أحدثكم عن مجمع الكيف الذي شهد صعودا حينا من الدهر فغدا كأنه مدينة ألعاب ضاجة نهارا ومزدانا بالأضواء الملونة ليلا تملأ الأرجاء منه أصوات الغناء وموسيقى الطرب ثم ضربه هادم اللذات ومفرق الجماعات فصار أثرا بعد عين، وسُلب ونُهب وهدمت بيوته وتفرق أهله أيدي سبأ.
شاءت الأقدار لي، حالي حال من ضاقت به مدينة بغداد لسبب أو لآخر فسكن تلك النواحي، أن أسكن في ضاحية بعيدة، وشاءت الأقدار أن يبنى مجمع الغجر جوار ذلك الحي . جاء هواة الغجر من رجال السلطة بهم وأنزلوهم هناك. لم يكن الإحراج الذي يسببه للناس سكنهم قرب الغجر يقتصر على أن أحدهم حين يجيب السائل عن مكان سكنه فإن السائل يغمز بعينه قائلا :
- تكرم ... يعني قرب مجمع الكيف؟
بل تعداه الى أن طالبي اللذة من العامة غالبا ما يخطئون الدار المقصودة فيطرقون باب عائلة قريبة وربما خرجت لهم الزوجة أو الإبنة فيسألونها وعيونهم تلتهمها التهاما:
-موسيقى ورقص فقط أم معهما...؟
وكم من مرة خرج الجيران على صوت الصراخ فوجدوا أحدهم وقد تناوشته الهراوات وقصارى ماكان يستطيع فعله هو حماية رأسه بذراعيه متقلبا على الأرض وهو يصرخ:
-والله ما أدري ... والله ما أدري...
مع ذلك فجموع طالبي اللذة لم يكن لها انقطاع. إشتكى الأهالي مرارا فعمدت السلطات المحلية، ليس على ترحيل الغجر كما هو المطلوب، بل على بناء سياج حول المجمع بمثابة حدود ودليل، إلا أن السياج لم يمنع تنزه الطائشين في الجوار بحثا عن فرصة إستثنائية أو للتفرج وهكذا كانت الهراوات تؤدي دورها في زقاق واحد في الأقل كل يوم. إزدهرت المهنة الغجرية وأخذت أشكال من الفتيات في عمر الزهور تأتي لمزاولتها من مختلف مناطق العراق ولم يعد المجمع يتسع لهذا التطور وحيث أن بعض ساكني دور الحي ملوا هذا الوضع قرروا أن يضربوا ضربة العمر وينتقلوا الى داخل بغداد فباعوا دورهم الى الراغبين في الشراء من مدراء أعمال الصنف الراقي بأثمان لم يحلموا بها يوما، وهكذا سكنت فيها الجميلات اللواتي لا يشبهن الغجريات الأصليات ذوات البشرة الترابية الداكنة، يعني تحلقت بيوت (البرجوازية الغجرية) حول المجمع.
أمام أحد تلك البيوت صادفتها.
كنت ذاهبا ذات صباح لقضاء أمر مهم في مكان قريب، ولكي أصل سيرا على الأقدام بأقصر طريق كان علي المرور من هناك. كانت تقف أمام أحد الأبواب مرتدية ثوبا أبيض كالذي ترتديه العرائس خفيفا يشف عن بعض مناطق جسمها، وحين مررت بها سمعتها تقول:
-والله حلوة هذه المسبحة!
كنت أنا حامل المسبحة ولم يكن يوجد غيري في الشارع فتوقفت وقلت لها:
-أعجبتك؟
فردت:
-لا...أعجبني حاملها!
فكرت أنها تريد أن تستفتح يومها بي. لكن إختيارها لرجل طلّعت صعوباتُ الحياة حبَّ اللهو من عينه لم يكن موفقا. حاولتُ أن أكون لطيفا فقلت:
-مرة ثانية... الآن عندي شغل.
