هناك نصوص من التراث تبقى لها طاقة عجيبة على العطاء المعرفي مهما أكل عليها الدهر من طعام الزمن و شرب عليها من ماء التاريخ . يتأتى لها ذلك بسبب ما تملكه من ثراء في المعنى و عمق في المبنى و جرأة في الطرح.في هذا السياق أود أن أتحدث عن تلك المناظرة الشهيرة التي أوردها أبوحيان التوحيدي في الإمتاع و المؤانسة بين لغوي و نحوي معتزلي من الأفذاذ هو أبو سعيد السيرافي و منطقي و مترجم مرموق هو أبو بشر متى بن يونس. جرت هذه المناظرة في بغداد سنة 326 هـ بمجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات.كان مدار المناظرة حول اللغة و المنطق و المنطق الأرسطي خاصة.
حاول السيرافي في هذه المناظرة التدليل على أن النحو هو منطق اللغة و إذا كان ذلك كذلك فإن المنطق الأرسطي إن هو إلا نحو للغة اليونانية و بما أن العربية لها نحوها/منطقها فان الحاجة إلى المنطق/النحو الأرسطي تنتفي جراء ذلك.هذا باختصار شديد و مخل مضمون مرافعة السيرافي.
ما يهمني في هذا المقال هو كيف قرأ المعاصرون خاصة المشتغلون بحقل الفلسفة هذه المناظرة و ما هو موقعها في حجاجهم.لا يمكن بالطبع في هذه العجالة الإجابة التفصيلية عن هذه الأسئلة و سأكتفي بإيراد نموذجين بارزين في الفلسفة المعاصرة كان لهذه المناظرة مكانة متميزة في مشروعهم الفكري و المعرفي أحدهما انحاز إلى السيرافي و وجد في نقده للمنطق الارسطي سندا كبيرا و الآخر أغاضه فشل أبي بشر في الدفاع عن "الخطاب البرهاني " و انتقم من السيرافي بأن صنفه في عداد ممثلي "العقل البياني".
يتعلق الأمر بالدكتور طه عبد الرحمن في أطروحته الصادرة بالفرنسية سنة 1978 و الموسومة ب"اللغة و الفلسفة" و الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "بنية العقل العربي " الذي يشكل الجزء الثاني من رباعيته في نقد العقل العربي .في أطروحته المذكورة أعلاه و التي تتضمن الإرهاصات الأولى بل الأطروحات الأساسية التي ستشكل فيما بعد عماد المشروع الطهوي.
يبين طه عبد الرحمن أن إشكال "الكينونة" كما حاول الفلاسفة المشاءون العرب استنباته في التربة الإسلامية كان مغلوطا و مشوها لأنهم لم يتفطنوا إلى أن هذا الإشكال في الفلسفة اليونانية أكثره راجع إلى اللعب بفعل "الكينونة" الذي لا وجود له في اللغات السامية و كثير من اللغات الأخرى.يذهب الدكتور طه إلى أن محاولة الاستنبات هذه أدت إلى خلق إشكالات مغلوطة كما أدت إلى "اشتقاقات متوحشة" لا تحترم أصول العربية و جماليتها و ذلك سر قلق العبارة الذي عانى منه كثير ممن قرأ هذه الفلسفة. في هذا السياق لا يكتفي طه بالاستدلال بمناظرة السيرافي و أبي بشر بل إنه يترجمها إلى الفرنسية و يجعلها ملحقا لأطروحته حتى يدرك القارئ الأوربي أن نقد فلسفة الوجود على أساس لساني ليس جديدا و لم يعرف ذلك فقط إبان ما سمي ب "المنعطف اللساني " للفلسفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الدكتور محمد عابد الجابري فقد عمل في سياق تنظيره لتقسيم العقل العربي إلى عقل عرفاني أرجع إليه كل الشرور المعرفية و الآفات المنهجية و نعته بالعقل المستقيل ، و عقل بياني نسب إليه تمركزا حول البيان و اللغة التي أنتجها الأعرابي و صنع من خلالها "العالم" العربي ثم العقل البرهاني الذي هو سيد هذه العقول و أرقاها إذ يرتكز على البرهان بما هو استدلال مبني على السببية التي لا يأخذ بها العقل البياني..عمل في سياق تنظيره هذا على دمغ أطروحة السيرافي بالبيانية لارتكازها على التحليل النحوي الإعرابي للمقولات المنطقية فهو يحلل لغويا و نحويا ما يعتبره أبو بشر و أرسطو من قبله منطقيا..و بالتالي هو ينحو بحسب الجابري منحى بيانيا و يجسد العقل البياني المرتكز على اللغة و مقدرات اللغة أحسن التجسيد.
