بعد الاجترار المفرط لمفاهيم الكتابة والقراءة والتأويل والشعر في النقد الحداثي، ماذا عساي أن أقول في مدخل مقاربتي لمجموعة (ربما يحدق الجميع) للشاعر كريم جخيور الصادرة عن دار تموز 2012، بعد مجموعتيه (خارج السواد) 2006 و (الثعالب لا تقود إلى الورد) 2008؟. هل أجتر قولا نقديا يؤكد على أن الكتابة تأسيس للذات والعالم؟ وأتجاوز القراءة بوصفها حفرا في النص، وأجوبة لأسئلة تمارس أنوجادها في فضاء الاثارة والاستجابة؟ وأغادر التأويل بوصفه توريط القارئ في أكثر من قراءة، واستدعاء المعاني المؤجلة؟ وأثني على من قال: يبقى الشعر عصيا على التعريف بكل اشكاله الاستطرادية؟ سأتجاوز كل هذا الاجترار وأكتفي بمدخل تنظيري لقراءة المجموعة، كتبه الشاعر وتعمّد في وضعه على الغلاف الاخير للمجموعة، بوصفه موازيا نصيا، وموجها قرائيا ثانيا، تلا الموجه القرائي الأول (شعر) :
((وأنت تنطر إلى العالم من نافذة النثر
عليك أن تزيل عن جسد الكلملت الدمامل والفقاقيع
وتمنحها ما لم تملك من اكسير الحياة
فأنت لا تذهب مع دنيا ، مهما برعوا في تجميلها
إلى السرير حتى لو كان وثيرا
أن تكتب نثرا عليك أن تفطم الكلمات من ثدي القواميس
حينها ستشع وتبرق ويراها الناس
فلا تحتاج إلى بوق نحاس
او رواية الثغ
أن تكتب نثرا عليك أن تتثبت من قواميسك جيدا
فالطيور تهادن صيادها لحظة
ثم تكسر صمت المكان
وكلما كانت دانية عناقيد الكرم
فلا تقفطف منها إلا ما يرزيدك فتوة وصحوة وبهجة
وعليك ألا تذهب إلى وادي عبقر فما عاد صالحا لرعي الثيرأن المجنحة
عليك أن تقف وسط الريح مخضبا بالرؤيا
تنظر إلى شجرة وتتعلم منها درسا في الفصول )) ().
إن السعي إلى اقتراح خطاب يتشكل في وعي الأسئلة الشعرية بصورة مغايرة ومستفزة ، وهو يتغيّا التفرد، هو سعي كتابي بمزاج خاص، وغواية تمارس مكوثها في مجسات وحفريات التشكيل اللغوي للشعر، وعمقه المتوهج، بوصفه ممارسة تحتاج في ديناميتها إلى تحولات الترميز والتدليل، كي تؤسس وعيا تأويليا يتجاوز التبليغ أو الإبلاغ، ويستقرئ العلامات وأسرار العتمات التي تتركب منها، ، ليصل إلى كشوفاتها، وسيرورة سحرها. فمما لا شك أن النصوص المراوغة يتأبى المعنى القار على الأنوجاد فيها بصورته النهائية ، وتبقى تشكلاتها وتدليلاتها تنحاز إلى أنزياح لغتها لكثير من الرموز القلقة، وطاقات توتراتها العالية، وقراءاتها التي تتجاوز السائد والمألوف.
تنماز قصائد المجموعة بمهيمنات نصية اقترحتها القصائد، من مثل الايجاز والتكثيف والغيرية، والتكرار، فلم يعد ينشغل القارئ((إلا بالقصيدة ذاتها)) (), فضلا عن اللغة الخالية من التعقيد، التي تمنح القصيدة سلاستها، والاقفال الشعري الذي كثيرا ما يحدث في القارئ رعشة شعرية، والانزياح الذي يتكفل بالمسافة : فجوة التوتر ، والتناص لا سيما الموروث اليومي والحياتي، والمفارقات التي تمنح القصيدة طاقاتها وانفعالاتها ومغامراتها الجمالية. وسنسعى في هذه القراءة إلى تناول بعض هذه المهيمنات.
((لقد اتفق الرواة
وعلى اختلاف مشاربهم
ومدى قربهم من مقعد بيت المال
أن البلاشفة اذا دخلوا قرية
زادوها جمالا
وعلموا أطفالهم مفاتن الورد)) ().
بهذه اللغة السلسة يؤسس الشاعر لمسافة جمالية، تعتمد المستوى الاشاري أو الايحائي لتحقيق الانزياح من القار الى المتغير، فإذا كانت الآية القرانية ((قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون )) (), في دلالتها القارة في التفسير القرآني، والتي جاءت على لسان ملكة سبأ، تحكي لقومها عن أثر دخول ملوك بلد ما، أو الملوك الأجانب الفاتحين المتغلبين في أي بلد، إفساد أهله، وفرض الذلة عليهم، فإن المقطع الشعري الذي جاء باتفاق الرواة كلهم، وعلى اختلاف مشاربهم، يشكل متغيرا دلاليا يمتح من فائض المعنى، ومن هنا يبدأ كسر افق التوقع، إذ جعل الشاعر هؤلاء الرواة قريبين من بيت المال، وعند البحث عن فائض المعنى في العلامات (الرواة) (بيت المال) (البلاشفة) (القرية) (الجمال) (للاطفال) (الورد) نجد ان هذا التركيب الشعري قد احتوى على عتمة متخمة بالرموز ولأن (( طبيعة الإبداع الشعري وبنائيته الذهنية والجمالية المركبة والقائمة على المجاز والتخييل، هي التي تضع اليقين والمسلمات موضع تساؤل وتشكيك)) () فإن اللغة الشعرية تمظهر التشكيل وتخفي التدليل، تجعل من البنية السطحية حضورا ظاهرا، ومن البنية العميقة غيابا باطنا، وهذا ما فعله الشاعر كريم جخيور في هذه الجدلية التي توخت إعادة النظر في تشكيل الرموز ووحدتها او تضاداتها في شرعية التخييل وفض بكارة العتمة بالضوء القرائي ان جاز التعبير، وتتحدد شدة الضوء على وفق ثقافة القارئ وتعدد منابع قراءاته كما هو متعارف عليه. فالعلاقة بين الاضاءة والاعتام علاقة جدلية (( فمن جانب المبدع فهو يضيء مساحة ما في مقابل الاعتام على مساحة أخرى، ومن جهة القارء / الناقد / المؤول فهو يضيء على على جانب معتم، ومن جهة اخرى يعتم على جوانب أخرى لم يصل اليها الضوء، وبهذا تظل النصوص الابداعية بحاجة إلى اضاءات جديدة وكاشفة لعتمتها، مما يعني حاجتنا ياستمرار الى التأويل والتأويل المضاعف)) ()
وجاء الاقفال الشعري في بنائه الاسلوبي حراكا سحريا ، واشتغالا تقانيا، لإيصال القارئ الى ذروة ما يتغّاه النص، فـ((كما كان الشاعر حريصا على جذب المتلقي بكلمته الشعرية الأولى ويحاول شد وثاقه الفكري إليه ، فانه مدعو لان لا يفترق عن هذا المتلقي حتى يصلا سوية إلى نهاية المطاف خاتما في قلبه آخر إضاءة شعرية هي التي تكون الفيصل في الحكم على نجاح القائل في خلق التفاعل الشعوري بينه وبين الآخرين)) (). في قصيدته (ربما يحدق الجميع) التي حملت المجموعة عنوانها، تتوالى الاسئلة بصيغة سردية دون إجابات متمظهرة، إلا أن السؤال عن ميزان الحق استدعى من الشاعر إجابة، شكلت أقفالا شعريا مدهشا:
((زوجتي
دائما تسأل عن ميزان الحق
ولأنني رجل أخشى عاقبة الأمور
اشتريت لها ميزانا أنيقا
فقالت : وأين الحق؟
فرحت أدلّها على بنات آوى)) () .
وفي قصيدة (وحيدا يزدرد الحكاية/ مرثاة) تتكرر الاسئلة الشعرية / السردية الموجهة لرجل يمتلك الجنائن المعلقة، والكؤوس التي تتورد صحوا وندى، وجنود، وجواري، وعبيد، وعربات ملكية، وثيران مجنحة، وعشتار ملكية ....الخ. إلا أن المفارقة تكمن في كون هذا الرجل قد تجرد من كل هذه الملكيات التي استحوذ عليها كما يبدو، وبقي وحيدا يجتر المكوث على دكة الاسمنت وحيدا:
(( وبقيت وحيدا
تأكل قلبك دمامل الصدأ
تنظر إلى المارة
بعينين دامعتين
وهم يرمونك
بقشور الموز
وأعقاب السجائر)) ().
كما أنه سعى إلى توظيف التناص من منطلق الأندفاع نحو تركيب مجموعة من المكونات التناصية التي تمزج بين المرجعيات الاسلامية، والموروث اليومي في تشكيل نص شعري يجسد أكثر مناطق اشتغاله الشعري والمعرفي إثارة ، إذ يرسم بالشعر دائرة جذب وإغواء فيعمد إلى ترسيم التصاقات البنيات اللغوية عبر ما توفره تقانيات الإشتغال الشعري، فهو لم يستطع نفض غبار الواقع عن كلماته، فجاءت بعض قصائده بتناصات من الكلام اليومي السائر (مثلا) في أغلب الأحيان، وفي سبيل المثال لا الحصر :
((نحن الذين
تركنا الجمل بما حمل
وارتضينا السير
في قافلة الماشين الى سقر)) ().
و ((لهذا كلما مررت بنا
نقول :
إن الله جميل
ويحب الجمال)) ().
لقد شكل التكرار بوصفه تقانة اسلوبية تسعى الى تفجير البؤرة الدلالية لفظيا وايقاعيا، فرصة إمكانية قراءة التركيب التالي من اجل توكيد المعنى ، وتقديره في النفس، أو طول الفصل، او قصد الاستيعاب، او جهة التشويق والاستعذاب، او على جهة الوعيد والتهديد .... الخ () . والتكرار كما هو متعارف عليه بنية لغوية وسيميائية في الان نفسه تعمل على زيادة التوتر المفترض في بنية القصيدة ككل، فهو في حقيقته (( إلحاح على جهة هامة في العبارة يعنى بها الشاعر اكثر من عنايته بسواها ... يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها)) () من خلال التجانس الصوتي المتمظهر في الوحدات المختلفة مؤديا وظيفة (( الربط بين أجزاء القصيدة، فكأنه يعمل على توحيد أجزائها وتلاحمها، وهو بهذا يسهم في جعل القصيدة كلا موحدا)) (). وقد ورد تكرار اللازمة القبلية والبعدية في قصائد (بلاغة الريش) و (ربما يحدق الجميع) و(حامل رايات الجمر) و(خيانات كونية) و (أوراق) و (؟) (هذا هو انت) و (آلهة من حجر) . ونكتفي بأن نورد قصيدة (؟) تعزيزا لما قلناه:
(( لكل هذا البكاء
ضريح واحد لا يكفي
لكل هذا الالم
صرخة واحدة لا تكفي
ولكل هذا الانتظار
قادم واحد لا يكفي
لكل هذه التماثيل
فأس واحدة لا تكفي
لكل هؤلاء الجنرالات
حرب واحدة لا تكفي
ولكل هؤلاء الملوك
قرية واحدة لا تكفي
لكل هذا الجوع
سيف واحد لا يكفي
لكل هذا النعيب
غراب واحد لا يكفي
ولكل هذه الافاعي
عصا واحدة لا تكفي
لكل هذه المنافي
حقيبة واحدة لا تكفي
لكل هذا التيه
صحراء واحدة لا تكفي
لكل هذا الظمأ
قبلة واحدة لا تكفي
ولكل هذا
لكل هذا
شاعر واحد يكفي)) ().
ولعل اختيار الشاعر للتكرار الجملي ( لكل هذا .....) والتعبير عن لحظة شعرية تجاه ما يريد إخفائه جعله يلمحح مرارا؛ ليشهد التخفي لعبة شعرية في القصيدة كلها، ووقد عمل هذا التوهج الشعري على حفظ ذاته عبر كثير من الأسرار والغوايات. إلا ّأنّ الشاعر كريم جخيور – وهذا ما يجب تشخيصه - حين يكرر فهو يعمل على إضافة تتغيّا تكييف المتكرر وتلوينه، وتجاوز النمط الأوحد فيه، كي تتفرّع أشكاله، ويخرج المعنى المتكرّر في تركيبات متعدّدة.
في ختام القراءة لا بد من الإشارة إلى الأنوية والغيرية، إذ حتوت المجموعة على ثمان وثلاثين قصيدة، لم ترد الـ(أنا) إلا في تسع قصائد هي : ( قمري مضرج بالسواد) و(آلهة من حجر) و (كوميديا سوداء) و (ربما يحدق الجميع) و (أوراق) و (أقول الكون وأشير اليك) و ( انتظار) و (اكتفيت منك بالرضا) و (أخي جون)، ولو جعلنا النسبة والتناسب معيارا لكشف هيمنة احداهما على الأخرى لتبين لنا ان ما يقارب 75% من القصائد جاءت غيرية ، و25% جاءت أنوية، ومعظم القصائد الانوية جاءت بضمير الـ(أنا) على استحياء، فهو مستتر لأفعال مضارع أو ماضية مرة، وظاهر جاء بضمير متصل (ياء المتكلم) مرة أخرى، ولم يكن صارخا إلا في قصيدة (أخي جون) التي استهلها بأنوية حادة:
((جون أيها الأشقر
أنت لا تعرفني
أنا كريم جخيور، لي سبعة أقمار
وشمس لا تفقه غير نافذتي
ومراكب لم تركب، يوما
سوى متون الجمال)) ()............ص 56)) .
وإذا كانت الـ(أنا) ((تحيل إلى شخصية لها وجود حقيقي خارج النص، - وهي في الان نفسه – شخصية نصية بؤرية يتمركز حولها كل ما في النص ويدور في فلكها)) () فإن (الغيرية) تحيل الى مجهول، وهذه الاحالة تقود الى التعميم وليس التخصيص، وهو – حسب وجهة نظري المتواضعة - ما يمنح الشعر الانفعالي عقلنة تؤدي إلى تجريد قصيدة النثر من الغنائية، وتمنحها فرصة اكثر لاشتغال المتخيل الشعري الحر في توطين المغامرة الجمالية، وإدامتها بالانفتاح على هموم الواقع اليومي المعيش
د. جاسم خلف الياس
((وأنت تنطر إلى العالم من نافذة النثر
عليك أن تزيل عن جسد الكلملت الدمامل والفقاقيع
وتمنحها ما لم تملك من اكسير الحياة
فأنت لا تذهب مع دنيا ، مهما برعوا في تجميلها
إلى السرير حتى لو كان وثيرا
أن تكتب نثرا عليك أن تفطم الكلمات من ثدي القواميس
حينها ستشع وتبرق ويراها الناس
فلا تحتاج إلى بوق نحاس
او رواية الثغ
أن تكتب نثرا عليك أن تتثبت من قواميسك جيدا
فالطيور تهادن صيادها لحظة
ثم تكسر صمت المكان
وكلما كانت دانية عناقيد الكرم
فلا تقفطف منها إلا ما يرزيدك فتوة وصحوة وبهجة
وعليك ألا تذهب إلى وادي عبقر فما عاد صالحا لرعي الثيرأن المجنحة
عليك أن تقف وسط الريح مخضبا بالرؤيا
تنظر إلى شجرة وتتعلم منها درسا في الفصول )) ().
إن السعي إلى اقتراح خطاب يتشكل في وعي الأسئلة الشعرية بصورة مغايرة ومستفزة ، وهو يتغيّا التفرد، هو سعي كتابي بمزاج خاص، وغواية تمارس مكوثها في مجسات وحفريات التشكيل اللغوي للشعر، وعمقه المتوهج، بوصفه ممارسة تحتاج في ديناميتها إلى تحولات الترميز والتدليل، كي تؤسس وعيا تأويليا يتجاوز التبليغ أو الإبلاغ، ويستقرئ العلامات وأسرار العتمات التي تتركب منها، ، ليصل إلى كشوفاتها، وسيرورة سحرها. فمما لا شك أن النصوص المراوغة يتأبى المعنى القار على الأنوجاد فيها بصورته النهائية ، وتبقى تشكلاتها وتدليلاتها تنحاز إلى أنزياح لغتها لكثير من الرموز القلقة، وطاقات توتراتها العالية، وقراءاتها التي تتجاوز السائد والمألوف.
تنماز قصائد المجموعة بمهيمنات نصية اقترحتها القصائد، من مثل الايجاز والتكثيف والغيرية، والتكرار، فلم يعد ينشغل القارئ((إلا بالقصيدة ذاتها)) (), فضلا عن اللغة الخالية من التعقيد، التي تمنح القصيدة سلاستها، والاقفال الشعري الذي كثيرا ما يحدث في القارئ رعشة شعرية، والانزياح الذي يتكفل بالمسافة : فجوة التوتر ، والتناص لا سيما الموروث اليومي والحياتي، والمفارقات التي تمنح القصيدة طاقاتها وانفعالاتها ومغامراتها الجمالية. وسنسعى في هذه القراءة إلى تناول بعض هذه المهيمنات.
((لقد اتفق الرواة
وعلى اختلاف مشاربهم
ومدى قربهم من مقعد بيت المال
أن البلاشفة اذا دخلوا قرية
زادوها جمالا
وعلموا أطفالهم مفاتن الورد)) ().
بهذه اللغة السلسة يؤسس الشاعر لمسافة جمالية، تعتمد المستوى الاشاري أو الايحائي لتحقيق الانزياح من القار الى المتغير، فإذا كانت الآية القرانية ((قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون )) (), في دلالتها القارة في التفسير القرآني، والتي جاءت على لسان ملكة سبأ، تحكي لقومها عن أثر دخول ملوك بلد ما، أو الملوك الأجانب الفاتحين المتغلبين في أي بلد، إفساد أهله، وفرض الذلة عليهم، فإن المقطع الشعري الذي جاء باتفاق الرواة كلهم، وعلى اختلاف مشاربهم، يشكل متغيرا دلاليا يمتح من فائض المعنى، ومن هنا يبدأ كسر افق التوقع، إذ جعل الشاعر هؤلاء الرواة قريبين من بيت المال، وعند البحث عن فائض المعنى في العلامات (الرواة) (بيت المال) (البلاشفة) (القرية) (الجمال) (للاطفال) (الورد) نجد ان هذا التركيب الشعري قد احتوى على عتمة متخمة بالرموز ولأن (( طبيعة الإبداع الشعري وبنائيته الذهنية والجمالية المركبة والقائمة على المجاز والتخييل، هي التي تضع اليقين والمسلمات موضع تساؤل وتشكيك)) () فإن اللغة الشعرية تمظهر التشكيل وتخفي التدليل، تجعل من البنية السطحية حضورا ظاهرا، ومن البنية العميقة غيابا باطنا، وهذا ما فعله الشاعر كريم جخيور في هذه الجدلية التي توخت إعادة النظر في تشكيل الرموز ووحدتها او تضاداتها في شرعية التخييل وفض بكارة العتمة بالضوء القرائي ان جاز التعبير، وتتحدد شدة الضوء على وفق ثقافة القارئ وتعدد منابع قراءاته كما هو متعارف عليه. فالعلاقة بين الاضاءة والاعتام علاقة جدلية (( فمن جانب المبدع فهو يضيء مساحة ما في مقابل الاعتام على مساحة أخرى، ومن جهة القارء / الناقد / المؤول فهو يضيء على على جانب معتم، ومن جهة اخرى يعتم على جوانب أخرى لم يصل اليها الضوء، وبهذا تظل النصوص الابداعية بحاجة إلى اضاءات جديدة وكاشفة لعتمتها، مما يعني حاجتنا ياستمرار الى التأويل والتأويل المضاعف)) ()
وجاء الاقفال الشعري في بنائه الاسلوبي حراكا سحريا ، واشتغالا تقانيا، لإيصال القارئ الى ذروة ما يتغّاه النص، فـ((كما كان الشاعر حريصا على جذب المتلقي بكلمته الشعرية الأولى ويحاول شد وثاقه الفكري إليه ، فانه مدعو لان لا يفترق عن هذا المتلقي حتى يصلا سوية إلى نهاية المطاف خاتما في قلبه آخر إضاءة شعرية هي التي تكون الفيصل في الحكم على نجاح القائل في خلق التفاعل الشعوري بينه وبين الآخرين)) (). في قصيدته (ربما يحدق الجميع) التي حملت المجموعة عنوانها، تتوالى الاسئلة بصيغة سردية دون إجابات متمظهرة، إلا أن السؤال عن ميزان الحق استدعى من الشاعر إجابة، شكلت أقفالا شعريا مدهشا:
((زوجتي
دائما تسأل عن ميزان الحق
ولأنني رجل أخشى عاقبة الأمور
اشتريت لها ميزانا أنيقا
فقالت : وأين الحق؟
فرحت أدلّها على بنات آوى)) () .
وفي قصيدة (وحيدا يزدرد الحكاية/ مرثاة) تتكرر الاسئلة الشعرية / السردية الموجهة لرجل يمتلك الجنائن المعلقة، والكؤوس التي تتورد صحوا وندى، وجنود، وجواري، وعبيد، وعربات ملكية، وثيران مجنحة، وعشتار ملكية ....الخ. إلا أن المفارقة تكمن في كون هذا الرجل قد تجرد من كل هذه الملكيات التي استحوذ عليها كما يبدو، وبقي وحيدا يجتر المكوث على دكة الاسمنت وحيدا:
(( وبقيت وحيدا
تأكل قلبك دمامل الصدأ
تنظر إلى المارة
بعينين دامعتين
وهم يرمونك
بقشور الموز
وأعقاب السجائر)) ().
كما أنه سعى إلى توظيف التناص من منطلق الأندفاع نحو تركيب مجموعة من المكونات التناصية التي تمزج بين المرجعيات الاسلامية، والموروث اليومي في تشكيل نص شعري يجسد أكثر مناطق اشتغاله الشعري والمعرفي إثارة ، إذ يرسم بالشعر دائرة جذب وإغواء فيعمد إلى ترسيم التصاقات البنيات اللغوية عبر ما توفره تقانيات الإشتغال الشعري، فهو لم يستطع نفض غبار الواقع عن كلماته، فجاءت بعض قصائده بتناصات من الكلام اليومي السائر (مثلا) في أغلب الأحيان، وفي سبيل المثال لا الحصر :
((نحن الذين
تركنا الجمل بما حمل
وارتضينا السير
في قافلة الماشين الى سقر)) ().
و ((لهذا كلما مررت بنا
نقول :
إن الله جميل
ويحب الجمال)) ().
لقد شكل التكرار بوصفه تقانة اسلوبية تسعى الى تفجير البؤرة الدلالية لفظيا وايقاعيا، فرصة إمكانية قراءة التركيب التالي من اجل توكيد المعنى ، وتقديره في النفس، أو طول الفصل، او قصد الاستيعاب، او جهة التشويق والاستعذاب، او على جهة الوعيد والتهديد .... الخ () . والتكرار كما هو متعارف عليه بنية لغوية وسيميائية في الان نفسه تعمل على زيادة التوتر المفترض في بنية القصيدة ككل، فهو في حقيقته (( إلحاح على جهة هامة في العبارة يعنى بها الشاعر اكثر من عنايته بسواها ... يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها)) () من خلال التجانس الصوتي المتمظهر في الوحدات المختلفة مؤديا وظيفة (( الربط بين أجزاء القصيدة، فكأنه يعمل على توحيد أجزائها وتلاحمها، وهو بهذا يسهم في جعل القصيدة كلا موحدا)) (). وقد ورد تكرار اللازمة القبلية والبعدية في قصائد (بلاغة الريش) و (ربما يحدق الجميع) و(حامل رايات الجمر) و(خيانات كونية) و (أوراق) و (؟) (هذا هو انت) و (آلهة من حجر) . ونكتفي بأن نورد قصيدة (؟) تعزيزا لما قلناه:
(( لكل هذا البكاء
ضريح واحد لا يكفي
لكل هذا الالم
صرخة واحدة لا تكفي
ولكل هذا الانتظار
قادم واحد لا يكفي
لكل هذه التماثيل
فأس واحدة لا تكفي
لكل هؤلاء الجنرالات
حرب واحدة لا تكفي
ولكل هؤلاء الملوك
قرية واحدة لا تكفي
لكل هذا الجوع
سيف واحد لا يكفي
لكل هذا النعيب
غراب واحد لا يكفي
ولكل هذه الافاعي
عصا واحدة لا تكفي
لكل هذه المنافي
حقيبة واحدة لا تكفي
لكل هذا التيه
صحراء واحدة لا تكفي
لكل هذا الظمأ
قبلة واحدة لا تكفي
ولكل هذا
لكل هذا
شاعر واحد يكفي)) ().
ولعل اختيار الشاعر للتكرار الجملي ( لكل هذا .....) والتعبير عن لحظة شعرية تجاه ما يريد إخفائه جعله يلمحح مرارا؛ ليشهد التخفي لعبة شعرية في القصيدة كلها، ووقد عمل هذا التوهج الشعري على حفظ ذاته عبر كثير من الأسرار والغوايات. إلا ّأنّ الشاعر كريم جخيور – وهذا ما يجب تشخيصه - حين يكرر فهو يعمل على إضافة تتغيّا تكييف المتكرر وتلوينه، وتجاوز النمط الأوحد فيه، كي تتفرّع أشكاله، ويخرج المعنى المتكرّر في تركيبات متعدّدة.
في ختام القراءة لا بد من الإشارة إلى الأنوية والغيرية، إذ حتوت المجموعة على ثمان وثلاثين قصيدة، لم ترد الـ(أنا) إلا في تسع قصائد هي : ( قمري مضرج بالسواد) و(آلهة من حجر) و (كوميديا سوداء) و (ربما يحدق الجميع) و (أوراق) و (أقول الكون وأشير اليك) و ( انتظار) و (اكتفيت منك بالرضا) و (أخي جون)، ولو جعلنا النسبة والتناسب معيارا لكشف هيمنة احداهما على الأخرى لتبين لنا ان ما يقارب 75% من القصائد جاءت غيرية ، و25% جاءت أنوية، ومعظم القصائد الانوية جاءت بضمير الـ(أنا) على استحياء، فهو مستتر لأفعال مضارع أو ماضية مرة، وظاهر جاء بضمير متصل (ياء المتكلم) مرة أخرى، ولم يكن صارخا إلا في قصيدة (أخي جون) التي استهلها بأنوية حادة:
((جون أيها الأشقر
أنت لا تعرفني
أنا كريم جخيور، لي سبعة أقمار
وشمس لا تفقه غير نافذتي
ومراكب لم تركب، يوما
سوى متون الجمال)) ()............ص 56)) .
وإذا كانت الـ(أنا) ((تحيل إلى شخصية لها وجود حقيقي خارج النص، - وهي في الان نفسه – شخصية نصية بؤرية يتمركز حولها كل ما في النص ويدور في فلكها)) () فإن (الغيرية) تحيل الى مجهول، وهذه الاحالة تقود الى التعميم وليس التخصيص، وهو – حسب وجهة نظري المتواضعة - ما يمنح الشعر الانفعالي عقلنة تؤدي إلى تجريد قصيدة النثر من الغنائية، وتمنحها فرصة اكثر لاشتغال المتخيل الشعري الحر في توطين المغامرة الجمالية، وإدامتها بالانفتاح على هموم الواقع اليومي المعيش
د. جاسم خلف الياس