لاحظت خيبة أملها على وجهها الأبيض المدور، ورأيت كيف ضاقت عيناها الواسعتان، وفترت شفتاها الممتلئتان عن كلمة "براحتك"! لم أمرّ من هناك بعد ذلك لسنوات ولكني حفظت صورتها في ذاكرتي، ثم تبين لي أنها كانت محفورة في ذاكرتي وليست مجرد محفوظة.
في العام 2003عند دخول الأمريكيين الى بغداد رأيتها مرة ثانية. في تلك الأيام كانت فرصة السكان الناقمين على الغجر للإنقضاض عليهم، بغياب السلطة وإنهيار مؤسسات الدولة، فأخرجوهم من المجمع والدور المحيطة به. كنت واقفا بباب بيتي أشاهد طوابير الغجريات كأنها طوابير سبايا، لم يكن يوجد فيها غير عدد قليل من الرجال كبار السن والأغلبية كانت من النساء والأطفال، يسيرون جميعا دون عجلة والنساء المرتديات الثياب زاهية الألوان كمتسولات العجم وفوقها العباءات يثرثرن متذمرات وهن يواصلن مسيرهن. لم تكن لتخطئها العين وسطهن، وكان بإمكان أي شخص أن يقسم بأنها ليست غجرية، سافرة وترتدي ثوبا أزرق فاتحا مزينا بزهور صغيرة بيضاء والى جوارها يسير طفل لايتجاوز السادسة، وهو أيضا كان يختلف عن باقي الأطفال الحفاة الوسخين، لكنه كان حنطي البشرة كستنائي الشعر. عرفت أنه كان معها لأنها كانت أحيانا تكلمه وتقوده من يده. يبدو أن مثيلاتها من "طبقتها" كن قد تركن المجمع قبل فترة. عرفتها ولكني لم أكن أتوهم لأي سبب أنها ستعرفني فقد مضت سنوات على لقاء عابر. مرت من أمامي في الطابور المتناثر المتقطع بأتجاه الشرق.
في الجانب الغربي من الحي وعند بناية الفرقة الحزبية كانت تدور أحداث مختلفة، وكما عرفت فيما بعد، عندما هوجم شبان الغجر توجهوا الى مستودع الفرقة الحزبية ودارت بينهم وبين رجال من المعدان معركة للإستيلاء على ما فيه من سلاح إنتصر فيها الغجر وأزاحوا المعدان. حينئذ كنت في منزلي أسمع أصوات القتال البعيدة وأمنع أطفالي من الخروج غير أن إبن شقيقتي، التي كانت على خلاف مع زوجها وقصدتني قبيل إندلاع الحرب، كان شيطانا صغيرا فأفلت مني. أخرجت كيس التبغ الذي إشتريته تحسبا للظروف وكنت أدخن منه مقتصدا لأكثر من شهر، قدرت أن الباقي سيكفيني ليومين أو ثلاثة مع الإقتصاد. جلست في باحة البيت وأخذت ألف منه السجائر وأضعها في علبة سجائر فارغة وأنا أفكر في "الفتاة". من أين هي؟ لماذا لم تغادر و "طفلها"؟ ماقصتها بالضبط؟ هل رجلها أو من عساه يكون موجود؟ يقاتل مع شبان الغجر؟ أم ليس معها أحد ترتبط به؟ دخنت لفافة أو إثنتين من ذلك التبغ الحراق اللهاب وتمددت على بساط في الظل لآخذ قسطا من الراحة، لكن الراحة كانت بعيدة المنال فقد كانت شقيقتي تنوح على إبنها قربي، نهرتها فلم تسكت، قلت غاضبا:
-لعنة الله عليك وعلى إبنك الشيطان.. الله يأخذه ويخلصنا منه.
فإزدادت بكاء، ولم يكن أمامي غير أن أذهب للبحث عنه. لا أدري لماذا خلعت دشداشتي وإرتديت قميصا وبنطالا وحذاء وكأني ذاهب الى العمل.
فكرت أني سأجده حتما حيث يسود الهرج والمرج عند مستودعات الشركات والفرقة الحزبية. هناك رأيت الفتاة للمرة الثالثة.
