممتها إلى صدري.
(19)
عدت إلى المنزل وأغلقت باب الغرفة عليّ وبداخلي خوف عظيم من وحشة المكان . كنت أرتجف خوفاً وأنا أتذكر حادثة محمود . ترددت في الذهاب إلى المستشفى حيث نقلوه ثم قررت أن لا أخرج من المنزل أبداً. حتماً سيدفنونه في مكان ما من تلك المقبرة الكبيرة ، ربما سينام قريباً من أخيه يوسف . ربما أموت أنا وأدفن بجوارهما أيضاً .
كنت أدعو في قرارة نفسي أن يعود خالي من السفر ، كم أنا محتاج إليه الآن ، ولكنه لم يأت في تلك الليلة ولا الليالي التي أعقبتها .
وأنا حبيس تلك الغرفة تذكرت ما قاله خالي عن نصيحة الشيخ الجليل له بالصوم أربعين يوماً ، قررت أن أعمل بنصيحته كي أرتفع بجسمي في الهواء وأنتقل عبر الزمان والمكان فألتقي بأبي وأمي ومحمود ويوسف ونعيش معاً عائلة واحدة .
(20)
لا أتذكر كم يوماً مضى عليّ وأنا أحاول أن انفذ نصيحة الشيخ الجليل فلم أكن أشرب في اليوم إلا كأساً واحدة من الماء وكسرة خبز لتقيني من الموت. لكنني أصبحت واهن الجسد لا أقوى على الحركة ولا حتى على انتصاب ظهري ، فكان رأسي يدور وأقع على الأرض من شدة الوهن . لكنني كنت على أمل أن أستطيع عبور عوالم المكان والزمان وألتقي بمن فقدتهم.
استطعت أن أميز طرقاً متواصلاً على باب الغرفة الموصدة ، كان صوته أشبه بصوت أبي . كان يناديني ويطلب مني فتح الباب . حاولت أن أزحف ولكنني كنت أوهن من أن أحرك جسمي ، ثم بدا لي أن الباب انخلع بقوة شديدة . فتحت عيني بصعوبة ورأيت خيال شخص واقف أمامي .
قلت بصعوبة :
" يا سيدي ، ماذا أفعل لكي أخلص ؟ " .
" - ……………….. ".
أقول له والدموع تزدحم في عيني :
" أنا وحدانيّ في هذا العالم ، قل لي ماذا أفعل لكي أخلص " .
أشعر بيد تهزني ، وبقطرات من الماء البارد ينضح بها وجهي . افتح عيني ببطء . " - أنا أبوك " .
يصب ماءً بارداً على رأسي فانتفض ، لا أصدق ما أرى ، ها هو أبي أمامي مرة أخرى.
" - أبي " .
" - نعم أنا أبوك " .
يعطيني بعض الماء ، ويرفعني بسهولة من على الأرض ويحملني على كتفه ثم يخرج من المنزل. أشير إلى دراجة يوسف وحذاء محمود لكنه لم يفهم ما أعنيه .
" - لماذا تخليت عنا ؟ " .
" - في الطريق سأخبرك بكل شيء " .
أحاول أن أسمع ما يقوله وهو يتحدث ويسرع في خطواته ، ولكن رأسي يدور وبي رغبة عنيفة في إخراج ما في أحشائي .
أضع رأسي على كتفه فأشعر بأن الروح عادت لجسدي . أطوّق عنقه بيدي كطفل صغير يلتجئ إلى صدر أبيه . اسأل نفسي : هل أنا أهذي ، أم أن ما أراه حقيقة ؟ .
الآن ، لا شيء يهم ، ولا أريد أن أعرف شيئاً. الحقيقة الوحيدة التي أعرفها أنني الآن مع أبي ، وكل ما عليّ فعله هو أن أغمض عيني وأنام بسلام ، فلا شيء في هذا العالم يضاهي صدر أبي .
عبدالقادر عقيل
وهو يمدّ ، كمتطفلٍ ،
عنقه الجميلة ، إلى داخل قلبي ،
ليرى صورته المثبّتة هنا
" هل أنت يوسف
وأخوتك لا يحصون ؟ "
قاسم حداد
(1)
" - يا سيدي ، ماذا افعل لكي أخلص ؟ " .
" - …………………. " .
أقول له والدموع تزدحم في عيني :
" أنا وحداني في هذا العالم ، قل لي ماذا أفعل لكي أخلص " .
(2)
قبل ثلاثة أعوام ، ولم يكن لي آنذاك من العمر سوى عشر سنوات ، قرر أبي أن يتخلى عنا ، فرحل دون أن نعرف دواعي رحيله ، أو نسمع عنه شيئاً . لم يكاتبنا ، ولم يكلمنا ، ولم يعلمنا بمكان وجوده ، وترك أمي وحدها تنوء بعبء إيواء وإطعام أولادها الثلاثة: محمود ويوسف وأنا .
كان يوماً كأي يوم مضى ، خرج في الصباح دون أن نلاحظ عليه شيئاً غير عادي. أعطاني مع محمود مصروف المدرسة اليومي ، وغادر البيت وهو يغمز لي بعينه دون أن يقول شيئاً. كانت هذه آخر مرة أراه فيها .
انتظرناه طوال النهار ، قلقت أمي كثيراً. فليس من عادته أن يتأخر في العودة . طلبت أمي من محمود أن يتصل بالمصنع من محل البقالة القريب ، لكن محموداً عاد دون نتيجة فقد اتضح ان أبي لم يذهب إلى العمل في ذلك اليوم.
طلبت أمي من محمود أن يعتني بالصغير يوسف ريثما تذهب إلى مركز الشرطة للإبلاغ عن اختفاء أبي . رافقتُ أمي إلى مركز الشرطة . كانت قلقة جداً وتتمتم خائفة : " يا رب .. يا رحيم . "
هناك قدمت بلاغاً عن اختفاء أبي ، فسألوها أسئلة كثيرة بطريقة ودية قدر الإمكان: عن مكان عمله ، وأوصافه ، وأصحابه ، ووضعه الصحي والمالي.
كانت مشتتة الفكر . تجيب على أسئلتهم وتقاطعهم طالبةً منهم أن يتصلوا بالمستشفيات ، لعل حادثاً وقع له ، ثم تسأل إن كان مقبوضاً عليه. لكن كل الاتصالات لم تسفر عن شيء. أبي ليس في العمل ، ولا في المستشفيات ، وليس مدرجاً ضمن قوائم المسافرين ، ولا في أقسام الشرطة . أمتعته وملابسه وأوراقه الثبوتية كلها موجودة بالبيت . هو هنا ، في مكان ما ، ولكن أين هو ؟ ماذا حدث له ؟ . لا أحد يعرف .
بعد مضي شهر من البحث والسؤال بدأ اليأس يدب في روح أمي . وصارت لا تنفك تردد على مسامعنا ، وهي تتفجع ، أنه تخلى عنا من أجل امرأة أخرى . لكنها كانت تدرك ، أنه لا نحن ، ولا هي ، نصدق ما تقوله.
ذات ليلة كنت أراقبها وهي مستلقية على فراشها ، تتحرك من جنب إلى آخر في قلق ظاهر ، ثم تنهض وتضرب بيدها على رأسها ضربات متتالية ، وتخفى رأسها بين ذراعيها . فجأة استخرطت كطفل صغير في بكاء متقطع ، ثم توقفت، وتفوهت بكلمات لم تصل إلى سمعي .
لم أكن أدري كيف يمكن أن أخفف من وطأة الألم الجاثم على صدرها ، فلم أتحرك من مكاني، وأخذت أراقبها وهي ضائعة في متاهة حيرتها المظلمة.
خطت نحونا وانحنت على يوسف وطبعت قبلة على خده ، واقتربت مني ومسحت برفق على شعري وقبلتني ، وقبلت محموداً بهدوء، ثم عادت إلى فراشها وهي تغطي وجهها بيديها . سمعت صوتها الحزين وهي تقول متضرعة :
" عد إلينا أرجوك ، لا أحد لنا سواك " .
(3)
كان أبي طويل القامة ، قوي البنية ، له وجه أنيس ، وشعر كثيف ، وشاربان جميلان ، ترى في عينيه العسليتين صفاء الذهب ، لكنه صموت قليل الكلام ، قليل الضحك ، يميل إلى الهدوء حتى وهو يوبخنا ويعاقبنا. كتومٌ عن أحواله في العمل ، وعن شئونه المالية ، رغم راتبه الضئيل . تزوج وهو في الثالثة والعشرين من العمر من ابنة عمه التي كانت في الثامنة عشرة ربيعاً ، وظلت سبع سنوات دون أن تنجب ، ثم رزقا بمحمود، الذي يكبرني بثلاث سنوات ، وبي ، وبيوسف الذي يصغرني بخمس سنوات .
كان أبي يحب يوسف كثيراً ، ولكنه لم يكن من ذلك النوع الذي يظهر لك حبه ، وإن كنت ترى ذلك في عينيه وتعابير وجهه . أحياناً كان يدللني ويلاطفني ، ويسأل عن أحوال المدرسة ، أما مع محمود فلم يكن يظهر ناحيته أي تعلق حقيقي لسبب أجهله، ولكن الأمر لم يصل بينهما إلى حد النفور.
