نُشر هذا المقال بالعبرية للمرّة الأولى عام ٢٠٠٥ في دائرة المعارف ”زمن يهودي جديد“، ضمن ركن العبرية ولغات اليهود؛ ومن ثمّ في ١٢ حزيران ٢٠١٦. أنهى سامي ميخائيل (اسمه عند الولادة كان كمال صلاح) الذي يعيش اليوم في وادي النسناس في حيفا، تعليمه في ثانوية شمّاس في بغداد، وفيها درّس المواضيعَ العلمية أساتذة بريطانيون، وتتلمذ في العربية على حسين مروة ومحمد شرارة. عمل محرّرًا في صحيفة ”الاتّحاد“ ومجلة ”الجديد“ الشيوعيتين مدّة أربع سنوات؛ في غضون تلك الأعوام كان يكتب عامودًا أسبوعيًا باسم مستعار - سمير مارد؛ ترك الحزب الشيوعي عام ١٩٥٥ إلّا أنّه، كما صرّح، لم يترك المُثل الاشتراكية؛ عمل خمسة وعشرين عامًا في الزراعة الهيدرولوجية في شمال البلاد؛ شغل منذ العام ٢٠٠١ منصب رئيس جمعية حقوق المواطن الإسرائيلي؛ نقل ثلاثية نجيب محفوظ إلى العبرية.
من أعمال الأديب اليهودي العراقي البغدادي سامي ميخائيل (١٩٢٦-): متساوون ومتساوون أكثر، ١٩٧٤؛ عاصفة بين النخيل، ١٩٧٥؛ حماية/لجوء، ١٩٧٧ ؛ حفنة ضباب، ١٩٧٩؛ أكواخ صغيرة وأحلام، ١٩٧٩؛ هذه أسباط إسرائيل، اثنتا عشرة محادثة عن المسألة اليهودية، ١٩٨٤؛ بوق في الوادي، ١٩٨٧؛ حبّ بين النخيل، ١٩٩٠؛ ڤيكتوريا، ١٩٩٣؛ شياطين بنّيون، ١٩٩٣؛ محادثات مع روڤيك روزنتال، ٢٠٠٠؛ الجناح الثالث، ٢٠٠٠؛ الماء يقبّل الماء، ٢٠٠١؛ التجربة الإسرائيلية، ٢٠٠١؛ حمائم في الطرف الأغرّ/نبيلة، ٢٠٠٥؛ عايدة، ٢٠٠٨؛ الحروف تذهب إلى البحر، ٢٠٠٩؛ طيران البجع، ٢٠١١؛ ألماس من البرية، ٢٠١٥.
في ما يلي يكتب الروائي سامي ميخائيل عن مِشواره في اللغة العبرية بعد توقّفه عن الكتابة بالعربية، عن بهجة الاكتساب وقلق الفقدان.
”وصلتُ البلاد قادمًا من العراق عام ١٩٤٩، وكنتُ ابن ثلاثة وعشرين عاما. في العراق تكلّمت وكتبت بالعربية ولكنّي قرأت بالإنجليزية، ومن خلالها تعرّفتُ إلى الكنوز الروحية العالمية. لم أعرف العبرية الحديثة/العلمانية في مسقط رأسي، خلافًا لمعظم الكتّاب والشعراء، الذين قدِموا إلى فلسطين قبل قيام الدولة. تعلّمتُ في بغداد عبرية العهد القديم، بواقع حصّة واحدة أسبوعيًا فقط، لغاية الصفّ السادس. وبمرور الزمن، امّحى كلّ ما اكتسبته في صباي، لأنّي ترعرعت مثل أكثرية أبناء طبقتي في بيت غير متديّن. ذهبت إلى الكنيس مرّاتٍ معدودة حبًّا للاستطلاع، ولا أتذكّر أنّني شاهدتُ مرّة أبي أو يهوديًا آخرَ في الشارع الذي سكنّا فيه، يضع التيفيلّين أو يصلّي. أنتمي لابن جيل ما بين الحربين العالميتين، وقد تبلورت رؤيته للعالم في حالة من هياج رهيب، وقد بدا لي الله كأنّه فارّ هجر نوبته. وقد ظهر لي التشبّث بالدين شبيهًا باستعمال تعويذة للقضاء على الملاريا. آونتها في العراق، لم يكن هناك وعي صهيوني واسع، وكانت العبرية بالنسبة لي أداة إيمان خيّبت آمال مجايلي لقصورها. وفي وقت لاحق، اكتشفت وجود عبرية أخرى في الأراضي المقدّسة، لغة حيّة وحديثة.
