نقوس المهدي - سيرة العشق.. حكايات الحب الأول

( وللناس فيما يعشَقونَ مذاهبُ)
هذا عجز بيت ينسب غالبا لأبي فراس الحمداني صدره (ومنْ مذهبي حبُّ الديارِ لأهلها ) من قصيدة مطلعها (أبِيتُ كَأني لِلصَّبَابَة ِ صَاحِبُ)، وهو شطر تكاثر عليه الشعراء كما يقول النقاد، حتى عمت شهرته وبات يضرب به المثل ، وقد استعمله العديد من الشعراء ، ولعل أسبقهم الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة اليشكري الذي بز الجميع في بيت له يقول فيه:

فعُلِّقْتها شمطاءَ شاب وليدها = وللناس فيما يعشقون مذاهب

وللشاعر حمدون بن الحاج المعروف بابن الحاج- ( 1336م) بيت اخر جاء فيه:

وللناس فيما يعشقون مذاهب = وحكمة ربي في اختلاف المذاهبِ

هذه الابيات الشعرية وغيرها التي تجري مجرى الحكم لها دلالات عميقة ، ذلك أن مفهوم العشق يختلف من شخص لآخر ، بل وغير مقصور على لون او صنف معين، وتتعدد ابوابه ما بين حب روحاني و محبة وغرام وهيام وهوى وعشق الكتب والنساء والرياضة والفنون ، الى كل ما يتعلق به قلب المرء ، كما يقول الحكيم المصري القديم خميني دواوف في أحدى تعاليمه : " ليتني استطيع أن اجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك ...إلخ "

و الحب الأول من أسخف المصطلحات التى اخترعها البشر..
و هو كذبتنا الصادقة كما يقول محمود درويش أيضا

و يقول الدكتور مصطفى محمود متهكما: " وحكايات الحب الأول مادة جيدة للذكرى.. ولكنها لاتصلح لتكون مادة حياة او زواج.. انها الآن تثير دموعك .. ولكنها غدا لن تثير فيك الا ابتسامة لطيفة.. "

وللعشق حالات و أوجه مغايرة يمثلها عمر بن ابي ربيعة وعبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني، الشهير بــ ( بالوضّاح) والمعروف بين شعراء بني أمية بـوضاح اليمن.. يعبر عنه الشاعر أعشى ميمون بقوله:

علقتها عرضا وعلقت رجلا = غيري وعلق غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها = ومن بني عمها ميت بها وهل
وعلقتني أخيرى ما تلائمني = فاجتمع الحب حب كله تبل
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه = ناء ودان ومخبول ومختبل

قد يعزي المفكرون هذا الاختلاف والتفاوت في تبرير العشق الى اشياء روحية وفيسيولوجية واجتماعية واقتصادية كامنة في الذات البشرية.. الشيء الذي أفرز لنا أنواعا وأصنافا من حكايات وملاحم العشق والشوق والتشوف والوله والهيام والشغف والصبابة والتتيم والحب والمحبة والتحاب ( aimance ) ، التي نحتها علامة الاجتماع المغربي عبدالكبير الخطيبي، الى غير ذلك من المترادفات والمقابسات والمتقابلات التي لا تحصرها ألسنة ولا أمالي ، و مما تضيق عنه قواميس ومعاجم ومحيطات اللغة ، و مما تفيض به العواطف والنزوات والرغبات والأهواء والميولات ، ومما لا يحده خيال من ملاحم وأزليات وقصص وحكايات ، ابتداء من "مم وزين" الكوردية الى "تيسلي وتيسليت" ، و "حمو أونامير" الأمازيغيتين، و"حيزية الهلالية" ، و"البوغي" الجزائريتين، و"بهية وياسين" المصريين ، وروميو وجولييت .. تاجوج والمحلق السودانيين، و"كيلوبترة ومارك أنطونيو" ، و قيس ليلى ، وجميل بثينة، وعنترة وعبلة ، وقيس لبنى وكثير عزة، وعمر وسلامة القس ، ورابعة العدوية ، وعائشة الباعونية وغيرهم بلا حساب

وتصادف القارئ لتاريخ وسوسيولوجيا العشق العربي العديد من الاعترافات لكتاب وشعراء أحبوا خلال محطات فاصلة من حياتهم، فحبروها بصدق وامعان في سبيل القبض على المنفلت ، واستعادة فترات من الذكريات الآبقة التي تعتبر استمرارا في الزمان.. كما ترصد الجوانب الخفية والحميمية من حياة بعضهم من خلال حديثهم عن عشقهم الأول.. نعني ينابيع المحبة الاولى

عموما يبدو العشق عملبة في غاية البداهة والسذاجة بادئ الأمر، برزخ بين العقل والقلب، فاصلة بين الجد والهزل، لكنه مغامرة لا تخلو من متعة ، تجربة لا تفتقر للبراءة ، نزوة عاطفية لامسئولة العواقب.. إفراز لمراحل عمرية متقدمة في القدم، بوح جواني، جس للخلجات ، ورصد للهواجس ، نكتشف من خلالها كائنات مغايرة أكثر ايمانا بسلطان الهوى ، وأرق احساسا ، بالوقت الذي يوهموننا فيه بجمود عواطفهم وثباتهم، نقصد الشق الاعمق المخالف والمختلف تماما للصورة النمطية التي نرسمها لهم في متخيلنا .. وتسمح لنا بالتالي بالوقوف على بعض الجوانب القصية من سلوكاتهم النفسية والاجتماعية ، بل وتكشف عن الجانب الإنساني الأكثر هشاشة، والأشد رهافة والأعمق شفافية و الأصدق عاطفة

يعزى الحب العذري الذي يرجع اصله لقبيلة بني عذرة ، ويتسم بالعفاف والحشمة والتقشف في وصف محاسن المحبوبة ، و قد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أن أحد شيوخ بني عذرة قال: " نحن من قوم إذا أحبّوا ماتوا". ويرجع سبب ظهور الحب العذري والتعلق المثالي بالحبيب الى حياة الاستقرار والرعي ، وعدم السفر والتنقل خارج القبيلة ، ومنع الاختلاط بالجنس الآخر، وكانت القبيلة بصغر حجمها ومحدودية جغرافيتها هي العالم المتاح ، بخلاف الحب الاباحي أو الماجن والفاحش الذي كان أهله ينقلون قلوبهم بين شتى النساء ، والسفر الى مناطق اخرى من أهل الحضر بغرض التجارة أو الحج كعمر بن أبي ربيعة

ألم يقل الشيخ الأكبر
(فمن حد الحب ما عرفه ومن لم يذقه شربا ما عرفه ، ومن قال رويت منه ما عرفه ، فالحب شرب بلا ري) الفتوحات المكية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...