لم يكن يخرج من البيت إلا نادراً، كان يحب المكوث في البيت ، يزجي فراغه بقضاء ساعات طويلة ، بعد رجوعه من المصنع ، في تصليح سيارة " فورد " قديمة ، صدئة ، تربض خلف البيت ، على أمل أن يعيد تشغيلها يوماً ما.
ذات مرة استطاع أن يدير المحرك بنجاح، فدخل البيت فرحاً ، وعلى غير عادته أخذ يصفق بيديه مبتهجاً ، ثم طلب مني أن أرافقه في جولة سريعة .
كنت سعيداً لأنها كانت لحظة نادرة من تلك اللحظات التي نرى فيها أبي مغموراً بالغبطة المخبوءة في صدره .
حرك ناقل السرعة بخفة ، وأخرج يده من نافذة السيارة تاركاً الهواء يعبث بخصلات شعره الناعم ، وفتح الراديو على موسيقى صاخبة تصم الآذان ، إلا أن السيارة بدأت ترتجف ، وتصدر أصواتاً غريبة ، ثم توقفت في منتصف الشارع العام .
نزلنا وأخذنا ندفعها بكل ما أوتينا من قوة في حين كانت عيون الآخرين الشزراء تلعننا وتلعن هذه السيارة القديمة التي شلت حركة المرور.
أعاد السيارة إلى مكانها معتكر المزاج، حزين النفس ، خائب الأمل ، لكنه لم يغضب ولم يطر صوابه رغم الشعور العارم بالخيبة الذي اعتراه. كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أراه فيها فرحاً .
ثم حدث ما أنساه أمر السيارة القديمة ، فقد فازت إحدى تذاكر اليانصيب ، التي كان يكثر من شرائها ، بالجائزة الخامسة وكانت منظاراً فلكياً يصل طوله إلى خمسة أقدام .
كان يقضي أوقاتاً طويلة على سطح المنزل يتأمل ، دونما ملل ، النجوم اللامعة البراقة والشهب المحترقة والبقع السوداء على سطح القمر.
سألته ذات مرة
: " هل وجدت شيئاً في الفضاء ؟ ".
قال بحماسة : "
تعال وانظر بنفسك ".
نظرتُ فرأيت جسماً يصدر ضوءاً باهراً أبيض مثل شلال لماع.
قلت مستخفاً بما رأيت : "
ما هذا الشيء ؟ ".
قال : "
لا أعرف ، ولكنه يقترب شيئاً فشيئاً من الأرض!" أمي اعتادت تسليته الجديدة فلم تتذمر، ولم تسأله عن مكوثه الطويل في تأمل الفضاء . بل كانت تأخذ إليه الشاي وتجلس تحدق في السماء دون أن تقول شيئاً .
(4)
لا أدري لم كنت أشفق دائماً على أمي ، فلقد كانت من ذلك النوع من البشر الذين يلازمهم التعس طوال حياتهم . كانت مستسلمة ، صبورة ، قانعة ، لا تعتني بشخصها ولا بملابسها ، ولا تكترث أيما اكتراث بعسر الحال ، وبتواضع المكان ، وشح المال. لكن رغم سنواتها الثمانية والثلاثين كان وجهها لا يزال يحتفظ بجماله ورونقه ، بخاصة إذا نظرت إلى عينيها السوداوين الكبيرتين جداً ، اللتين تنمان عن طيبة النفس.
ذات ليلة أصيبت بحمى شديدة فأخذت ترتعد ارتعاداً قوياً ، وتئن أنين المقبل على الموت.. كان أبي منشغلاً بمشاهدة النجوم ، فبقيت قربها أخفف من حرارتها بوضع كمادات باردة على جبينها، حتى هدأت وبدأت تتصبب عرقاً غزيراً .
فتحت عينيها ونظرت إلي فاغرة الفم لوهلة ، ثم رفعت يدها بهدوء ومسحت على خدي قائلة بصوت حزين الرنة :
" لك قلب رؤوف ، نقي كل النقاء ، من مثلك سيتعذب كثيراً في هذه الدنيا ".
حاولتُ أن أقول شيئاً ولكنني لم أتجاسر، فمسحتُ على شعرها برفق علها تنام ، ولكنها عاودت فتح عينيها والدموع تستقطر منهما قائلة :
" سأكشف لك ما هو خاف عليك " .
وأخذت تتحدث عن حبها القديم لشاب كان يماثلها سناً رغم معارضة أبيها ، وكيف كانا يلتقيان خلسة تبادله الحب وتعاهده على الإخلاص والوفاء، وكيف حاولت أن تهرب معه ، ولكن اكتشف أمرها ، فحاولت الانتحار مرتين بصـب الكيروسين على جسمها ولكنهم أنقذوها من الموت في اللحظات الأخيرة ، فطردت من البيت شر طردة مصحوبة بلعنات والدها الذي أقسم على أن لا يراها مرة أخرى ، ولم ينقذها من الضياع سوى أبي الذي عرض عليها الزواج إنقاذاً لسمعتها وشرفها رغم معارضة أهله ، ورغم انه كان على علاقة عاطفية بفتاة أخرى.
وبكت كثيراً وهي تقول إنه رغم كل السنوات التي مضت إلا أنه لا أحد من عائلتها زارها أو حاول أن يسأل عنها .
اضطربتُ كثيراً وأنا اسمع حكايتها الغريبة، فلم أكن أدرى إن كانت تعي ما تقوله أو تراها كانت تهذي من شدة الحمى. وفيما بعد لم أحاول أن أعرف منها الحقيقة ، ولم أكشف هذا الأمر لأي شخص.
(5)
لم يمض عامان على رحيل أبي حتى توفت أمي ، بعد أن ذبلت في بطء ، وصارت شديدة النحول .
كانت غارقة في هاوية عميقة من اليأس، مهتاجة الأعصاب ، مكتئبة المزاج ، نافدة الصبر ، كثيرة البكاء . كانت مغمومة دائماً ، تسمع رنين الشكوى والحسرة في صوتها تستلقي على فراشها تنظر باتجاه الحائط بنظرات موجعة ، منسحقة . فلو كانت تعرف سبباً لغيابه ، لهان عليها الأمر ، لكنه هجرها دونما سبب وهذا ما كان يسهدها .
وبدأت تضربنا دون وعي ، حتى يوسف الذي كانت مولعة به صفعته ذات مرة على فمه فشقت له شفته ونزف دماً كثيراً . وحين رأت يوسف بدمائه بكت بصوت عال وشدت شعرها حتى أرعبت يوسف وأرعبتنا .
وبقيت على هذه الشاكلة أشهراً حتى بدأت تشكو من صداع لا يفارقها . أحياناً كنا نرى الدم ينزف من أنفها بغزارة شديدة فتكتفي بوضع قطعة من الثلج على أنفها حتى يتوقف النزيف .
زارت المركز الصحي أكثر من مرة وطلبوا منها أن تدخل المستشفى للعلاج لكنها رفضت بحجة أن لا أحد سيهتم بأولادها في غيابها .
ذات ليلة اشتكت صداعاً حاداً وتقيأت عدة مرات . كانت تعبة إلى حد إنها لم تستطع أن تمسح بقايا القيء عن فمها ، ثم تباطأت أنفاسها حتى أصبحت كالشخير ، واحمرّ وجهها، واحتقنت عيناها ، واتسعت حدقة إحداهما عن الأخرى ، ثم خرت كالمصعوقة ، وهمدت كل حركة في جسدها.
(6)
يوم دفنا أمي ، ضمنا محمود إلى صدره ونحن نبكي ، كأنه كان يشعرنا بأنه سيكون المسئول عنا منذ اليوم ، ولكنني كنت مدركاً كل الإدراك أن الأيام القادمة لن تكون سهلة ، وأننا سندخل نفقاً من الآلام لا نهاية له .
فأثناء مرض أمي اضطررنا لترك المدرسة ، والانتقال إلى منزل خالي الذي يعيش وحيداً . ولم نجد صعوبة في التآلف مع المكان الجديد وبخاصة أن خالي كثير السفر ، يترك لنا المنزل لنتدبر أمرنا كيفما اتفق .
منزل خالي كان عتيقاً ذا طابق واحد ، ولكنه كان صالحاً للسكن ، به ثلاث غرف واسعة تحتوي على أثاث قديم متواضع، وحمام مظلم ضيق ، ومطبخ صغير ، ومخزن حشرت فيه أدوات قديمة ، وبقايا أخشاب ، وأوانٍ مكسورة ، وأحذية بالية .
اضطررنا إلى العمل في غسل السيارات بعد أن نفد ما معنا من نقود ، أما يوسف فقد كان يلازمنا ملازمة الظل ، كان صعباً تركه مع أمي وهي على ذلك الحال.