عودة افتراضية لمسقط رأسي
على كلّ حال، وصلتُ البلاد أخرسَ أبكمَ من حيث معرفةُ العبرية؛ كانت البلاد فقيرة ومِحنها كثيرة لدرجة أنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء تعليم اللغة العبرية للمهاجرين الجدد، الذين تخطّوا جيل المراهقة. بعد مُضِيّ بضعة أشهر جُنّدتُ لجيش الدفاع الإسرائيلي بدون أن أتعلّم ولو درسًا واحدًا في العبرية. كانت هناك بعض الأوامر العسكرية التي فهمت معناها بعد تنفيذها فقط. وبعد انتهاء هذه الخدمة العسكرية، التحقت بإدارة صحيفة ”الاتحاد“ العربية وعدتُ أكتب بالعربية التي أجدْتُها. كان ذلك بمثابة عودة افتراضية لمسقط رأسي، العراق.
في اللحظة التي أدركتُ فيها أن لا سبيلَ للعودة، وأنّه إن أردتُ ذلك أم أبيْت، فإنّ إسرائيل هي وطني الجديد، توصّلت لنتيجة مفادها، أنّه لا داعي لتكريس حياتي من أجل تحقيق الحُلم لأصبح كاتبًا بالعربية، في بلاد لغتها المهيمنة هي العبرية. ومن جهة ثانية، لم يطرأ ببالي بأنّي سأتمكّن من اللغة العبرية، لدرجة تؤهلني الإنتاج بها. في حينه، كتبت مقالًا في المجلة الأدبية ”الجديد“ التابعة للحزب الشيوعي، توجّهت فيه للكتّاب العراقيين المبتدئين والأصغر منّي سنًّا، ناصحًا إيّاهم بذل كلّ مجهود ممكن، من أجل اكتساب اللغة الحديثة والكتابة بها. كان ذلك بمثابة نزول الصاعقة على الحزب الشيوعي. اتّهمت بنشر دعاية صهيونية من داخل المعقل العربي التابع للحزب الشيوعي. أنّبوني بشدّة هم وزملائي العراقيون الشيوعيون المتحمّسون. لم أتراجع، إذ أنّ أولائك الرفاق كانوا قد سجّلوا للالتحاق بالجامعات، حيث عملوا جاهدين لاكتساب العبرية، ولكن لم يتسن لي الاحتذاء بهم بسبب حالتي المادية العسيرة جدًا، ولم أجد أيّ معين.
سمحتُ للعبرية أن تتسرّب عبرَ جلدي
في العام ١٩٥٥ جمّدتُ حُلم الكتابة وكرّست نفسي للعمل خبيرًا في علم المياه، في وزارة الزراعة. لقد ارتدعت عن المصير المرّ، الذي سيكون من نصيب كاتب محبَط يكتب بالعربية. من جهة واحدة، يتجاهله اليهود، ومن ناحية أخرى يتنكّر له العرب لكونه كاتبًا يهوديًا إسرائيليا. بعض الأشخاص استمرّوا في الكتابة بالعربية، لأنّهم أخفقوا في اكتساب العبرية، وبالتالي عاشوا بمرارة ورحلوا عن هذه الدنيا بعزلة. بينما أنا إنسان يُحبّ الحياة، ولذلك كرّست ساعاتِ الفراغ للذتي الأولى - ”القراءة“. أخذت أقرأ ما كُتب بالعبرية أو تُرجم إليها فقط. انقطعتُ عن القراءة بالعربية والإنجليزية لغتيّ الأولين. وجّهت جهاز المذياع إلى قناة ”صوت إسرائيل“ بالعبرية فقط. عشت وعملت أجيرًا في كيبوتس مدّة أربع سنوات، ولم يتسنَ لي خلالَها التحدّث كثيرًا بالعربية. علّمتُ أولادي الذين وُلدوا في البلاد التحدّث بعبرية البالغين، ومنهم اكتسبت لغة الروضة والمدرسة.
لم أتلقَ حتّى هذا اليوم أيّ درس في العبرية. قفزت إلى بحر اللغة الجديدة بدون أن أعرف السباحة. لم أستفسر كثيرًا عن معاني كلمات عويصة، ولم ألجأ إلى المعاجم. قرأت الكثير الكثير، استمعت إلى العبرية وتحدّثت بها. سمحت للغة أن تُدغدغ جلدي. ولأنّني كنت متحرّرًا من الضغوط لأُصبح مغنيًا بأي ثمن، فقد كرّست جهدي لموسيقى اللغة كمغرَم يوقّر كلَّ صوت فيها. قمعتُ شيطان الكتابة الصغيرَ، إلا أنّه لم يفارق الحياة. من حين لآخرَ كنتُ أُراضيه فكتبت صفحاتٍ، وبمرور الزمن ألقيتُها في سلّة المهملات. عندما تمّ افتتاح جامعة حيفا، كان بمقدوري إثر ساعات العمل في الحقل، أن أُحقِّق أمنيتي في التعليم العالي، فالتحقت بقسمَي علم النفس واللغة العربية. لقد تجنّبتُ دراسة الأدب العبري لسبب غريب. لقد وقعت في حبّ اللغة العبرية وبالأدب المترجم إليها، كان ذلك بمثابة حبّ بالمراسلة، والحبّ يتعذّر تعلّمُه. أحبّبت جدًّا الأدب، لدرجة أنّي لم أكن بحاجة لمعلّمي أدب، حمَل الكثيرون منهم في قلوبهم عاشقًا فاشلا.