نعرف أن أطروحة الجابري لاقت كثيرا من النقد ليس من قبل المشتغلين بالفلسفة و حسب بل حتى من قبل اللسانيين الذين بينوا ضعف و تهافت نظرته إلى اللغة العربية و تلك الميكانيكية الساذجة التي فهم بها علاقة الفكر باللغة بالقول بما أن النحاة و اللغويين العرب اعترفوا بأنفسهم بجمع اللغة من عند الأعراب و بما أن أطروحة الفيلسوف الألماني هردر التي اعتمد عليها الجابري كليا في هذا السياق تقول" إن اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي أيضا القالب الذي يتشكل فيه الفكر" و" أن الأمة تفكر كما تتكلم و تتكلم كما تفكر" فاللغة العربية "الأعرابية هي صانعة الفكر العربي الذي لن يكون في كثير من تجلياته إلا أعرابيا، و عليه فإن الأعرابي حسب الجابري هو الصانع الحقيقي للفكر العربي .و هذا تبسيط مخل و كبير فأمر الفكر و اللغة ليس بهذه الميكانيكية المباشرة .على مستوى فلسفة اللغة المعاصرة فإن أطروحة السيرافي ليست صحيحة فحسب بل هي عميقة الإدراك للإشكال اللساني داخل المنطق و الفلسفة.
فقد بينت الدراسات اللسانيات الحديثة منذ بحوث اللساني الفرنسي إميل بنيفست في كتابه "إشكالات في اللسانيات العامة" أن المقولات الأرسطية هي تجريد لمقولات الصرف و النحو اليونانيين و من ثم فإن "هذا الأصل الصرفي النحوي للمقولات هو بالذات السبب الحقيقي في التفاوت الملحوظ بين معاني المقولات كما أثبتها أرسطو و بين الأمثلة العربية التي كانت نقلا للأمثلة اليونانية على هذه المعاني ".لقد فوت الجابري في نظري فرصة تعديل و تصويب رؤيته المانوية (و لو أنه يتحدث عن عقول ثلاثة لكنه في حقيقة الأمر ينتصر لعقل ضد عقلين يتساويان عنده في الآفات و السلبيات) عندما لم ينتبه إلى نقد السيرافي العميق إلى لغة الفلسفة و المنبع اللغوي لكثير من إشكالات الخطاب "البرهاني " ، لكنه انتصر لتفريعاته القبلية فتساوت عنده كل الشواهد التي تربك طرحه.لكن طه عبد الرحمن أنصت بذكاء وقاد إلى ثراء هذه المناظرة الجميلة و الجليلة.
حاول السيرافي في هذه المناظرة التدليل على أن النحو هو منطق اللغة و إذا كان ذلك كذلك فإن المنطق الأرسطي إن هو إلا نحو للغة اليونانية و بما أن العربية لها نحوها/منطقها فان الحاجة إلى المنطق/النحو الأرسطي تنتفي جراء ذلك.هذا باختصار شديد و مخل مضمون مرافعة السيرافي.
ما يهمني في هذا المقال هو كيف قرأ المعاصرون خاصة المشتغلون بحقل الفلسفة هذه المناظرة و ما هو موقعها في حجاجهم.لا يمكن بالطبع في هذه العجالة الإجابة التفصيلية عن هذه الأسئلة و سأكتفي بإيراد نموذجين بارزين في الفلسفة المعاصرة كان لهذه المناظرة مكانة متميزة في مشروعهم الفكري و المعرفي أحدهما انحاز إلى السيرافي و وجد في نقده للمنطق الارسطي سندا كبيرا و الآخر أغاضه فشل أبي بشر في الدفاع عن "الخطاب البرهاني " و انتقم من السيرافي بأن صنفه في عداد ممثلي "العقل البياني".
يتعلق الأمر بالدكتور طه عبد الرحمن في أطروحته الصادرة بالفرنسية سنة 1978 و الموسومة ب"اللغة و الفلسفة" و الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "بنية العقل العربي " الذي يشكل الجزء الثاني من رباعيته في نقد العقل العربي .في أطروحته المذكورة أعلاه و التي تتضمن الإرهاصات الأولى بل الأطروحات الأساسية التي ستشكل فيما بعد عماد المشروع الطهوي.
