شكّل الفكر الديني القابض على الحكم، والقائم على الغيبيات والموروثات كما على الشحن المذهبي والعنصري في كل مراحل التاريخ العربي عائقاً أمام الفكر العقلاني وأمام انتشاره ليبقيه نخبوياً. كما مارس القتل والتعذيب والاغتيالات بحقّ كل من شرد بفكره عن السياسات السلطوية الدينية وأفكارها. وهذا الأسلوب لم يكن حكراً على فريق ديني واحد، بل كان السمة التي طبعت التاريخ منذ فجر الإسلام، والتي ما زالت تلتصق التصاقاً بنيوياً بكل أشكال الحكم الثيوقراطية حتى يومنا هذا. وكان المفكر حسين مروة الذي كتب في حركة الفكر والفلسفة في التراث العربي على أساس منهج علمي تاريخي، وعلى ضوء النظرة الجدلية الى علاقة الحاضر بالماضي، أي، المنهج الذي يرى في حركة التاريخ وفي ظواهره أسبابًا تاريخية واجتماعية مترابطة، كان نفسه عرضة للاغتيال المصنّف اغتيالاً للفكر وللعقلانية في محاولة لفرض مشروعٍ ثيوقراطي لا يستقيم دون إزاحة ممثلي الفكر والعقلانية.
تناول مروة الحركة الفلسفية في التاريخ العربي- الإسلامي، ورصد بذوره العقلانية والمادية فيها، ومن بين ما تناوله في تاريخيته كان ظاهرة الزهد والتصوف، حيث أضاء على ارتباطهما في المرحلة التاريخية التي أنتجتهما وهي بداية العصر الإسلامي، القرن الأول للهجرة ( السابع).
نشوء ظاهرة الزهد
لقد اعتبرت النظرة الآحادية الى نشوء الظاهرة وتطورها، بأنها عمل ذاتي باطني، وترتبط خارج الذات في الدين، وتعود الى المؤثرات الخارجية كالمسيحية والزرادشتية والهندية والغنوصية القديمة والأفلاطونية المحدثة، أو الى الوعي الإسلامي، كما الى عدم خضوعها لمعايير العقل وأحكامه، أو الى انها من أنواع الأمراض النفسية. وهي بذلك تغفل الظروف التاريخية الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية التي كانت ظاهرة التصوف أحد انعكساتها، كما حركة المجتمعات وصيرورتها وعلاقة الوعي البشري الاجتماعي بها.
لقد بدأ الوجود الجنيني للتصوف بحركة "الزهد" خلال القرن الأول للهجرة (السابع)، واعتزال معتنقيها كافة النشاطات الاجتماعية والسياسية وتفرغهم للعبادة. وكان هذا الاعتزال موقفًا سياسيًّا سلبيًّا تجاه الأحداث والصراعات الدموية والأوضاع المتأتية عن ظروف الفتح خارج شبه الجزيرة، وهو غير الزهد الأخلاقي الذي اتّبعه الصحابة في شظف العيش من دون تميّز بالعبادة. وانتشرت الحركة في أوساط المثقفين وما لبثت ان توسّعت في البصرة والكوفة ومصر والشام، وارتبطت بالحركة الفكرية لمجتمعها في النظر الى الكون والحياة، وفي تأويل النصوص الإسلامية، وتجاه النبوّة والإمامة. وهو ما شكّل لاحقاً ظاهرة التصوف.
بدايات ظاهرة التصوف
ظهرت بدايات نظرية المعرفة الصوفية باكراً في تصوير اليقين الإيماني عند الزاهد البصري عامر بن عبد قيس، الذي توفّي أثناء خلافة معاوية، والذي تبدّل حزنه وقلقه اللذان كانا سمة الزهد في عصره حين قال: "يتلوى كما تتلوى الحيّة على المقلى، ثم يقوم فينادي: اللهم ان النار قد منعتني من النوم، فاغفر لي" الى زاهدٍ يجري الفرح في كلماته: "أحببت الله حبّاً سهّل عليّ كل مصيبة ورضاني بكل قضية."