شيطان الكتابة الصغير، كما نوّهت، قد نجا. في اللحظة التي بدأت أحلُم باللغة العبرية، فهمتُ أنّه قد آن أوان الكتابة، ولكن اللغة عاشقة ساحرة. إنّها أداة طيّعة بيد الكاتب، وفي الوقت ذاته، مادّة خام قد تستعبده. وعندما اختمر قرار الكتابة بكليّتي، انتصب أمامي السؤال: أية لغة أختار؟ ألغة طيّعة أم لغة سيّدة مُهيمنة؟ تجربتي أمْلت عليّ الاختيار. لغة القراءة الأساسية لديّ حتّى جيل الثلاثين كانت الإنجليزية، وليست العبرية ولا حتّى العربية، بالرغم من أنّي وُلدت وترعرعت في بلد عربي، ولغة أمّي كانت العربية. تعرّفت من خلال اللغة الإنجليزية على آثار مختلف أجيال عمالقة الأدب في العالم.
طه حسين وشا”ي عچنون
اللغة الإنجليزية ومضامين أُمّهات الأعمال العالمية أضاءت لي الطريق، عندما أقدمت على كتابة باكورة إنتاجي بالعربية. في العراق لم أُيمّم نحوَ أساطين اللغة العربية، ولم أرَ في أعمالهم أُنموذجا يُحتذى. إنّ اللغة العربية الثرية التي استعملوها كانت نفس لغة القرآن المقدّس الدسمة والمكثفة؛ علوّ شأنها المنتفخ لم يسمح لها بالهبوط إلى الشارع لجسّ نبض الحياة. هذه اللغة، عكست تراث شعراءَ بلاط بعيدين عن الواقع الزاخر خلف أسوار القصور. لذلك ما قصدتُ لا طه حسين المصري، ولا الجاحظ الذي سبقه بأكثرَ من ألف عام، كيما أستمرّ في تقليد أدبي ما. لكنّي لجأت إلى جهابذة آخرين مثل توماس مان، تشيخوڤ، بلزاك إلخ. الذين كانوا قُدوة لي بتعاملي مع اللغة.
الدروس التي تعلّمتها في العراق، طبّقتُها في إسرائيل. وقد قال لي أحد باحثي الأدب العبري، بأنّه عليّ أن أجلس وأدرس شموئيل يوسيف عچنون. وكان ذلك أكثر من مجرّد نصيحة. كان ذلك بمثابة بوّابة نصبها لي، وعبرَها فقط يجوز لي ولوج الأدب العبري. لم آبه بذلك، إذ في نظري كان شا”ي عچنون الأخ الروحي لطه حسين والجاحظ اللذين غرفا بالأساس من القرآن، وبنفس القَدْر استمدّ عچنون لغته من التناخ، كتاب اليهود المقدّس. طه حسين درس في الأزهر، وعچنون كان متديّنًا وأدّى الفرائض الدينية. وبالنسبة لكليهما، كانت اللغة لغةَ صلاة مقدّسة. وعلى ضوء ما اكتسبتُ من قراءتي بالإنجليزية، أدركتُ أنّ الأدب النموذجي يناقض القدسية، كما أنّ كتاب العهد القديم والقرآن قد حطّما قدسية ما سبقهما.
لباس جسم غير شفّاف
إنّي مفعم بانفعال إيجابي من لغة كتّاب، تكون بمثابة ألعاب نارية بارعة لكلمات سحرية. لكن الأدب، كما أحببتُه دومًا، يُعنى في الأساس بالمضمون. إنّ الأدب يستعبد عجلاتِ اللغة كي يخدُِم حمولة المضمون الغالية. لقد سيطرت على كنوز اللغة العربية، وعرفت مستوياتِها العميقةَ بكل مفرداتها السامية. آنذاك أيضًا، عندما كنت استعمل العربية في الكتابة، تجنّبت استخدام مثل تلك الكلمات الموغلة في البلاغة والفصاحة، خوفًا من هيمنتها على كتابتي، ووقوفها حائلًا بيني وبين القارىء. إنّ اللغة العالية أكثر من اللزوم، لا تُبقي مكانًا للشك، للارتباك والتحدّي. ذهب تولستوي إلى أنّ الأدب غير أخلاقي، وكونه إنسانًا أخلاقيًا ارتدع حتّى عن أدبه هو. وكان كافكا قد وصّى بحرق كتاباته. وهذا ما قام به سيّدنا موسى عندما حطّم لوحي الجوهر، الوصايا العشر. إنّ أهل اللغة المقعّرة يسجُدون لإنتاجهم. ويصف دوستيويفسكي كاتبًا كهذا بتهكّم، أنّه كان ينسخ كتاباتِه بضعَ مرّات ويحفَظ نسخة منها في خَزنة. وقد ارتدعت دومًا عن موقف أدباء، وهم يَنتشون عند القراءة من إنتاجهم أمامَ جمهور واسع.
