يفسر اعتمادُ كل من الرواية والتاريخ على احداث ووقائع الماضي،كمواضيع للروي،التعالق الازلي بينهما، مثلما تفسركيفية التعامل مع ذاك الماضي واسلوب روي المادة التاريخية للمتلقي اختلافهما ايضا .فالرواية فن تشتبك عناصره “الزمان والمكان والانسان” ليتخلق فضاء حي قائم على التخيّيل،وفق ما تمليه فلسفة الكاتب وثقافته،كشفا وتحليلا لتلك الاحداث في رويها، يعيد تشكيلها بحرية رؤيته،مستبصرا ما يمكن ان يحدث وما ينبغي ان يكون. والتخييل التاريخي باعتباره: (المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد ، وقد انقطعت عن وظيقتها التوثيقية والوصفية، واصبحت تؤدي وظيفته الجمالية والرمزية..) (1)
له القدرة على احتواء وقائع الماضي واثراء سردها بالخيال، وبقدرما يمنح الروائي فضاء حرية ارحب يتجاوز به عتبات المقموع والمهمش والمنسي (… الذي يمثل نصا غائبا أو موازيا للنص الظاهر، لا يقل أهمية و تأثيرا عن النص المكتوب) ،(2) ومن خلال تبني الروائي عوالم الانسان الجوانية وفاعليته في حركة المجتمع وبالتالي في تاريخه، فإنه ينأى بالنص عن نسخ الاحداث التاريخية نسخا حرفيا ،فلا ينحو العمل السردي لان يكون خطابا تاريخيا حسب،او سردا مجردا للتاريخ،بل سردا جماليا بما استحضره الروائي من شخصيات وتأثيرها بالأحداث الواقعية المصطفاة، فـ (المتخيل يتموقع في المادة الحكائية أو الخطابية كمدرك ذهني نلتقطه من الواقع في تجلياته)(3)،
وعليه فإن هذا السرد الذي يمثله النص الابداعي الروائي،يفتح مغاليق احداث ووقائع الزمن الماضي بسكونيتها،على فضاءات الحاضر بكل حيويتها، وسيظل يخوض بمستويات مختلفة في اشكاليات كثيرة جراء تداخل ماهو ذاتي بماهو موضوعي،تداخل الماضي الواقعي بالمتخيّل المنجَز، ذلك ان الاحداث اليومية وكذلك الشخوص الروائية بتفاصيل حياتها الدقيقة ” التي يغفلها المؤرخ بل ولا تعنيه”،هي التي تهيمن على الفعل الروائي وتغنيه وتقوده حتى نهايته،وهنا ايضا،لن يكون المؤرخ روائيا وهو يسرد الاحداث لأنه لا يدوّن عن الشخصية التاريخية سوى دورها في الحدث التاريخي محتفظا بها في دهاليز ازمنة وامكنة محددة, كما لن يكون الروائي مؤرخا، لانه مَن يوقظ المادة التاريخية السابتة في زمانها ومكانها المعلومين ،ليعلن قيامتها خارجهما، نامية متجددة بين حنايا العناصر الفنية للرواية، و:
)بهذا التوجيه سيكون للتاريخ حضوران حضور ماضوي واقع وحضور راهني مفترض ومتخيل وتتداخل الأدبية بالتاريخية حتى لا يعود التاريخ معنيا على المستوى الروائي بما كان قد وقع ومضى وانتهى فحسب؛ بل سيكون ذلك الذي مضى قابلا للامتداد والبعث من جديد مستمدا الحاضر من الماضي والماضي من الحاضر من خلال عصرنة الواقعي الراهن بالتاريخي الغابر.)(4)
اما التاريخ باعتباره علما ومعرفة ، فمقوماته ( الزمان والمكان والانسان ) ايضا ، وما الاحداث التاريخية إلاّ نتاج تفاعلها معا، يستردها الباحث في الدراسات التاريخية من زمنها الماضي استردادا، مرتهنا بالتزامه الحقيقة المجردة ومشدودا الى مهنيته كمؤرخ والى منهج البحث العلمي ،ومتحريا عن كل ما يمت للحوادث بصلة، كي يبرهن صحتها،دون القدرة على تجاوز اطارها الزماني وحدودها المكانية، ما يعني ان عليه التزام الحيادية في التدوين ،الا ان التاريخ كان قد كُتُب تحت ضغوط تصورات الانظمة الحاكمة المتعاقبة التي تسلطت خلال فترات كتابته، فالتاريخ يفصّله الحاكم المنتصر طبقا لمقاس شخصه،ولهذاغالبا ما ينزع المتلقون ( قرّاء ومؤرخون ) الى الشك في مضامين وصدقية الاحداث التاريخية المدونة، فتتم مراجعة ما تم تدوينه عن فترات التاريخ السحيقة والحديثة معا، وحتى هذه المراجعة ستكون تحت مجهرالسلطة المزامنة لفترات التدوين .
وهنا يأتي دور(التخييل التاريخي) في العمل الروائي المتميز بخصوصيته البنيوية والمعنوية، ذلك الدور الابداعي الخلاق بمهمته الشاقة في الكشف عن مضمرات التدوين التاريخي وعن كل ما يشوب الحقيقة من زيف وجوانب مهملة، مستفيدا من تآلف الذاكرة السردية مع التصورات الذهنية في اعادة انتاج الاحداث. و طالما يبقي الماضي حلقة الوصل والقاسم المشترك بين الرواية والتاريخ، فستبقى العلاقة بينهما تكافلية و تعاضدية، وسيبقى التخييل يجلي الحقيقة التاريخية من صدئها وينصفها ايضا،و:
(..أيّ كان، فإن الروائي لا يكتب تاريخا وما ينبغي له، وانما تراه يلَحِّم جهده ، شيئا يحمل طابع التاريخية الروائية ، ذلك بان الابداع الروائي انما ينهض على فكرة من التاريخ ، بشيء باد من الضرورة ، ويتمثل ، حتما مظهرا من مظاهر البناء الذي بمقتضاه نستطيع قراءة ما يحدث للكائنات والاشياء ، والافكار ، ولا سيما ما يحدث لراوية وهو بصدد تدبيج عمل سردي خيالي. الحق يقال ان الرجوع الى الوراء في تمثل الزمن هو ، كما لاحظ فيكتور هيجو نفسه ، منذ عهد بعيد ، هو احد حقوق الكاتب الروائي.) )5)
و في روايته ( ليل علي بابا الحزين ) يبقى الروائي عبد الخالق الركابي،بحق،( – عميد تقنية التخييل التاريخي– كما كنّاه د. حسين سرمك حسن، عنوانا لدراسة له عن هذه الرواية )،لما يحوزه من معرفة واسعة وَوعي كبير بتاريخ العراق من جهة،ولأنه يمسك بزمام صنعة الكتابة الروائية وفق منظورها الحداثوي، من جهة اخرى،ما أهّله لان يستمر مستكملا جهده الابداعي، في اعادة قراءة التاريخ روائيا، لعهود الاحتلالات الفارسية والعثمانية والبريطانية،ومن ثم وصولا الى الاحتلال الامريكي عام 2003 بهذه الرواية، ليكشف لنا صفحات تنبض بالحياة من تاريخ العراق السياسي والثقافي والاجتماعي بالرغم من ان احداث الرواية اقتصرت في مدينتي بغداد والاسلاف.تجلت خبرات الروائي تلك من خلال تعامله مع الازمنة المختلفة عبر الزمن المتخيل، بتفكيك مساراتها الكرونولوجية، حيث تميزت بنية النص لـ ( ليل علي بابا الحزين) بتوازي الانساق السردية للازمنة ،حاضرها وماضيها القريب وماضيها الأبعد، وباستحضاره لاحداثها،الهامدة من تحت ركام التاريخ، ثم تلبسها حيةً في زمن النص باختلافاتها الاجتماعية وسياقاتها التاريخية والثقافية دون التوقف عند استعراضها فحسب،بل إلتقط منها و بعناية،كل ماهو جوهري في علاقة الفرد بها، بما في ذلك انعكاس الانتماء الطبقي،والديني فيما يخص (شخصية دنيا المسيحية)، على طبيعة سلوك ومطامح الشخصيات،فجاءت الازمنة بتداخلها وتوازيها السردي كمرايا متحركة، أسقطها الكاتب على الواقع “الزمن الحاضر”، لنبصره ونعاينه بعيون النص، فنتبين تماثل عصور الاحتلالات بالقهر والتبعية والظلم، نهب الثروات، وتهريب اثارنا “هويتنا”،واللصوصية السياسية والفردانية : فرهود بغداد عام 1941 ،ثم غزو ونهب الكويت عام 1991 وانتهاءا بـسرقة (حوسمة) وطن بكامله منذ عام 2003 وحتى ما نحن عليه الان،كَمَن ( أكل النخلة حتى سُلاّئها )”مَثَل عراقي”، وذي اسباب ونتائج الاحتلال الامريكي ومخلفات ونتائج طبيعة النظام الديكتاتوري السابق الذي أُسقط عام 2003،قد تطابقت مع اسباب ونتائج البريطاني عام 1914 الوارث بالقوة لما خلّفه العثماني من حطام امة ووطن، فيردد” الراوي” ممتعضا بألم لأكثر من مرة في الرواية ،مقولة “كارل ماركس” ( “ان التاريخ يعيد نفسه كمأساة” مرة ،وكمهزلة مرة اخرى)،وهو ذات الالم قد تحدث عنه نجيب محفوظ في لقاء جمال الغيطاني معه:
( لو ..ولكن التاريخ لا تصح فيه كلمة لو ..والانسان لا يتذكر التاريخ الا بعد ان يصبح مأساة (6)
وقد كشف ( بدر فرهود الطارش) احد الشخصيات الرئيسية في الرواية عن تماثل المأساة:
(ما يدهشني ان تلك الاحداث القديمة لم تكن حينها بهذا القدر من الاهمية التي نضفيها الان ، فقد كانت احداثا مبتذلة تتشابه تماما مع ما يجري في حياتنا اليومية،ولم يخطر لي قط انه سيأتي يوم أجلس فيه جلستي هذه لأروي لك امورا متنافرة على تلك الشاكلة يصعب وضعها في سياق تاريخي )الرواية ص189
ولكنها كانت مهمة الكاتب ان يصيغها في سياق روائي بارع متميز،رغم عسرتها، فقدعمد في تسريده للتاريخ على تقنية الاسترجاع ،عبر الاستفادة من: (التمازج ما بين الذاكرة السردية بصيغتها الجمعية وما بين استدعاء المعايير العقلانية للمعطيات التاريخية وهذا ما سيوفر عامل التأثير والدهشة)(7)
و” الاسترجاع” جاء من مصدرين:
اولهما: استثماره لخزين ذاكرته التي وضعها ضمن منظور ذات الراوي السارد وذائقتها وهي تسرد عقود التسعينيات وما تلاها والتي عايشها الكاتب واصبح شاهدا عليها، وكأنه هنا يحتفي بذاكرته التي ادخرت الكثير من تاريخ مقصي او– تاريخ المنهزمين-،وهي تفلت خزائنها الى العلن من قمقم الحجب ،لتعيد قراءة وقائع التاريخ بغية فهمه واستخلاص دلالاته، فحين سأل الراوي بدر فرهود الطارش :
(عن الوسيلة التي تكفل لي تسجيل ذكرياته لغرض استثمارها فيما بعد في كتابة روايتي ) الرواية ص138
أجابه بدرُ :
(الذاكرة.. عليك بتشغيل ذاكرتك فيما بعد لارشفة ما ستكون بك حاجة اليه ألست روائيا؟حسن …وهل الروائي سوى ذاكرة جبارة قادرة على تلقف كل ما يخطر في البال وما لا يخطر؟)الروايةص138
وثانيهما:ما تحكيه شخصية (بدر فرهود الطارش) للراوي عن وقائع مرحلة الاحتلال البريطاني والحكم الملكي التي لم يكن” الكاتب”قد عايشها والتي ستكون مادة لرواية اخرى ينوي” الراوي” اتمامها،فنكون ازاء رواية نقرأها ونلاحق احداثها حتى النهاية، ورواية نامل اكمالها دون ان نولي اهتمام لمعرفة تفاصيلها،الا انها تماهت مع حبكة النص ذاته،
ولم يكن بدر فرهود الطارش وذاكرة الكاتب هما نُسغ الرواية فقط، بل ان الكاتب ابقى مصادر الروي مفتوحة على اكثر من شخص،وعلى اكثر من وسيلة لإثراء حبكة الرواية، كالاستعانة بالصورة المشهدية التي تتطلبها طبيعة احداث النص السردي،والافادة منها عبر توصيفها، فالصورالمشهدية لكمٍ كبير من الامكنة و الاحداث التي رصدها الراوي خلال مسارات سير” رحلته “الكابوسية”، بين مدينتي الاسلاف وبغداد ذهابا وايابا،مثل حرائق ابنية مؤسسات الدولة ومشاهد النهب اليومية التي لم تنقطع،ومشهد الجثث الملقاة” تحت الجسرفي العراء”،وما خلفه” تفجير شارع المتنبي”من خراب ودماء،الذي يخبرنا به الراوي على لسان صديقه “حسيب رجب”، كل تلك الصور كانت قد كشفت عن لحظات تأمل لفوضى الاحداث التي انتهكت صفو الامكنة،وعبّرت عن مشهد مؤلم ومشهد اخراكثر ايلاما:
(لم اكن اوشك على الانتهاء من اجتياز الجسر بسيارتي حتى ارتفع صياح زوجتي وهي تحذر الاطفال من النظر الى الخارج حيث لاح مشهد سيبقى محفورا في ذاكرتي الى الابد،فاسفل الجسر، وعلى امتداد الجرف المقابل، تناثرت عشرات الجثث المنتفخة المغطاة باسراب من الغربان في مشهد اقرب ما يكون بنصب سوريالي صممه فنان مجهول !!)الراويةص132ص
ويُلاحظ هنا مراحل تجسيد صورة المشهد : ابتداءا بالمشاهدة السريعة إثر سماع الراوي لصياح زوجته في السيارة،فالتأمل، ثم الإخبار عن المشهد،وقد اختيرت كلمة (صياح) من بين كل الكلمات الرديفة للصوت لانها الأقرب الى فعل العويل أو الصراخ بقوة تعبير اعن فزع.