ربما عرفت الغجريات بطريقة ما أن شبان مجمعهن إستطاعوا إستعادته فعدن أدراجهن إلا أنهن تجنبن هذه المرة العودة عبر الحي لكي لايتعرضن لإعتداء المنهزمين وسلكن طريق السيارات المعبد الذي يوصلهن مباشرة الى بناية الفرقة الحزبية ومن هناك يدخلن في الشارع الترابي الموصل الى المجمع مارا بمحطة الغاز. كانت فكرة سلوك الشارع العام سيئة حيث تتركز الفوضى. لقد وجد المعدان مستودعا آخر للسلاح في معسكر جيش القدس القريب غنموا منه أسلحة وذخائر بينها قاذفات فتوجهوا من جديد لمحو عار هزيمتهم أمام الغجر. في اللحظات التي كانت فيها النساء العائدات مع الأطفال ينحرفن الى الشارع الترابي إشتعل الجو وأصبحن بين المتقاتلين فتناثرن كشياه داهمتها ذئاب وهرعن للإستتار والإختباء في البيوت القريبة. عندما وجد شبان الحي قوة تسندهم عاودوا هم أيضا الكر على مجمع الغجر فحوصر هؤلاء داخله لكنهم كانوا هذه المرة مسلحين تسليحا جيدا.
كنت أنا في شغل عن هذا كله بأمر إبن شقيقتي الملعون، أسير في الأزقة وأتحرى الأماكن الأكثر أمنا. عندما وصلت الى نهاية فرع يفضي الى الأرض الفضاء الكائنة بين الحي والفرقة الحزبية كان الوضع في تلك البقعة هادئا نسبيا إذ تركزت المعركة حول المجمع الذي يبعد مئات الأمتار داخل الحي، تلفت لأتأكد قبل المغامرة بكشف نفسي، لا يوجد من الحركة سوى صبيان يتراكضون لأخذ ما خف حمله. ورأيت رجلا ساقطا عند سور الفرقة، ورجلا ببدلة عسكرية دون غطاء رأس ويرتدي نعلا يبتعد وهو منحن يتلفت نحو أشجار اليوكالبتوس المحاذية لبستان نخيل مهجور، ورجلا آخر يحمل دولابا على ظهره يبدو أنه وضع فيه سرقات أخرى ويركض رغم الثقل بإتجاهي، أما هرج السلب الواسع فكان بعيدا في الجانب الأخر أقرب الى الأمريكيين عند مستودع كبير. رأيتها هي وسط الساحة متربعة على الأرض تضع يديها في حجرها والى جوارها الطفل ممددا يتحرك بين الحين والآخر، كلما إقتربت منها وأنا أتلفت يمينا ويسارا كلما كنت أرى بوضوح بقعة الدم تحت الطفل. توقفت عندها، كان الطفل يتلوى بنزق كما يفعل الطفل عندما تطلب منه أمه النوم فيتمرد بوهن ملوحا بيديه ويرفس برجليه، دون بكاء أو صراخ، وهي صامتة لاتنظر اليه، مركزة بصرها على الأرض وقد إستحال بياضها الى إصفرار وغارت عيناها. عندئذ سمعت صوت إبن شقيقتي فإلتفت لأراه مع صبيين حاملا علب إطلاقات مسدس. ركضت نحوه لأني إذا تركته قد لاأعثر عليه مرة أخرى حيا. أمسكته بعنف فتناثرت العلب، وأخذت أجره حينا وأسحله سحلا حينا آخر حتى أوصلته الى البيت وهناك ضربته ضربا مبرحا، وأمه تدور حولي وتولول، حتى سقط مغشيا عليه. دخنت لفافة بأعصاب فائرة، مالبثت بعد هنيهة أن تذكرت فتاتي المجهولة وسيطرت علي رغبة شديدة في العودة اليها هذه المرة. توجهت نحو الباب الخارجي فسألتني زوجتي:
-الى أين ذاهب؟
لم أجبها. إتخذت طريقي نفسه وعندما وصلت المكان لم أجدها. نظرت الى بركة الدم على الأرض الحصوية... كانت أكبر من أن تكون للطفل وحده.
