« أي ليل كان ليلك شهرزاد؟ سرد وحكاية، قصة ورواية، تحميها من بطش راعيها حتي طلوع النهار..فإذا بزغ الفجر وبنوره لاح، غدت تتطلع لحلول ليل جديد ..صار ملاذها الوحيد، فالليل والسمر سعادة تختطف من يد القدر.
هذا ليل شهرزاد، فماذا عن ليلنا يا تري؟ إن راوي الليالي وكاتبها يواجهان تحدي القارئ أو السامع العربي الذي يسعيان لإرضائه..ولكن هل المتعة التي يعطيها الكتاب بمثل ما تبدو عليه من البراءة؟ إن نهج الراوي الذي يحكيه، والمتخصص الذي يحاول أن يقتفي أثره، أكثر وعورة من ذلك..فطالما ظل سحر الحديث يجر وراءه الرغبة في الإقناع، فأي نص بوسعه أن يبلغ الرسالة أفضل من هذه الحكايات وفي بساطة لا تلفت الأنظارب.
هكذا بدأ الكاتب الفرنسي أندريه ميكيل مقدمة كتابه »سبع حكايات من ألف ليلة وليلة« الصادر عن دار الفكر المعاصر، ترجمة د.هيام أبو الحسن ود.سامية أسعد.
الكتاب - كما هو واضح من اسمه - يعرض باختصار حكايات مختارة من كتاب ألف ليلة وليلة، ولكنه لا يكتفي بعرض الأحداث التي نعرفها جميعا، بل يحاول أن يكشف ما قد يكون وراء هذه الأحداث من معان ومفاهيم سياسية واجتماعية تتسرب إلي الأذهان جيلا بعد جيل.. أتوقف مثلا عند « حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري »
القصة ببساطة عن صياد فقير لا يجد قوت يومه حتي أنه في لحظة يأس يقرر أن يمزق شبكته - مصدر رزقه - ولكن خبازا طيب القلب يرأف به ويمنحه ما يؤمن حياته هو وأولاده لمدة أربعين يوما، قبل انتهاء المدة وأثناء محاولاته في الصيد يخرج له في الشبكة قرين بحري له نفس اسمه يجلب له من أعماق البحر اللآلئ والمجوهرات التي ما إن يحاول بيعها في السوق حتي يتم القبض عليه ثم يساق لقصر السلطان حيث تظهر براءته بعد ذلك ويعينه السلطان وزيرا، بل ويزوجه من ابنته.
من الواضح أن الراوي هنا حساس للظواهر الاقتصادية، فالخباز لم يأت لذاته بل لكون الخبز هو الحد الأدني من الغذاء..هذا النوع من التضامن متعارف عليه في الطبقات الفقيرة - أو هذا ما ينبغي أن يكون- فليس من العدل أن يهلك الفقير، ولكن هذا النوع من العدالة يختلف جذريا عن العدالة الاجتماعية، فليس من المعتاد هنا أيضا أن يصبح الفقير غنيا، وكل استثناء لهذه القاعدة يتطلب معجزة ما، وحتي حين تحدث هذه المعجزة فإن من واجب الفقير أن يخفيها كي لا تصبح ظاهرة طبيعية..وإذا ما حدثت هذه المعجزة وجب انتقال الفقير فورا من وسط طبقته ليلتحق بالطبقة العليا، فيتزوج الصياد من ابنة السلطان ويعين وزيراً.
موضوع العدالة الاجتماعية إذن مستبعد تماما من القصة، بقي سؤال هام: هل يستطيع الفرد أن يعتمد علي قدراته الشخصية كي يصبح غنياً في إطار نظام اقتصادي يتيح له إمكانية الكسب بشكل أكبر ويمكنه من الاستثمار حسبما يسمح له جهده ومواهبه؟ أم ان الطريق مغلق وعلي كل شخص أن يظل في مكانه وأن يقنع بالعيش حسب الحال، لا أكثر ولا أقل، اللهم إلا إذا أتته معجزة؟
إن هذا السؤال من الاسئلة التي لا تكف ألف ليلة عن طرحها، والتي يختلف الرد عليها من حكاية إلي أخري، فالسندباد البحري يمثل مسلكا متفائلا وطوعيا، فهو يعتمد بلاشك علي الحظ، ولكنه يطوع هذا الحظ ويحوله إلي مبدأ فعال لتنمية الأمكانيات الشخصية، في إطار مجتمع يشيد بالتجارة في المناطق النائية ويغذي روح المجازفة.