ظننتُ أن الكتابة شبيهةٌ بصلاة علمانية خاصّة، حميمية وجدّ شخصية. واللغة المناسبة لمثل هذه الصلاة خاصّة، غير مقعّرة وغير خسيسة بل متواضعة، تصيب الهدف، متدفقة ولامسة. ومع ذلك، لا أدّعي بأنّ على كل كاتب استعمالها. في آخر المطاف، كلّ كاتب حقيقي يطوّر لغة تلائم شخصيته، تجربته الحياتية ونزاهته. إنّ اللغة، كما لاحظت عند كتّاب أقدّرهم، تُعتبر بمثابة رداء غير شفّاف للجسم، ولكنه يعكِس كلّ ذرّة في روح الكاتب. عند النظر عن بُعد، إلى أناس يرتدون الملابس، يتكوّن الانطباع بأن الملابس تتحرّك مثل الدُّمى المحشوّة. وعند الاقتراب منها فقط، يمكن رؤية الحياة نابضة داخل اللباس. لباس الجسد ليس مُعدًّا لجسد رافض أو مشوّه.
لديّ انطباع بأنّ أولائك المحتاجين للغة وثيرة/ثرية جدا، مقعّرة، لولبية يرومون بدون علم، تغطية مضمون ضئيل. مثل هذه اللغة قد نمت في الماضي في أوساط أولائك الذين أُطلق عليهم اسم ”تلامذة الحكماء“، أي في لغتنا الراهنة المبدعين المقرّبين من الأكاديميا. وربّما بسبب السكينة والنظام العلمي الصارم، فإنّهم يمتنعون عن الكتابة عن الحياة، ويميلون أكثر إلى الكتابة حول ما يُكتب عن الحياة. وقد بزغ هنا وهنا مؤيّدون ادّعوا بوجوب الاستغناء عن الحبكة التي هي روح الأدب. إذا استعملتُ التشبيه السابق لقلت إنّ في نظرهم تكفي بَدَلات راقصة أمامنا بالشمّاعات. عندها تصبح الأداة الأساس، في حين أنّ المحتوى المتملّص، المؤّثر، مثير حبّ الاستطلاع والمثري يغدو زائدا، غير ضروري.
لغتي الأولى وَهَنت وضؤُلت
يجوز أنّني أقول كلّ هذا بدافع الغيرة والحسد لأولئك، الذين يتكلّمون العبرية كلغة أمّ. إنّهم يجذِفون في يمّ الانتاج بمجاذيفَ هي جزء من أجسامهم. يحِقّ لهم التجذيف بغية الاستمتاع ولإمتاع مشاهديهم بدون بلوغ أيّ مكان. أمّا أنا فقد اشتريت المجاذيف بثمن باهظ، من الجهد والعذاب داما خمس عشرة سنة. وعند دفع ثمن باهظ مقابل شيء ما، فإنّه من الصعوبة بمكان تقديمه كعرض، هكذا كفرجة فارغة. عليه أن يُبرّر الثمن ويخدِم أمرًا ذا فائدة. هذا الشيء المفيد، هو ما وددت قوله بسهولة بلغتي السابقة، أي باللغة العربية، ولكن كان لزامًا عليّ أن أخنُقه وأقمعه مدّة طويلة كيما أقوله بلغة أُخرى، باللغة العبرية.
الآن معركتي قدِ انقلبت. اليوم استصعب الكتابة بالعربية حتّى لو كانت رسالة بسيطة. من ناحية أولى أصبحت لغتي الأولى واهية كعَضلة لم تُستخدم مدّة طويلة؛ ومن ناحية أخرى، ثمّة ظاهرة معروفة وهي أن اللغة الثانية مؤقتة. يتمّ مجرى الانتقال من لغة لأُخرى وَفق مبدأ معروف - ما يأتي أخيرًا يولّي أوّلًا. لا يمكن قمع ومحو اللغة الأولى بشكل نهائيّ. سنحت لي الفرصة في إسرائيل، أن أُشاهد نزعَ أرواح روّاد قُدامى عند شيخوختهم. إنّهم تمتموا للأمّ ونادوا الأب بلغة الإيدش، مع أنّ تبنّي اللغة العبرية في شبابهم كان بمثابة مرسوم ديني. العبرية بالنسبة لي، كما كانت بالنسبة لهم أيضًا، بمثابة غطاء أو طلاء خارجي، وبمرور الزمن يتعرّض لخطر السقوط والزوال. اليوم إنّي أُحوّل المجهود العظيم الذي بذلته في اكتساب اللغة العبرية في الماضي، نحو حماية الكنز الذي جمعت. في حين أنّ الجهد الأوّل كان مُمتعًا ومتفائلًا، لأنّه كان موكب نصر، فإنّ المجهود الراهن مشوبٌ بالقلق والخوف من الفقدان. ربّما كان هذا سبب ظهور المقولة: المهاجر يبقى مهاجرًا حتّى يوم مماته. إنّ أصوات فرح وبهجة العودة إلى البيت، وإطناب كبار السنّ المزعج، والرضا الأجوف من الإنجازات في الأيّام الأخيرة، ما هي إلا مجرّد سحابة دخان تُخفي من وراءها الرعب من تهافت قصر الكلمات الذي شيّدتَه بعرق جبينك!