عملنا في غسل السيارات لم يكن سهلاً ، كان علينا الخروج في الصباح الباكر قبل وصول الموظفين . في الشتاء نتحمل البرد القارس وتجمد الأصابع ، أما في الصيف فكنا نتصبب عرقاً تحت الشمس ، ونتهالك من شدة الحرارة، إضافة إلى اننا لم ندرك في البداية أن لكل منطقة زعيمها ومنظم عملها . وكدنا نُضرب في اليوم الأول حين دخلنا منطقة ما فوجدنا أمامنا رجلاً كث الشاربين ، أفطس الأنف ، كبير الفم ، أسنانه صفراء، ويعتمر طاقية ملونة ، يصيح مزمجراً : " هل تريدون قطع رزقي ورزق أولادي ؟ ".
وكاد محمود يتشاجر مع "بو شنب" كما كانوا يطلقون عليه ، ولكن تدخل آخرين حال دون نشوب معركة غير متكافئة بيننا وبين "بوشنب" وأتباعه .
(7)
بعد وفاة أمي ، كان محمود لا يخفي كراهيته الشديدة لأبي ، فمزق جميع صوره في المنزل ، وأقسم أنه لن يتردد ذات يوم عن محاسبته، إذ اعتبره مسؤولاً عن وفاة أمي ، وعما يحدث لنا. لكنني لم أستطع مجاراته في إظهار شعور البغض تجاه أبي الذي كنت أحبه دائماً ، مع ذلك لم أكن أجرؤ على ذكر اسمه أمام محمود .
بقيت عندي صورة له احتفظت بها سراً، وخبأت المنظار الفلكي في مكان أمين . وعلى عكس محمود كنت أتمنى لو يعود أو يظهر أو يسأل عنا، أو أعرف أين هو وماذا يفعل ، هل هو موجود ، هل يعرف عنا شيئاً ، هل يهتم بأمرنا ، هل نعني له شيئاً .
في كل ليلة قبل أن أخلد للنوم كنت أدعو في قرارة نفسي ضارعاً إلى الله: " اللهم احفظنا واحفظ أبي. "
علاقتي بمحمود كانت قوية جداً ، وإن كان ، مثل أبي ، لا يجيد أبداً إظهار عواطفه أو حبه للآخرين . ترى في وجهه تعابير زاخرة بالرجولة ، وكثيرا ما يقطب حاجبيه عابساً دون سبب . أما يوسف فقد كان وسيماً على نحو ملائكي .. بشعره الذهبي الذي يغطي جبهته ، ووجهه الأبيض الناعم ، وعينيه المدورتين الصغيرتين اللتين تومضان إيماضة الحياة نفسها ، وانسراحة وجهه المتوردة ، وابتسامته الرقيقة ، وميله للبهجة والسرور . إذا رأيته لن تستطيع أن تحوّل بصرك عنه .
كنا نخاف عليه كثيراً ، ونتحسر لأننا لم نتمكن من إدخاله المدرسة مثل كل الأطفال في سنه، وإن كنت ، قدر المستطاع ، أعلمه مبادئ الحساب وأوليات الكتابة وتهجي الحروف ، حتى عرف الأرقام ، و تمكن من كتابة اسمه بخط غير متناسق .
كان يقف طويلاً أمام محل لبيع الدراجات الهوائية ، يتأمل ، في كل يوم ، دراجة حمراء صغيرة. لم يكن يتكلم ، وإن كنت أحس كم هو يتمنى أن يشتري الدراجة . لم يكن يدري أننا ، محموداً وأنا ، اتفقنا على أن نوفر مما نحصله من مال لنشتري له الدراجة .
(8)
كان علينا أن نتدبر كل أمور حياتنا ، وأن نفكر كيف نستمر في هذه الدنيا دون أن نحتاج إلى عون أحد ، فما كنا نكسبه من عملنا في غسل السيارات كان يكفي لإطعامنا وللعيش بسلام.
أما إذا ضاقت بنا الدنيا، ولم يبق معنا ما نملكه من مال ، كنا نلتجئ إلى سيدة مسيحية في نحو الستين من عمرها. أسنانها نظيفة براقة رائعة المنظر ، وإن كانت مغضنة الوجه ، تلف رأسها بمنديل أسود ، تخفي شعراً أشيب ، وتغطي كتفها بشال أخضر كبير.
كانت تعيش وحيدة في بيت كبير به عشرات القطط السمينة المدللة. كنا نعرف أنها تخرج عصر كل أحد إلى الكنيسة المجاورة لمنزلها، فكنا ننتظر بفارغ الصبر عودتها من الكنيسة .
كانت تجد صعوبة في عبور الشارع لضخامة جسمها وبطء حركتها ، فكنا نسرع إليها، أمسك أنا بيدها ، بينما يوقف محمود السيارات بإشارة من يده ، ونتطوع لمساعدتها حتى تدخل البيت متوكئة على عصاها .
كانت ترجونا بلطف وتهذيب أن ندخل ولكننا كنا نتمانع ، ثم نرضخ لطلبها ، فتدخلنا غرفة المعيشة المرتبة والنظيفة ، المليئة بالسجاجيد الصغيرة الزاهية الألوان ، وحوض السمك المليء بالأسماك الملونة والسلاحف الصغيرة .
كنت أحب رؤية صورة المسيح المعلقة على الجدار بعينيه الحزينتين ، وبوجهه البريء المغمور بضوء كضوء القمر.
بالقرب من صورة المسيح هناك صورة لشاب في منتصف العشرينيات من عمره ، يميل برأسه ويستند بذقنه إلى إصبع واحدة . تحت الصورة منضدة صغيرة وضع عليها إبريق ماء مذهب وشمعدانان فضيان .
كانت تأتي لنا بالبسكويت والمكسرات والشاي بالليمون الأسود . يوسف كان يحتاط لنفسه فيملأ جيوبه بالمكسرات ، وقبل أن نخرج كانت تعطي كل واحد منا خمسمائة فلس ، وتقبّل يوسف وتضمه إلى صدرها بحنان طاغ .
أحياناً كانت تقف أمام صورة ابنها وتتلو صلاتها هادئة البال ، ساكنة النفس . لكنها ذات مرة جلست تنظر ملياً في وجه يوسف حتى اضطربت الدموع في عينيها ، ثم اتجهت ناحية سريرها العريض ، وجثت على الأرض تنتحب بأنين مفجع .
اضطربنا ولم نعرف ماذا نفعل . دفعتُ يوسف ناحيتها . لكنه تردد في الاقتراب منها. فدفعته بقوة . تقدم يوسف وربت كتفها بيده الصغيرة ، ثم وضعها على منديلها الأسود ، فرفعت رأسها، ونهضت نصف نهضة والدموع تبلل وجنتيها. حضنت يوسف بشدة وهي تنتحب وتهز رأسها قائلة: " ابني يوسف .. ابني يوسف " .
(9)
بعض الأحايين كنا نتسكع عند محلات بيع الأطعمة السريعة المنتشرة في كل مكان . كان يوسف يحب أن يشم رائحة البطاطس المقلية ، فيقول متلمظاً : " امسكوني ، سيغمى عليّ " .
بالداخل مكان نظيف وكراسيّ مرتبة ترتيباً هندسياً ، في حين تنتشر صور الأطعمة المتنوعة الملونة في كل أجزاء المحل . هناك قاعة لألعاب الأطفال : مخلوق الفضاء الغريب ، والتنين الأخضر ، والسيارة ذات المقودين . وهؤلاء الأطفال ، بثيابهم النظيفة ورائحتهم الحلوة، يضعون ، بكل سخاء ، قطع النقود المعدنية في هذه الألعاب العجيبة . وكلما هدأت اللعبة أعادوا وضع القطع المعدنية وأعادوا تشغيلها.
المكان كان يعج بالرواد ، يقضمون ويلوكون الطعام ، ويوسف يترنح دائخاً من رائحة البطاطس المقلية . ننظر إلى الداخل ورغبة عارمة تستعر في صدر كل منا في اقتحام المكان وأكل كل ما فيه من طعام.
ورغم محاولات منظف المحل إبعادنا عن زجاج الواجهة ، ظللنا واقفين على أمل أن يحدث شيء ما مثلما حدث ذات مرة . فقد رأيت رجلاً يدخل المطعم حاملاً طفلاً وسيماً أبيض كالثلج، ومعه زوجة جميلة لها حسنة كبيرة على خدها الأيمن ، وتعتمر قبعة سوداء أنيقة . التفت إليّ الرجل قبل أن يدخل . نظر إلى تلك النظرة الأبوية المشوبة بالعطف والرحمة التي طالما تمنيتها. نظرت إلى الصفاء الذي في وجهه ، ونظرت في عينيه اللتين حفلتا بضياء غريب لم أعرفه إلا في عيني أبي .
أجلس الرجل زوجته وأعطاها ابنه ثم رأيته يتكلم مع الموظف ويشير نحونا . جاء الموظف الذي بدت الدهشة مرسومة على وجهه العريض .
قال مظهراً المقت والاشمئزاز :
" تعالوا معي " .
ترددنا ثم دفعنا محمود بيده . شعرت بالحرج. أما يوسف فقد أمسك بطرف قميصي خشية أن يحدث له مكروه. محمود حرك رقبته يمنة ويسرة وعدل من وضع ياقته المهترئة.