أما التصوّف كظاهرة، فهو حركة فلسفية تقوم على فكرة الوصول الى المعرفة عن طريق الكشف، أو المشاهدة، أو الإشراق أو الحدس بوسيلة سلوكية تقوم على مجاهدة النفس. في حين ان الزهد لم يكن له علاقة بمسألة المعرفة غير المصدر السلامي الأول، الوحي الإلهي على النبي. وفتحت مقولة "الظاهر والباطن" وهي من الاجتهادات الزهدية أمام الصوفية، الطريق واسعاً لمعارضة الفكر الديني الرسمي: عقيدة وشريعة، حيث اعتبروا ان للقرآن مضمونًا أول هو الظاهر، ومضمونًا ثانيًا وهو الحقيقة، ووصلوا الى القول بـ"سقوط الشريعة إذا كُشفت الحقيقة"، أي عدم الالتزام بالشريعة حين تنكشف على الصوفي الحقيقة.
في العلاقة العضوية بين الزهد والتصوّف.
كانت ظاهرة الزهد أحد أبرز الآثار القوية التي نتجت عن الصراع المتفجّر في المجتمع العربي- الإسلامي في بداية تكوينه، وحدثت فور بروز ظواهر طبقية تشكّلت بشكل قَبَلي نتيجة إثراء الأمويين. إذن، كانت اجتماعية، اتخذت تعبيرات سياسية بالصدامات المسلحة، ثم تعبيرات فكرية حين توسّعها. هي تفجير داخلي لبقايا البدائية الاجتماعية ولبقايا الاقتصادية شبه الطبيعية، يحلّ مكانها مجتمع جديد- إقطاعي- تجاري- طبقي.
وهي تطورت من السلبية العدمية بعد توسع معتنقيها وعجز المستويات الفكرية عن تلبيتها، الى شكلها الأعلى: "التصوف"، وهو موقف فكري يتضمن معارضة ذات وجهين، ديني (التأويل)، وسياسي (استنكار الظلم الاجتماعي والاستبداد)، ثم الى شكل جديد من أشكال الوعي الفلسفي عند العرب في القرون الوسطى، وتحوّله لاحقاً الى أيديولوجية.
أما تسمّي الزهد بالتصوف، والزاهد بالصوفي، فيقود الى الطابع الاجتماعي للزهد المتميز بلباس "الصوف"، كلباس للفقراء، وليس الحرير ملبس الأغنياء. فقد اتخذ الزهّاد من لباس الصوف الخشن شعاراً مادياً لمسلكهم الزهدي، وهذا يعني اذا ما فُسِّر الأمر بالأسباب الاجتماعية - السياسية لنشوء حركة الزهد، فإن لبس الصوف كان رمز التحدّي والمعارضة السلبية للأرستوقراطية الأموية الحاكمة.
ومنذ ما بعد منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن م)، حرّكت ركود ظاهرة الزهد نحو التصوف، محاولة الزهاد الخراسانيين إخراج زهاد عصرهم من العزلة، الى فعالية مجتمعية، إذ كانت البيئة الخراسانية مصدر هذه الظاهرة التي بدّلت ظاهرة وتاريخ الزهد. وكان ذلك لأسبابٍ عديدة أهمها، أولاً، حضاري يرتبط بتاريخية الشعب الفارسي، وزهاده المتأثرين بالعقائد المنتشرة في بلاد فارس، وفيها مخالفة للنظر الإسلامي في بعض الأمور، وخصوصاً، المذاهب العرفانية، وثانياً، فإن خراسان كانت منذ بدء الفتح العربي- الإسلامي بؤرة للصراع ضد الفاتحين العرب، الصراع المسلح والصراع الديني، مع تأجيج المشاعر القومية ضد العرب، ومناهضة مذهب الدولة الرسمي. حينها برز تفسير جديد للزهد نتيجة هذا التفاعل بين خراسان والبيئة العربية. وكان لنشوء الدولة العباسية الدور الأكبر في بلورة ظاهرة التصوف، فهي قامت نتيجة لثورة اشترك فيها أتباع علي، عناصر سياسية فارسية وجماهير من بسطاء الناس العرب وغير العرب. واستفادت من آثار الصراع الأموي العلوي (بالنسبة لعلي) التقليدي، ومن آثار الحقد القومي عند الأقوام غير العربية، ولا سيما الفرس، بمواجهة الدولة الأموية القائمة على "العصبية العربية" في مجمل سياساتها، واستفادت أيضاً من الحقد الاجتماعي لدى الجماهير، لقسوة الحكم وابتزاز الولاة لهم.