يبين طه عبد الرحمن أن إشكال "الكينونة" كما حاول الفلاسفة المشاءون العرب استنباته في التربة الإسلامية كان مغلوطا و مشوها لأنهم لم يتفطنوا إلى أن هذا الإشكال في الفلسفة اليونانية أكثره راجع إلى اللعب بفعل "الكينونة" الذي لا وجود له في اللغات السامية و كثير من اللغات الأخرى.يذهب الدكتور طه إلى أن محاولة الاستنبات هذه أدت إلى خلق إشكالات مغلوطة كما أدت إلى "اشتقاقات متوحشة" لا تحترم أصول العربية و جماليتها و ذلك سر قلق العبارة الذي عانى منه كثير ممن قرأ هذه الفلسفة. في هذا السياق لا يكتفي طه بالاستدلال بمناظرة السيرافي و أبي بشر بل إنه يترجمها إلى الفرنسية و يجعلها ملحقا لأطروحته حتى يدرك القارئ الأوربي أن نقد فلسفة الوجود على أساس لساني ليس جديدا و لم يعرف ذلك فقط إبان ما سمي ب "المنعطف اللساني " للفلسفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الدكتور محمد عابد الجابري فقد عمل في سياق تنظيره لتقسيم العقل العربي إلى عقل عرفاني أرجع إليه كل الشرور المعرفية و الآفات المنهجية و نعته بالعقل المستقيل ، و عقل بياني نسب إليه تمركزا حول البيان و اللغة التي أنتجها الأعرابي و صنع من خلالها "العالم" العربي ثم العقل البرهاني الذي هو سيد هذه العقول و أرقاها إذ يرتكز على البرهان بما هو استدلال مبني على السببية التي لا يأخذ بها العقل البياني..عمل في سياق تنظيره هذا على دمغ أطروحة السيرافي بالبيانية لارتكازها على التحليل النحوي الإعرابي للمقولات المنطقية فهو يحلل لغويا و نحويا ما يعتبره أبو بشر و أرسطو من قبله منطقيا..و بالتالي هو ينحو بحسب الجابري منحى بيانيا و يجسد العقل البياني المرتكز على اللغة و مقدرات اللغة أحسن التجسيد.
نعرف أن أطروحة الجابري لاقت كثيرا من النقد ليس من قبل المشتغلين بالفلسفة و حسب بل حتى من قبل اللسانيين الذين بينوا ضعف و تهافت نظرته إلى اللغة العربية و تلك الميكانيكية الساذجة التي فهم بها علاقة الفكر باللغة بالقول بما أن النحاة و اللغويين العرب اعترفوا بأنفسهم بجمع اللغة من عند الأعراب و بما أن أطروحة الفيلسوف الألماني هردر التي اعتمد عليها الجابري كليا في هذا السياق تقول" إن اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي أيضا القالب الذي يتشكل فيه الفكر" و" أن الأمة تفكر كما تتكلم و تتكلم كما تفكر" فاللغة العربية "الأعرابية هي صانعة الفكر العربي الذي لن يكون في كثير من تجلياته إلا أعرابيا، و عليه فإن الأعرابي حسب الجابري هو الصانع الحقيقي للفكر العربي .و هذا تبسيط مخل و كبير فأمر الفكر و اللغة ليس بهذه الميكانيكية المباشرة .على مستوى فلسفة اللغة المعاصرة فإن أطروحة السيرافي ليست صحيحة فحسب بل هي عميقة الإدراك للإشكال اللساني داخل المنطق و الفلسفة.
فقد بينت الدراسات اللسانيات الحديثة منذ بحوث اللساني الفرنسي إميل بنيفست في كتابه "إشكالات في اللسانيات العامة" أن المقولات الأرسطية هي تجريد لمقولات الصرف و النحو اليونانيين و من ثم فإن "هذا الأصل الصرفي النحوي للمقولات هو بالذات السبب الحقيقي في التفاوت الملحوظ بين معاني المقولات كما أثبتها أرسطو و بين الأمثلة العربية التي كانت نقلا للأمثلة اليونانية على هذه المعاني ".لقد فوت الجابري في نظري فرصة تعديل و تصويب رؤيته المانوية (و لو أنه يتحدث عن عقول ثلاثة لكنه في حقيقة الأمر ينتصر لعقل ضد عقلين يتساويان عنده في الآفات و السلبيات) عندما لم ينتبه إلى نقد السيرافي العميق إلى لغة الفلسفة و المنبع اللغوي لكثير من إشكالات الخطاب "البرهاني " ، لكنه انتصر لتفريعاته القبلية فتساوت عنده كل الشواهد التي تربك طرحه.لكن طه عبد الرحمن أنصت بذكاء وقاد إلى ثراء هذه المناظرة الجميلة و الجليلة.