كذلك ان الكاتب كان قد لجأ الى اسلوب المفاضلة في اختيار حدث ما دون غيره من المراحل التاريخية المختلفة، اذ عمد الى تناول فترة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق واثاره غير الانسانية على المواطن العراقي، ابان التسعينيات، والاشارة الى الحروب العبثية للنظام السابق، فيما اهمل الكاتب ما رغب في اهماله،من ماعلق بالحدث المتناوَل من وقائع جانبية صغيرة،أي تشذيبه منها لإدراكه ان تلك زوائد تضعف من فاعلية الحدث ومن دلالته ايضا،وتلك احدى مهارات الكشف عن الفوارق بين الاحداث كما رواها المؤرخ،وبين الاحداث عينها المنجزة روائيا بعبورها عتبات حدود “التاريخي”، لانها صيغت بقراءة مغايرة لواقعيتها التوثيقية الراكدة،فباتت بديلا روائيا عن تاريخ انتهكت حقائقه وزيفت بوجهات نظر خاطئة، دون ان يتنكر ذلك البديل لحقيقة تلك الوقائع أو ينتهكها او يعبث بمنطقها، إذ:( تخيّل كما شئت لكن لا تخن التاريخ ولا تحرف أحداثه ) بحسب جورج لوكاتش. بمعنى اخر انها اضحت مرتكزا ابداعيا مخالفا لشرعية المدونة التاريخية.
فيما اغفل اسباب ونتائج انتفاضة شباط عام 1991 في الجنوب واخماد النظام الديكتاتوري لها بالقوة،والبطش بمواطني المحافظات المنتفضة ،+فكان ان “شيّد”المقابر الجماعية تحت اديم ارض الوطن دون استثناء،والتي تم الكشف عنها بعد سقوطه، الا ان احد شخوص الرواية”يحيى” يشير اليها متوقعا نشوب حرب احقاد! :
)ما اخشاه حقاً هو اندلاع حرب اخرى .. حرب الاحقاد الدفينة والثارات المؤجلة التي تطفو على السطح عادة بعد حروب القنابل والصواريخ ، انسيت ما جرى عقب انتهاء”عاصفة الاصحراء) الرواية ص45
في حين انتقد الكاتب تعسف ذاك النظام واضطهاده لحرية الرأي،واعتقال اي مواطن لمجرد الشبهات،في ابنية وسراديب خارج ابنية السجون الرسمية المعروفة ،حيث تم اعتقال “الراوي” مع صديقه “يحيى” بعد مجادلة احد ازلام النظام الحزبيين،بسخرية من استعدادت النظام لدرء جيوش التحالف ضده.
وما توازي الانساق الزمنية :ما يرويه”بدر فرهو طارش”،السارد المعين الرئيسي في رفد النص بالمادة التاريخية ، مع ما يسرده الراوي عن حيوات الشخوص الاخرين، وعن ذاته هو،ومن ثم احالة كل ذاك “المروي الشفاهي” الى مشغل صياغة السرد الروائي .وكذلك تبادل أهمية الادوار التي تلعبها الامكنة الحاضنة للاحداث المروية،بالاضافة الى تداخل النص الروائي الناجز مع فكرة انجاز نص روائي آخر يكون جزءا من بنيته ومكملا له،كل ذاك ما هوالا امتدادا لثوابت تقنية ( الرواية الركابية ) التي اتصفت بها اغلب روايات الكاتب.
وما اثرى حبكة الرواية ايضا،ركون الكاتب الى تقنية (التخييل الذاتي)،بالأحرى اقتران ذات الكاتب بذات الراوي السارد، فكان أن عزز الكاتبُ سيرةَ حياة “الراوي سارد النص”، وهو روائي مشهور ايضا،بتفاصيل احداث منتخبة من سيرته الشخصية، تمثلت بإحالات واقعية ومرجعية،حيث احال عليه الكاتب عناوين كثيرة من رواياته،وحتى بعض من اصدقاءه ومعارفه وشيئا من سيرته المهنية ككاتب:
) وانتهى تقليبي لتلك الكتب،في احدى المرات بعثوري على نسخة مصورة من روايتي “سابع ايام الخلق”….) الرواية ص62
وذلك ما ابقى (شخصية الراوي) تحت هيمنة سلطة الكاتب،كشخصية مركزية،و- ربان سفينة السرد– ووسيطه مع المتلقي ومع الاحداث والافكار ومع شخوص الرواية الاخرين ايضا،انه بالتالي شخصية مستقطبة لهم،وقد اوجبت تقنية التخييل الذاتي على الكاتب تبنيه لمعياري الصدق والكذب”الفني”،الحقيقي ونقيضه، اي مزج الحياة الحقيقية بالمتخيل،وتلك هي خصيصة التخييل الذي ينتج دائما تعارضا دلاليا بيّنا بين العالم الخارجي كما تلقيناه، وبين العالم المحكي الذي تمثلته حبكة الرواية ككل، وعليه لن يبقى المسرود حقيقي كما ينبغي له ان يكون في السيرة الذاتية، كما لن يكون متخيلا صرفا،شأنه شأن احداث الرواية. فمن الممكن جدا ان يتضمن العمل الروائي آثارا لومضات ذهنية من السيرة الذاتية دون ان يتعمدها الكاتب،ذلك إنَّ العمل الأدبي كما يقول “ديفيد ديتش”:
(قد يجسد “حلم” الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون “القناع” أو قد يكون “النقيض” الذي يخفي وراءه شخصه الحقيقي،أو قد يكون صورة من الحياة التي يريدُ الأديب أن يهرب من نطاقها، ثم علينا ألا ننسى أنّ الفنان قد “يجرب” الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التَّجارب الواقعية من حيث فائدتها للأدب، فتجيء إليه وقد تَلونت بعض الشيء بلون التقاليد والمواصفات الفنية)(8)
وبما ان الرواية عالم ذهني شكله الروائي وفق رؤيته الخاصة بأبعاد واقعية ورؤى تاريخية فقد جاءت الامكنة هي الاخرى، إما متخيلة وهي (الاسلاف) أو واقعية فكانت (بغداد)، ما ساهم في ايهام المتلقي بواقعية الحدث، و العبارة الاستهلالية للرواية: ( يوم عدت بأسرتي الى بغداد – عقب رحلة كابوسية الى مدينة الاسلاف انتهت باعتقالي- قد عيّنت فعلا، ان كل ما سيسرده الراوي من وقائع ستتقاسمها (بغداد والاسلاف) لا سواهما، لأن كلاهما يحتضن تاريخا يتماضى، يوحّدهما بالفجيعة وبالانتماء الى وطن واحد ايضا،حيث لم يكتفِ الكاتب عبد الخالق الركابي،كما في عديد من رواياته، بمعرفته الدقيقة بتاريخ مدينته (بدرة)الاثيرة لديه وبمعرفته ايضا بمواطنيها وانتمائهم الحميمي لها،وهي موطن اجداده وموطن مولده، فمجرد معرفة وخبرة الروائي وحدهما بالمكان:
)..لا يجعله قادرا على احيائه في كلمات كما ان مجرد لصق لافتة بان هذا المكان هو القاهرة لا يكفي لبث الحياة في التسمية،فان بلزاك “يصنع “سومور وفلوبير”يصنع” ابون فيل،وهذه الصنعة لا تطابق الواقع مطابقة حرفية بل هي تشحن هذا الواقع شحنات مختلفة من المشاعر والاجواء النفسية . ان الكاتب يصطحب القارئ من يده مثلما يفعل الدليل الحاذق،يوجهه في هذا العالم الذي قد يكون مستقى من الواقع ولكنه في النهاية من صنع خياله)(9)
ولهذا لم يتوقف كاتبنا،عن التخييل المسرود، لإدراكه ان المخيلة هي الأكثر قدرة على الخلق والابداع، وما السرد الا وسيلة لصياغة “المادة الحكائية”كما ان له:
)وظيفة تمثيلية شديدة الاهمية في الرواية،فهو يركب المادة التخييلية، وينظم العلاقة بينها وبين المرجعيات الثقافية والوقائعية، بما يجعلها تندرج في علاقات مزدوجة مع مرجعياتها،فهي متصلة بتلك المرجعيات لأنها استثمرت كثيرا من مكوناتها وخصوصا الاحداث،والشخصيات والخلفيات الزمنية، والفضاءات، لكنها في الوقت نفسه منفصلة عنها لان المادة الحكائية ذات طبيعة خطابية فرضتها انظمة التخييل فالسرد في وظيفته يركب ويعيد ، ويخلق ويعيد تخليق سلسلة متداخلة من عناصر البناء الفني ليجعل منها المادة الحكائية التي تتجلى في تضاعيف السرد)( 10)
إذن،كان لابد من احياء بدرة من جديد عبرخلق”الاسلاف”،و تشكيل امكنة لها،مثل متحف التاريخ ومواقعها الاثرية، بفعل تدخل (قدرة مخيلة الكاتب)على صياغة صورة مدينة موازية تنبض بالحياة،راح يشكلها بالسمات التي يرغب ويحلم بها،مثل اي مدينة مفترضة متخيلة، يتبدى نسيجها المروي أثرا لمرجعيته الواقعية، لتتحول “بدرة”الى رمز انساني عام، تكفّل شخوصها المفترضين بمنحها فاعلية التاثير،وليصيّروها المكانَ الابلغَ في انتاج الدلالة والتعبير عن الافكار،ووسمها بهوية مراحلها التاريخية المتعاقبة عليها،:
يحيى :- (وبذلك اسهمتُ ُفي ذيوع شهرة روايتك بين مثقفي الاسلاف ، فقد وجدوا فيها سجلا حافلا لتاريخ مدينتهم ولا ساطيرها ومأثوراتها وصراعاتها العشائرية..)الرواية ص63
بل ان (الاسلاف) كانت شريكا مؤسسا في الحبكة الروائية. كأنه”الكاتب” يتوجس خيفة من تعرض معالم مدينته”بدرة” للتغيير او الاختفاء من الحاضر،بفعل تقادم الزمن عليها وإهمال ساكنيها،فيتوجس خيفة من المستقبل الذي لن يعيدها اليه بصورها الأصلية التي بدأت تتماضى،إلا إن صورا من تلك الأمكنة قد ترسبت في ذهنه،واستطاع العودة إليها،مدركا واقعيتها في كل حينٍ يتشمم فيه رحيق عيشه في كنفها،فراحت أمكنته الأليفة تلك، تعيد تكوين نفسها في خبايا ذاكرته، في حلم يقظة جديد،غدا نصا،عالما متخيًّلا،سيّره الكاتب وفق وجهة رؤيته، الا انه كان ينحو الى رسم بعض ملامح السرد الواقعي للامكنة والشخوص لاغناء النص، وتحقيق اللذة الجمالية التي نتلذذ بها نحن المتلقون التي ينتجها ويعبق بها وحده المكان الفني الـ”المتخلق” في رحم النص، فلن تبقى الرواية بعدُ ،محض انعكاس للواقع اومطابقة له،ولا يحتفظ المكان الواقعي بكامل خصائصه عند احياءه فيها مجددا،وبذا سيتوهم المتلقي واقعية الاحداث، فـ :
(في الفن وحده ينشأ تواطؤ ضمني بين الفنان والمتلقي على القبول بإيهامية المادة الفنية وإبهامية أمكنتها.)(11)
ويصبح المكان المتخيل اكثر قابلية على البقاء بل والخلود،في الوقت ذاته، يمنح الكاتب وسيلة لتجاوز مآسي الواقع وازماته.
