كتب سلامة موسى عن أحلام الفلاسفة في 1926 . وكان يرمي في الكتاب الذي يحمل نفس العنوان، توضيح وتحليل طموحات الفلاسفة في بناء نموذج المجتمع العادل. والدولة العقلانية والجمهوريات الحالمة . كتب عن الممكن والمستحيل، إنها مجرد تصورات لما ينبغي ان يكون في عالم يعج بالتناقضات، وقصور السياسة .وغياب الاثر الدال على السعادة والتناغم بين مكونات المجتمع . فالممكن ان يقبل الانسان بالمعايير والاسس التي ترفع من الكرامة وتجسيد الارادة في الفعل والممارسة . امكانية بناء نماذج معقولة في السياسة والتدبير للدولة والمجتمع يعني رغبة الانسان في تقنين الخطاب السياسي، وأنسنة السياسة . ووضع قيود للنزوات الفردية والاستفراد بالسلطة حتى لا تتحول الى قوة بدون كوابح قانونية واخلاقية .ففي عالم الاغريق ظل بعض الفلاسفة ينشدون نظام حكم عادل في تطبيق حيثيات العمل لأجل السعادة والعدالة. في الحكومات الممكنة. في مزايا النظام الديمقراطي والارستقراطي. وما يصلح للبلدان من انظمة تستند على دساتير، وصلاحية الحاكم في تطبيق العدالة كإنصاف والامتثال للقوانين . الفيلسوف الذي كتب في السياسة اعتبرها نموذجا للحكم الرشيد في صلاحية نظام يراعي المصلحة العامة وتدبير الامور بمصداقية . الانسان يولد وهو مسلح بالفهم والفضيلة . كائن عاقل وناطق . سياسي واجتماعي . محكوم بالغايات النبيلة، أن يعيش سعيدا ومنسجما مع الجماعة . حاجة الانسان للاجتماع تمليه الدوافع الطبيعية والسياسية. في غمار النتائج وتجربة التعليم، وصقل الخبرات واذكاء روح الفكر . يميل أرسطو للقول بالوسط العادل في الفضائل . والتموقع في بناء الذات بين الافراط والتفريط .والبحث عن الحكمة في الفعل والممارسة والخطاب المفعم بالمعنى والدلالة في الواقع .عقلانية الفيلسوف مادية . والدليل تفنيد اراء المعلم أفلاطون في شتى الحقائق، ومنها نظام الحكم وترابية المجتمع .جدارة الفيلسوف في القيادة والرئاسة . حتى الاتفاق بقي فقط في الامور البديهية الخاصة بالفكر والغايات . علاقة ارسطو بالإسكندر الاكبر من الامثلة الواضحة في تربية السياسي على الفضائل الاخلاقية. وتربيته وفق منطق عقلاني يتحلى فيه الاسكندر بالقدرة والشجاعة وبعد النظر في حملاته . وفي مرامي السياسة الخاصة بأرسطو. تكوين السياسي واعداد الحاكم .والتأسيس للمجتمع من خلال نظام عادل . واقعية ارسطو في اقامة السياسية وفق انماط الحكومات والدساتير والقيم السائدة في المجتمعات، القلة اليونانية وخصوصا النخب في اثينا كانت تعتبر ان النظام الديمقراطي اكثر الانظمة قبولا واعتدالا . والصراع الذي كان بين اثينا واسبرطة صوره بركليس وغيره من القادة أنه صراع بين ثقافتين مختلفتين . وبين حكومتين متناقضتين . الحكم العسكري الاستبدادي في إسبرطة والحكم الديمقراطي في أثينا . ولا فائدة في المقارنة بين مزايا النظامين .فالسؤال الذي يطرح ذاته .لماذا كره أفلاطون الديمقراطية؟ وهل وضع الفيلسوف أفلاطون نموذجا في الحكم والسياسة ؟