المصدر: השפה היא מאהבת מכשפת
للاستزادة عن سامي ميخائيل، حياته، أعماله، موقفه، ينظر في الرابط
:
من أعمال الأديب اليهودي العراقي البغدادي سامي ميخائيل (١٩٢٦-): متساوون ومتساوون أكثر، ١٩٧٤؛ عاصفة بين النخيل، ١٩٧٥؛ حماية/لجوء، ١٩٧٧ ؛ حفنة ضباب، ١٩٧٩؛ أكواخ صغيرة وأحلام، ١٩٧٩؛ هذه أسباط إسرائيل، اثنتا عشرة محادثة عن المسألة اليهودية، ١٩٨٤؛ بوق في الوادي، ١٩٨٧؛ حبّ بين النخيل، ١٩٩٠؛ ڤيكتوريا، ١٩٩٣؛ شياطين بنّيون، ١٩٩٣؛ محادثات مع روڤيك روزنتال، ٢٠٠٠؛ الجناح الثالث، ٢٠٠٠؛ الماء يقبّل الماء، ٢٠٠١؛ التجربة الإسرائيلية، ٢٠٠١؛ حمائم في الطرف الأغرّ/نبيلة، ٢٠٠٥؛ عايدة، ٢٠٠٨؛ الحروف تذهب إلى البحر، ٢٠٠٩؛ طيران البجع، ٢٠١١؛ ألماس من البرية، ٢٠١٥.
في ما يلي يكتب الروائي سامي ميخائيل عن مِشواره في اللغة العبرية بعد توقّفه عن الكتابة بالعربية، عن بهجة الاكتساب وقلق الفقدان.
”وصلتُ البلاد قادمًا من العراق عام ١٩٤٩، وكنتُ ابن ثلاثة وعشرين عاما. في العراق تكلّمت وكتبت بالعربية ولكنّي قرأت بالإنجليزية، ومن خلالها تعرّفتُ إلى الكنوز الروحية العالمية. لم أعرف العبرية الحديثة/العلمانية في مسقط رأسي، خلافًا لمعظم الكتّاب والشعراء، الذين قدِموا إلى فلسطين قبل قيام الدولة. تعلّمتُ في بغداد عبرية العهد القديم، بواقع حصّة واحدة أسبوعيًا فقط، لغاية الصفّ السادس. وبمرور الزمن، امّحى كلّ ما اكتسبته في صباي، لأنّي ترعرعت مثل أكثرية أبناء طبقتي في بيت غير متديّن. ذهبت إلى الكنيس مرّاتٍ معدودة حبًّا للاستطلاع، ولا أتذكّر أنّني شاهدتُ مرّة أبي أو يهوديًا آخرَ في الشارع الذي سكنّا فيه، يضع التيفيلّين أو يصلّي. أنتمي لابن جيل ما بين الحربين العالميتين، وقد تبلورت رؤيته للعالم في حالة من هياج رهيب، وقد بدا لي الله كأنّه فارّ هجر نوبته. وقد ظهر لي التشبّث بالدين شبيهًا باستعمال تعويذة للقضاء على الملاريا. آونتها في العراق، لم يكن هناك وعي صهيوني واسع، وكانت العبرية بالنسبة لي أداة إيمان خيّبت آمال مجايلي لقصورها. وفي وقت لاحق، اكتشفت وجود عبرية أخرى في الأراضي المقدّسة، لغة حيّة وحديثة.
عودة افتراضية لمسقط رأسي
على كلّ حال، وصلتُ البلاد أخرسَ أبكمَ من حيث معرفةُ العبرية؛ كانت البلاد فقيرة ومِحنها كثيرة لدرجة أنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء تعليم اللغة العبرية للمهاجرين الجدد، الذين تخطّوا جيل المراهقة. بعد مُضِيّ بضعة أشهر جُنّدتُ لجيش الدفاع الإسرائيلي بدون أن أتعلّم ولو درسًا واحدًا في العبرية. كانت هناك بعض الأوامر العسكرية التي فهمت معناها بعد تنفيذها فقط. وبعد انتهاء هذه الخدمة العسكرية، التحقت بإدارة صحيفة ”الاتحاد“ العربية وعدتُ أكتب بالعربية التي أجدْتُها. كان ذلك بمثابة عودة افتراضية لمسقط رأسي، العراق.