وأما (بغداد ) فقد ظلت فيها( الامكنة والشخوص) تحتفظ معا بصدى وجودها الواقعي المرتبط بتاريخه وبزمنه ايضا، وبوقائعهما من مثل (المعاهدة العراقية ــ البريطانية ابان والاحتلال البريطاني عام 1922،وانتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون عام 1929، وتنصيب الملك فيصل عام 1933 ،واهمية دور المس بيل في تلك الحقبة،وفي تأسيس اول متحف للتاريخ في العراق سنة 1923-1924، كذلك كان الكاتب قد احضر “بغداد”، باسمها وبأسماء محلاتها وشوارعها ومقاهيها (شارع المتنبي ، مقهى الشابندر ،شارع الاميرات، اتحاد الأدباء،ساحة الأندلس، قصر المؤتمرات ،دار الشؤون الثقافية وكثير من الأماكن القديمة الاخرى)، بل وحتى اسماء شخصيات تنتمي الى شارع المتنبي كمكان، ومنهم ضحايا حادثة تفجيره .
ان الكاتب ليستنطق الامكنة عن احداثها،ويجلي عن الاحداث صدأ السكوت عن حقائقها طيلة عقود الاحتلالات الثلاث وما بينها،فقد اطل علينا اولا (راويه) خارجا من (مغارة غول النظام الديكتاتوري) ،عنوان الفصل الاول : – الخروج من المغارة- وهو ينوء بأثقال رحلته الكابوسية في يوم ما، لكننا سنتعرف ذاك اليوم باعتباره أحد ايام ما بعد الغزو الامريكي للعراق واحتلاله بعد اسقاط النظام الديكتاتوري عام 2003،الذي كان ينازع من اجل البقاء،عنادا لحركة التاريخ الطاردة لوجوده،ان ذهن الراوي مازال يختزن ذكريات قاسية من حقبة ذاك النظام، فترة اعتقاله، وقبلها بيعه لكتبه درءا لعوز مادي، خلال فترة الحصار الاقتصادي على العراق بعد غزو الكويت وتأثيره سلبا على المواطن لا على عوائل النظام الديكتاتوري، راح الكاتب ينتزع من ذاكرته ايضا، نتائج الاحتلال الامريكي وآثارها على المجتمع الذي بدأ يطل ايضا بـ”راسه” من” المغارة” كحبيس ظلمة مذهول بفسحة تضاء فجأة، دون قيود، دون مخاوف من رقيب او حسيب، لكنه، يتوجع من عُقَب المارينز وعجلات آلياتهم الغريبة وهي تدوس أديم ارضه، يصور الكاتب المشاهد المؤلمة المريبة لعمليات السلب والنهب لمؤسسات الدولة وقصور عوائل النظام وازلامه، ما سمي شعبيا ظاهرة ( الحواسم )، تحت حماية جنود الاحتلال الذين اطلقوا جزافا اسم (علي بابا) على العراقيين جميعا،وكأن الاحتلال الامريكي كان قد رفع اغطية قدور تغلي، لتندفع منها، الى الشوارع مجاميع من محترفي السرقة وعصابات الجريمة المنظمة التي سبق وان أُطلق النظام السابق سراحهم من السجون،قبيل الاحتلال ببضعة شهور،راح هؤلاء يمارسون باحتراف عمليات السرقة والنهب و شاركهم في ذلك مواطنون لم يسبق لهم السرقة سابقا ، لكنهم تجرؤا عليها ،حين شاهدوا عمليات النهب تمارس بيسر ودون قصاص او رادع ،و”المال السائب يعلم الانسان الحرام !” تشاركهم في ذلك مجاميع خاصة من مخابرات دول اقليمية، واخرى من ازلام النظام السابق تخصصت في حرق المؤسسات الامنية والمخابراتية التي كانت تحوي وثائق بالغة السرية، كذلك طفت على السطح ما سمي بالمقاومة و(الجهادية) التي سرعان ما وجهت جحيمها نحو المواطنين الابرياء قتلا واضطهادا. لابد انه كان انهيار مريع لما تبقى من قيم اجتماعية نبيلة، أُطلقت عليها رصاصة الرحمة.
ولان المكان الروائي تتشكل سماته جراء فاعلية شخوصه وبميزات سلوكهم وطبائعهم، فهوايضا، يَسمُهُم بهوية مواطنتهم،وبمثل هذه العلاقة الجدلية التأثير، يسهم كل منهما في تطورتحولات بنية الرواية ككل.فالشخصية ذلك العنصر الذي يمكّننا من معاينة العالم،لما تضطلع به كل شخصية من دور حيوي في عملية السرد المجسدة لرؤية الكاتب، ناهيك عن دور(الشخوص)ذاتها، في نمو الاحداث باطراد وتوضيح وشائجها ببعضها، توكيدا لوحدة النص وتطويرا لصياغة الفكرة المبتغاة. وعليه يمكن ان يرتبط انجاز الروائي لعمله الابداعي، بمستوى قدرته على تخليق الشخوص المختلفين بالطباع وبمستوى الوعي والثقافة والعقائد. وهم كثرُ في هذه الرواية، مثلما هو دأب الكاتب عبد الخالق الركابي تعدد شخوصه- دائما وفي هذه الرواية ايضا:
(فها هي شخصيات جديدة ستفرض نفسها عليّ) (الرواية ص38-39)
حيث عدّدَ الراوي احدى عشر شخصية منها، سينتمون لأمكنة متفرقة ولأزمنة متباعدة ومتباينة، بكل اختلافاتهم الاجتماعية والاثنية ومستويات الوعي السياسي والثقافي عامة، ولكل منهم حكايته التي تفرض عمق او هامشية علاقته بالأخرين وهذا ما يشي عن فاعلية دور كل منهم في النص، وسوف يتعرف المتلقي بهم من خلال شخصية الراوي،بصيغة ضمير المتكلم التي منحته ميزتها في روايته هذه حضورا مستديما،و سطوة على جميع شخوصه،تحكما بهم،وتفسيرا لتساؤلاتهم،ورسما لهيئاتهم ،ملاحقا مصائرهم وما آلت اليه في ظل التغيرات السياسية الجديدة،مستثمرا قدرة هذه الصيغة المدهشة على:
(إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا اذ ان كثيرا من ما يستحيل السارد نفسه في هذه الحال الى شخصية، كثيرا ما تكون مركزية)(12)
وما السرد بضمير المتكلم الاّ صيغة يؤثرها الكاتب في كل رواياته تقريبا لأنها:
(..تضفي على الرواية ضربا من حميمية يجعل المتلقي يعيش وهم المشاركة في الاحداث ، كاني به يرافق الراوي في تنقلاته على امتداد الرواية..) (13)
وبذا فان اول من يواجه المتلقي في هذه الرواية هو “الراوي السارد”، وسيبقى هو اول وآخر من يبادره انّى ولّى وجهته في سفر النص، فاستحق مكانة الشخصية الرئيسية ، بدورها المستقطب لكل شخوص الرواية الاخرين وبمسؤوليته عن تسريد حكاية كل شخصية منهم. الا اننا وان تعرّفنا دوره هذا، فلا يعني ان بمستطاعنا غمط الدور المحوري لبعض الشخوص،خصوصا وان الكاتب اعتمد محورية ثلاثة منهم في روايته، لهم ما يؤهلهم من صفات ومزايا جعلت منهم ذوات فاعلة في صنع الاحداث وادارتها الى جانب فاعلية “الراوي”،فضلا عما انتجه التناقض والصراع بينهم وبين شخوص الرواية ككل ، من تحفيز على تنامي الاحداث واثارة التشويق.
فـ (بدر فرهود الطارش) الذي كان مَعين “الراوي” في مشروع روايته غير المنجزة،التي ينوي “الراوي” كتابتها، لن تتشكل حكايته الا من خلال سرد الراوي الذي نظمها ثم ضمها الى وقائع روايتنا هذه ،متحكما في مفاصلها ومنضدا تعاقبها، وكشخصية روائية تبنت تساؤلاته او بالأحرى تساؤلات واستنتاجات الكاتب نفسه ليضفي عليها دلالالتها الواقعية، مثل اي شخصية تواقة الى المعرفة لاستكشاف حقائق التاريخ،وقد تنامت حكايته والتأمت،وان تناثرت في ذاكرة المتلقي بفعل انتقالات الراوي في سفر النص من شخصية في زمن معين الى شخصية اخرى في زمن ومكان اخرين،التأمت خلال فترة الحكم الملكي وما قبله بقليل،مرتبطة بـ(أبيه)المترف ماديا،وبأمه”شذرة”الجميلة، واخيه “فرج”وبـ (فوكس وايت) الجاسوس لصالح بلده بريطانيا خلال نهايات حقبة الاحتلال العثماني، اوهو ذاته ” تيلر تومسون” ما بعده ،منقبا عن الاثار ومهربا لها، وعلاقة “شذرة” المريبة به،اذ كان”بدر” ذاته هو من انجبته بعيون زرقاء، وهذا ما يشي عن الأبعاد الثقافية والنفسية لهذه الشخصية ، وتأثرها بتعدد زوايا النظر الذي ينظر اليها من خلالها الاخرون، الامر الذي قد ترك ثلمة في كرامة اخيه، الذي ما أنفك يعيّره بلون عينيه الزقاوين.فضلا عن انطباعات الراوي عنها ،حتى ان المس بيل قد اكتشفت مدى شبهه بـ”تومسون”
(- سبحان الله .. كأني بهذا الصبي العراقي النسخة النيجتف منك !) الرواية ص293
و لذا ارتبطت حكايته ايضا بـ”المس بيل”واهتمامها به، حتى اصبح مديرا لمتحف التاريخ الذي انشيء برعايتها،وهي مكانة وظيفية رفيعة كجزء من رعاية خصه “تومسون”بها ،الاّ انه ما فتيء ينوء بمرارة حقيقة انتمائه لأبوة”تومسون” او لوطنه العراق وارثه الحضاري الذي كان في تماس مباشر معه، لكنه حين يتحدث عن العراق مستشرفا مستقبلة محذرا من احتلال امريكي قادم فسيسميه (بلادنا):
((الامريكيون قادمون … نعم .. سيحتلون بلادنا، ولكن ليس الان بل حين تسنح الفرصة لهم ،..) الرواية ص20
لقد تحول “بدر”الى شخصية منتمية لمرحلتها التاريخية، واصبح صوتا حياً، ناطقا للوثيقة التاريخية التي هي عبارة عن شهاداته دون ان يتجاوز حقيقتها،وقصصه الضمنية،العاطفية والاجتماعية المتخيلة المحكية شفاها، وهو يعرّي المطامع الاستعمارية في ثروات الوطن ،ما منح الكاتب فضاء اخر للتخييل، كأني بي اتسمعه بصوت الكاتب الذي احتال ليسردها ( الشهادات) موجوعا ،كوقائع ادبية قابلة للديمومة والتفاعل مع جمهور عريض من المتلقين مرمما بل كان يجهد في اعادة بناء مواضينا المتسلسلة بالاحتلالات والحروب والمجاعات، ،فالرواية نص مكتوب، لم يقطع الصلة بأصوله الشفوية مثل أي فن سردي اخر.
ولم اجد ابلغ من رأي الناقد د. حسين سرمك حسن في قدرات الكاتب عبد الخالق الركابي وقد أعاد صياغة ذكريات “بدر”المحكية شفاها،في نص سردي مبهر:
(..يستطيع أي مواطن عراقي تقديم أمثلة على ما هو أبشع منه . لكن ولا قاريء يستطيع إخراج حكاية العذاب هذه في صورة روائي يحاول كتابة رواية من خلال وثائق أو ذكريات يقدّمها شخص اسمه بدر .. وحول هذا العمل البؤرة تدور علاقات شخصيات أخرى وتتحدّد مصائر وترتفع إرادات ووجودات وتنهار أخرى وتتحطّم .(14)
(اما “دنيا” فيبادرنا بها الراوي عند نهايات حكايتها،وهي ثاني الخارجين بعده من( المغارة) ، فكانت واحدة من الشخوص المحوريين، تُتلى حكايتها على المتلقي بلسان “الراوي” مثل سائر الشخوص، يستذكرها، بدءا من لقائهما لعيادة طبيبة نسائية للتأكد من حَملِها، ومن خلال احاديثهما بواسطة الهاتف النقال، و كشفه لسرعلاقتها بـ (يحيى)صديقه العتيق وابن (الاسلاف)، الذي تزوجها “عُرفا” فحملت منه،وكذلك حكايةعلاقتها بـ (رياض)ابن اخ (بدر مرهون الطارش)، الذي حاول استمالتها،واذ رفضت،راح سيغتصبها في ادارة متحف التاريخ الذي تولى مهامه بعد وفاة عمه”بدر”،فلجأت الى (يحيى) لتعمل في مكتبه للاستنساخ..