أجلسنا الموظف على طاولة بعيدة عن رواد المطعم . كان منظرنا يبعث على الاشمئزاز ، ملابسنا البالية ، وأقدامنا المتسخة ، وشعورنا المشعثة ، ورائحتنا التي تشبه رائحة كلاب ضالة مبللة. شعرت بأننا أصبحنا هدفاً لنظرات جميع الموجودين.
قام الرجل من مكانه وجاء إلينا وألقى علينا بالتحية لكنه كان ينظر إليّ دون الآخرين. قال بأدب شديد:
" ماذا تطلبون للغداء " .
قلت بحرج : " أي شيء " .
طلب لنا ثلاث وجبات كاملة ودفع ثمنها دون أن يقول شيئاً . أخذت أنظر إليه وهو يداعب ابنه بحنان بالغ . سألت نفسي ماذا تحرك في دواخله كي يظهر هذا العطف علينا ، لماذا لم يأت شخص آخر ليسأل إن كنا جائعين؟.
بعد قليل كنا أشبه بضباع مهتاجة تمكنت من الإيقاع بفريستها . كنا نأكل بشره غريب ، أما يوسف فقد أتى على كل شرائح البطاطس المقلية دون رحمة.
بعد أن انتهينا طلبت منهما أن يأتيا معي . ذهبنا إليه وشكرته .
قال وفي صوته طيبة عظيمة :
" هل ترغبون في تذوق الآيسكريم ؟ " .
هززت رأسي نافياً ، ولكن يوسف قال بسرعة:
" نعم " .
نظرت إلى يوسف مؤنباً. أما محمود فقد كان يقف خلفنا ينظر باتجاه آخر كما لو أن الموضوع لا يعنيه. طلب الرجل لكل منا الآيسكريم ودفع الثمن .
كان يوماً أشبه بالحلم ، حدث كل شيء فجأة ، كأنما الله بعث لنا هذا الرجل الطيب لنتذوق أطايب الطعام ، لكننا لم نره مرة أخرى، ولم نلتق طيباً مثله يدعونا لوجبة مجانية وابتسامة أبوية حنونة .
ذات مرة اقترحت عليهما أن ندخل مطعماً حقيراً قريباً من الحارة يؤمه العمال المغتربون ، واتفقنا على أن نتصرف كما لو كان معنا نقود ، وبعد أن ننهي طعامنا يخرج محمود ويوسف ويختفيان ، وأغافل صاحب المطعم وأخرج متسللاً ثم أركض بأقصى سرعتي.
دخلنا المطعم وطلبنا عدساً وخبزاً وكولا. وحين انتهينا خرج محمود ومعه يوسف بهدوء . وبقيت ألمح صاحب المطعم ، الذي كان يحدجني بنظرة مريبة ، متحيناً لحظة الفرار .
حاولت النهوض إلا أن أحد العاملين بالمطعم أمسكني وسلمني إلى صاحب المطعم، فبكيت وطلبت منه أن يسامحني ، لكنه عاجلني بصفعة قاسية على خدي تلتها عدت لطمات على وجهي ، ولم يتوقف عن الضرب إلا حين تدخل أحد الزبائن وطلب منه أن يكف عن ضربي عارضاً عليه تسديد الحساب .
ضحكنا يومها كثيراً ، لكن ليلتها بكيت بحرقة ، فلقد داخلني شعور ساحق بالخزي والمهانة جعلني أكره نفسي ، وأكره حياتي .
(10)
ذات يوم قال لي محمود بصوت هامس :
" أمامنا مهمة ، إذا نفذناها ، سنحصل على ما يكفي لشراء دراجة يوسف " .
لم أعرف ماذا كان يقصد بالمهمة ، ولكنني كنت مستعداً لعمل أي شيء مقابل شراء دراجة يوسف .
في تلك الليلة ، وبعد أن نام يوسف ، طلب مني محمود أن أخرج معه .
" - وماذا عن يوسف ؟ .
" - سنعود قبل أن يصحو " .
" - إلى أين سنذهب ؟ "
" - المقبرة " .
" - المقبرة !" .
كان محمود يتقدمني بخطواته السريعة وبيده كيس يمسك به بعناية . وطوال الطريق كنت أفكر فيما يمكن أن نفعله في المقبرة . أية مهمة هذه التي تستدعي ذهابنا إلى هناك .
اتجه محمود إلى الجدار الخلفي للمقبرة وطلب مني أن أمسك الكيس . برشاقة ارتفع إلى أعلى الجدار ، ومد يده ليساعدني بعد أن أخذ الكيس مني . نزلنا في المقبرة فشعرت برعب شديد ورجفة في بدني . فأمسكت بكتف محمود ومشيت وراءه .
وقف محمود عند أحد القبور ، وبدأ يحفر طالباً منى أن أراقب المكان .
" - قبر من هذا الذي تحفره ؟ " .
" - لا أعرف " .
حفر حتى استطاع أن يصل إلى كفن الميت، فمزق بقوة قطعة كبيرة من الكفن ، ثم طلب منى الكيس ، فأخرج منها ثلاث بيضات ، ولفها في الكفن وأعادها إلى الكيس .
" - ماذا تفعل ؟ " .
" - لنخرج من هنا قبل أن يكتشف أمرنا " .
خرجنا مسرعين من المقبرة دون أن يرانا أحد ، وولينا فراراً.
في الطريق إلى البيت طلبت منه أن يفهمني ما الذي كنا نفعله . فقال لي محمود إن سيدة مطلقة في الحي طلبت منه ذلك مقابل عشرة دنانير . وقد قبل بالفكرة كي يكمل بها المبلغ الذي وفرناه لشراء دراجة يوسف .
" - وماذا ستفعل السيدة بالبيض الملفوف بالكفن؟".
" - هذه مسألة لا تعنينا " .
وصلنا البيت . طلب مني محمود البقاء مع يوسف ريثما يأخذ الكيس إلى السيدة . بعد حين عاد فرحاً ، منبسط الأسارير ، وبيده ورقة نقدية خضراء كتب عليها عشرة دنانير . الآن سيتحقق حلم يوسف .
(11)
اتفقت مع محمود على أن يشتري بنفسه الدراجة ويجلبها إلى البيت دون علم يوسف ، ونخفي الدراجة أسفل السلم المظلم ، كي نفاجئ بها يوسف بعد أن يستيقظ من النوم .
حين شاهد يوسف الدراجة الحمراء طغت على قسمات وجهه الجميل مشاعر مضطربة ، فامتزج الذهول بالشك بعدم التصديق بالابتهاج بالامتنان.
لم يقل شيئاً بل دنا من محمود وطبع قبلة حنونة على خده ، ثم قبلني فضممته إلى صدري قائلاً :
" ها هي دراجتك التي كنت تتمناها ".
وتركناه مع دراجته يحضنها ويقبلها.
قلت لمحمود :
" شكراً أخي العزيز " .
نظر إليّ لحظات وابتسم ابتسامة خجلى ثم أدار ظهره وتركني دون أن يقول شيئاً .
(12)
كنا نتسلى كثيراً بزيارة " العبقري " ، وهو رجل في منتصف الأربعينيات من العمر ، يسكن في نهاية الشارع . أهل الحي أطلقوا عليه تسمية "العبقري " تهكماً وسخرية من تصرفاته الغريبة.
تعرفنا عليه ذات مرة فيما كنا نعبر تحت شرفة منزله، فأطل علينا ودعانا للدخول ليتحدث معنا في أمر هام. ترددنا ثم دخلنا بدافع الفضول والتسلية. فرحب بنا وجلس على كرسي هزاز ، ولم يلبث أن بدأ يهز نفسه ، فمال إلى الوراء وعاد إلى الأمام ، ثم مال بقوة خشينا فيها أن يسقط على رأسه ، وما هي إلا لحظات حتى مال بقوة وسقط عن كرسيه ، فكتمنا ضحكنا ، إلا أن يوسف ضحك بصوت عال .
خشينا أن يغضب ولكنه ضحك على نفسه وأخذ يفرك مؤخرة رأسه بقوة قائلاً :
" لابد أنني أصبت بنزيف داخلي حاد " .
ثم ألفناه وصرنا نزوره بين حين وآخر ، وبخاصة أن يوسف تعلق به تعلقاً غريباً ، رغم أنني لم أفهم سر هذا التعلق بشخص غريب الأطوار مثله.
كان " العبقري " ينشغل بمظهره الجسماني، بشكل أنفه المجدر ، بأذنيه ، بأسنانه البارزة ، بالشعر الأبيض الكثيف في صدره ، بأمارات الصلع التي شرعت تبدو عليه . كانت شفته السفلي متشققة دائماً لشدة ما يضغط عليها بأسنانه .
كان يؤمن بأن كل شخص يناصبه العداء. يخاف من القطط ، وينتابه حالة من الهلع حين تمر قطة من أمامه . يدون أرقام السيارات التي تقف أسفل الشارع . وإذا سمع أحداً يضحك ظن أنه يعنيه هو .