وكان من ميزاتها أنها قضت على مبدأ العصبية الأموي كأساس للحكم، وجعلت سيطرتها السياسية ذات طابع ثيوقراطي كامل، فيه الخليفة هو المسيطر الروحي الواجب الطاعة، وهو خليفة الله على الأرض، وكانت الفئة الحاكمة القائمة على رأس الطبقة الاجتماعية المسيطرة اقتصادياً وسياسياً.
أما على الصعيد الفكري، فقد نشطت تيارات فكرية ومذهبية وعقائد شرقية قديمة ومعاصرة، وخصوصاً الفارسية، مما أدى ذلك الى مواجهة عربية فارسية نتجت عنها مواجهة بين الثقافتين، أي ثقافة اسلامية في العقيدة والشريعة، وثقافة لها تراث عريق من عقائد وفلسفات وآداب، تصل تراكماتها الى ثقافات هندية وصينية وآشورية وبابلية ويونانية رومية. ولكنها كانت تعايشية وليست تناحرية، ولكن ذلك لم يمنع حصول صراع بين التيارات الفكرية والمذهبية لكلا الجانبين. وما لبث أن جرى تبادل ثقافي وترجمات من الفارسية الى العربية في الطب والهندسة والفلك، ثم نشأت علاقة تاريخية بين العاصمة بغداد ومدينة جنديسابور الساسانية، التي فتحت الباب للصلة مع الثقافة اليونانية، كون المدينة كانت على اتصال مع علوم اليونانيين وفلسفتهم.
التصوف فلسفياً
ظهر التصوف كحركة بناء أيديولوجية المجتمع العربي- وكظاهرة فلسفية في نظرية المعرفة في ظروف تاريخية نضجت فيه أسس بنائها. وذلك، عندما بدأ اهتزاز وتصدع السلطة حين اتخذت شكل "الاقطاعية اللامركزية" مكان "مركزية الدولة" فيها. فكان لا بد من دور إيديولوجي سياسي يواجه أيديولوجية وسياسة الدولة، وهذا الدور لا يمكن ان يكون، من دون أن يكون الوضع الفكري قد بلغ مستوى صياغةٍ فكرية للإيديولوجية الجديدة وكان أحد تجليات الحركة الفلسفية العربية المستقلة عن التبعية لعلم الكلام المعتزلي الذي أصبح في القرن الثالث للهجرة (التاسع م)، عائقاً في طريق نمو الفكر الفلسفي وتطوره في ظل ظروف الصراع الاجتماعي - الايديولوجي. إذ ان البيئة الأساسية لعلم الكلام كانت تتشكل من فلسفة لاهوتية تدخل في الإطار العام لبنية الإيديولوجية الرسمية المصابة بالاهتزاز. وسجلت بداية الاستقلال عن علم الكلام ظاهرتين:
1- ظاهرة الفلسفة كعلم يعتمد النظر العقلي في تحصيل المعرفة، وكان أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي هو الممثل الأول لها.
2- ظاهرة التصوف النظري المعتمد على الكشف الذاتي المستخدم لأسلوب الكبت النفسي والجسدي، وهي تختلف عن الظاهرة الأولى. ولكنها استندت في الواقع في كل مذاهبها "المعرفة" مع ذي النون المصري، "الظاهر والباطن"، "الموقف من الشريعة"، "الإشراق" مع السهروردي، "الحلول" مع الحلّاج و"وحدة الوجود" مع ابن عربي، الى كثير من المبادئ والمقولات التي استندت اليها الظاهرة العقلية الأولى، غير أن معالجتها بطرق أخرى، جعل نتائجها خارجة عن المنطق العقلاني.
الصوفية الطرائقية
كانت ظاهرة التصوف "ثورية" برفضها الواقع القائم، ولكنها بقيت حاملة في ذاتها بذور عجزها وتناقضها في كل مذاهبها، ما أدى الى عدم تحولها لقوة تحقق التغيير. ولكن يُسجل لها انها حملت وحدها في تاريخ الصراع الاجتماعي، داخل المجتمع العربي- الإسلامي، لواء الانتفاض بوجه السلطة الرسمية، وهذا ما لم يقم به الفكر الفلسفي العقلاني في حينه إلا بشكل مجتزأ ومغلّف بالحذر، كونه بقي مشدوداً الى اللاهوتية بعدة خيوط ظاهرة وخفية، وهذا الانشداد نفسه، لم يدفع عن الفكر العقلاني أذى الإرهاب والاضطهاد من اللاهوتيين.