ان هذه الشخصية القلقة التي لاحقها الاستلاب، كأنثى، وكمسيحية مسالمة جدا، وجدت نفسها في حيز محاصر بالرياء الديني و سلطة السلاح، اذ ان تنفّذَ الاحزاب الدينية في السلطة والمجتمع بعد عام 2003، قد وضعها تحت مجهر التأسلم ،ما ضيق الخناق عليها،حتى الزمها بلبس الحجاب.واللوذ بالقبول باستغلالها من قبل(يحيى) والاذعان الى الزواج منه لإنقاذ حياتها وحياة افراد عجائز قلائل من اسرتها ، فكان لابد لها من وسيلة تكيّفها مع المستجدات الطارئة على حياتها ، وان تلوذ وان بظلال “رجل”:”
يبدو ان الكاتب قد ظلّ عازما على استحقاق”دنيا” لدورها الاكثر اهمية بعد دور”الراوي”فوهبها في الفصل الثالث”كلمات كهرمانة الاخيرة” ليختم بها روايته، وبهذا منحها توظيفا دلاليا غير اعتباطي او تزييني ،بل لغاية يبغي الكاتب ترسيخها، إذ انتقل بشخصية كهرمانة من شخصيتها الحكائية الموروثة، حاملة اسمها ذاته الى نصه السردي بشخصية “دنيا”، لتساهم سيرتها الروائية من خلال علاقاتها بعديد من شخوص الرواية الذين سلكوا مسالك غير مشروعة في كسب الثروات ، تسهم في الاشارة الى تلك الاساليب اللصوصية في نهب البلاد والعباد،قلتُ سيرتها وليس هي ذاتها ، فهي ما ان خرجت من (المغارة ) حتى طمحت للفوز بما امكن من كنوزها، عن طريق وبجهود (يحيى) شأنها شأنه وشأن بعض من شخوص الرواية الذين خرجوا من (المغارة) تباعا، فلم تبق كـ “كهرمانة الليالي” التي صبت الزيت في الجرار ليلقى القبض على اللصوص، بل كانت قد، بررت سلوك (يحيى) في المتاجرة بالالغام ، وتورطه بتجارة الاغذية الفاسدة وادخالها الى العراق دون رادع اخلاقي، بررته بسنوات الحرمان والعوز التي عانى منها، حتى انها قد سوغت لنفسها ايضا الانتفاع من محصول “يحيى” من الثروات، وكأنها تبرر للصوص افعالهم، يتسائلها الراوي:
….. وما يكون دافعه غير تسويغ عمله بذكر الاسباب المعهودة : فقره الابدي وطفولته البائسة:-
دنيا :- ولكن الاسباب التي كان يستند اليها حقيقية ولم تكن تسويغا لعمله هناك
لكن الراوي له موقف اخر صارم من هذا السلوك الانتهازي ولهذ فقد افترق عنه:
(لانني أيقنت ان يحيى ليس اكثر من نموذج لهؤلاء الاثرياء المستحدثين الباعثين على الكراهية و.. والاحتقار.) الرواية ص 180
، فيرد عليها :
(- يدهشني ان اسمع منك هذا الكلام الغريب وانت المسيحية التي تربت على قيم الفداء والتضحية)
الرواية ص 275
وما حكاية (دنيا) ابنة “الاسلاف” الاّ محنة بحد ذاتها، المحنة التي شكلت “الومضة” التي افتقر اليها ذهن الراوي المحبط، ليسترد قدرته على استمرار كتابة روايته الجديدة، وهي محنتها التي اراد بها الكاتب ان تكون محنة وطن مبتلى بطغام من حكام تكالبوا عليه طمعا بخيراته حدّ استنزافها ،ثم سرعان ما تخلوا عنه بعد ان أفقدوه كل مقومات القوة والتعافي، ليواجه مصيره في مواجهة جبروت الطامع الاجنبي، كفريسة مهيأة تماما للاجهاز عليها،و.. ( كهرماتنا) تكابد للبقاء حية، كما”كهرمانة الرواية”التي لن يتبقى من انسانيتها ومواطنتها الا جنين أمل تنتخي به النجاة، كلما ركل في رحمها ،و عسى ان لا يحمل مورثات نزعات الحروب والشهوة الى القوة والفساد. انه ابنها الوحيد :
(وسط زبانية جهنم)الرواية ص 363
غير ان ثمة امل للراوي يرتجى بعدً :
( … لم اتنبه الى ان الشتاء على وشك الرحيل مفسحا ً المجال لفصل الربيع القصير العابر إلا حينما شممت في احدى المرات ، شذا عطرنفاذ طغى على رائحة الوقود والغبار ، سرعان ما تبين لي ان مصدره بضع شجيرات ورد تسلقت احدى العوارض لتغطيها بحمرة ورودها كأجمل تحد من الطبيعة للقبح ) الرواية ص 319
اما الشخصية المحورية الثالثة فهو “يحيى شفيق المبيضجي”والمبيضجي حرفة تبييض الاواني النحاسية،ولانها كانت لا تدر كثيرا من المال ،فقد بقيت اسرته فقيرة الحال، ويبدو ان هذا قد انعكس على شخصية “يحيى” واشعره بالدونية، لهذا كان قد نشأ على حب المال والجدية بالعمل ،اي عمل ، من اجل ان يحوز قدرا اكبر منه لحياة افضل ،:
(…حتى بلغ به الامر أنه وجد في الحرب الموشكة على الاندلاع فرصة ذهبية لاستثمار ما يملك من مدخرات شحيحة بشراء مودا غذائية _كالباقلاء والماش والعدس والبرغل- ليبيعها عند احتدام الاحداث باسعار “مناسبة”)الرواية ص47
مثلما وجد فرصة سانحة بعد الاحتلال ،للمتاجرة بالالغام، والبضاعة الفاسدة دون اية وازع، خصوصا بعد نضوج علاقته”بـ” دنيا” كتعويض عن زواجه التقليدي من فتاة اكثر فقرا، ودنيا هي الاخرى تطمح بالمزيد والمزيد ،حتى اشترى لها بيتا في شارع الاميرات”وهو من مناطق بغداد البيوت فيها باهظة الثمن. انتهت مغامراته بأن كلفه لهاثه وراء الثراء حياته ، فيختطف ويقتل رغم دفع المبلغ المطلوب للخاطفين.،
في مقابل سلوكه ذاك، كان”يحيى” فكِهاً ويضج بالمزاح كلما زار صديقه “الراوي” في بيته، وهو يرتدي تلك الملابس المبهرجة ،في الوقت ذاته، كان واعيا لما يدور في الوطن من احداث، فتعرض للاعتقال مع صديقه الراوي في احد الايام الاخيرة من سقوط النظام السابق،ويمتلك مكتبة ساهم من خلالها في استنساخ كتب شتى، كما هو حال مكتباتنا في شارع المتنبي آنذاك،التي كان جلّ اصحابها يقومون باستنساخ الكتب الممنوعة ، وغير المتوفرة ، وباثمان زهيدة
ومراجعة مقارنة لسيرة “يحيى” مع “بدر” و”دنيا”يلاحظ انه اكتسب محوريته بفعل صنعه للأحداث الاكثر عددا وتنوعا مما في سيرة كل منهما ،التي اوضحت سمات شخصيته فعمله في مجالات متنوعة كل ذاك وسع ارتباط و تعالق شخصيته باحداث مختلفة وباشخاص مختلفين كثر عددهم، وحادثة اختطافه ذات السمة البوليسية، اضف الى ذلك علاقة الراوي الحميمة به، كصديقين حميمين ،ومن مدينة واحدة “الاسلاف”، في حين بقيت شخصيتي” بدر “و” دنيا ” اسيرتي ما يتيسر من ذاكرة الراوي التي اختزنت ما كانا يرويانه له اصلا.
وهكذا امكننا تقسيم الشخوص في المتن السردي لـ ( ليل علي بابا الحزين) الى محورية صانعة للأحداث و ثانوية يصنعها الحدث (ينظمّ اليها كل من “مي” وبهجت”)، تنهض جميعها سوية بسفر السرد ،الا ان ذلك لا يعني ان الثانوية منها هي شخصيات يمكن اهمالها واقتطاعها من النص وهي ترد في عمل روائي متماسك مثل هذه الرواية ، بل ان دورها يبقى تكميليا لمعمارية النص،ومفسرا لأحداثه، فما النقاشات التي اوردها “الراوي”في سياق النص لمجموعة بين الشخوص الثانويين في المقهى وفي السجن ايضا،الا وجهات نظر تفسيرية للاوضاع السياسية ( الموقف من الاحتلال)والثقافية المستجدة(ثقافة وادب الداخل والخارج). وبذلك فان:
(..توهّج الشخصية المحورية إنما يتحقق عبر توزيع أدوار الشخصيات الثانوية داخل النص السردي.)(15)
كان لابد لرواية “ليل علي بابا الحزين” ان تقيم في المساحة التي يلتبس فيها التخييلي بالواقعي، لتضيء باحات مظلمة من حاضرنا الاليم بأزماته المتجددة وفجائعه التي لا تفضي الا الى فجائع أُخر ، جراء سعي الكاتب الى تخليق التاريخ واعادة قراءته ، ليتسع النص مشتملا على نصوص لحكايات شخوص الرواية المقترنة بالواقع والخيال معاً، وفي الوقت ذاته الى تبنيه لحكاية “علي بابا والاربعين حرامي” احدى حكايات الف ليلة وليلة، فمثلما تضمّنتها الرواية عنوانا ، يشير الكاتب ايضا الى تمثالها الشهير المجسّد للنحات الراحل محمد غني حكمت ، كل ذاك جعل بانوراما الواقع والازمنة والتاريخ والموروث، تتحول الى مفاهيم جدلية يشكك المتلقي في صدقيتها من خلال حثه على التقصي و المقارنة ، وستحمله على الاستجابة الى المجادلة والمسائلة التي اثارها النص ،وذلك ما نحن احوج اليه، فـ :
(.. حاجتنا لمن يثيرون الاسئلة اكبر واهم من الذين يقدمون اجوبة لا تشفي غليل السؤال ، هكذا يمكن القول : ان اثارة الاسئلة تمثل عملا لايقل خطورة عن معطيات قد تضلل من يحاول الاجابة ، فالمضلل لا يسأل ،الباحث عن الحقائق هو الذي يتسلح بالاسئلة سعيا للمعرفة)(16)
المصــــادر
*(ليل علي بابا الحزين) للكاتب عبد الخالق الركابي صدرت عن دار ومكتبة عدنان- ط1 – عام 2013
1.د.عبدالله ابراهيم ( لتخيل التاريخي ـ السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية) المؤسسة العربية
للدراسات والنشر ـ بيروت 2013.2.فاضل ثامر, المقموع و المسكوت عنه في السرد العربي, دار المدى للثقافة و النشر. ط1,دمشق, 2004,ص 9
3.د. حسين خمري ، فضاء المتخيّل ، مقاربات في الرواية ، منشورات الاختلاف ، ط 1 / 2002 ، ص 44
. 4..د. نادية هناوي سعدون- توظيف المعطى التاريخي في الرواية السيرية( مقالة ) – جريدة الصباح 23/6/2016
.5.عبد الملك مرتاض . في نظرية الرواية . عالم المعرفة ص 32
6.فيصل دراج – نجيب محفوظ تداعي التاريخ وسطوة الاسطورة – مجلة المدى 38 سنة 2002
.7.د. نادية هناوي سعدون- توظيف المعطى التاريخي في الرواية السيرية(مقالة) – جريدة الصباح 23/6/2016
.8. مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق”؛ ديفيد ديش، ترجمة د/ محمد يوسف نجم: ص 504
.9.سيزا قاسم – بناء الرواية دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ – ص 117-118
.10.د.عبد الله ابراهيم /الرواية العربية،ممكنات السرد ج2 -اعمال الندوة لمهرجان القرين الثقافي 2004- ص 11
.11.د. عماد الضمور- المكان في الأعمال السردية- جريدة الوطن القطرية- اكتوبر23, 2016
12.12.د. عبد الملك مرتاض ، المرجع السابق ص159
عبد الخالق الركابي ، حوار مع نهضة طه الكرطاني– مجلة المامون-عدد4 – 2014–.13.