أحياناً كان ينظر إلينا شزراً ويسألنا عن غايتنا من زيارته . وأحياناً كان يخرج ثيابه كلها وينثرها واحداً واحداً في فوضى شاملة ، ثم يجلس بهدوء يعيد ترتيبها ووضعها في مكانها، ولا يلبث بعد قليل أن يخرجها من مكانها وينثرها . يتحرك في الغرفة ويحضر قطعة قماش مبللة وينظف الجدران ومقابض الأبواب والنوافذ . أو يضع نظارة سميكة مكسورة على عينيه ، فيرفع النظارة ، وينفخ على الزجاج ويظل يمسح الزجاج دون توقف ، ثم يضع النظارة ، ويرفعها مرة أخرى.
كان يقول لنا وهو يمسح المخاط بعنف شديد:
" أنا واثق أنهم وضعوا جهازاً للتنصت في منزلي ، ابحثوا في كل مكان ، وكونوا دقيقين لأن هذه الأجهزة صغيرة جداً ، قد تكون في حجم زر قميص ، أو حبة قمح " .
كان يحمل دائماً زجاجة ماء في يده ، يغسل بها قدمه قبل أن يدخل البيت . ذات مرة وقف في الشارع وصبّ دلواً من الماء على رأسه ثم دخل البيت. وفي مرة أخرى خرج من البيت مرتدياً معطفه الشتوي ولكن دون أن يلبس قميصاً فوق ملابسه الداخلية ، وحذاءً دون جورب.
حين يخرج من البيت يلتفت في كل الأنحاء لكي يتيقن من أن أحداً لا يتبعه ، ثم يقف عند أول الشارع ، يخاف العبور اعتقاداً منه أن كل السيارات ترغب في قتله .
قال لنا ذات مرة :
" إن سائقي السيارات أشخاص مكلفون بالقضاء عليّ ويعملون لحساب مخابرات دولة أجنبية " .
تراه أحياناً يقوم من كرسيه وينظر من ثقب المفتاح وقتاً طويلاً ، أو يطلّ من طرف ستارة النافذة. وحين يعاود الجلوس ليتحدث معنا تراه ينكش أسنانه بدبوس رفيع ، ويتحدث كأن أحداً يكلمه أو يبصر أشياء لا نراها . أحياناً كان يجيب "نعم " ، ويلتفت إلى ناحية ما وهو يلوي عضلات وجهه ، أو يصرخ فجأة " غير صحيح ، غير صحيح " ثم يحرك يديه ببعض الإشارات الغريبة.
ذات مرة تعززت شكوكه المتعاظمة ، وداخله خوف شديد ، حين رأي من النافذة شخصاً أسفل الشارع يرفع رأسه باتجاهه . أغلق الستائر وأطفأ الأنوار وشرع يمشي في طول الحجرة وعرضها وهو يعض على كفه قائلا :
" الخونة وشوا بي ، هاهم يبعثون شخصاً ليغتالني".
في يوم قال لي وهو يهز سبابته دون توقف :
" أنا مصاب بالزائدة الدودية ، وأعرف أنها ستنفجر في أية لحظة وأموت . أريدك أن تراقب المنزل جيداً إذا أخذوني إلى المستشفى " .
وكرر علي هذا الكلام مرات ومرات وهو جاد فيما يقوله حتى بدا عليه الإعياء والتعب كأنه مريض فعلاً .
وقبل أن اخرج قال متبرماً :
" وما فائدة الزائدة الدودية هذه ؟ أنا لم أطلبها، وما فائدتكم أنتم يا جواسيس ويا خونة؟ " .
ثم وضع إصبعه في فمه وتقيأ بهستيرية حتى خشينا أنه سيتلفظ أحشاءه . ثم قال :
" هل خرجت الدودة ؟ " .
في أحيان كان يكتب ، ويملأ الأوراق بالكتابة ، لكنه كان يحرق الأوراق ثم يفرك بقايا الورق المحترق حتى يتحوّل إلى رماد قائلاً:
" لديهم أجهزة تمكنهم من إعادة تصوير ما كتبت ".
ويرمي بالرماد تحت صنبور الماء .
طرقنا ذات مرة باب بيته ، فلم يخرج ، ولم نره ، كعادته كل يوم ، يحاول عبور الشارع دون جدوى. طرقنا مرة أخرى ، فلم يرد . نظر محمود من فتحة الباب فشهق خائفاً . قال انه رأي ساقاً مدلاة في الهواء . عدنا وطلبنا مساعدة الرجال لكسر الباب. حين فتحوا الباب عصف بنا خوف عظيم ، وحبس كل منا أنفاسه، فقد رأينا تأرجح رجليه البائستين وهو معلق في مروحة السقف عارياً تماماً ، فاغر الفم ، جاحظ العينين.
قبل أن ينتحر ترك ورقة دون أن يعنونها إلى أحد ، كتب فيها بخط رديء :
" هكذا تدفعين وتطرحين فتختفين إلى الأبد ، لن يُسمع فيك عزف موسيقى بعد ، لا صوت قيثارة ، ولا مزمار ، ولا بوق ، ولن تقوم فيك صناعة بعد الآن ، ولن يُسمع فيك صوت رحى ، ولن يضيء فيك نور مصباح ، ولن يُسمع فيك صوت عريس وعروس".
لم أتوقع أن يحزن يوسف لموته كل هذا الحزن ، فقد ظل صامتاً كئيباً فترة من الوقت كمن فقد إنساناً عزيزاً ، وطرح علينا الكثير من الأسئلة حول سبب انتحاره ، وكيف واتته الشجاعة لينهي حياته بيده ، وعن الوقت الذي استغرقه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. لم أعرف كيف أجيب على أسئلة يوسف ولكنني عرفتُ شيئاً أهم ، هو أن لدى الإنسان قدرة عجيبة على نسيان الموتى بعد مضي أيام معدودات .
(13)
خالي كان كثير السفر . ولكن إلى أين يسافر ، أو بماذا يشتغل ، فهذا ما لم أكن أعرفه على وجه التحديد ، ولا أحسب أن أحداً كان يهمه أن يعرف ، ولا أذكر أنني سألت أمي يوماً عنه وعن أسفاره , بل إن ذكره لم يكن يأتي على لسان أحد ، رغم أنه أنقذنا من التشرد بإيوائه لنا في منزله بعد اختفاء أبي ، ورغم أنه كان حين يزورنا ، بعد غياب شهرين أو أكثر ، يجلب معه دجاجة مشوية كاملة مع بعض الحلويات والملابس ويسدد فاتورة الكهرباء المتأخرة .
كان يمكث أسبوعاً أو أسبوعين ثم يغادرنا ، لا نسأل عن وجهته ، ولا يخبرنا إلى أين هو ذاهب . لكن خلال هذه الأيام القليلة كان حلو اللسان يحيطنا بعاطفته الصادقة ، ويردد عبارات الأسف لاضطراره للسفر وتركنا وحدنا دون رعاية وحماية، ثم يبدأ في كيل الشتائم لأفراد عائلته الذين قست قلوبهم وعادوا لا يسألون لا عنه ولا عنا ، وكان ينصحنا دائما بأنه إذا قدم أحد من أهل الخساسة إلى المنزل اطردوه ولا تدعوه يدخل . ولكن هذا لم يتحقق لأننا لم نلتق أي شخص منهم قط .
خالي كان في الستينيات من عمره ، طيب السريرة ، أعزب ، قصير القامة ، أبيض البشرة ، له أنف طويل معقوف ، وشارب أسود قصير .
كان شديد الاهتمام بحلاقة ذقنه ، ويحب أن يبدو أكثر شباباً، حتى أن من يرى هيئته يحسبه أصغر سناً .
سألته ذات مرة :
" خالي ، لماذا لم تتزوج بعد ؟ " .
فأجاب وقد أخجله السؤال :
" لأنني أبحث عن امرأة باسلة ، كثيرة اللحم ، وفمها ملوز ، ولها طرف كحيل ، وخد أسيل " .
تواقح محمود فقال له عامداً إغاظته :
" ولكنك كبرت يا خالي " .
اقترب من محمود وهو يرفع صوته عالياً:
" ها … "
فقد كان يشكو من ضعف في إحدى أذنيه .
كرر محمود ما قاله ، فرد عليه بسرعة وقد أثارته كلماته :
" سأشرب عند نومي كأساً من العسل الخاثر ، وأتناول عشرين حبة من اللوز ، ومائة حبة من الصنوبر ، وستراني أكثر شباباً منك أيها التيس" .
كان يجلس معنا إلى وقت متأخر من الليل يقص علينا حكايات مملة ومكررة عن (بنت الغول) و (غصون .. غصون) و (سيرة حمزة البهلوان ) .. حكايات تبعث على النوم لكثرة ما سمعناها منه . كان يبدأ حكاياته بفرك مسبحته الكهرمانية الطويلة التي جلبها معه من الحج قبل عشرين عاماً، ثم يقول : " ذاك سلطان من السلاطين ، لعن الله الشياطين ، نرش بالطيب والترتيب حتى قلوب العاشقين تطيب ، ويا عاشقين النبي صلوا عليه" .
فنقول بصوت واحد :
" اللهم صلي عليه وسلم " .
أحياناً كان يغني أغنيات قديمة بصوت أجش مزعج ، لكنه كان أكثر إزعاجاً حين ينام ، فهو يشخر في ضجيج عنيف ، أشبه بصوت محرك سيارة " فورد " القديمة ، وينساب من فمه لعاب غزير .
