الإنسان لا يختار منفاه، ولا يختار النفي أصلا. فعندما لجأت إلى الثوار في الجبل ١٩٨٢ كنت أظن أنني أما أعود إلى مدينتي في جنوب العراق – الديوانية – أو أموت في القتال أو تحت القصف، ولم أكن أتصور أنني سأتشرد عبر الحدود مشيا على الأقدام بصحبة زوجتي وأحلّ في معسكرات اللجوء التركية ثم الإيرانية، ثم الوصول عبر محطات عدة، دمشق، موسكو، ثم بعد سنوات إلى الدنمرك وبجواز سفر سعودي مزور. لأجد نفسي في بلد كل شيء فيه مرتب، غريبا، معزولا، لكنه وفر لي الحياة الكريمة. كان من المستحيل عليّ معرفة طبيعة الأنظمة الاجتماعية الأرقى في تاريخ الحضارة البشرية هنا في الدول الأسكندنافية دون الوصول والعيش فيها. هذه المعيشة والاحتكاك أنضجت رؤيتي للحياة مجردة إياها من أدران الأيدولوجيا التي تعمي البشر وتجعلهم يقتلون بعض في حروب تشتعل طوال التاريخ. وهذه الرؤية تقف خلف كل نصوصي التي كتبتها وصدرت في كتب. بالمقابل جعلني المنفى أعيش في حالة شوق مستمر لأمكنة طفولتي ومدينتي وبشرها وحرمني من نسيج علاقاتي الاجتماعية والعائلية. وحينما عدت بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتور وجدت كل شيء مختلف وكأن ثمة مدن خربة حلت محل تلك. أما من نجا من الحروب والقمع فوجدته قد شاب وهرم. فتخيل أي ثمن فادح تدفعه روح المنفي.