.14.د. حسين سرمك حسن : عبد الخالق الركابي في “ليل علي بابا الحزين” : عميد تقنية “التخيّل التاريخي” في الرواية العراقية(جزء6) – موقع الناقد العراقي
، د. حسين سرمك حسن : عبد الخالق الركابي في “ليل علي بابا الحزين” : عميد تقنية “التخيّل التاريخي” في الرواية العراقية (6/الأخيرة)
.د. فاطمة الزهراء الشرّادي- الشخصية في النص السردي- مقالة-.15.
16.د. مصطفى الضبع : مسارات التأويل- قراءة فى رواية “بائع الفستق” – مجلة فصول
له القدرة على احتواء وقائع الماضي واثراء سردها بالخيال، وبقدرما يمنح الروائي فضاء حرية ارحب يتجاوز به عتبات المقموع والمهمش والمنسي (… الذي يمثل نصا غائبا أو موازيا للنص الظاهر، لا يقل أهمية و تأثيرا عن النص المكتوب) ،(2) ومن خلال تبني الروائي عوالم الانسان الجوانية وفاعليته في حركة المجتمع وبالتالي في تاريخه، فإنه ينأى بالنص عن نسخ الاحداث التاريخية نسخا حرفيا ،فلا ينحو العمل السردي لان يكون خطابا تاريخيا حسب،او سردا مجردا للتاريخ،بل سردا جماليا بما استحضره الروائي من شخصيات وتأثيرها بالأحداث الواقعية المصطفاة، فـ (المتخيل يتموقع في المادة الحكائية أو الخطابية كمدرك ذهني نلتقطه من الواقع في تجلياته)(3)،
وعليه فإن هذا السرد الذي يمثله النص الابداعي الروائي،يفتح مغاليق احداث ووقائع الزمن الماضي بسكونيتها،على فضاءات الحاضر بكل حيويتها، وسيظل يخوض بمستويات مختلفة في اشكاليات كثيرة جراء تداخل ماهو ذاتي بماهو موضوعي،تداخل الماضي الواقعي بالمتخيّل المنجَز، ذلك ان الاحداث اليومية وكذلك الشخوص الروائية بتفاصيل حياتها الدقيقة ” التي يغفلها المؤرخ بل ولا تعنيه”،هي التي تهيمن على الفعل الروائي وتغنيه وتقوده حتى نهايته،وهنا ايضا،لن يكون المؤرخ روائيا وهو يسرد الاحداث لأنه لا يدوّن عن الشخصية التاريخية سوى دورها في الحدث التاريخي محتفظا بها في دهاليز ازمنة وامكنة محددة, كما لن يكون الروائي مؤرخا، لانه مَن يوقظ المادة التاريخية السابتة في زمانها ومكانها المعلومين ،ليعلن قيامتها خارجهما، نامية متجددة بين حنايا العناصر الفنية للرواية، و:
)بهذا التوجيه سيكون للتاريخ حضوران حضور ماضوي واقع وحضور راهني مفترض ومتخيل وتتداخل الأدبية بالتاريخية حتى لا يعود التاريخ معنيا على المستوى الروائي بما كان قد وقع ومضى وانتهى فحسب؛ بل سيكون ذلك الذي مضى قابلا للامتداد والبعث من جديد مستمدا الحاضر من الماضي والماضي من الحاضر من خلال عصرنة الواقعي الراهن بالتاريخي الغابر.)(4)
اما التاريخ باعتباره علما ومعرفة ، فمقوماته ( الزمان والمكان والانسان ) ايضا ، وما الاحداث التاريخية إلاّ نتاج تفاعلها معا، يستردها الباحث في الدراسات التاريخية من زمنها الماضي استردادا، مرتهنا بالتزامه الحقيقة المجردة ومشدودا الى مهنيته كمؤرخ والى منهج البحث العلمي ،ومتحريا عن كل ما يمت للحوادث بصلة، كي يبرهن صحتها،دون القدرة على تجاوز اطارها الزماني وحدودها المكانية، ما يعني ان عليه التزام الحيادية في التدوين ،الا ان التاريخ كان قد كُتُب تحت ضغوط تصورات الانظمة الحاكمة المتعاقبة التي تسلطت خلال فترات كتابته، فالتاريخ يفصّله الحاكم المنتصر طبقا لمقاس شخصه،ولهذاغالبا ما ينزع المتلقون ( قرّاء ومؤرخون ) الى الشك في مضامين وصدقية الاحداث التاريخية المدونة، فتتم مراجعة ما تم تدوينه عن فترات التاريخ السحيقة والحديثة معا، وحتى هذه المراجعة ستكون تحت مجهرالسلطة المزامنة لفترات التدوين .
وهنا يأتي دور(التخييل التاريخي) في العمل الروائي المتميز بخصوصيته البنيوية والمعنوية، ذلك الدور الابداعي الخلاق بمهمته الشاقة في الكشف عن مضمرات التدوين التاريخي وعن كل ما يشوب الحقيقة من زيف وجوانب مهملة، مستفيدا من تآلف الذاكرة السردية مع التصورات الذهنية في اعادة انتاج الاحداث. و طالما يبقي الماضي حلقة الوصل والقاسم المشترك بين الرواية والتاريخ، فستبقى العلاقة بينهما تكافلية و تعاضدية، وسيبقى التخييل يجلي الحقيقة التاريخية من صدئها وينصفها ايضا،و:
(..أيّ كان، فإن الروائي لا يكتب تاريخا وما ينبغي له، وانما تراه يلَحِّم جهده ، شيئا يحمل طابع التاريخية الروائية ، ذلك بان الابداع الروائي انما ينهض على فكرة من التاريخ ، بشيء باد من الضرورة ، ويتمثل ، حتما مظهرا من مظاهر البناء الذي بمقتضاه نستطيع قراءة ما يحدث للكائنات والاشياء ، والافكار ، ولا سيما ما يحدث لراوية وهو بصدد تدبيج عمل سردي خيالي. الحق يقال ان الرجوع الى الوراء في تمثل الزمن هو ، كما لاحظ فيكتور هيجو نفسه ، منذ عهد بعيد ، هو احد حقوق الكاتب الروائي.) )5)
و في روايته ( ليل علي بابا الحزين ) يبقى الروائي عبد الخالق الركابي،بحق،( – عميد تقنية التخييل التاريخي– كما كنّاه د. حسين سرمك حسن، عنوانا لدراسة له عن هذه الرواية )،لما يحوزه من معرفة واسعة وَوعي كبير بتاريخ العراق من جهة،ولأنه يمسك بزمام صنعة الكتابة الروائية وفق منظورها الحداثوي، من جهة اخرى،ما أهّله لان يستمر مستكملا جهده الابداعي، في اعادة قراءة التاريخ روائيا، لعهود الاحتلالات الفارسية والعثمانية والبريطانية،ومن ثم وصولا الى الاحتلال الامريكي عام 2003 بهذه الرواية، ليكشف لنا صفحات تنبض بالحياة من تاريخ العراق السياسي والثقافي والاجتماعي بالرغم من ان احداث الرواية اقتصرت في مدينتي بغداد والاسلاف.تجلت خبرات الروائي تلك من خلال تعامله مع الازمنة المختلفة عبر الزمن المتخيل، بتفكيك مساراتها الكرونولوجية، حيث تميزت بنية النص لـ ( ليل علي بابا الحزين) بتوازي الانساق السردية للازمنة ،حاضرها وماضيها القريب وماضيها الأبعد، وباستحضاره لاحداثها،الهامدة من تحت ركام التاريخ، ثم تلبسها حيةً في زمن النص باختلافاتها الاجتماعية وسياقاتها التاريخية والثقافية دون التوقف عند استعراضها فحسب،بل إلتقط منها و بعناية،كل ماهو جوهري في علاقة الفرد بها، بما في ذلك انعكاس الانتماء الطبقي،والديني فيما يخص (شخصية دنيا المسيحية)، على طبيعة سلوك ومطامح الشخصيات،فجاءت الازمنة بتداخلها وتوازيها السردي كمرايا متحركة، أسقطها الكاتب على الواقع “الزمن الحاضر”، لنبصره ونعاينه بعيون النص، فنتبين تماثل عصور الاحتلالات بالقهر والتبعية والظلم، نهب الثروات، وتهريب اثارنا “هويتنا”،واللصوصية السياسية والفردانية : فرهود بغداد عام 1941 ،ثم غزو ونهب الكويت عام 1991 وانتهاءا بـسرقة (حوسمة) وطن بكامله منذ عام 2003 وحتى ما نحن عليه الان،كَمَن ( أكل النخلة حتى سُلاّئها )”مَثَل عراقي”، وذي اسباب ونتائج الاحتلال الامريكي ومخلفات ونتائج طبيعة النظام الديكتاتوري السابق الذي أُسقط عام 2003،قد تطابقت مع اسباب ونتائج البريطاني عام 1914 الوارث بالقوة لما خلّفه العثماني من حطام امة ووطن، فيردد” الراوي” ممتعضا بألم لأكثر من مرة في الرواية ،مقولة “كارل ماركس” ( “ان التاريخ يعيد نفسه كمأساة” مرة ،وكمهزلة مرة اخرى)،وهو ذات الالم قد تحدث عنه نجيب محفوظ في لقاء جمال الغيطاني معه:
( لو ..ولكن التاريخ لا تصح فيه كلمة لو ..والانسان لا يتذكر التاريخ الا بعد ان يصبح مأساة (6)
وقد كشف ( بدر فرهود الطارش) احد الشخصيات الرئيسية في الرواية عن تماثل المأساة:
(ما يدهشني ان تلك الاحداث القديمة لم تكن حينها بهذا القدر من الاهمية التي نضفيها الان ، فقد كانت احداثا مبتذلة تتشابه تماما مع ما يجري في حياتنا اليومية،ولم يخطر لي قط انه سيأتي يوم أجلس فيه جلستي هذه لأروي لك امورا متنافرة على تلك الشاكلة يصعب وضعها في سياق تاريخي )الرواية ص189
ولكنها كانت مهمة الكاتب ان يصيغها في سياق روائي بارع متميز،رغم عسرتها، فقدعمد في تسريده للتاريخ على تقنية الاسترجاع ،عبر الاستفادة من: (التمازج ما بين الذاكرة السردية بصيغتها الجمعية وما بين استدعاء المعايير العقلانية للمعطيات التاريخية وهذا ما سيوفر عامل التأثير والدهشة)(7)
و” الاسترجاع” جاء من مصدرين:
اولهما: استثماره لخزين ذاكرته التي وضعها ضمن منظور ذات الراوي السارد وذائقتها وهي تسرد عقود التسعينيات وما تلاها والتي عايشها الكاتب واصبح شاهدا عليها، وكأنه هنا يحتفي بذاكرته التي ادخرت الكثير من تاريخ مقصي او– تاريخ المنهزمين-،وهي تفلت خزائنها الى العلن من قمقم الحجب ،لتعيد قراءة وقائع التاريخ بغية فهمه واستخلاص دلالاته، فحين سأل الراوي بدر فرهود الطارش :
(عن الوسيلة التي تكفل لي تسجيل ذكرياته لغرض استثمارها فيما بعد في كتابة روايتي ) الرواية ص138
أجابه بدرُ :
(الذاكرة.. عليك بتشغيل ذاكرتك فيما بعد لارشفة ما ستكون بك حاجة اليه ألست روائيا؟حسن …وهل الروائي سوى ذاكرة جبارة قادرة على تلقف كل ما يخطر في البال وما لا يخطر؟)الروايةص138
وثانيهما:ما تحكيه شخصية (بدر فرهود الطارش) للراوي عن وقائع مرحلة الاحتلال البريطاني والحكم الملكي التي لم يكن” الكاتب”قد عايشها والتي ستكون مادة لرواية اخرى ينوي” الراوي” اتمامها،فنكون ازاء رواية نقرأها ونلاحق احداثها حتى النهاية، ورواية نامل اكمالها دون ان نولي اهتمام لمعرفة تفاصيلها،الا انها تماهت مع حبكة النص ذاته،
ولم يكن بدر فرهود الطارش وذاكرة الكاتب هما نُسغ الرواية فقط، بل ان الكاتب ابقى مصادر الروي مفتوحة على اكثر من شخص،وعلى اكثر من وسيلة لإثراء حبكة الرواية، كالاستعانة بالصورة المشهدية التي تتطلبها طبيعة احداث النص السردي،والافادة منها عبر توصيفها، فالصورالمشهدية لكمٍ كبير من الامكنة و الاحداث التي رصدها الراوي خلال مسارات سير” رحلته “الكابوسية”، بين مدينتي الاسلاف وبغداد ذهابا وايابا،مثل حرائق ابنية مؤسسات الدولة ومشاهد النهب اليومية التي لم تنقطع،ومشهد الجثث الملقاة” تحت الجسرفي العراء”،وما خلفه” تفجير شارع المتنبي”من خراب ودماء،الذي يخبرنا به الراوي على لسان صديقه “حسيب رجب”، كل تلك الصور كانت قد كشفت عن لحظات تأمل لفوضى الاحداث التي انتهكت صفو الامكنة،وعبّرت عن مشهد مؤلم ومشهد اخراكثر ايلاما:
(لم اكن اوشك على الانتهاء من اجتياز الجسر بسيارتي حتى ارتفع صياح زوجتي وهي تحذر الاطفال من النظر الى الخارج حيث لاح مشهد سيبقى محفورا في ذاكرتي الى الابد،فاسفل الجسر، وعلى امتداد الجرف المقابل، تناثرت عشرات الجثث المنتفخة المغطاة باسراب من الغربان في مشهد اقرب ما يكون بنصب سوريالي صممه فنان مجهول !!)الراويةص132ص
ويُلاحظ هنا مراحل تجسيد صورة المشهد : ابتداءا بالمشاهدة السريعة إثر سماع الراوي لصياح زوجته في السيارة،فالتأمل، ثم الإخبار عن المشهد،وقد اختيرت كلمة (صياح) من بين كل الكلمات الرديفة للصوت لانها الأقرب الى فعل العويل أو الصراخ بقوة تعبير اعن فزع.