طموح أفلاطون واحلامه في اقامة نظام عادل ينسجم وفلسفته المثالية . تصوره لما ينبغي ان يكون في مقابل السائد في اثينا . ولعل الفيلسوف نطق بالأمل وعبر عن مشاكله وازماته .ذلك النظام الذي فتح المجال للغوغاء والعامة من الناس . فأصبحت الفضائل العملية واعداد الشباب للمناصب السياسية من ملامح النظام القائم في اثينا . ناهيك عن اعدام المعلم سقراط . الحكيم الذي نادى بالفضيلة والعدالة .ظل يعلم الناس فن الحقيقة . أعدم لأسباب واهية . والاساس في الاعدام كما تشير محاورات افلاطون الخاصة بالمحاكمة ان الادعاء كان عاما . في اتهام سقراط بتغيير اسس الثقافة الاثينية الخاصة بالطبقة الحاكمة . ولو كانت الديمقراطية تحمي ابناءها لما اعدم رجل في سن الثمانين . حيث امن سقراط بالقوانين الاثينية . وامتنع عن الهرب من السجن . وبذلك راح افلاطون يبحث عن نموذج معقول في السياسة والحكم . فكانت الجمهورية من النماذج الحالمة في اقامة مجتمع عادل ودولة يديرها الفيلسوف . تتميز بتراتبية طبقية بين الفلاسفة في القمة والجنود في الحراسة وعامة الشعب في الانتاج والعمل . تكامل الطبقات الاجتماعية في فلسفة افلاطون غير منفصلة عن التربية والمران. والقدرات العقلية والمؤهلات الفكرية والنفسية . يمكن القول أن افلاطون وضع هذا النموذج وراح يبحث عنه في صقلية عند حاكم سيراكوزا . وانتهى الحلم في اقامة المدينة الفاضلة بالانتكاسة والفشل. من تحويل الطاغية "ديونيسوس" الى حاكم فيلسوف بالهروب من المدينة، وبالتالي الفشل في بناء النموذج المثالي في الحكم, ثم رجع أفلاطون الى أثينا، واقتنع بفكرة التعليم وإنشاء أكاديمية .
هذا النموذج يحتاج الى تحليل دقيق في سياق العلاقة بين الفيلسوف والسياسة والاخلاق . وعلاقة السياسي بالفكر. حيث تختلف الرؤى في مرامي السياسة التي لا تعني شمولية المبادئ الصارمة، والاسس الثابتة بين اعتقاد السياسي وغايات الفيلسوف. السياسة بالمعنى الميكيافيلي في العصر الحديث شيء اخر . لعبة الامير في لباس ما يحتاجه في الممارسة والحفاظ على السلطة والهيبة . أن يلعب السياسي أدوارا .ويراوغ ويبحث في شتى الطرق للتمسك بالسلطة. القوة والدهاء ميزة السياسي في هيبة الدولة . وفي تطهير السياسة من البعد الاخلاقي والنظرة المثالية وضع رواد الفكر التعاقدي عند رواده ومنهم بالخصوص توماس هوبس وجون لوك مبادئ جديدة في ارساء خطاب سياسي بين الحاكم والشعب. تلك القواعد الجديدة التي انهت الاحلام الطوباوية للفلاسفة في تصورات أفلاطون في الجمهورية العادلة . وفي المدن الكاملة .وفي التصورات المثالية من القرن السادس عشر الميلادي. توماس مور في اليوتوبيا، وبناء حلم الانسانية في المساواة والسعادة للجميع . كذلك تصور كامبانيلا في كتاب "مدينة الشمس " في تصور المدينة المتكاملة التي تنعم بالسعادة والخير. تكون السلطة فيها لأصحاب العقل والحكمة . إنها بالفعل مجرد تصورات ضد القهر والقوة . وضد أشكال التسلط والاستبداد السياسي .وهيمنة الكنيسة على الحياة السياسية والاجتماعية . تأملات حالمة ومثالية لما ينبغي أن يكون عليه واقع الحال . في ظل التناغم بين الانسان والسياسية . أما في واقعنا الاسلامي فقد حاول الفيلسوف ابو نصر الفارابي، أن يشيد معالم المدينة الفاضلة التي يشترط ان يرأسها نبي أو فيلسوف . وفي غياب النبي يأتي الفيلسوف الحكيم الذي يمتلك مواصفات لعلها اقرب الى مواصفات الفيلسوف عند افلاطون . في الجانب الاجتماعي والسياسي تعتبر المدينة الفاضة كاملة وتامة في وظائف اهلها . تعبر المدينة عن اراء أهلها, عن التناغم والانسجام بين مكوناتها .