ولكن الصياد يعيش في مجتمع متحجر، يكاد الراوي يقول له فيه اقد تموت من الجوع ولكن علي الأقل لن يرتاب أحد في أمرك ولن يغار منك أحد ولن تعرف من المشاكل ما قاساه عبد الله البري، الذي لولا تدخل السلطان لدفع غاليا ثمن الحظ الذي واتاهب.
في الجزء الثاني من القصة، يذهب عبد الله البري إلي أعماق البحر مع صديقه عبد الله البحري، حيث يشاهد عجائب الكنوز والمخلوقات البحرية، هذه المخلوقات التي تدين بالإسلام، ويشاهد عاداتها وتقاليدها، ويفاجأ حين يري طقوس الفرح والاحتفالات بالوفاة إيمانا من سكان البحر أن الروح أمانة وجب الاحتفال بها حين ترد إلي خالقها..وفي الوقت نفسه يصدم عبد الله البحري حين يعرف من صديقه عادات الجنائز والبكاء علي المتوفي في حياة البر، ويعد هذه الطقوس قلة إيمان، للدرجة التي يفقد معها الثقة في صديقه فينفصلان كل إلي عالمه.
وهكذا فإن الخاتمة الفجائية للقصة تتمشي مع هدفين: فمن الناحية الفنية تنتهي القصة بنهاية مريحة للغاية، فمغامرة الصياد لا تدوم سوي عام واحد، إذ أنه لا يدري ذ لا هو ولا السامع ذ ما الذي يفعله بثروة تتزايد بانتظام، ومن ناحية اخري - وهي الأهم - يظهر الغرض الحقيقي من القصة، وهو اختبار الإيمان بوصفه المحرك الأساسي للأحداث..الإيمان العميق عمق البحر ..إيمان الانسان أن الرزق من عند الله، وأن عليه السعي والتمسك بالأمل، لكن عليه أيضا أن يبقي في المكان الذي يخصصه له المجتمع.
أهي حكمة شعبية إذن؟ حذار من تلك التسميات، ففي هذه الحالة وجب أن نتساءل هل الشعب هو الذي وضع هذه الحكمة أم أنه قبلها واقتنع بها لأن هناك من أقنعه بها؟
وبالرغم من اللبس والغموض الذي يتضمنه تعبير االشعبب فإن القصة قد وضعت بالفعل من أجله، وهي لا تعطي صورة لهذا الشعب بقدر ما تعمل علي ضم صفوفه، وإعطائه راحة نفسية في ظل المعتقدات التي تسعي البنية العليا لأن يعتنقها ذلك الشعب.
* جريدة اخبار الادب المصرية
17/08/2013
هذا ليل شهرزاد، فماذا عن ليلنا يا تري؟ إن راوي الليالي وكاتبها يواجهان تحدي القارئ أو السامع العربي الذي يسعيان لإرضائه..ولكن هل المتعة التي يعطيها الكتاب بمثل ما تبدو عليه من البراءة؟ إن نهج الراوي الذي يحكيه، والمتخصص الذي يحاول أن يقتفي أثره، أكثر وعورة من ذلك..فطالما ظل سحر الحديث يجر وراءه الرغبة في الإقناع، فأي نص بوسعه أن يبلغ الرسالة أفضل من هذه الحكايات وفي بساطة لا تلفت الأنظارب.
هكذا بدأ الكاتب الفرنسي أندريه ميكيل مقدمة كتابه »سبع حكايات من ألف ليلة وليلة« الصادر عن دار الفكر المعاصر، ترجمة د.هيام أبو الحسن ود.سامية أسعد.
الكتاب - كما هو واضح من اسمه - يعرض باختصار حكايات مختارة من كتاب ألف ليلة وليلة، ولكنه لا يكتفي بعرض الأحداث التي نعرفها جميعا، بل يحاول أن يكشف ما قد يكون وراء هذه الأحداث من معان ومفاهيم سياسية واجتماعية تتسرب إلي الأذهان جيلا بعد جيل.. أتوقف مثلا عند « حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري »
القصة ببساطة عن صياد فقير لا يجد قوت يومه حتي أنه في لحظة يأس يقرر أن يمزق شبكته - مصدر رزقه - ولكن خبازا طيب القلب يرأف به ويمنحه ما يؤمن حياته هو وأولاده لمدة أربعين يوما، قبل انتهاء المدة وأثناء محاولاته في الصيد يخرج له في الشبكة قرين بحري له نفس اسمه يجلب له من أعماق البحر اللآلئ والمجوهرات التي ما إن يحاول بيعها في السوق حتي يتم القبض عليه ثم يساق لقصر السلطان حيث تظهر براءته بعد ذلك ويعينه السلطان وزيرا، بل ويزوجه من ابنته.