كذلك ان الكاتب كان قد لجأ الى اسلوب المفاضلة في اختيار حدث ما دون غيره من المراحل التاريخية المختلفة، اذ عمد الى تناول فترة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق واثاره غير الانسانية على المواطن العراقي، ابان التسعينيات، والاشارة الى الحروب العبثية للنظام السابق، فيما اهمل الكاتب ما رغب في اهماله،من ماعلق بالحدث المتناوَل من وقائع جانبية صغيرة،أي تشذيبه منها لإدراكه ان تلك زوائد تضعف من فاعلية الحدث ومن دلالته ايضا،وتلك احدى مهارات الكشف عن الفوارق بين الاحداث كما رواها المؤرخ،وبين الاحداث عينها المنجزة روائيا بعبورها عتبات حدود “التاريخي”، لانها صيغت بقراءة مغايرة لواقعيتها التوثيقية الراكدة،فباتت بديلا روائيا عن تاريخ انتهكت حقائقه وزيفت بوجهات نظر خاطئة، دون ان يتنكر ذلك البديل لحقيقة تلك الوقائع أو ينتهكها او يعبث بمنطقها، إذ:( تخيّل كما شئت لكن لا تخن التاريخ ولا تحرف أحداثه ) بحسب جورج لوكاتش. بمعنى اخر انها اضحت مرتكزا ابداعيا مخالفا لشرعية المدونة التاريخية.
فيما اغفل اسباب ونتائج انتفاضة شباط عام 1991 في الجنوب واخماد النظام الديكتاتوري لها بالقوة،والبطش بمواطني المحافظات المنتفضة ،+فكان ان “شيّد”المقابر الجماعية تحت اديم ارض الوطن دون استثناء،والتي تم الكشف عنها بعد سقوطه، الا ان احد شخوص الرواية”يحيى” يشير اليها متوقعا نشوب حرب احقاد! :
)ما اخشاه حقاً هو اندلاع حرب اخرى .. حرب الاحقاد الدفينة والثارات المؤجلة التي تطفو على السطح عادة بعد حروب القنابل والصواريخ ، انسيت ما جرى عقب انتهاء”عاصفة الاصحراء) الرواية ص45
في حين انتقد الكاتب تعسف ذاك النظام واضطهاده لحرية الرأي،واعتقال اي مواطن لمجرد الشبهات،في ابنية وسراديب خارج ابنية السجون الرسمية المعروفة ،حيث تم اعتقال “الراوي” مع صديقه “يحيى” بعد مجادلة احد ازلام النظام الحزبيين،بسخرية من استعدادت النظام لدرء جيوش التحالف ضده.
وما توازي الانساق الزمنية :ما يرويه”بدر فرهو طارش”،السارد المعين الرئيسي في رفد النص بالمادة التاريخية ، مع ما يسرده الراوي عن حيوات الشخوص الاخرين، وعن ذاته هو،ومن ثم احالة كل ذاك “المروي الشفاهي” الى مشغل صياغة السرد الروائي .وكذلك تبادل أهمية الادوار التي تلعبها الامكنة الحاضنة للاحداث المروية،بالاضافة الى تداخل النص الروائي الناجز مع فكرة انجاز نص روائي آخر يكون جزءا من بنيته ومكملا له،كل ذاك ما هوالا امتدادا لثوابت تقنية ( الرواية الركابية ) التي اتصفت بها اغلب روايات الكاتب.
وما اثرى حبكة الرواية ايضا،ركون الكاتب الى تقنية (التخييل الذاتي)،بالأحرى اقتران ذات الكاتب بذات الراوي السارد، فكان أن عزز الكاتبُ سيرةَ حياة “الراوي سارد النص”، وهو روائي مشهور ايضا،بتفاصيل احداث منتخبة من سيرته الشخصية، تمثلت بإحالات واقعية ومرجعية،حيث احال عليه الكاتب عناوين كثيرة من رواياته،وحتى بعض من اصدقاءه ومعارفه وشيئا من سيرته المهنية ككاتب:
) وانتهى تقليبي لتلك الكتب،في احدى المرات بعثوري على نسخة مصورة من روايتي “سابع ايام الخلق”….) الرواية ص62
وذلك ما ابقى (شخصية الراوي) تحت هيمنة سلطة الكاتب،كشخصية مركزية،و- ربان سفينة السرد– ووسيطه مع المتلقي ومع الاحداث والافكار ومع شخوص الرواية الاخرين ايضا،انه بالتالي شخصية مستقطبة لهم،وقد اوجبت تقنية التخييل الذاتي على الكاتب تبنيه لمعياري الصدق والكذب”الفني”،الحقيقي ونقيضه، اي مزج الحياة الحقيقية بالمتخيل،وتلك هي خصيصة التخييل الذي ينتج دائما تعارضا دلاليا بيّنا بين العالم الخارجي كما تلقيناه، وبين العالم المحكي الذي تمثلته حبكة الرواية ككل، وعليه لن يبقى المسرود حقيقي كما ينبغي له ان يكون في السيرة الذاتية، كما لن يكون متخيلا صرفا،شأنه شأن احداث الرواية. فمن الممكن جدا ان يتضمن العمل الروائي آثارا لومضات ذهنية من السيرة الذاتية دون ان يتعمدها الكاتب،ذلك إنَّ العمل الأدبي كما يقول “ديفيد ديتش”:
(قد يجسد “حلم” الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون “القناع” أو قد يكون “النقيض” الذي يخفي وراءه شخصه الحقيقي،أو قد يكون صورة من الحياة التي يريدُ الأديب أن يهرب من نطاقها، ثم علينا ألا ننسى أنّ الفنان قد “يجرب” الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التَّجارب الواقعية من حيث فائدتها للأدب، فتجيء إليه وقد تَلونت بعض الشيء بلون التقاليد والمواصفات الفنية)(8)
وبما ان الرواية عالم ذهني شكله الروائي وفق رؤيته الخاصة بأبعاد واقعية ورؤى تاريخية فقد جاءت الامكنة هي الاخرى، إما متخيلة وهي (الاسلاف) أو واقعية فكانت (بغداد)، ما ساهم في ايهام المتلقي بواقعية الحدث، و العبارة الاستهلالية للرواية: ( يوم عدت بأسرتي الى بغداد – عقب رحلة كابوسية الى مدينة الاسلاف انتهت باعتقالي- قد عيّنت فعلا، ان كل ما سيسرده الراوي من وقائع ستتقاسمها (بغداد والاسلاف) لا سواهما، لأن كلاهما يحتضن تاريخا يتماضى، يوحّدهما بالفجيعة وبالانتماء الى وطن واحد ايضا،حيث لم يكتفِ الكاتب عبد الخالق الركابي،كما في عديد من رواياته، بمعرفته الدقيقة بتاريخ مدينته (بدرة)الاثيرة لديه وبمعرفته ايضا بمواطنيها وانتمائهم الحميمي لها،وهي موطن اجداده وموطن مولده، فمجرد معرفة وخبرة الروائي وحدهما بالمكان:
)..لا يجعله قادرا على احيائه في كلمات كما ان مجرد لصق لافتة بان هذا المكان هو القاهرة لا يكفي لبث الحياة في التسمية،فان بلزاك “يصنع “سومور وفلوبير”يصنع” ابون فيل،وهذه الصنعة لا تطابق الواقع مطابقة حرفية بل هي تشحن هذا الواقع شحنات مختلفة من المشاعر والاجواء النفسية . ان الكاتب يصطحب القارئ من يده مثلما يفعل الدليل الحاذق،يوجهه في هذا العالم الذي قد يكون مستقى من الواقع ولكنه في النهاية من صنع خياله)(9)
ولهذا لم يتوقف كاتبنا،عن التخييل المسرود، لإدراكه ان المخيلة هي الأكثر قدرة على الخلق والابداع، وما السرد الا وسيلة لصياغة “المادة الحكائية”كما ان له:
)وظيفة تمثيلية شديدة الاهمية في الرواية،فهو يركب المادة التخييلية، وينظم العلاقة بينها وبين المرجعيات الثقافية والوقائعية، بما يجعلها تندرج في علاقات مزدوجة مع مرجعياتها،فهي متصلة بتلك المرجعيات لأنها استثمرت كثيرا من مكوناتها وخصوصا الاحداث،والشخصيات والخلفيات الزمنية، والفضاءات، لكنها في الوقت نفسه منفصلة عنها لان المادة الحكائية ذات طبيعة خطابية فرضتها انظمة التخييل فالسرد في وظيفته يركب ويعيد ، ويخلق ويعيد تخليق سلسلة متداخلة من عناصر البناء الفني ليجعل منها المادة الحكائية التي تتجلى في تضاعيف السرد)( 10)
إذن،كان لابد من احياء بدرة من جديد عبرخلق”الاسلاف”،و تشكيل امكنة لها،مثل متحف التاريخ ومواقعها الاثرية، بفعل تدخل (قدرة مخيلة الكاتب)على صياغة صورة مدينة موازية تنبض بالحياة،راح يشكلها بالسمات التي يرغب ويحلم بها،مثل اي مدينة مفترضة متخيلة، يتبدى نسيجها المروي أثرا لمرجعيته الواقعية، لتتحول “بدرة”الى رمز انساني عام، تكفّل شخوصها المفترضين بمنحها فاعلية التاثير،وليصيّروها المكانَ الابلغَ في انتاج الدلالة والتعبير عن الافكار،ووسمها بهوية مراحلها التاريخية المتعاقبة عليها،:
يحيى :- (وبذلك اسهمتُ ُفي ذيوع شهرة روايتك بين مثقفي الاسلاف ، فقد وجدوا فيها سجلا حافلا لتاريخ مدينتهم ولا ساطيرها ومأثوراتها وصراعاتها العشائرية..)الرواية ص63
بل ان (الاسلاف) كانت شريكا مؤسسا في الحبكة الروائية. كأنه”الكاتب” يتوجس خيفة من تعرض معالم مدينته”بدرة” للتغيير او الاختفاء من الحاضر،بفعل تقادم الزمن عليها وإهمال ساكنيها،فيتوجس خيفة من المستقبل الذي لن يعيدها اليه بصورها الأصلية التي بدأت تتماضى،إلا إن صورا من تلك الأمكنة قد ترسبت في ذهنه،واستطاع العودة إليها،مدركا واقعيتها في كل حينٍ يتشمم فيه رحيق عيشه في كنفها،فراحت أمكنته الأليفة تلك، تعيد تكوين نفسها في خبايا ذاكرته، في حلم يقظة جديد،غدا نصا،عالما متخيًّلا،سيّره الكاتب وفق وجهة رؤيته، الا انه كان ينحو الى رسم بعض ملامح السرد الواقعي للامكنة والشخوص لاغناء النص، وتحقيق اللذة الجمالية التي نتلذذ بها نحن المتلقون التي ينتجها ويعبق بها وحده المكان الفني الـ”المتخلق” في رحم النص، فلن تبقى الرواية بعدُ ،محض انعكاس للواقع اومطابقة له،ولا يحتفظ المكان الواقعي بكامل خصائصه عند احياءه فيها مجددا،وبذا سيتوهم المتلقي واقعية الاحداث، فـ :
(في الفن وحده ينشأ تواطؤ ضمني بين الفنان والمتلقي على القبول بإيهامية المادة الفنية وإبهامية أمكنتها.)(11)
ويصبح المكان المتخيل اكثر قابلية على البقاء بل والخلود،في الوقت ذاته، يمنح الكاتب وسيلة لتجاوز مآسي الواقع وازماته.