2007
من مجموعة (فك الحزن) 2017
شاءت الأقدار لي، حالي حال من ضاقت به مدينة بغداد لسبب أو لآخر فسكن تلك النواحي، أن أسكن في ضاحية بعيدة، وشاءت الأقدار أن يبنى مجمع الغجر جوار ذلك الحي . جاء هواة الغجر من رجال السلطة بهم وأنزلوهم هناك. لم يكن الإحراج الذي يسببه للناس سكنهم قرب الغجر يقتصر على أن أحدهم حين يجيب السائل عن مكان سكنه فإن السائل يغمز بعينه قائلا :
- تكرم ... يعني قرب مجمع الكيف؟
بل تعداه الى أن طالبي اللذة من العامة غالبا ما يخطئون الدار المقصودة فيطرقون باب عائلة قريبة وربما خرجت لهم الزوجة أو الإبنة فيسألونها وعيونهم تلتهمها التهاما:
-موسيقى ورقص فقط أم معهما...؟
وكم من مرة خرج الجيران على صوت الصراخ فوجدوا أحدهم وقد تناوشته الهراوات وقصارى ماكان يستطيع فعله هو حماية رأسه بذراعيه متقلبا على الأرض وهو يصرخ:
-والله ما أدري ... والله ما أدري...
مع ذلك فجموع طالبي اللذة لم يكن لها انقطاع. إشتكى الأهالي مرارا فعمدت السلطات المحلية، ليس على ترحيل الغجر كما هو المطلوب، بل على بناء سياج حول المجمع بمثابة حدود ودليل، إلا أن السياج لم يمنع تنزه الطائشين في الجوار بحثا عن فرصة إستثنائية أو للتفرج وهكذا كانت الهراوات تؤدي دورها في زقاق واحد في الأقل كل يوم. إزدهرت المهنة الغجرية وأخذت أشكال من الفتيات في عمر الزهور تأتي لمزاولتها من مختلف مناطق العراق ولم يعد المجمع يتسع لهذا التطور وحيث أن بعض ساكني دور الحي ملوا هذا الوضع قرروا أن يضربوا ضربة العمر وينتقلوا الى داخل بغداد فباعوا دورهم الى الراغبين في الشراء من مدراء أعمال الصنف الراقي بأثمان لم يحلموا بها يوما، وهكذا سكنت فيها الجميلات اللواتي لا يشبهن الغجريات الأصليات ذوات البشرة الترابية الداكنة، يعني تحلقت بيوت (البرجوازية الغجرية) حول المجمع.
أمام أحد تلك البيوت صادفتها.
كنت ذاهبا ذات صباح لقضاء أمر مهم في مكان قريب، ولكي أصل سيرا على الأقدام بأقصر طريق كان علي المرور من هناك. كانت تقف أمام أحد الأبواب مرتدية ثوبا أبيض كالذي ترتديه العرائس خفيفا يشف عن بعض مناطق جسمها، وحين مررت بها سمعتها تقول:
-والله حلوة هذه المسبحة!
كنت أنا حامل المسبحة ولم يكن يوجد غيري في الشارع فتوقفت وقلت لها:
-أعجبتك؟
فردت:
-لا...أعجبني حاملها!
فكرت أنها تريد أن تستفتح يومها بي. لكن إختيارها لرجل طلّعت صعوباتُ الحياة حبَّ اللهو من عينه لم يكن موفقا. حاولتُ أن أكون لطيفا فقلت:
-مرة ثانية... الآن عندي شغل.
لاحظت خيبة أملها على وجهها الأبيض المدور، ورأيت كيف ضاقت عيناها الواسعتان، وفترت شفتاها الممتلئتان عن كلمة "براحتك"! لم أمرّ من هناك بعد ذلك لسنوات ولكني حفظت صورتها في ذاكرتي، ثم تبين لي أنها كانت محفورة في ذاكرتي وليست مجرد محفوظة.