في اللحظة التي أدركتُ فيها أن لا سبيلَ للعودة، وأنّه إن أردتُ ذلك أم أبيْت، فإنّ إسرائيل هي وطني الجديد، توصّلت لنتيجة مفادها، أنّه لا داعي لتكريس حياتي من أجل تحقيق الحُلم لأصبح كاتبًا بالعربية، في بلاد لغتها المهيمنة هي العبرية. ومن جهة ثانية، لم يطرأ ببالي بأنّي سأتمكّن من اللغة العبرية، لدرجة تؤهلني الإنتاج بها. في حينه، كتبت مقالًا في المجلة الأدبية ”الجديد“ التابعة للحزب الشيوعي، توجّهت فيه للكتّاب العراقيين المبتدئين والأصغر منّي سنًّا، ناصحًا إيّاهم بذل كلّ مجهود ممكن، من أجل اكتساب اللغة الحديثة والكتابة بها. كان ذلك بمثابة نزول الصاعقة على الحزب الشيوعي. اتّهمت بنشر دعاية صهيونية من داخل المعقل العربي التابع للحزب الشيوعي. أنّبوني بشدّة هم وزملائي العراقيون الشيوعيون المتحمّسون. لم أتراجع، إذ أنّ أولائك الرفاق كانوا قد سجّلوا للالتحاق بالجامعات، حيث عملوا جاهدين لاكتساب العبرية، ولكن لم يتسن لي الاحتذاء بهم بسبب حالتي المادية العسيرة جدًا، ولم أجد أيّ معين.
سمحتُ للعبرية أن تتسرّب عبرَ جلدي
في العام ١٩٥٥ جمّدتُ حُلم الكتابة وكرّست نفسي للعمل خبيرًا في علم المياه، في وزارة الزراعة. لقد ارتدعت عن المصير المرّ، الذي سيكون من نصيب كاتب محبَط يكتب بالعربية. من جهة واحدة، يتجاهله اليهود، ومن ناحية أخرى يتنكّر له العرب لكونه كاتبًا يهوديًا إسرائيليا. بعض الأشخاص استمرّوا في الكتابة بالعربية، لأنّهم أخفقوا في اكتساب العبرية، وبالتالي عاشوا بمرارة ورحلوا عن هذه الدنيا بعزلة. بينما أنا إنسان يُحبّ الحياة، ولذلك كرّست ساعاتِ الفراغ للذتي الأولى - ”القراءة“. أخذت أقرأ ما كُتب بالعبرية أو تُرجم إليها فقط. انقطعتُ عن القراءة بالعربية والإنجليزية لغتيّ الأولين. وجّهت جهاز المذياع إلى قناة ”صوت إسرائيل“ بالعبرية فقط. عشت وعملت أجيرًا في كيبوتس مدّة أربع سنوات، ولم يتسنَ لي خلالَها التحدّث كثيرًا بالعربية. علّمتُ أولادي الذين وُلدوا في البلاد التحدّث بعبرية البالغين، ومنهم اكتسبت لغة الروضة والمدرسة.
لم أتلقَ حتّى هذا اليوم أيّ درس في العبرية. قفزت إلى بحر اللغة الجديدة بدون أن أعرف السباحة. لم أستفسر كثيرًا عن معاني كلمات عويصة، ولم ألجأ إلى المعاجم. قرأت الكثير الكثير، استمعت إلى العبرية وتحدّثت بها. سمحت للغة أن تُدغدغ جلدي. ولأنّني كنت متحرّرًا من الضغوط لأُصبح مغنيًا بأي ثمن، فقد كرّست جهدي لموسيقى اللغة كمغرَم يوقّر كلَّ صوت فيها. قمعتُ شيطان الكتابة الصغيرَ، إلا أنّه لم يفارق الحياة. من حين لآخرَ كنتُ أُراضيه فكتبت صفحاتٍ، وبمرور الزمن ألقيتُها في سلّة المهملات. عندما تمّ افتتاح جامعة حيفا، كان بمقدوري إثر ساعات العمل في الحقل، أن أُحقِّق أمنيتي في التعليم العالي، فالتحقت بقسمَي علم النفس واللغة العربية. لقد تجنّبتُ دراسة الأدب العبري لسبب غريب. لقد وقعت في حبّ اللغة العبرية وبالأدب المترجم إليها، كان ذلك بمثابة حبّ بالمراسلة، والحبّ يتعذّر تعلّمُه. أحبّبت جدًّا الأدب، لدرجة أنّي لم أكن بحاجة لمعلّمي أدب، حمَل الكثيرون منهم في قلوبهم عاشقًا فاشلا.