وأما (بغداد ) فقد ظلت فيها( الامكنة والشخوص) تحتفظ معا بصدى وجودها الواقعي المرتبط بتاريخه وبزمنه ايضا، وبوقائعهما من مثل (المعاهدة العراقية ــ البريطانية ابان والاحتلال البريطاني عام 1922،وانتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون عام 1929، وتنصيب الملك فيصل عام 1933 ،واهمية دور المس بيل في تلك الحقبة،وفي تأسيس اول متحف للتاريخ في العراق سنة 1923-1924، كذلك كان الكاتب قد احضر “بغداد”، باسمها وبأسماء محلاتها وشوارعها ومقاهيها (شارع المتنبي ، مقهى الشابندر ،شارع الاميرات، اتحاد الأدباء،ساحة الأندلس، قصر المؤتمرات ،دار الشؤون الثقافية وكثير من الأماكن القديمة الاخرى)، بل وحتى اسماء شخصيات تنتمي الى شارع المتنبي كمكان، ومنهم ضحايا حادثة تفجيره .
ان الكاتب ليستنطق الامكنة عن احداثها،ويجلي عن الاحداث صدأ السكوت عن حقائقها طيلة عقود الاحتلالات الثلاث وما بينها،فقد اطل علينا اولا (راويه) خارجا من (مغارة غول النظام الديكتاتوري) ،عنوان الفصل الاول : – الخروج من المغارة- وهو ينوء بأثقال رحلته الكابوسية في يوم ما، لكننا سنتعرف ذاك اليوم باعتباره أحد ايام ما بعد الغزو الامريكي للعراق واحتلاله بعد اسقاط النظام الديكتاتوري عام 2003،الذي كان ينازع من اجل البقاء،عنادا لحركة التاريخ الطاردة لوجوده،ان ذهن الراوي مازال يختزن ذكريات قاسية من حقبة ذاك النظام، فترة اعتقاله، وقبلها بيعه لكتبه درءا لعوز مادي، خلال فترة الحصار الاقتصادي على العراق بعد غزو الكويت وتأثيره سلبا على المواطن لا على عوائل النظام الديكتاتوري، راح الكاتب ينتزع من ذاكرته ايضا، نتائج الاحتلال الامريكي وآثارها على المجتمع الذي بدأ يطل ايضا بـ”راسه” من” المغارة” كحبيس ظلمة مذهول بفسحة تضاء فجأة، دون قيود، دون مخاوف من رقيب او حسيب، لكنه، يتوجع من عُقَب المارينز وعجلات آلياتهم الغريبة وهي تدوس أديم ارضه، يصور الكاتب المشاهد المؤلمة المريبة لعمليات السلب والنهب لمؤسسات الدولة وقصور عوائل النظام وازلامه، ما سمي شعبيا ظاهرة ( الحواسم )، تحت حماية جنود الاحتلال الذين اطلقوا جزافا اسم (علي بابا) على العراقيين جميعا،وكأن الاحتلال الامريكي كان قد رفع اغطية قدور تغلي، لتندفع منها، الى الشوارع مجاميع من محترفي السرقة وعصابات الجريمة المنظمة التي سبق وان أُطلق النظام السابق سراحهم من السجون،قبيل الاحتلال ببضعة شهور،راح هؤلاء يمارسون باحتراف عمليات السرقة والنهب و شاركهم في ذلك مواطنون لم يسبق لهم السرقة سابقا ، لكنهم تجرؤا عليها ،حين شاهدوا عمليات النهب تمارس بيسر ودون قصاص او رادع ،و”المال السائب يعلم الانسان الحرام !” تشاركهم في ذلك مجاميع خاصة من مخابرات دول اقليمية، واخرى من ازلام النظام السابق تخصصت في حرق المؤسسات الامنية والمخابراتية التي كانت تحوي وثائق بالغة السرية، كذلك طفت على السطح ما سمي بالمقاومة و(الجهادية) التي سرعان ما وجهت جحيمها نحو المواطنين الابرياء قتلا واضطهادا. لابد انه كان انهيار مريع لما تبقى من قيم اجتماعية نبيلة، أُطلقت عليها رصاصة الرحمة.
ولان المكان الروائي تتشكل سماته جراء فاعلية شخوصه وبميزات سلوكهم وطبائعهم، فهوايضا، يَسمُهُم بهوية مواطنتهم،وبمثل هذه العلاقة الجدلية التأثير، يسهم كل منهما في تطورتحولات بنية الرواية ككل.فالشخصية ذلك العنصر الذي يمكّننا من معاينة العالم،لما تضطلع به كل شخصية من دور حيوي في عملية السرد المجسدة لرؤية الكاتب، ناهيك عن دور(الشخوص)ذاتها، في نمو الاحداث باطراد وتوضيح وشائجها ببعضها، توكيدا لوحدة النص وتطويرا لصياغة الفكرة المبتغاة. وعليه يمكن ان يرتبط انجاز الروائي لعمله الابداعي، بمستوى قدرته على تخليق الشخوص المختلفين بالطباع وبمستوى الوعي والثقافة والعقائد. وهم كثرُ في هذه الرواية، مثلما هو دأب الكاتب عبد الخالق الركابي تعدد شخوصه- دائما وفي هذه الرواية ايضا:
(فها هي شخصيات جديدة ستفرض نفسها عليّ) (الرواية ص38-39)
حيث عدّدَ الراوي احدى عشر شخصية منها، سينتمون لأمكنة متفرقة ولأزمنة متباعدة ومتباينة، بكل اختلافاتهم الاجتماعية والاثنية ومستويات الوعي السياسي والثقافي عامة، ولكل منهم حكايته التي تفرض عمق او هامشية علاقته بالأخرين وهذا ما يشي عن فاعلية دور كل منهم في النص، وسوف يتعرف المتلقي بهم من خلال شخصية الراوي،بصيغة ضمير المتكلم التي منحته ميزتها في روايته هذه حضورا مستديما،و سطوة على جميع شخوصه،تحكما بهم،وتفسيرا لتساؤلاتهم،ورسما لهيئاتهم ،ملاحقا مصائرهم وما آلت اليه في ظل التغيرات السياسية الجديدة،مستثمرا قدرة هذه الصيغة المدهشة على:
(إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا اذ ان كثيرا من ما يستحيل السارد نفسه في هذه الحال الى شخصية، كثيرا ما تكون مركزية)(12)
وما السرد بضمير المتكلم الاّ صيغة يؤثرها الكاتب في كل رواياته تقريبا لأنها:
(..تضفي على الرواية ضربا من حميمية يجعل المتلقي يعيش وهم المشاركة في الاحداث ، كاني به يرافق الراوي في تنقلاته على امتداد الرواية..) (13)
وبذا فان اول من يواجه المتلقي في هذه الرواية هو “الراوي السارد”، وسيبقى هو اول وآخر من يبادره انّى ولّى وجهته في سفر النص، فاستحق مكانة الشخصية الرئيسية ، بدورها المستقطب لكل شخوص الرواية الاخرين وبمسؤوليته عن تسريد حكاية كل شخصية منهم. الا اننا وان تعرّفنا دوره هذا، فلا يعني ان بمستطاعنا غمط الدور المحوري لبعض الشخوص،خصوصا وان الكاتب اعتمد محورية ثلاثة منهم في روايته، لهم ما يؤهلهم من صفات ومزايا جعلت منهم ذوات فاعلة في صنع الاحداث وادارتها الى جانب فاعلية “الراوي”،فضلا عما انتجه التناقض والصراع بينهم وبين شخوص الرواية ككل ، من تحفيز على تنامي الاحداث واثارة التشويق.
فـ (بدر فرهود الطارش) الذي كان مَعين “الراوي” في مشروع روايته غير المنجزة،التي ينوي “الراوي” كتابتها، لن تتشكل حكايته الا من خلال سرد الراوي الذي نظمها ثم ضمها الى وقائع روايتنا هذه ،متحكما في مفاصلها ومنضدا تعاقبها، وكشخصية روائية تبنت تساؤلاته او بالأحرى تساؤلات واستنتاجات الكاتب نفسه ليضفي عليها دلالالتها الواقعية، مثل اي شخصية تواقة الى المعرفة لاستكشاف حقائق التاريخ،وقد تنامت حكايته والتأمت،وان تناثرت في ذاكرة المتلقي بفعل انتقالات الراوي في سفر النص من شخصية في زمن معين الى شخصية اخرى في زمن ومكان اخرين،التأمت خلال فترة الحكم الملكي وما قبله بقليل،مرتبطة بـ(أبيه)المترف ماديا،وبأمه”شذرة”الجميلة، واخيه “فرج”وبـ (فوكس وايت) الجاسوس لصالح بلده بريطانيا خلال نهايات حقبة الاحتلال العثماني، اوهو ذاته ” تيلر تومسون” ما بعده ،منقبا عن الاثار ومهربا لها، وعلاقة “شذرة” المريبة به،اذ كان”بدر” ذاته هو من انجبته بعيون زرقاء، وهذا ما يشي عن الأبعاد الثقافية والنفسية لهذه الشخصية ، وتأثرها بتعدد زوايا النظر الذي ينظر اليها من خلالها الاخرون، الامر الذي قد ترك ثلمة في كرامة اخيه، الذي ما أنفك يعيّره بلون عينيه الزقاوين.فضلا عن انطباعات الراوي عنها ،حتى ان المس بيل قد اكتشفت مدى شبهه بـ”تومسون”
(- سبحان الله .. كأني بهذا الصبي العراقي النسخة النيجتف منك !) الرواية ص293
و لذا ارتبطت حكايته ايضا بـ”المس بيل”واهتمامها به، حتى اصبح مديرا لمتحف التاريخ الذي انشيء برعايتها،وهي مكانة وظيفية رفيعة كجزء من رعاية خصه “تومسون”بها ،الاّ انه ما فتيء ينوء بمرارة حقيقة انتمائه لأبوة”تومسون” او لوطنه العراق وارثه الحضاري الذي كان في تماس مباشر معه، لكنه حين يتحدث عن العراق مستشرفا مستقبلة محذرا من احتلال امريكي قادم فسيسميه (بلادنا):
((الامريكيون قادمون … نعم .. سيحتلون بلادنا، ولكن ليس الان بل حين تسنح الفرصة لهم ،..) الرواية ص20
لقد تحول “بدر”الى شخصية منتمية لمرحلتها التاريخية، واصبح صوتا حياً، ناطقا للوثيقة التاريخية التي هي عبارة عن شهاداته دون ان يتجاوز حقيقتها،وقصصه الضمنية،العاطفية والاجتماعية المتخيلة المحكية شفاها، وهو يعرّي المطامع الاستعمارية في ثروات الوطن ،ما منح الكاتب فضاء اخر للتخييل، كأني بي اتسمعه بصوت الكاتب الذي احتال ليسردها ( الشهادات) موجوعا ،كوقائع ادبية قابلة للديمومة والتفاعل مع جمهور عريض من المتلقين مرمما بل كان يجهد في اعادة بناء مواضينا المتسلسلة بالاحتلالات والحروب والمجاعات، ،فالرواية نص مكتوب، لم يقطع الصلة بأصوله الشفوية مثل أي فن سردي اخر.
ولم اجد ابلغ من رأي الناقد د. حسين سرمك حسن في قدرات الكاتب عبد الخالق الركابي وقد أعاد صياغة ذكريات “بدر”المحكية شفاها،في نص سردي مبهر:
(..يستطيع أي مواطن عراقي تقديم أمثلة على ما هو أبشع منه . لكن ولا قاريء يستطيع إخراج حكاية العذاب هذه في صورة روائي يحاول كتابة رواية من خلال وثائق أو ذكريات يقدّمها شخص اسمه بدر .. وحول هذا العمل البؤرة تدور علاقات شخصيات أخرى وتتحدّد مصائر وترتفع إرادات ووجودات وتنهار أخرى وتتحطّم .(14)
(اما “دنيا” فيبادرنا بها الراوي عند نهايات حكايتها،وهي ثاني الخارجين بعده من( المغارة) ، فكانت واحدة من الشخوص المحوريين، تُتلى حكايتها على المتلقي بلسان “الراوي” مثل سائر الشخوص، يستذكرها، بدءا من لقائهما لعيادة طبيبة نسائية للتأكد من حَملِها، ومن خلال احاديثهما بواسطة الهاتف النقال، و كشفه لسرعلاقتها بـ (يحيى)صديقه العتيق وابن (الاسلاف)، الذي تزوجها “عُرفا” فحملت منه،وكذلك حكايةعلاقتها بـ (رياض)ابن اخ (بدر مرهون الطارش)، الذي حاول استمالتها،واذ رفضت،راح سيغتصبها في ادارة متحف التاريخ الذي تولى مهامه بعد وفاة عمه”بدر”،فلجأت الى (يحيى) لتعمل في مكتبه للاستنساخ..