ان الاحكام والاستنتاجات عن التصوف، تنحصر في المراحل التي كان فيها عملية فكرية لها أسس نظرية معينة، واتجاهاً أيديولوجيا، أي كشكلٍ من أشكال الوعي الفلسفي العربي- الإسلامي في العصر الوسيط. ولكن، تحوّله بعد ذلك الى طغيان الأساليب الآلية الجسدية على أساليب النظر الفلسفي، وانتهائه الى تقاليد ونظمٍ بهلوانية، أفرغه من مضمونه الأيديولوجي، وقَلبَه الى حركة تلعب دوراً خطيراً في عملية التخدير الاجتماعي وفي خدمة السلطات الحاكمة.
* المصدر:
الزهد والتصوّف في فكر حسين مروة
تناول مروة الحركة الفلسفية في التاريخ العربي- الإسلامي، ورصد بذوره العقلانية والمادية فيها، ومن بين ما تناوله في تاريخيته كان ظاهرة الزهد والتصوف، حيث أضاء على ارتباطهما في المرحلة التاريخية التي أنتجتهما وهي بداية العصر الإسلامي، القرن الأول للهجرة ( السابع).
نشوء ظاهرة الزهد
لقد اعتبرت النظرة الآحادية الى نشوء الظاهرة وتطورها، بأنها عمل ذاتي باطني، وترتبط خارج الذات في الدين، وتعود الى المؤثرات الخارجية كالمسيحية والزرادشتية والهندية والغنوصية القديمة والأفلاطونية المحدثة، أو الى الوعي الإسلامي، كما الى عدم خضوعها لمعايير العقل وأحكامه، أو الى انها من أنواع الأمراض النفسية. وهي بذلك تغفل الظروف التاريخية الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية التي كانت ظاهرة التصوف أحد انعكساتها، كما حركة المجتمعات وصيرورتها وعلاقة الوعي البشري الاجتماعي بها.
لقد بدأ الوجود الجنيني للتصوف بحركة "الزهد" خلال القرن الأول للهجرة (السابع)، واعتزال معتنقيها كافة النشاطات الاجتماعية والسياسية وتفرغهم للعبادة. وكان هذا الاعتزال موقفًا سياسيًّا سلبيًّا تجاه الأحداث والصراعات الدموية والأوضاع المتأتية عن ظروف الفتح خارج شبه الجزيرة، وهو غير الزهد الأخلاقي الذي اتّبعه الصحابة في شظف العيش من دون تميّز بالعبادة. وانتشرت الحركة في أوساط المثقفين وما لبثت ان توسّعت في البصرة والكوفة ومصر والشام، وارتبطت بالحركة الفكرية لمجتمعها في النظر الى الكون والحياة، وفي تأويل النصوص الإسلامية، وتجاه النبوّة والإمامة. وهو ما شكّل لاحقاً ظاهرة التصوف.
بدايات ظاهرة التصوف
ظهرت بدايات نظرية المعرفة الصوفية باكراً في تصوير اليقين الإيماني عند الزاهد البصري عامر بن عبد قيس، الذي توفّي أثناء خلافة معاوية، والذي تبدّل حزنه وقلقه اللذان كانا سمة الزهد في عصره حين قال: "يتلوى كما تتلوى الحيّة على المقلى، ثم يقوم فينادي: اللهم ان النار قد منعتني من النوم، فاغفر لي" الى زاهدٍ يجري الفرح في كلماته: "أحببت الله حبّاً سهّل عليّ كل مصيبة ورضاني بكل قضية."
أما التصوّف كظاهرة، فهو حركة فلسفية تقوم على فكرة الوصول الى المعرفة عن طريق الكشف، أو المشاهدة، أو الإشراق أو الحدس بوسيلة سلوكية تقوم على مجاهدة النفس. في حين ان الزهد لم يكن له علاقة بمسألة المعرفة غير المصدر السلامي الأول، الوحي الإلهي على النبي. وفتحت مقولة "الظاهر والباطن" وهي من الاجتهادات الزهدية أمام الصوفية، الطريق واسعاً لمعارضة الفكر الديني الرسمي: عقيدة وشريعة، حيث اعتبروا ان للقرآن مضمونًا أول هو الظاهر، ومضمونًا ثانيًا وهو الحقيقة، ووصلوا الى القول بـ"سقوط الشريعة إذا كُشفت الحقيقة"، أي عدم الالتزام بالشريعة حين تنكشف على الصوفي الحقيقة.
في العلاقة العضوية بين الزهد والتصوّف.