في إحدى المرات وبعد أن تأكد لي نوم محمود ويوسف سألته بفضول غريب :
" خالي ، لماذا لا تخبرنا إلى أين تسافر ، وبماذا تشتغل ؟ " .
لكنه لم يتفاجأ بالسؤال بل بدا وكأنه ينتظره منذ وقت طويل .
قال وهو ينفخ الهواء الذي في صدره :
" سأخبرك يا ولدي بسرٍ لم أطلع أحداً عليه ، أنا أتاجر منذ زمن بعيد في تهريب المخدرات ، لذا لا استقر في مكان واحد . تحت إمرتي عشر سفن ، ورجال أشداء يخاطرون بحياتهم من أجلي ، لن تستطيع أن تحصي ثروتي وأملاكي .
كنت غير مصدق ما يقوله ، ابتسمت ببلاهة وأنا أسأله :
" أنت مهرب مخدرات ؟ !" .
" - هذا جوابي على سؤالك " .
وغط في نومه تاركاً إياي في حيرة من أمري .
هل أصدق ما يقوله . خالي مهرب مخدرات؟ . لقد كان أحياناً يروي لنا بجدية تامة حكايات وهمية وأمازيح طريفة عن مغامراته وبطولاته أيام شبابه ، حتى يخيل إليك أنه صادق في كل كلمة يقولها ، فهو لا يبتسم ، ولا يفصح في نهاية حكايته على أنها قصة ملفقة من بنات أفكاره، بل كان يوحي بأنها قصة حدثت بالفعل. ولكن حكايته الأخيرة مريبة جداً . ماذا لو كان يقول الحقيقة هذه المرة . ماذا لو كان فعلاً مهرب مخدرات ؟ . ماذا نفعل لو قبضوا عليه وصادروا المنزل الذي نسكن فيه ، أين نذهب من هنا ؟ . ثم أقنعت نفسي بأنه لا يمكن أن يفشي سراً خطيراً مثل هذا لفتى مثلي ، وأنه لا بد كان يقصد تجنب الإجابة على سؤالي .
كنت على وشك أن أوقظه من نومه لأستريح من شكوكي ، ولكنه كان يغط في نوم عميق . هززته عدة مرات ولكنه لم يتحرك ، وتركني في حيرة شديدة.
في صباح اليوم التالي تعمدت الاستيقاظ باكراً ولكنني اكتشفت أنه لم يكن في المنزل فقد سافر مرة أخرى .
وانتظرت زيارته القادمة بصبر نافد وأنا في قلق دائم. وحين جاء نسى أنه تحدث معي في هذا الموضوع ، وأفهمني بأن هذا ليس إلا أضغاث أحلام . لكنني ألححت في السؤال فطلب مني الانتظار ريثما ينام محمود ويوسف ويطلعني على سر آخر .
في تلك الليلة كرر لنا حكاياته المملة حتى نام يوسف أولاً ، ثم لم يصمد محمود طويلاً فنام هو أيضاً . كنت أقاوم حتى لا أنام ، ولما حانت الفرصة سألته :
" خالي هل حقاً أنت مهرب مخدرات ؟ " .
قال هامساً:
" هذا ليس مهماً الآن ، سأطلعك على أمر غريب صادفته في رحلتي الأخيرة " .
ثم تدفق في الكلام وهو يكرّ سبحته الكهرمانية:
" ذات ليلة ونحن نيام على ظهر السفينة شاهدنا نوراً غامراً يقترب من السماء حتى حطّ على مقدمة السفينة ، فشهقنا رعباً مما رأيناه ، فقد وقف أمامنا شيخ جليل يلبس جبة رمادية اللون ويلفّ نفسه بعباءة سوداء ، تحرك بضع خطوات وجلس دون أن يتفوه بكلمة . صمت مدة طويلة ولكننا لم نجرؤ أن نقترب منه . كان مغمض العينين ، يشعّ من وجهه نور كالشمس . ثم ارتفع في الهواء حتى وصل رأسه إلى صارية السفينة ، ونزل بهدوء . سألناه فلم يجب على أسئلتنا ، ولكنه استطاع أن يجعل نعليه تتناطحان ، فقد نظر إليهما وتفوه بأقوال غير مفهومة ، فقام النعلان في الهواء وبدآ في المناطحة كالديوك الوحشية ، ثم مدّ يده في الهواء فإذا بيده كوز أحمر فيه ماء ، شرب منه بضع رشفات . ثم بدأ يغني بصوت رخيم لم أسمع مثله في حياتي ، فازداد وجهه جمالاً ونوراً ، ورقص رقصاً عظيماً دون أن يتعب، ثم انتابه إغماء طويل . وظل معنا في السفينة عدة أيام لم يكن يأكل فيها إلا الخبز والزبيب الأسود مرة واحدة في اليوم ، وطلب منا إذا مات أن نضعه في تابوت مملوء بالعسل بعد أن نغسله بماء الورد ونغمره بالكافور" .
حكايته عن الشيخ أرجفت قلبي وأبعدت الوسن عن عيني .
أكمل خالي حكايته قائلاً:
" سألته إلى أين وجهته ، فقال لي إنه ذاهب إلى مدينة الأولياء التي لا يدخلها من لم يبلغ الأربعين. وحين سألته عن هذه المدينة قال إنها دار لا يضيق فيها المكان ، ولا ينتزع منها السكان، ولا يزعجها حوادث الزمان ، أما حدودها فأربعة ، الحد الأول ينتهي إلى منازل الراجين ، والحد الثاني ينتهي إلى منازل الخائفين المحزونين ، والحد الثالث ينتهي إلى منازل المحبين ، والحد الرابع ينتهي إلى منازل الصابرين " .
سألت خالي بلهفة :
" وهل وصل إلى هذه المدينة الغريبة ؟ " .
كان واضحاً أن خالي بدأ يتلذذ بلهفتي في معرفة بقية الحكاية فأخذ يتثاءب دون داع ويقول ببرود :
" طلبت منه أن يأخذني معه إلى مدينة الأولياء، لكنه انتفض انتفاضة قوية ، وفتح عينيه الواسعتين ، وقال لي : لن تتبدى لك المكاشفات والمشاهدات حتى يصبح قلبك مستعداً لقبول نور اليقين . ونصحني بأن أصوم أربعين يوماً فأمنع نفسي عن الطعام والشراب ولا أشرب إلا طاساً واحداً من الماء وتمرة واحدة لتقيني من الموت . وقال لي إذا اقتربت من نور اليقين فدع لسانك ناعماً وطرياً ، مسترخياً في قاع فمك ، ودع رقبتك طلقة مرنة، ودع فروة رأسك سائبة مسترخية ، ودع جبهتك ناعمة هادئة كطفل حديث الولادة ، ودع جفنيك يثقلان حتى لا تتحمل رقة هدبك ، وعندما يصل جسمك في حالة راحة تامة دع عقلك يلج منابع القوة في رأسك واشعر بالحرية كما لو أن غيمة بيضاء تملأ تجويف جسمك كله ، حينها فقط ينكشف لك الغيب ويحصل لك اليقين ، وتستطيع أن ترتفع بجسمك في الهواء وتنتقل عبر الزمان والمكان فتلتقي من لم تلتقيه ، وتتعرف على من لم تتعرف عليه حتى وإن كان يبعد عنك مائة مائة سنة " .
وسكت خالي ، في حين كنت متلهفاً لسماع بقية الحكاية لكنه قال لي وهو يتمطى كقط عجوز:
" اذهب وأرح نفسك ، واتركني أنام " .
توسلت إليه أن يكمل الحكاية ، لكنه استلقى على فراشه واغمض عينيه .
كنت في حالة من الغيظ الشديد كدت أهزه بعنف وأطلب منه أن يكمل الحكاية ، فقد كرر فعلته السابقة معي وتركني في حيرة من أمري ، هل أصدق ما يقوله ، أم أن كل هذا من خرافاته العجيبة ؟. ومرة أخرى سافر خالي دون أن يجيب على أسئلتي .
(14)
ذات ليلة حلمتُ بأنني في باص يشق طريقاً صحراوياً بسرعة فائقة ، ويترك وراءه غباراً متصاعداً إلى السماء . لم يكن بالباص أحد سوانا: محمود ويوسف وأنا ، كنا جالسين في مقاعد متباعدة لا نتحدث ولا يلتفت أحدنا إلى الآخر ، أما السائق فلم أر سوى أعلى ظهره ورأسه الذي كان يشبه أبي كثيراً .
اخترق الباص نوراً لامعاً غمرنا جميعاً. سمعت دوي صوت عظيم من السماء لا يدانيه صوت ، فحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزال عنيف ، وتساقط من السماء بَرد كبير .
رأيت الخيول وعليها فرسان يلبسون دروعاً بعضها أحمر ناري ، وبعضها بنفسجي ، وبعضها أصفر كبريتي ، وكانت رؤوس الخيل مثل رؤوس الأسود ، تلفظ من أفواهها ناراً ودخاناً وكبريتاً.
توقف الباص . فتح السائق الباب ونزل. حاولت أن أرى وجهه ، لكنه كان يخطو خطوات سريعة متجهاً إلى عمق الصحراء . ركضت وراءه أناديه ، لكنه لم يجب ولم يلتفت . " - أبي .. أبي " .