من الواضح أن الراوي هنا حساس للظواهر الاقتصادية، فالخباز لم يأت لذاته بل لكون الخبز هو الحد الأدني من الغذاء..هذا النوع من التضامن متعارف عليه في الطبقات الفقيرة - أو هذا ما ينبغي أن يكون- فليس من العدل أن يهلك الفقير، ولكن هذا النوع من العدالة يختلف جذريا عن العدالة الاجتماعية، فليس من المعتاد هنا أيضا أن يصبح الفقير غنيا، وكل استثناء لهذه القاعدة يتطلب معجزة ما، وحتي حين تحدث هذه المعجزة فإن من واجب الفقير أن يخفيها كي لا تصبح ظاهرة طبيعية..وإذا ما حدثت هذه المعجزة وجب انتقال الفقير فورا من وسط طبقته ليلتحق بالطبقة العليا، فيتزوج الصياد من ابنة السلطان ويعين وزيراً.
موضوع العدالة الاجتماعية إذن مستبعد تماما من القصة، بقي سؤال هام: هل يستطيع الفرد أن يعتمد علي قدراته الشخصية كي يصبح غنياً في إطار نظام اقتصادي يتيح له إمكانية الكسب بشكل أكبر ويمكنه من الاستثمار حسبما يسمح له جهده ومواهبه؟ أم ان الطريق مغلق وعلي كل شخص أن يظل في مكانه وأن يقنع بالعيش حسب الحال، لا أكثر ولا أقل، اللهم إلا إذا أتته معجزة؟
إن هذا السؤال من الاسئلة التي لا تكف ألف ليلة عن طرحها، والتي يختلف الرد عليها من حكاية إلي أخري، فالسندباد البحري يمثل مسلكا متفائلا وطوعيا، فهو يعتمد بلاشك علي الحظ، ولكنه يطوع هذا الحظ ويحوله إلي مبدأ فعال لتنمية الأمكانيات الشخصية، في إطار مجتمع يشيد بالتجارة في المناطق النائية ويغذي روح المجازفة.
ولكن الصياد يعيش في مجتمع متحجر، يكاد الراوي يقول له فيه اقد تموت من الجوع ولكن علي الأقل لن يرتاب أحد في أمرك ولن يغار منك أحد ولن تعرف من المشاكل ما قاساه عبد الله البري، الذي لولا تدخل السلطان لدفع غاليا ثمن الحظ الذي واتاهب.
في الجزء الثاني من القصة، يذهب عبد الله البري إلي أعماق البحر مع صديقه عبد الله البحري، حيث يشاهد عجائب الكنوز والمخلوقات البحرية، هذه المخلوقات التي تدين بالإسلام، ويشاهد عاداتها وتقاليدها، ويفاجأ حين يري طقوس الفرح والاحتفالات بالوفاة إيمانا من سكان البحر أن الروح أمانة وجب الاحتفال بها حين ترد إلي خالقها..وفي الوقت نفسه يصدم عبد الله البحري حين يعرف من صديقه عادات الجنائز والبكاء علي المتوفي في حياة البر، ويعد هذه الطقوس قلة إيمان، للدرجة التي يفقد معها الثقة في صديقه فينفصلان كل إلي عالمه.
وهكذا فإن الخاتمة الفجائية للقصة تتمشي مع هدفين: فمن الناحية الفنية تنتهي القصة بنهاية مريحة للغاية، فمغامرة الصياد لا تدوم سوي عام واحد، إذ أنه لا يدري ذ لا هو ولا السامع ذ ما الذي يفعله بثروة تتزايد بانتظام، ومن ناحية اخري - وهي الأهم - يظهر الغرض الحقيقي من القصة، وهو اختبار الإيمان بوصفه المحرك الأساسي للأحداث..الإيمان العميق عمق البحر ..إيمان الانسان أن الرزق من عند الله، وأن عليه السعي والتمسك بالأمل، لكن عليه أيضا أن يبقي في المكان الذي يخصصه له المجتمع.
أهي حكمة شعبية إذن؟ حذار من تلك التسميات، ففي هذه الحالة وجب أن نتساءل هل الشعب هو الذي وضع هذه الحكمة أم أنه قبلها واقتنع بها لأن هناك من أقنعه بها؟
وبالرغم من اللبس والغموض الذي يتضمنه تعبير االشعبب فإن القصة قد وضعت بالفعل من أجله، وهي لا تعطي صورة لهذا الشعب بقدر ما تعمل علي ضم صفوفه، وإعطائه راحة نفسية في ظل المعتقدات التي تسعي البنية العليا لأن يعتنقها ذلك الشعب.
* جريدة اخبار الادب المصرية
17/08/2013