كانت ظاهرة الزهد أحد أبرز الآثار القوية التي نتجت عن الصراع المتفجّر في المجتمع العربي- الإسلامي في بداية تكوينه، وحدثت فور بروز ظواهر طبقية تشكّلت بشكل قَبَلي نتيجة إثراء الأمويين. إذن، كانت اجتماعية، اتخذت تعبيرات سياسية بالصدامات المسلحة، ثم تعبيرات فكرية حين توسّعها. هي تفجير داخلي لبقايا البدائية الاجتماعية ولبقايا الاقتصادية شبه الطبيعية، يحلّ مكانها مجتمع جديد- إقطاعي- تجاري- طبقي.
وهي تطورت من السلبية العدمية بعد توسع معتنقيها وعجز المستويات الفكرية عن تلبيتها، الى شكلها الأعلى: "التصوف"، وهو موقف فكري يتضمن معارضة ذات وجهين، ديني (التأويل)، وسياسي (استنكار الظلم الاجتماعي والاستبداد)، ثم الى شكل جديد من أشكال الوعي الفلسفي عند العرب في القرون الوسطى، وتحوّله لاحقاً الى أيديولوجية.
أما تسمّي الزهد بالتصوف، والزاهد بالصوفي، فيقود الى الطابع الاجتماعي للزهد المتميز بلباس "الصوف"، كلباس للفقراء، وليس الحرير ملبس الأغنياء. فقد اتخذ الزهّاد من لباس الصوف الخشن شعاراً مادياً لمسلكهم الزهدي، وهذا يعني اذا ما فُسِّر الأمر بالأسباب الاجتماعية - السياسية لنشوء حركة الزهد، فإن لبس الصوف كان رمز التحدّي والمعارضة السلبية للأرستوقراطية الأموية الحاكمة.
ومنذ ما بعد منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن م)، حرّكت ركود ظاهرة الزهد نحو التصوف، محاولة الزهاد الخراسانيين إخراج زهاد عصرهم من العزلة، الى فعالية مجتمعية، إذ كانت البيئة الخراسانية مصدر هذه الظاهرة التي بدّلت ظاهرة وتاريخ الزهد. وكان ذلك لأسبابٍ عديدة أهمها، أولاً، حضاري يرتبط بتاريخية الشعب الفارسي، وزهاده المتأثرين بالعقائد المنتشرة في بلاد فارس، وفيها مخالفة للنظر الإسلامي في بعض الأمور، وخصوصاً، المذاهب العرفانية، وثانياً، فإن خراسان كانت منذ بدء الفتح العربي- الإسلامي بؤرة للصراع ضد الفاتحين العرب، الصراع المسلح والصراع الديني، مع تأجيج المشاعر القومية ضد العرب، ومناهضة مذهب الدولة الرسمي. حينها برز تفسير جديد للزهد نتيجة هذا التفاعل بين خراسان والبيئة العربية. وكان لنشوء الدولة العباسية الدور الأكبر في بلورة ظاهرة التصوف، فهي قامت نتيجة لثورة اشترك فيها أتباع علي، عناصر سياسية فارسية وجماهير من بسطاء الناس العرب وغير العرب. واستفادت من آثار الصراع الأموي العلوي (بالنسبة لعلي) التقليدي، ومن آثار الحقد القومي عند الأقوام غير العربية، ولا سيما الفرس، بمواجهة الدولة الأموية القائمة على "العصبية العربية" في مجمل سياساتها، واستفادت أيضاً من الحقد الاجتماعي لدى الجماهير، لقسوة الحكم وابتزاز الولاة لهم.
وكان من ميزاتها أنها قضت على مبدأ العصبية الأموي كأساس للحكم، وجعلت سيطرتها السياسية ذات طابع ثيوقراطي كامل، فيه الخليفة هو المسيطر الروحي الواجب الطاعة، وهو خليفة الله على الأرض، وكانت الفئة الحاكمة القائمة على رأس الطبقة الاجتماعية المسيطرة اقتصادياً وسياسياً.