شيطان الكتابة الصغير، كما نوّهت، قد نجا. في اللحظة التي بدأت أحلُم باللغة العبرية، فهمتُ أنّه قد آن أوان الكتابة، ولكن اللغة عاشقة ساحرة. إنّها أداة طيّعة بيد الكاتب، وفي الوقت ذاته، مادّة خام قد تستعبده. وعندما اختمر قرار الكتابة بكليّتي، انتصب أمامي السؤال: أية لغة أختار؟ ألغة طيّعة أم لغة سيّدة مُهيمنة؟ تجربتي أمْلت عليّ الاختيار. لغة القراءة الأساسية لديّ حتّى جيل الثلاثين كانت الإنجليزية، وليست العبرية ولا حتّى العربية، بالرغم من أنّي وُلدت وترعرعت في بلد عربي، ولغة أمّي كانت العربية. تعرّفت من خلال اللغة الإنجليزية على آثار مختلف أجيال عمالقة الأدب في العالم.
طه حسين وشا”ي عچنون
اللغة الإنجليزية ومضامين أُمّهات الأعمال العالمية أضاءت لي الطريق، عندما أقدمت على كتابة باكورة إنتاجي بالعربية. في العراق لم أُيمّم نحوَ أساطين اللغة العربية، ولم أرَ في أعمالهم أُنموذجا يُحتذى. إنّ اللغة العربية الثرية التي استعملوها كانت نفس لغة القرآن المقدّس الدسمة والمكثفة؛ علوّ شأنها المنتفخ لم يسمح لها بالهبوط إلى الشارع لجسّ نبض الحياة. هذه اللغة، عكست تراث شعراءَ بلاط بعيدين عن الواقع الزاخر خلف أسوار القصور. لذلك ما قصدتُ لا طه حسين المصري، ولا الجاحظ الذي سبقه بأكثرَ من ألف عام، كيما أستمرّ في تقليد أدبي ما. لكنّي لجأت إلى جهابذة آخرين مثل توماس مان، تشيخوڤ، بلزاك إلخ. الذين كانوا قُدوة لي بتعاملي مع اللغة.
الدروس التي تعلّمتها في العراق، طبّقتُها في إسرائيل. وقد قال لي أحد باحثي الأدب العبري، بأنّه عليّ أن أجلس وأدرس شموئيل يوسيف عچنون. وكان ذلك أكثر من مجرّد نصيحة. كان ذلك بمثابة بوّابة نصبها لي، وعبرَها فقط يجوز لي ولوج الأدب العبري. لم آبه بذلك، إذ في نظري كان شا”ي عچنون الأخ الروحي لطه حسين والجاحظ اللذين غرفا بالأساس من القرآن، وبنفس القَدْر استمدّ عچنون لغته من التناخ، كتاب اليهود المقدّس. طه حسين درس في الأزهر، وعچنون كان متديّنًا وأدّى الفرائض الدينية. وبالنسبة لكليهما، كانت اللغة لغةَ صلاة مقدّسة. وعلى ضوء ما اكتسبتُ من قراءتي بالإنجليزية، أدركتُ أنّ الأدب النموذجي يناقض القدسية، كما أنّ كتاب العهد القديم والقرآن قد حطّما قدسية ما سبقهما.
لباس جسم غير شفّاف
إنّي مفعم بانفعال إيجابي من لغة كتّاب، تكون بمثابة ألعاب نارية بارعة لكلمات سحرية. لكن الأدب، كما أحببتُه دومًا، يُعنى في الأساس بالمضمون. إنّ الأدب يستعبد عجلاتِ اللغة كي يخدُِم حمولة المضمون الغالية. لقد سيطرت على كنوز اللغة العربية، وعرفت مستوياتِها العميقةَ بكل مفرداتها السامية. آنذاك أيضًا، عندما كنت استعمل العربية في الكتابة، تجنّبت استخدام مثل تلك الكلمات الموغلة في البلاغة والفصاحة، خوفًا من هيمنتها على كتابتي، ووقوفها حائلًا بيني وبين القارىء. إنّ اللغة العالية أكثر من اللزوم، لا تُبقي مكانًا للشك، للارتباك والتحدّي. ذهب تولستوي إلى أنّ الأدب غير أخلاقي، وكونه إنسانًا أخلاقيًا ارتدع حتّى عن أدبه هو. وكان كافكا قد وصّى بحرق كتاباته. وهذا ما قام به سيّدنا موسى عندما حطّم لوحي الجوهر، الوصايا العشر. إنّ أهل اللغة المقعّرة يسجُدون لإنتاجهم. ويصف دوستيويفسكي كاتبًا كهذا بتهكّم، أنّه كان ينسخ كتاباتِه بضعَ مرّات ويحفَظ نسخة منها في خَزنة. وقد ارتدعت دومًا عن موقف أدباء، وهم يَنتشون عند القراءة من إنتاجهم أمامَ جمهور واسع.