ان هذه الشخصية القلقة التي لاحقها الاستلاب، كأنثى، وكمسيحية مسالمة جدا، وجدت نفسها في حيز محاصر بالرياء الديني و سلطة السلاح، اذ ان تنفّذَ الاحزاب الدينية في السلطة والمجتمع بعد عام 2003، قد وضعها تحت مجهر التأسلم ،ما ضيق الخناق عليها،حتى الزمها بلبس الحجاب.واللوذ بالقبول باستغلالها من قبل(يحيى) والاذعان الى الزواج منه لإنقاذ حياتها وحياة افراد عجائز قلائل من اسرتها ، فكان لابد لها من وسيلة تكيّفها مع المستجدات الطارئة على حياتها ، وان تلوذ وان بظلال “رجل”:”
يبدو ان الكاتب قد ظلّ عازما على استحقاق”دنيا” لدورها الاكثر اهمية بعد دور”الراوي”فوهبها في الفصل الثالث”كلمات كهرمانة الاخيرة” ليختم بها روايته، وبهذا منحها توظيفا دلاليا غير اعتباطي او تزييني ،بل لغاية يبغي الكاتب ترسيخها، إذ انتقل بشخصية كهرمانة من شخصيتها الحكائية الموروثة، حاملة اسمها ذاته الى نصه السردي بشخصية “دنيا”، لتساهم سيرتها الروائية من خلال علاقاتها بعديد من شخوص الرواية الذين سلكوا مسالك غير مشروعة في كسب الثروات ، تسهم في الاشارة الى تلك الاساليب اللصوصية في نهب البلاد والعباد،قلتُ سيرتها وليس هي ذاتها ، فهي ما ان خرجت من (المغارة ) حتى طمحت للفوز بما امكن من كنوزها، عن طريق وبجهود (يحيى) شأنها شأنه وشأن بعض من شخوص الرواية الذين خرجوا من (المغارة) تباعا، فلم تبق كـ “كهرمانة الليالي” التي صبت الزيت في الجرار ليلقى القبض على اللصوص، بل كانت قد، بررت سلوك (يحيى) في المتاجرة بالالغام ، وتورطه بتجارة الاغذية الفاسدة وادخالها الى العراق دون رادع اخلاقي، بررته بسنوات الحرمان والعوز التي عانى منها، حتى انها قد سوغت لنفسها ايضا الانتفاع من محصول “يحيى” من الثروات، وكأنها تبرر للصوص افعالهم، يتسائلها الراوي:
….. وما يكون دافعه غير تسويغ عمله بذكر الاسباب المعهودة : فقره الابدي وطفولته البائسة:-
دنيا :- ولكن الاسباب التي كان يستند اليها حقيقية ولم تكن تسويغا لعمله هناك
لكن الراوي له موقف اخر صارم من هذا السلوك الانتهازي ولهذ فقد افترق عنه:
(لانني أيقنت ان يحيى ليس اكثر من نموذج لهؤلاء الاثرياء المستحدثين الباعثين على الكراهية و.. والاحتقار.) الرواية ص 180
، فيرد عليها :
(- يدهشني ان اسمع منك هذا الكلام الغريب وانت المسيحية التي تربت على قيم الفداء والتضحية)
الرواية ص 275
وما حكاية (دنيا) ابنة “الاسلاف” الاّ محنة بحد ذاتها، المحنة التي شكلت “الومضة” التي افتقر اليها ذهن الراوي المحبط، ليسترد قدرته على استمرار كتابة روايته الجديدة، وهي محنتها التي اراد بها الكاتب ان تكون محنة وطن مبتلى بطغام من حكام تكالبوا عليه طمعا بخيراته حدّ استنزافها ،ثم سرعان ما تخلوا عنه بعد ان أفقدوه كل مقومات القوة والتعافي، ليواجه مصيره في مواجهة جبروت الطامع الاجنبي، كفريسة مهيأة تماما للاجهاز عليها،و.. ( كهرماتنا) تكابد للبقاء حية، كما”كهرمانة الرواية”التي لن يتبقى من انسانيتها ومواطنتها الا جنين أمل تنتخي به النجاة، كلما ركل في رحمها ،و عسى ان لا يحمل مورثات نزعات الحروب والشهوة الى القوة والفساد. انه ابنها الوحيد :
(وسط زبانية جهنم)الرواية ص 363
غير ان ثمة امل للراوي يرتجى بعدً :
( … لم اتنبه الى ان الشتاء على وشك الرحيل مفسحا ً المجال لفصل الربيع القصير العابر إلا حينما شممت في احدى المرات ، شذا عطرنفاذ طغى على رائحة الوقود والغبار ، سرعان ما تبين لي ان مصدره بضع شجيرات ورد تسلقت احدى العوارض لتغطيها بحمرة ورودها كأجمل تحد من الطبيعة للقبح ) الرواية ص 319
اما الشخصية المحورية الثالثة فهو “يحيى شفيق المبيضجي”والمبيضجي حرفة تبييض الاواني النحاسية،ولانها كانت لا تدر كثيرا من المال ،فقد بقيت اسرته فقيرة الحال، ويبدو ان هذا قد انعكس على شخصية “يحيى” واشعره بالدونية، لهذا كان قد نشأ على حب المال والجدية بالعمل ،اي عمل ، من اجل ان يحوز قدرا اكبر منه لحياة افضل ،:
(…حتى بلغ به الامر أنه وجد في الحرب الموشكة على الاندلاع فرصة ذهبية لاستثمار ما يملك من مدخرات شحيحة بشراء مودا غذائية _كالباقلاء والماش والعدس والبرغل- ليبيعها عند احتدام الاحداث باسعار “مناسبة”)الرواية ص47
مثلما وجد فرصة سانحة بعد الاحتلال ،للمتاجرة بالالغام، والبضاعة الفاسدة دون اية وازع، خصوصا بعد نضوج علاقته”بـ” دنيا” كتعويض عن زواجه التقليدي من فتاة اكثر فقرا، ودنيا هي الاخرى تطمح بالمزيد والمزيد ،حتى اشترى لها بيتا في شارع الاميرات”وهو من مناطق بغداد البيوت فيها باهظة الثمن. انتهت مغامراته بأن كلفه لهاثه وراء الثراء حياته ، فيختطف ويقتل رغم دفع المبلغ المطلوب للخاطفين.،
في مقابل سلوكه ذاك، كان”يحيى” فكِهاً ويضج بالمزاح كلما زار صديقه “الراوي” في بيته، وهو يرتدي تلك الملابس المبهرجة ،في الوقت ذاته، كان واعيا لما يدور في الوطن من احداث، فتعرض للاعتقال مع صديقه الراوي في احد الايام الاخيرة من سقوط النظام السابق،ويمتلك مكتبة ساهم من خلالها في استنساخ كتب شتى، كما هو حال مكتباتنا في شارع المتنبي آنذاك،التي كان جلّ اصحابها يقومون باستنساخ الكتب الممنوعة ، وغير المتوفرة ، وباثمان زهيدة
ومراجعة مقارنة لسيرة “يحيى” مع “بدر” و”دنيا”يلاحظ انه اكتسب محوريته بفعل صنعه للأحداث الاكثر عددا وتنوعا مما في سيرة كل منهما ،التي اوضحت سمات شخصيته فعمله في مجالات متنوعة كل ذاك وسع ارتباط و تعالق شخصيته باحداث مختلفة وباشخاص مختلفين كثر عددهم، وحادثة اختطافه ذات السمة البوليسية، اضف الى ذلك علاقة الراوي الحميمة به، كصديقين حميمين ،ومن مدينة واحدة “الاسلاف”، في حين بقيت شخصيتي” بدر “و” دنيا ” اسيرتي ما يتيسر من ذاكرة الراوي التي اختزنت ما كانا يرويانه له اصلا.
وهكذا امكننا تقسيم الشخوص في المتن السردي لـ ( ليل علي بابا الحزين) الى محورية صانعة للأحداث و ثانوية يصنعها الحدث (ينظمّ اليها كل من “مي” وبهجت”)، تنهض جميعها سوية بسفر السرد ،الا ان ذلك لا يعني ان الثانوية منها هي شخصيات يمكن اهمالها واقتطاعها من النص وهي ترد في عمل روائي متماسك مثل هذه الرواية ، بل ان دورها يبقى تكميليا لمعمارية النص،ومفسرا لأحداثه، فما النقاشات التي اوردها “الراوي”في سياق النص لمجموعة بين الشخوص الثانويين في المقهى وفي السجن ايضا،الا وجهات نظر تفسيرية للاوضاع السياسية ( الموقف من الاحتلال)والثقافية المستجدة(ثقافة وادب الداخل والخارج). وبذلك فان:
(..توهّج الشخصية المحورية إنما يتحقق عبر توزيع أدوار الشخصيات الثانوية داخل النص السردي.)(15)
كان لابد لرواية “ليل علي بابا الحزين” ان تقيم في المساحة التي يلتبس فيها التخييلي بالواقعي، لتضيء باحات مظلمة من حاضرنا الاليم بأزماته المتجددة وفجائعه التي لا تفضي الا الى فجائع أُخر ، جراء سعي الكاتب الى تخليق التاريخ واعادة قراءته ، ليتسع النص مشتملا على نصوص لحكايات شخوص الرواية المقترنة بالواقع والخيال معاً، وفي الوقت ذاته الى تبنيه لحكاية “علي بابا والاربعين حرامي” احدى حكايات الف ليلة وليلة، فمثلما تضمّنتها الرواية عنوانا ، يشير الكاتب ايضا الى تمثالها الشهير المجسّد للنحات الراحل محمد غني حكمت ، كل ذاك جعل بانوراما الواقع والازمنة والتاريخ والموروث، تتحول الى مفاهيم جدلية يشكك المتلقي في صدقيتها من خلال حثه على التقصي و المقارنة ، وستحمله على الاستجابة الى المجادلة والمسائلة التي اثارها النص ،وذلك ما نحن احوج اليه، فـ :
(.. حاجتنا لمن يثيرون الاسئلة اكبر واهم من الذين يقدمون اجوبة لا تشفي غليل السؤال ، هكذا يمكن القول : ان اثارة الاسئلة تمثل عملا لايقل خطورة عن معطيات قد تضلل من يحاول الاجابة ، فالمضلل لا يسأل ،الباحث عن الحقائق هو الذي يتسلح بالاسئلة سعيا للمعرفة)(16)
المصــــادر
*(ليل علي بابا الحزين) للكاتب عبد الخالق الركابي صدرت عن دار ومكتبة عدنان- ط1 – عام 2013
1.د.عبدالله ابراهيم ( لتخيل التاريخي ـ السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية) المؤسسة العربية
للدراسات والنشر ـ بيروت 2013.2.فاضل ثامر, المقموع و المسكوت عنه في السرد العربي, دار المدى للثقافة و النشر. ط1,دمشق, 2004,ص 9
3.د. حسين خمري ، فضاء المتخيّل ، مقاربات في الرواية ، منشورات الاختلاف ، ط 1 / 2002 ، ص 44
. 4..د. نادية هناوي سعدون- توظيف المعطى التاريخي في الرواية السيرية( مقالة ) – جريدة الصباح 23/6/2016
.5.عبد الملك مرتاض . في نظرية الرواية . عالم المعرفة ص 32
6.فيصل دراج – نجيب محفوظ تداعي التاريخ وسطوة الاسطورة – مجلة المدى 38 سنة 2002
.7.د. نادية هناوي سعدون- توظيف المعطى التاريخي في الرواية السيرية(مقالة) – جريدة الصباح 23/6/2016
.8. مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق”؛ ديفيد ديش، ترجمة د/ محمد يوسف نجم: ص 504
.9.سيزا قاسم – بناء الرواية دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ – ص 117-118
.10.د.عبد الله ابراهيم /الرواية العربية،ممكنات السرد ج2 -اعمال الندوة لمهرجان القرين الثقافي 2004- ص 11
.11.د. عماد الضمور- المكان في الأعمال السردية- جريدة الوطن القطرية- اكتوبر23, 2016
12.12.د. عبد الملك مرتاض ، المرجع السابق ص159
عبد الخالق الركابي ، حوار مع نهضة طه الكرطاني– مجلة المامون-عدد4 – 2014–.13.
.14.د. حسين سرمك حسن : عبد الخالق الركابي في “ليل علي بابا الحزين” : عميد تقنية “التخيّل التاريخي” في الرواية العراقية(جزء6) – موقع الناقد العراقي
، د. حسين سرمك حسن : عبد الخالق الركابي في “ليل علي بابا الحزين” : عميد تقنية “التخيّل التاريخي” في الرواية العراقية (6/الأخيرة)
.د. فاطمة الزهراء الشرّادي- الشخصية في النص السردي- مقالة-.15.
الشخصية في النص السردي ..د. فاطمة الزهراء الشرّادي | دنيا الرأي
الشخصية في النص السردي ..د. فاطمة الزهراء الشرّادي
pulpit.alwatanvoice.com