أما على الصعيد الفكري، فقد نشطت تيارات فكرية ومذهبية وعقائد شرقية قديمة ومعاصرة، وخصوصاً الفارسية، مما أدى ذلك الى مواجهة عربية فارسية نتجت عنها مواجهة بين الثقافتين، أي ثقافة اسلامية في العقيدة والشريعة، وثقافة لها تراث عريق من عقائد وفلسفات وآداب، تصل تراكماتها الى ثقافات هندية وصينية وآشورية وبابلية ويونانية رومية. ولكنها كانت تعايشية وليست تناحرية، ولكن ذلك لم يمنع حصول صراع بين التيارات الفكرية والمذهبية لكلا الجانبين. وما لبث أن جرى تبادل ثقافي وترجمات من الفارسية الى العربية في الطب والهندسة والفلك، ثم نشأت علاقة تاريخية بين العاصمة بغداد ومدينة جنديسابور الساسانية، التي فتحت الباب للصلة مع الثقافة اليونانية، كون المدينة كانت على اتصال مع علوم اليونانيين وفلسفتهم.
التصوف فلسفياً
ظهر التصوف كحركة بناء أيديولوجية المجتمع العربي- وكظاهرة فلسفية في نظرية المعرفة في ظروف تاريخية نضجت فيه أسس بنائها. وذلك، عندما بدأ اهتزاز وتصدع السلطة حين اتخذت شكل "الاقطاعية اللامركزية" مكان "مركزية الدولة" فيها. فكان لا بد من دور إيديولوجي سياسي يواجه أيديولوجية وسياسة الدولة، وهذا الدور لا يمكن ان يكون، من دون أن يكون الوضع الفكري قد بلغ مستوى صياغةٍ فكرية للإيديولوجية الجديدة وكان أحد تجليات الحركة الفلسفية العربية المستقلة عن التبعية لعلم الكلام المعتزلي الذي أصبح في القرن الثالث للهجرة (التاسع م)، عائقاً في طريق نمو الفكر الفلسفي وتطوره في ظل ظروف الصراع الاجتماعي - الايديولوجي. إذ ان البيئة الأساسية لعلم الكلام كانت تتشكل من فلسفة لاهوتية تدخل في الإطار العام لبنية الإيديولوجية الرسمية المصابة بالاهتزاز. وسجلت بداية الاستقلال عن علم الكلام ظاهرتين:
1- ظاهرة الفلسفة كعلم يعتمد النظر العقلي في تحصيل المعرفة، وكان أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي هو الممثل الأول لها.
2- ظاهرة التصوف النظري المعتمد على الكشف الذاتي المستخدم لأسلوب الكبت النفسي والجسدي، وهي تختلف عن الظاهرة الأولى. ولكنها استندت في الواقع في كل مذاهبها "المعرفة" مع ذي النون المصري، "الظاهر والباطن"، "الموقف من الشريعة"، "الإشراق" مع السهروردي، "الحلول" مع الحلّاج و"وحدة الوجود" مع ابن عربي، الى كثير من المبادئ والمقولات التي استندت اليها الظاهرة العقلية الأولى، غير أن معالجتها بطرق أخرى، جعل نتائجها خارجة عن المنطق العقلاني.
الصوفية الطرائقية
كانت ظاهرة التصوف "ثورية" برفضها الواقع القائم، ولكنها بقيت حاملة في ذاتها بذور عجزها وتناقضها في كل مذاهبها، ما أدى الى عدم تحولها لقوة تحقق التغيير. ولكن يُسجل لها انها حملت وحدها في تاريخ الصراع الاجتماعي، داخل المجتمع العربي- الإسلامي، لواء الانتفاض بوجه السلطة الرسمية، وهذا ما لم يقم به الفكر الفلسفي العقلاني في حينه إلا بشكل مجتزأ ومغلّف بالحذر، كونه بقي مشدوداً الى اللاهوتية بعدة خيوط ظاهرة وخفية، وهذا الانشداد نفسه، لم يدفع عن الفكر العقلاني أذى الإرهاب والاضطهاد من اللاهوتيين.
ان الاحكام والاستنتاجات عن التصوف، تنحصر في المراحل التي كان فيها عملية فكرية لها أسس نظرية معينة، واتجاهاً أيديولوجيا، أي كشكلٍ من أشكال الوعي الفلسفي العربي- الإسلامي في العصر الوسيط. ولكن، تحوّله بعد ذلك الى طغيان الأساليب الآلية الجسدية على أساليب النظر الفلسفي، وانتهائه الى تقاليد ونظمٍ بهلوانية، أفرغه من مضمونه الأيديولوجي، وقَلبَه الى حركة تلعب دوراً خطيراً في عملية التخدير الاجتماعي وفي خدمة السلطات الحاكمة.
* المصدر:
الزهد والتصوّف في فكر حسين مروة