ابتعد عنا وتركنا في صحراء قاحلة يستوطنها الرمل ولظى الشمس . التفتُ فلم أر محموداً ولا يوسف ، ففزعت واستغثت بهما .
الصحراء بساط أصفر ممتد إلى ما لا نهاية ، والانتظار أصبح اضطراباً وتحوّل إلى خوف شديد .
وحيداً في الصحراء المحرقة أبحث عن أبي وأخوتي ، أرى برميلاً يكبرني حجماً مفتوح الغطاء. دخلت في البرميل احتمي من لفح الشمس . أعدت الغطاء مكانه فأظلمت الدنيا.
بعد قليل حاولت أن أطل برأسي من البرميل علهم قد عادوا . دفعت الغطاء فلم يتحرك. بذلت كل قوتي لدفعه فلم يتحرك. خفت . فتكوّرتُ في البرميل ، وضربت بقدمي الغطاء ليفتح فلم يتحرك. صرخت بأعلى صوتي :
" أنقذوني .. أنقذوني " .
بدأ دم حار غليظ يتسرب من شقوق كثيرة في أسفل البرميل ويغطي قدمي . صرخت وضربت الغطاء فلم يتحرك. ازداد تدفق الدم . غطى الساقين . الصدر . الرقبة . الرأس . وغرقت في الدم.
نهضت مفزوعاً من نومي . كان قلبي يدق دقات عنيفة ، وعرقٌ يتصبب من جسمي كله. نظرت إلى محمود . كان نائماً . ونظرت إلى يوسف فلم أر سوى فراشه ، ثم سمعت صوت بكاء خارج الغرفة. قمت على عجل وخرجت فإذا بيوسف واقعاً على الأرض وهو ينزف دماً من فمه. صرخت بأعلى صوتي على محمود الذي هب مفزوعاً وجاء على عجل.
أخذنا يوسف إلى فراشه ، كان الدم يغطي ثيابه . والخوف يخنق صدري مما يمكن أن يحدث . أحضر محمود قماشاً مبلولاً بالماء ومسح فمه ووجهه بحثاً عن أثر لجرح ، لكننا لم نجد شيئاً.
" - يبدو انه تقيأ دماً " .
قال محمود ذلك وهو يحشرج .
" - ولماذا يتقيأ دماً ؟ " .
" - لا أعرف . يوسف .. هل تشعر بأي ألم ؟ " .
لكن يوسف لم يرد علينا ، فقد كان غائباً عن الوعي.
حاولنا إيقاظه ولكن دون جدوى. طلب مني محمود أن أبلل وجهه بالماء ريثما يعود .
" - إلى أين أنت ذاهب ؟ " .
لكنه أسرع في الخروج من المنزل . أخذت أنادي يوسف عله يفيق ولكن كان أشبه بالميت . بعد قليل عاد محمود ورفع يوسف وأسرع في الخروج.
في الخارج كانت سيارة صغيرة واقفة بها امرأة متلفعة يبدو عليها الارتباك والخوف. فيما بعد عرفت أنها السيدة المطلقة التي دفعت الدنانير العشرة مقابل مهمة المقبرة.
(15)
عند باب المستشفى قالت المرأة لمحمود إنها مضطرة للعودة ، وطلبت أن لا نذكر اسمها إن سألنا أحد عمن أوصلنا إلى المستشفى .
رفع محمود يوسف وجرى به إلى داخل المستشفى وأنا أركض وراءه أردد على نفسي هذا السؤال : لماذا تقيأ يوسف دماً ؟
وضعوا يوسف في غرفة الطواريء وطلب الطبيب منا أن ننتظر خارجاً . رفض محمود ولكنه رضخ تحت إصرار الطبيب .
انتظرنا ساعات طويلة في غرفة الانتظار ، لم يسمحوا لنا بالدخول لمعرفة ماذا يجري بالداخل . بدا محمود مضطرباً ، قلقاً ، يتصنع الهدوء ، في حين كنت على وشك الانهيار ، هل يمكن أن يحدث مكروه ليوسف ، هذا الطفل الجميل الذي لم يعش حياته بعد؟، هل يمكن أن تكون هذه أيامه الأخيرة في الدنيا؟ .
" - لماذا تقيأ يوسف دما ؟ " .
نظر محمود في وجهي ملياً كأنه يفكر في إجابة على سؤالي ، لكنه لم يقل شيئاً .
كانت الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل حين خرجت ممرضة تتلفت في القاعة ، ثم تقدمت نحونا قائلة :
" - ماذا تقربون للمريض ؟ " .
أجاب محمود :
" - هو أخونا الصغير ، ماذا به ؟ " .
قالت ببرود شديد :
" - لا شيء ، سيظل بالمستشفى عدة أيام لإجراء بعض الفحوصات الطبية " . قلت لها :
" - هل سيكون بخير ؟ " .
أجابت :
" - بإذن الله .. بإذن الله " .
كلامها لم يكن مطمئناً إلى نفوسنا. كانت تخفي عنا حقيقة مرض يوسف .
" - هل يمكننا رؤيته ؟ " .
قالت بعد تردد :
" - تعالا معي " .
ومشينا وراءها في ممرات طويلة ثم صعدنا إلى الطابق السادس . وأخذتنا إلى غرفة خاصة نظيفة ، هادئة . كان يوسف نائماً على السرير مرتدياً ثياب المستشفى البيضاء .
كان مشهداً مثيراً للألم لم يبارح مخيلتي وقتاً طويلاً : كمامة أوكسجين تسد فمه ، في يده إبرة محكمة موصولة بزجاجة بيضاء معلقة بالقرب منه ، بقع دم متناثرة على ثوبه الأبيض ، ويوسف غارق في نوم عميق.
أشارت إلينا الممرضة بالخروج ، وطلبت منا العودة يوم غد حيث يكون أفاق من نومه . لم استطع أن أتحكم في دموعي فبكيت بصوت ضعيف وخرجت مع محمود من المستشفى .
جلسنا ساعتين على الأقل في محطة الباص دون أن نقول شيئاً . ولما جاء الباص أخيراً قام محمود لكنه لم يركب الباص بل عاد إلى المستشفى ثانية.
(16)
مكث يوسف في المستشفى أسبوعين وهو يتلقى العلاج ، لكن لم يطلعنا أحد على مرضه ، رغم محاولاتنا الدائمة .
لم يعد يوسف ذلك الطفل الجميل ، كان خائر القوى ، شاحباً يزداد اصفراراً . عيناه اتسعتا وأصفر بياضهما حتى كأنك ترى الموت يسكن داخلهما. أصبح ذاوياً وشعره الأشقر الناعم بدأ يتناقص بوضوح .
كان يشيخ في كل لحظة .. ثقلت حركته، وصعب تنفسه ، وانتفخ بطنه ، وبدأ يقول كلاماً لا نفهمه ، أحياناً كان يذكر أمي ، وأحياناً يلحّ على طلب دراجته الحمراء .
خالي كان الشخص الوحيد الذي زاره في هذه المدة . حين وقعت عيناه على يوسف ارتجفت شفتاه وتساقطت من عينيه دمعتان كبيرتان ، وضرب كفاً بكف وهو يتلو بعض الأدعية والآيات القرآنية.
بعد أن هدأ همس في أذني قائلاً :
" اسقوه كأساً من البول يقوّي جهاز مناعته ويمنع عنه المرض " .
ولما رأي تعجبي مما قاله همس قائلاً:
" اسمع أيها التيس .. البول يحتوي على كمية كبيرة من الهرمونات والأملاح والمعادن والبروتينات المفيدة ".
(17)
في نهاية الأسبوع الثالث كان يوسف قد تغير شكله تماماً . كان واضحاً أنه يصارع الموت في كل لحظة ، رغم أننا كنا نحاول رفع معنوياته ورسم الابتسامة على شفتيه . وحتى ذلك الوقت لم يطلعنا أحد على المرض الذي أصابه، أو متى سيشفى مما هو فيه .
كانت الساعة الرابعة ظهراً حين دخلت غرفة يوسف. كان مستيقظاً يحدّق في السقف . لما أحس بوجودي فتح ذراعيه وابتسم ابتسامة ناحلة . اقتربت منه وطبعت قبلة حارة على خده .
قال لي بصوت واهن :
" حلمت حلماً جميلاً ، رأيت أنني في غابة عجيبة، سماؤها صفراء بلون الذهب ، وأرضها زرقاء بلون البحر . كنت أمشي على عشب مخضل بالندى دون أن ألمس الأرض بقدمي العاريتين . كلما مشيت ظللتني فراشات سوداء كانت تحلق على رأسي . ما أجمل الفراشات ، كانت تتبعني أينما ذهبت . ليتني أنام على العشب الأزرق لأرنو إلى الفراشات السوداء " .
كنت أسمع ما يقوله دون أن أقاطعه ، لكنه تعب وتوقف عن الكلام ، ثم صعدت منه زفرة عميقة ، بعدها غرق في صمت طويل .