ظننتُ أن الكتابة شبيهةٌ بصلاة علمانية خاصّة، حميمية وجدّ شخصية. واللغة المناسبة لمثل هذه الصلاة خاصّة، غير مقعّرة وغير خسيسة بل متواضعة، تصيب الهدف، متدفقة ولامسة. ومع ذلك، لا أدّعي بأنّ على كل كاتب استعمالها. في آخر المطاف، كلّ كاتب حقيقي يطوّر لغة تلائم شخصيته، تجربته الحياتية ونزاهته. إنّ اللغة، كما لاحظت عند كتّاب أقدّرهم، تُعتبر بمثابة رداء غير شفّاف للجسم، ولكنه يعكِس كلّ ذرّة في روح الكاتب. عند النظر عن بُعد، إلى أناس يرتدون الملابس، يتكوّن الانطباع بأن الملابس تتحرّك مثل الدُّمى المحشوّة. وعند الاقتراب منها فقط، يمكن رؤية الحياة نابضة داخل اللباس. لباس الجسد ليس مُعدًّا لجسد رافض أو مشوّه.
لديّ انطباع بأنّ أولائك المحتاجين للغة وثيرة/ثرية جدا، مقعّرة، لولبية يرومون بدون علم، تغطية مضمون ضئيل. مثل هذه اللغة قد نمت في الماضي في أوساط أولائك الذين أُطلق عليهم اسم ”تلامذة الحكماء“، أي في لغتنا الراهنة المبدعين المقرّبين من الأكاديميا. وربّما بسبب السكينة والنظام العلمي الصارم، فإنّهم يمتنعون عن الكتابة عن الحياة، ويميلون أكثر إلى الكتابة حول ما يُكتب عن الحياة. وقد بزغ هنا وهنا مؤيّدون ادّعوا بوجوب الاستغناء عن الحبكة التي هي روح الأدب. إذا استعملتُ التشبيه السابق لقلت إنّ في نظرهم تكفي بَدَلات راقصة أمامنا بالشمّاعات. عندها تصبح الأداة الأساس، في حين أنّ المحتوى المتملّص، المؤّثر، مثير حبّ الاستطلاع والمثري يغدو زائدا، غير ضروري.
لغتي الأولى وَهَنت وضؤُلت
يجوز أنّني أقول كلّ هذا بدافع الغيرة والحسد لأولئك، الذين يتكلّمون العبرية كلغة أمّ. إنّهم يجذِفون في يمّ الانتاج بمجاذيفَ هي جزء من أجسامهم. يحِقّ لهم التجذيف بغية الاستمتاع ولإمتاع مشاهديهم بدون بلوغ أيّ مكان. أمّا أنا فقد اشتريت المجاذيف بثمن باهظ، من الجهد والعذاب داما خمس عشرة سنة. وعند دفع ثمن باهظ مقابل شيء ما، فإنّه من الصعوبة بمكان تقديمه كعرض، هكذا كفرجة فارغة. عليه أن يُبرّر الثمن ويخدِم أمرًا ذا فائدة. هذا الشيء المفيد، هو ما وددت قوله بسهولة بلغتي السابقة، أي باللغة العربية، ولكن كان لزامًا عليّ أن أخنُقه وأقمعه مدّة طويلة كيما أقوله بلغة أُخرى، باللغة العبرية.
الآن معركتي قدِ انقلبت. اليوم استصعب الكتابة بالعربية حتّى لو كانت رسالة بسيطة. من ناحية أولى أصبحت لغتي الأولى واهية كعَضلة لم تُستخدم مدّة طويلة؛ ومن ناحية أخرى، ثمّة ظاهرة معروفة وهي أن اللغة الثانية مؤقتة. يتمّ مجرى الانتقال من لغة لأُخرى وَفق مبدأ معروف - ما يأتي أخيرًا يولّي أوّلًا. لا يمكن قمع ومحو اللغة الأولى بشكل نهائيّ. سنحت لي الفرصة في إسرائيل، أن أُشاهد نزعَ أرواح روّاد قُدامى عند شيخوختهم. إنّهم تمتموا للأمّ ونادوا الأب بلغة الإيدش، مع أنّ تبنّي اللغة العبرية في شبابهم كان بمثابة مرسوم ديني. العبرية بالنسبة لي، كما كانت بالنسبة لهم أيضًا، بمثابة غطاء أو طلاء خارجي، وبمرور الزمن يتعرّض لخطر السقوط والزوال. اليوم إنّي أُحوّل المجهود العظيم الذي بذلته في اكتساب اللغة العبرية في الماضي، نحو حماية الكنز الذي جمعت. في حين أنّ الجهد الأوّل كان مُمتعًا ومتفائلًا، لأنّه كان موكب نصر، فإنّ المجهود الراهن مشوبٌ بالقلق والخوف من الفقدان. ربّما كان هذا سبب ظهور المقولة: المهاجر يبقى مهاجرًا حتّى يوم مماته. إنّ أصوات فرح وبهجة العودة إلى البيت، وإطناب كبار السنّ المزعج، والرضا الأجوف من الإنجازات في الأيّام الأخيرة، ما هي إلا مجرّد سحابة دخان تُخفي من وراءها الرعب من تهافت قصر الكلمات الذي شيّدتَه بعرق جبينك!
المصدر: השפה היא מאהבת מכשפת
للاستزادة عن سامي ميخائيل، حياته، أعماله، موقفه، ينظر في الرابط
: