الشاعر الذي حوّلته المخابرات إلى باحث
في “وطن” الديكتاتور، كل شخص، وكل شيء، يجب أن يخدم استمرار الديكتاتور، ليس فقط في كرسي الحكم، وإنما في حلوله مكان الله في ذهن الناس، فهو الذي يُحيي ويميت، وهو الآمر الناهي، ولا شيء يحدث إلا بإذنه.
عندما وصلت إلى كندا، وتقدّمتُ بطلب لجوء، كان من الأسئلة التي طرحتها القاضية في محكمة اللجوء عليّ: كيف تعرف أن علي اسماعيل هو رئيس فرع المخابرات العسكرية، علمًا أن عمله يجب أن يكون سريًا؟
ابتسمتُ وقلت لها: هو “الله” في حمص، فهل يعقل ألا يعرف الحماصنة اسم إله مدينتهم؟!!
في “مملكة الجحيم” هذه، لا يحدث شيء بالصدفة، وإنما يسير وفق مخطط محكم وضعته الأجهزة الأمنية، ابتداء من صلوات المؤمنين، مرورًا بقصائد المناسبات الوطنية، وانتهاء بقصيدة حديثة لا يعرف المستمع، وربما الشاعر، تفكيك معاني كلماتها. في هذه المملكة توزع الخيرات بحسب تأييد الناس، والرصاص بحسب منسوب الحرية عند الثائرين.
الكاتب فواز حداد، في روايته الرائعة: (الشاعر وجامع الهوامش) يُدخلنا ذلك الجحيم، متجولاً فيه، راصدًا ألسنة اللهب، ومستنشقًا روائح اللحوم البشرية المشوية بفعل القنابل الفوسفورية والنابالم، المختلِطة بالغبار والهواء “المعطر” بالكيمياوي، وببقايا المحارق الجماعية في السجون، وتحت ركام العمارات، أو بشكل عام، متابعًا مصائر السوريين: الأشرار منهم والأخيار. ويصل إلى إحدى النتائج:
إن “النظام لا يتسامح مع الذين يفكرون لحسابهم، المستشار (جامع الهوامش) فَكر، وبات عليه نسيان ما فَكر فيه؛ طريقة النسيان معروفة”.
استوقفني في الرواية الكبيرة، من بين أشياء كثيرة، شخصية المثقف المخبر، وكيفية تحولها إلى عميل مخابراتي، يخدم النظام في المواقع التي لا يستطيع عملاء النظام المكشوفون خدمته فيها. وقد توضّح ذلك خلال الثورة، في أكثر من مناسبة، وما ادعاء تفجير “خلية الازمة” من قبل معارضين، وحصار حلب، والقصير، والغوطة، وتهجير حمص، وأخيرًا إدلب، إلا نماذج عمّا قلته.
يتم استدعاء الشاعر “مأمون الراجح” إلى مكتب غير معروف للمخابرات، ملحق بالقصر الجمهوري حيث يقابله خالد: مدير هذا المكتب، الذي يخبره أنه ضيف مكرّم في هذه الإدارة، ومحمي من قبلها، فاختصاصها القيام بأبحاث اجتماعية على علاقة بمجريات الأزمة الحالية وانعكاسها على حياة الناس.
في هذا اللقاء، يكشف خالد لضيفه الشاعر الدورَ الذي تلعبه أجهزة الأمن السورية، في خلق وتلميع أدباء حياديين أو “معارضين”، لاستخدامهم وقت الحاجة، وهو واحد منهم، فمنذ سنوات والأجهزة تتابعه ثقافيًا، وتفتح له الأبواب، وتسهل له النشر، وقد تم إقناعه بطريقة غير مباشرة بالاهتمام بمقالات الرأي. قال له خالد: “إعجابي بكم مبعثه كتاباتك في الصحف، فأنت كاتب مقالات متميزة”.
حاول الشاعر أن يقول إن شهرته سببها الحظ، ولكن خالدًا صحح له قائلًا: “الحظ لا يكون مبرمجًا، فقد جرى الاعتناء بتصديرك إلى الخارج، كما أنك لم تُنتقد، عندما لم تعلن موقفك من الأزمة. لقد اضطروا الى إسكات أطراف كثيرة، ومنعهم من التعريض بك والتحريض عليك. بالمناسبة.. لم تُمنع من السفر، أو تُستدع إلى التحقيق”.
يتابع خالد (ضابط الأمن المقرب من الرئيس) توصيف وضع الشاعر، في بلد لا يحتمل أي نوع من النقد، فيقول: “لم تحاول الجهة الأمنية المعنية التدخل في مقالاتك… كان ذكاء منك أنك لم تتطرق إلى موضوعات حساسة، أحسنتَ تجنبها”. وفي مكان آخر من حواره مع الشاعر، قال خالد: “بعض الأدباء يظنون أنهم مدينون بنجاحهم للعناية الإلهية، في حين أنهم مدينون لنا”.
أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أنني عمدت إلى استعراض موقف بعض الأدباء السوريين من أزمة بلدهم، كما عبّر عنها أبطال الرواية، وكيف تلاعبت بهم أجهزة الأمن، وقد أهملت بقية الشخصيات فيها. فما ينطبق على الأدباء يمكن أن ينطبق على كل شرائح المجتمع، ففي النشاطات الدينية جرى الأمر نفسه، وفي الأحزاب السياسة جرى ما يشبه ذلك، وفي فبركة التيارات الجهادية تم العمل على تسهيل مهامها، وفي الاقتصاد والجمعيات، وفي الجامعات، وغير ذلك.
بعد انتهائي من قراءة الرواية التي تتابع الحرب السورية، كتبتُ تعليقًا صغيرا في صحفتي الفيسبوكية، مفاده: انقضى أسبوع على قراءتي لرواية الأديب الكبير فواز حداد، وما زال طعمها تحت أضراسي. لقد جعلتني الرواية أعيش ويلات الشعب السوري، وأشاهد كيف أن البلد تتغير والحرب طردت الحياء. وأنا بعيد عن سورية منذ ثلاثين عامًا، بفضل إبداع أحد السوريين المميزين.
شكرًا فواز حداد.
في “وطن” الديكتاتور، كل شخص، وكل شيء، يجب أن يخدم استمرار الديكتاتور، ليس فقط في كرسي الحكم، وإنما في حلوله مكان الله في ذهن الناس، فهو الذي يُحيي ويميت، وهو الآمر الناهي، ولا شيء يحدث إلا بإذنه.
عندما وصلت إلى كندا، وتقدّمتُ بطلب لجوء، كان من الأسئلة التي طرحتها القاضية في محكمة اللجوء عليّ: كيف تعرف أن علي اسماعيل هو رئيس فرع المخابرات العسكرية، علمًا أن عمله يجب أن يكون سريًا؟
ابتسمتُ وقلت لها: هو “الله” في حمص، فهل يعقل ألا يعرف الحماصنة اسم إله مدينتهم؟!!
في “مملكة الجحيم” هذه، لا يحدث شيء بالصدفة، وإنما يسير وفق مخطط محكم وضعته الأجهزة الأمنية، ابتداء من صلوات المؤمنين، مرورًا بقصائد المناسبات الوطنية، وانتهاء بقصيدة حديثة لا يعرف المستمع، وربما الشاعر، تفكيك معاني كلماتها. في هذه المملكة توزع الخيرات بحسب تأييد الناس، والرصاص بحسب منسوب الحرية عند الثائرين.
الكاتب فواز حداد، في روايته الرائعة: (الشاعر وجامع الهوامش) يُدخلنا ذلك الجحيم، متجولاً فيه، راصدًا ألسنة اللهب، ومستنشقًا روائح اللحوم البشرية المشوية بفعل القنابل الفوسفورية والنابالم، المختلِطة بالغبار والهواء “المعطر” بالكيمياوي، وببقايا المحارق الجماعية في السجون، وتحت ركام العمارات، أو بشكل عام، متابعًا مصائر السوريين: الأشرار منهم والأخيار. ويصل إلى إحدى النتائج:
إن “النظام لا يتسامح مع الذين يفكرون لحسابهم، المستشار (جامع الهوامش) فَكر، وبات عليه نسيان ما فَكر فيه؛ طريقة النسيان معروفة”.
استوقفني في الرواية الكبيرة، من بين أشياء كثيرة، شخصية المثقف المخبر، وكيفية تحولها إلى عميل مخابراتي، يخدم النظام في المواقع التي لا يستطيع عملاء النظام المكشوفون خدمته فيها. وقد توضّح ذلك خلال الثورة، في أكثر من مناسبة، وما ادعاء تفجير “خلية الازمة” من قبل معارضين، وحصار حلب، والقصير، والغوطة، وتهجير حمص، وأخيرًا إدلب، إلا نماذج عمّا قلته.
يتم استدعاء الشاعر “مأمون الراجح” إلى مكتب غير معروف للمخابرات، ملحق بالقصر الجمهوري حيث يقابله خالد: مدير هذا المكتب، الذي يخبره أنه ضيف مكرّم في هذه الإدارة، ومحمي من قبلها، فاختصاصها القيام بأبحاث اجتماعية على علاقة بمجريات الأزمة الحالية وانعكاسها على حياة الناس.
في هذا اللقاء، يكشف خالد لضيفه الشاعر الدورَ الذي تلعبه أجهزة الأمن السورية، في خلق وتلميع أدباء حياديين أو “معارضين”، لاستخدامهم وقت الحاجة، وهو واحد منهم، فمنذ سنوات والأجهزة تتابعه ثقافيًا، وتفتح له الأبواب، وتسهل له النشر، وقد تم إقناعه بطريقة غير مباشرة بالاهتمام بمقالات الرأي. قال له خالد: “إعجابي بكم مبعثه كتاباتك في الصحف، فأنت كاتب مقالات متميزة”.
حاول الشاعر أن يقول إن شهرته سببها الحظ، ولكن خالدًا صحح له قائلًا: “الحظ لا يكون مبرمجًا، فقد جرى الاعتناء بتصديرك إلى الخارج، كما أنك لم تُنتقد، عندما لم تعلن موقفك من الأزمة. لقد اضطروا الى إسكات أطراف كثيرة، ومنعهم من التعريض بك والتحريض عليك. بالمناسبة.. لم تُمنع من السفر، أو تُستدع إلى التحقيق”.
يتابع خالد (ضابط الأمن المقرب من الرئيس) توصيف وضع الشاعر، في بلد لا يحتمل أي نوع من النقد، فيقول: “لم تحاول الجهة الأمنية المعنية التدخل في مقالاتك… كان ذكاء منك أنك لم تتطرق إلى موضوعات حساسة، أحسنتَ تجنبها”. وفي مكان آخر من حواره مع الشاعر، قال خالد: “بعض الأدباء يظنون أنهم مدينون بنجاحهم للعناية الإلهية، في حين أنهم مدينون لنا”.
أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أنني عمدت إلى استعراض موقف بعض الأدباء السوريين من أزمة بلدهم، كما عبّر عنها أبطال الرواية، وكيف تلاعبت بهم أجهزة الأمن، وقد أهملت بقية الشخصيات فيها. فما ينطبق على الأدباء يمكن أن ينطبق على كل شرائح المجتمع، ففي النشاطات الدينية جرى الأمر نفسه، وفي الأحزاب السياسة جرى ما يشبه ذلك، وفي فبركة التيارات الجهادية تم العمل على تسهيل مهامها، وفي الاقتصاد والجمعيات، وفي الجامعات، وغير ذلك.
بعد انتهائي من قراءة الرواية التي تتابع الحرب السورية، كتبتُ تعليقًا صغيرا في صحفتي الفيسبوكية، مفاده: انقضى أسبوع على قراءتي لرواية الأديب الكبير فواز حداد، وما زال طعمها تحت أضراسي. لقد جعلتني الرواية أعيش ويلات الشعب السوري، وأشاهد كيف أن البلد تتغير والحرب طردت الحياء. وأنا بعيد عن سورية منذ ثلاثين عامًا، بفضل إبداع أحد السوريين المميزين.
شكرًا فواز حداد.