كنت في ضربٍ من القلق والخوف ، وخشيت من السكون المرهق الثقيل الوطأة على قلبي . قمت واقتربت بتمهل من يوسف عسى أن يكون نائماً.
رأيت عينيه خاويتين لا حياة فيهما ، ولسانه وقد أنحرف تدريجياً مع انفراجة فمه ، وبرز طرفه من فمه ، فشعرت برعب شديد زلزل كياني كله.
أخذت أهز يده الصغيرة بلطف وأناديه بصوت مرتعش :
" يوسف .. يوسف .. حبيبي " .
محمود دخل الغرفة وبيده كيس صغير اشتراه من بائع قريب من المستشفى . رأي عيني المذعورتين وارتجافة بدني . لم يقل شيئاً رغم أنه فغر فاه واسعاً . اقترب من السرير . وضع يده على خد يوسف ، ثم مسح بأصابعه على عينيه وشهق وزفر بعنف شديد . خلته سيصرخ بأعلى صوته، لكنه جلس على الكرسي المقابل لي دون أن ينبس بحرف . نظر إليّ طويلاً نظرة لم أفهمها . فلم أحتمل نظرته تلك .
قلت مدمدماً:
" لم نستطع أن ننقذه . لقد مات يوسف " .
ودفنت رأسي في السرير وبكيت بحرقة شديدة. ليتني متّ بدلاً عنه . ووجدتني أهتف بداخلي :
" أبي .. أين أنت .. لم تخليت عنا ؟ " .
سمعت محموداً يقول متهدجاً:
" أريد أن أفهم شيئاً واحداً فقط ، لماذا كل هذا العذاب ؟ . أي ذنب أذنبنا ، وأي جرم أجرمنا لنستحق كل هذا العذاب ؟ " .
(18)
صباح اليوم التالي كنا ثلاثة في المقبرة، محمود وأنا وسائق سيارة الإسعاف ، ومعنا حفار القبور ، لا أحد هنا ليصلي على يوسف ، ولا ليبكي عليه ، من يكون يوسف هذا حتى يأتي الناس ليصلوا ويطلبوا له الرحمة ؟ .
جلسنا على المصطبة منتظرين ، في حين تولى حفار القبور غسله وتكفينه . بعد لحظات استأذن سائق سيارة الإسعاف في الذهاب ، فلم يبق غيرنا في المقبرة .
بعد قليل أطل حفار القبور وطلب منا مساعدته . دخلنا . كان يوسف ملفوفاً في كفن أبيض لا يخرج منه نفس ، ولا تصدر عنه حركة، ولا يفتر ثغره عن ابتسامة جميلة ، ولا يبعثر الهواء شعره الأشقر ، ولا تهفو روحه لركوب دراجته الحمراء . لاشيء بقي من يوسف إلا جثة هامدة لا حركة فيها .
طلب منا وضعه على النعش بعناية ، ثم رفعنا النعش ومشينا به إلى مقامه الأخير. كان حفار القبور يمشي أمامنا يحمل بيديه طرفي النعش في حين رفع محمود الجهة اليسرى الخلفية ورفعت أنا الجهة اليمنى .
من بين كل الناس في هذه الدنيا ثلاثة أشخاص فقط يمشون في جنازة طفل بريء.
حين أهال حفار القبور التراب على جسد يوسف انفجرت في البكاء كما لم أبك طوال حياتي. حتى تلك اللحظة لم أصدق أن يوسف انتهى ورحل . كنت في قرارة نفسي أتمنى لو ينهض فجأة ويمزق كفنه ويعود معنا إلى البيت ، لكن كل ذلك التراب الذي انهال عليه أكد لي أن يوسف لن يعود ثانية إلى الحياة .
على النقيض كان محمود صامتاً ، لا يبكي، يحاول مساعدة حفار القبور في إنجاز مهمته . بعد الدفن تقدم بخطوات سريعة خارجاً من المقبرة فأخذت أجرجر نفسي وراءه باكياً بصوت عال . كان كمن يحاول الخروج من المقبرة بأسرع ما يمكنه مما أثار في نفسي خوفاً عليه .
بدأ محمود يجمع الحجارة ويركمها على ذراعه ، ثم أخذ يركض باتجاه الشارع العام غير آبه بالسيارات التي كادت تصدمه ، وأخذ يصرخ بهستيرية ويشتم الناس ويقذف المارة والسيارات والمتاجر بالحجارة ، وحاول أن يركض إلى الجهة المقابلة من الشارع لكنه ارتطم بمقدمة سيارة مسرعة قذفته مسافة عالية في الهواء وعاد ليشدخ رأسه بالأرض.
استطعت أن أراه وهو يرفع ظهره عن الأرض عدة مرات ويحرك رأسه يمنة ويسرة ، ويحرك ساقيه ويتصلب كأنه يحشرج ، ثم توقف فجأة عن الحركة.
ركضت إليه وأنا ذاهل مما حدث ، دسست نفسي بين المتجمهرين . كان ساكناً لا يتحرك ، وعيناه مفتوحتان خامدتان وبقعة كبيرة من الدم تحت رأسه.
وقفت بعيداً عنه أبكي وأرتجف لكنني لم أقترب منه خشية أن أرى وجهه المتمزق . جاءت سيارة إسعاف فأخذوه مسرعين وتركوا بقعة الدم وفردة حذائه على الأرض .
لما ابتعد الناس اقتربت من المكان الذي سقط فيه وأخذت فردة الحذاء وضممتها إلى صدري.
(19)
عدت إلى المنزل وأغلقت باب الغرفة عليّ وبداخلي خوف عظيم من وحشة المكان . كنت أرتجف خوفاً وأنا أتذكر حادثة محمود . ترددت في الذهاب إلى المستشفى حيث نقلوه ثم قررت أن لا أخرج من المنزل أبداً. حتماً سيدفنونه في مكان ما من تلك المقبرة الكبيرة ، ربما سينام قريباً من أخيه يوسف . ربما أموت أنا وأدفن بجوارهما أيضاً .
كنت أدعو في قرارة نفسي أن يعود خالي من السفر ، كم أنا محتاج إليه الآن ، ولكنه لم يأت في تلك الليلة ولا الليالي التي أعقبتها .
وأنا حبيس تلك الغرفة تذكرت ما قاله خالي عن نصيحة الشيخ الجليل له بالصوم أربعين يوماً ، قررت أن أعمل بنصيحته كي أرتفع بجسمي في الهواء وأنتقل عبر الزمان والمكان فألتقي بأبي وأمي ومحمود ويوسف ونعيش معاً عائلة واحدة .
(20)
لا أتذكر كم يوماً مضى عليّ وأنا أحاول أن انفذ نصيحة الشيخ الجليل فلم أكن أشرب في اليوم إلا كأساً واحدة من الماء وكسرة خبز لتقيني من الموت. لكنني أصبحت واهن الجسد لا أقوى على الحركة ولا حتى على انتصاب ظهري ، فكان رأسي يدور وأقع على الأرض من شدة الوهن . لكنني كنت على أمل أن أستطيع عبور عوالم المكان والزمان وألتقي بمن فقدتهم.
استطعت أن أميز طرقاً متواصلاً على باب الغرفة الموصدة ، كان صوته أشبه بصوت أبي . كان يناديني ويطلب مني فتح الباب . حاولت أن أزحف ولكنني كنت أوهن من أن أحرك جسمي ، ثم بدا لي أن الباب انخلع بقوة شديدة . فتحت عيني بصعوبة ورأيت خيال شخص واقف أمامي .
قلت بصعوبة :
" يا سيدي ، ماذا أفعل لكي أخلص ؟ " .
" - ……………….. ".
أقول له والدموع تزدحم في عيني :
" أنا وحدانيّ في هذا العالم ، قل لي ماذا أفعل لكي أخلص " .
أشعر بيد تهزني ، وبقطرات من الماء البارد ينضح بها وجهي . افتح عيني ببطء . " - أنا أبوك " .
يصب ماءً بارداً على رأسي فانتفض ، لا أصدق ما أرى ، ها هو أبي أمامي مرة أخرى.
" - أبي " .
" - نعم أنا أبوك " .
يعطيني بعض الماء ، ويرفعني بسهولة من على الأرض ويحملني على كتفه ثم يخرج من المنزل. أشير إلى دراجة يوسف وحذاء محمود لكنه لم يفهم ما أعنيه .
" - لماذا تخليت عنا ؟ " .
" - في الطريق سأخبرك بكل شيء " .
أحاول أن أسمع ما يقوله وهو يتحدث ويسرع في خطواته ، ولكن رأسي يدور وبي رغبة عنيفة في إخراج ما في أحشائي .
أضع رأسي على كتفه فأشعر بأن الروح عادت لجسدي . أطوّق عنقه بيدي كطفل صغير يلتجئ إلى صدر أبيه . اسأل نفسي : هل أنا أهذي ، أم أن ما أراه حقيقة ؟ .
الآن ، لا شيء يهم ، ولا أريد أن أعرف شيئاً. الحقيقة الوحيدة التي أعرفها أنني الآن مع أبي ، وكل ما عليّ فعله هو أن أغمض عيني وأنام بسلام ، فلا شيء في هذا العالم يضاهي صدر أبي .
عبدالقادر عقيل