في العام 2003عند دخول الأمريكيين الى بغداد رأيتها مرة ثانية. في تلك الأيام كانت فرصة السكان الناقمين على الغجر للإنقضاض عليهم، بغياب السلطة وإنهيار مؤسسات الدولة، فأخرجوهم من المجمع والدور المحيطة به. كنت واقفا بباب بيتي أشاهد طوابير الغجريات كأنها طوابير سبايا، لم يكن يوجد فيها غير عدد قليل من الرجال كبار السن والأغلبية كانت من النساء والأطفال، يسيرون جميعا دون عجلة والنساء المرتديات الثياب زاهية الألوان كمتسولات العجم وفوقها العباءات يثرثرن متذمرات وهن يواصلن مسيرهن. لم تكن لتخطئها العين وسطهن، وكان بإمكان أي شخص أن يقسم بأنها ليست غجرية، سافرة وترتدي ثوبا أزرق فاتحا مزينا بزهور صغيرة بيضاء والى جوارها يسير طفل لايتجاوز السادسة، وهو أيضا كان يختلف عن باقي الأطفال الحفاة الوسخين، لكنه كان حنطي البشرة كستنائي الشعر. عرفت أنه كان معها لأنها كانت أحيانا تكلمه وتقوده من يده. يبدو أن مثيلاتها من "طبقتها" كن قد تركن المجمع قبل فترة. عرفتها ولكني لم أكن أتوهم لأي سبب أنها ستعرفني فقد مضت سنوات على لقاء عابر. مرت من أمامي في الطابور المتناثر المتقطع بأتجاه الشرق.
في الجانب الغربي من الحي وعند بناية الفرقة الحزبية كانت تدور أحداث مختلفة، وكما عرفت فيما بعد، عندما هوجم شبان الغجر توجهوا الى مستودع الفرقة الحزبية ودارت بينهم وبين رجال من المعدان معركة للإستيلاء على ما فيه من سلاح إنتصر فيها الغجر وأزاحوا المعدان. حينئذ كنت في منزلي أسمع أصوات القتال البعيدة وأمنع أطفالي من الخروج غير أن إبن شقيقتي، التي كانت على خلاف مع زوجها وقصدتني قبيل إندلاع الحرب، كان شيطانا صغيرا فأفلت مني. أخرجت كيس التبغ الذي إشتريته تحسبا للظروف وكنت أدخن منه مقتصدا لأكثر من شهر، قدرت أن الباقي سيكفيني ليومين أو ثلاثة مع الإقتصاد. جلست في باحة البيت وأخذت ألف منه السجائر وأضعها في علبة سجائر فارغة وأنا أفكر في "الفتاة". من أين هي؟ لماذا لم تغادر و "طفلها"؟ ماقصتها بالضبط؟ هل رجلها أو من عساه يكون موجود؟ يقاتل مع شبان الغجر؟ أم ليس معها أحد ترتبط به؟ دخنت لفافة أو إثنتين من ذلك التبغ الحراق اللهاب وتمددت على بساط في الظل لآخذ قسطا من الراحة، لكن الراحة كانت بعيدة المنال فقد كانت شقيقتي تنوح على إبنها قربي، نهرتها فلم تسكت، قلت غاضبا:
-لعنة الله عليك وعلى إبنك الشيطان.. الله يأخذه ويخلصنا منه.
فإزدادت بكاء، ولم يكن أمامي غير أن أذهب للبحث عنه. لا أدري لماذا خلعت دشداشتي وإرتديت قميصا وبنطالا وحذاء وكأني ذاهب الى العمل.
فكرت أني سأجده حتما حيث يسود الهرج والمرج عند مستودعات الشركات والفرقة الحزبية. هناك رأيت الفتاة للمرة الثالثة.