مدينة العدل والتكامل التي تأتي بالتدرج على مستوى الاجتماع . الذي يبدأ من الاسرة الى القرية والمدينة والامة والمعمورة . وكانت الفكرة اممية بامتياز تعبر عن اشتراكية واسعة بالمعنى المعاصر . لا تنحصر الامم في جغرافيتها بل تتجاوز ذلك الى بناء تجمعات كونية . اذا كانت الافكار مثالية فمن الملاحظ ان نقد الفلاسفة للفكر الطوباوي ارسى دلالة جديدة في واقعية السياسة والحكم . امكانية الفهم ومحاولة البناء تركت انطبعا كبيرا عند رواد الفكر الاجتماعي والسياسي من القرن السابع عشر . ورواد الفكر القانوني في تنظيم شأن المجتمعات وفق القوانين الوضعية والقانون الطبيعي . من الحق الطبيعي تبلورت اسس الدولة والمجتمع . ومن التعاقد افصح الفلاسفة عن بناء وحدة مشتركة بين الحاكم والمحكوم دون استبداد وتسلط . ومن توسيع هامش الحرية تشكلت معالم الفكر السياسي الحديث والمعاصر . ولا زالت الفلسفة السياسية تروم خلق شروط ممكنة وواقعية في الاعلاء من الكرامة وصون الحقوق . وارساء قواعد العمل السياسي . في بناء ديمقراطية وتكريس عقلانية الفعل. ونقد الانظمة التوليتارية والحكم المستبد في العالم . احلام الفلاسفة اليوم تحولت من البناء نحو الهدم والتفكيك وخلخلة الثابت . واعادة رسم فكر اخر بمعالم جديدة . فلم يعد الفكر الفلسفي يدعي الشمولية والقيم العقلانية . كما تحولت الحقيقة من الصرامة المنطقية .ومن أحادية الحقيقة الى تنوع الحقائق. في سمات الفكر الدعوة الى تكريس ثقافة الاختلاف والتنوع. ومحاولة بناء الانسان وفق معطيات العصر . الانسان الذي رفعت من قيمته النزعة الانسانية الخاصة بعصر النهضة وفلسفة الانوار في تمجيد العقل والحرية والارادة . وفي سمات الفكر العقلاني والتاريخي. أصبح هذا الانسان غير ذلك تتحكم في افعاله مجموعة من المعطيات والاكراهات الخاصة بالعصر . فقد قطعت البنيوية وفلسفة ما بعد الحداثة مع هذا الكائن .واصبح من اللازم الاعتراف بالحدود والقصور والانتباه الى تحولات القيم في عالم هيمنة العولمة وثقافة الصورة . مما ينتج او يفتح امكانية للتأسيس للكائن وفق ما يحمله العصر من ارهاصات . او هكذا نسمح اليوم في خطاب النهايات عن تهافت الخطاب عن الارادة والفاعلية والحرية . وينفتح الفكر على افق جديدة تتحدد من معالم العصر وحاجة المجتمعات للتسامح والتلاقح . حتى اصبح الفكر ينساق الى فلسفة ما وراء الحداثة واعادة النظر في المكبوت واللامفكر فيه .في اشياء اخرى تطفو على السطح في عالم يندر بالأفول وصراع الارادات . وهيمنة عالم الرقميات واقتصاد السوق .وما شابه ذلك من افاق جديدة في عالم الاقتصاد والسياسة والتقنية . عالم الفلاسفة اليوم بعيد عن مرامي افلاطون وغايات الفارابي .
مدينة الشمس وتلك المدن الحالمة تبقى تصورات في عالم الخيال . ونوع من البحث الحثيث عن فضاء ارحب للعيش والشعو بالسعادة والخير العميم . بعيدا عن الازمات والصراعات والتناقضات . عالمنا يسكنه التناقض والمصالح . ومقياس العلاقات الانسانية المنفعة وتبادل المصالح . فالفكر الفلسفي اليوم في تنوع خطابه يهدف بالأساس الى اعادة قراءة التراث الفلسفي وفق اهداف معينة . في تكريس صورة عن العصر بأدوات ومفاهيم مغايرة . ولذلك تميل الفلسفة الى بناء المفاهيم كما قال الفيلسوف دولوز أو تشخيص للوضع على غرار ما يرمي اليه الطبيب في قول ميشيل فوكو أو هكذا يمكن القول مع نيتشه ان الفيلسوف طبيب حضارة . يحلل ويشخص ويقترح ما يمكن أن يراه الانسان مقبولا . وقابلا للتحقق .