ربما عرفت الغجريات بطريقة ما أن شبان مجمعهن إستطاعوا إستعادته فعدن أدراجهن إلا أنهن تجنبن هذه المرة العودة عبر الحي لكي لايتعرضن لإعتداء المنهزمين وسلكن طريق السيارات المعبد الذي يوصلهن مباشرة الى بناية الفرقة الحزبية ومن هناك يدخلن في الشارع الترابي الموصل الى المجمع مارا بمحطة الغاز. كانت فكرة سلوك الشارع العام سيئة حيث تتركز الفوضى. لقد وجد المعدان مستودعا آخر للسلاح في معسكر جيش القدس القريب غنموا منه أسلحة وذخائر بينها قاذفات فتوجهوا من جديد لمحو عار هزيمتهم أمام الغجر. في اللحظات التي كانت فيها النساء العائدات مع الأطفال ينحرفن الى الشارع الترابي إشتعل الجو وأصبحن بين المتقاتلين فتناثرن كشياه داهمتها ذئاب وهرعن للإستتار والإختباء في البيوت القريبة. عندما وجد شبان الحي قوة تسندهم عاودوا هم أيضا الكر على مجمع الغجر فحوصر هؤلاء داخله لكنهم كانوا هذه المرة مسلحين تسليحا جيدا.
كنت أنا في شغل عن هذا كله بأمر إبن شقيقتي الملعون، أسير في الأزقة وأتحرى الأماكن الأكثر أمنا. عندما وصلت الى نهاية فرع يفضي الى الأرض الفضاء الكائنة بين الحي والفرقة الحزبية كان الوضع في تلك البقعة هادئا نسبيا إذ تركزت المعركة حول المجمع الذي يبعد مئات الأمتار داخل الحي، تلفت لأتأكد قبل المغامرة بكشف نفسي، لا يوجد من الحركة سوى صبيان يتراكضون لأخذ ما خف حمله. ورأيت رجلا ساقطا عند سور الفرقة، ورجلا ببدلة عسكرية دون غطاء رأس ويرتدي نعلا يبتعد وهو منحن يتلفت نحو أشجار اليوكالبتوس المحاذية لبستان نخيل مهجور، ورجلا آخر يحمل دولابا على ظهره يبدو أنه وضع فيه سرقات أخرى ويركض رغم الثقل بإتجاهي، أما هرج السلب الواسع فكان بعيدا في الجانب الأخر أقرب الى الأمريكيين عند مستودع كبير. رأيتها هي وسط الساحة متربعة على الأرض تضع يديها في حجرها والى جوارها الطفل ممددا يتحرك بين الحين والآخر، كلما إقتربت منها وأنا أتلفت يمينا ويسارا كلما كنت أرى بوضوح بقعة الدم تحت الطفل. توقفت عندها، كان الطفل يتلوى بنزق كما يفعل الطفل عندما تطلب منه أمه النوم فيتمرد بوهن ملوحا بيديه ويرفس برجليه، دون بكاء أو صراخ، وهي صامتة لاتنظر اليه، مركزة بصرها على الأرض وقد إستحال بياضها الى إصفرار وغارت عيناها. عندئذ سمعت صوت إبن شقيقتي فإلتفت لأراه مع صبيين حاملا علب إطلاقات مسدس. ركضت نحوه لأني إذا تركته قد لاأعثر عليه مرة أخرى حيا. أمسكته بعنف فتناثرت العلب، وأخذت أجره حينا وأسحله سحلا حينا آخر حتى أوصلته الى البيت وهناك ضربته ضربا مبرحا، وأمه تدور حولي وتولول، حتى سقط مغشيا عليه. دخنت لفافة بأعصاب فائرة، مالبثت بعد هنيهة أن تذكرت فتاتي المجهولة وسيطرت علي رغبة شديدة في العودة اليها هذه المرة. توجهت نحو الباب الخارجي فسألتني زوجتي:
-الى أين ذاهب؟
لم أجبها. إتخذت طريقي نفسه وعندما وصلت المكان لم أجدها. نظرت الى بركة الدم على الأرض الحصوية... كانت أكبر من أن تكون للطفل وحده.
2007
من مجموعة (فك الحزن) 2017