كلما قرأت أكثر اكتشفت أنني لا أعرف إلّا أقل القليل . وكلما قرأت أكثر وأكثر ونوّعت في قراءاتي لغير كاتب أعدت النظر في أحكام أرددها أحياناً كأنها خاتمة القول أو كأنها قول جهينة التي قطعت قول كل خطيب . والقراءة هي التي تجعلني أسخر من نفسي ومن المثل العربي . وهي التي تجعلني ، هذه الأيام ، أكرر مقولة نقدية قالها التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي وهي أنه " ما من قراءة نهائية لنص ، فالمنعطفات التاريخية تجعلنا نفسر النصوص تفسيرا ً جديدا ً.
قبل أسابيع كنت أقرأ كتاب غسان كنفاني " فارس ..فارس " ( 1998 ) وسيجعلني أعيد النظر في الدراسات التي تناولت السخرية في الأدب الفلسطيني . كان غسان كاتب مقالة تتميز بالسخرية ، ولم تبرز السخرية في نصوصه القصصية والروائية والمسرحية ، ما جعل الدارسين لا يلتفتون إليه وهم يدرسون السخرية في الأدب الفلسطيني : فاروق وادي ، وسلمى الخضراء الجيوسي . وحين يقرأ المرء " فارس ..فارس " له ، فسيعيد النظر في أحكام الدارسين .
والأسبوع المنصرم ، وتحديدا بعد موت أمي ، أخذت أفكر في صورة الأم في أدبنا . ربما التفتنا إلى " أم سعد " في رواية غسان كنفاني " أم سعد " ، ومن المؤكد أننا لم ننس ، منذ عقود ، قصيدة درويش " أحن إلى خبز أمّي " و" تعاليم حوريّة " . هل أبالغ حين أزعم أن " تعاليم حوريّة " هي الأكثر مساسا ًلشغاف القلب من قصائد وطنية كثيرة لدرويش . وسيقودني التفكير بصورة الأم في أدبنا إلى " كتاب حمدة " لمحمد القيسي الذي توفي في آب من العام 2003 . كل آب أتذكره ، وقد أكتب مقالة عنه وعن المرحوم د . إحسان عباس ، وقد لا أكتب . هذا العام تذكرت حمدة والدة القيسي ، وكتابها ليس موجوداً في مكتبتي / لكن كتاب القيسي " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " (1997) يجثو على رفوفها - أي رفوف مكتبتي ، ولا أظن أنني قرأته من قبل . مثل كتب نشتريها لنقرأها ، ثم تأخذنا الأيام وتشغلنا كتب أخرى فنقرأها ولا نلتفت إلى كتب اقتنيناها من قبل .
ولأنني أعرف محمد القيسي شخصياً ، فقد صادقته في العامين 1980 و 1982 ، ولم ألتق ِ به منذ ذلك الحين ، فإنني أُتابع أخباره وما يكتب عنه . كنت أتابع أخباره قبل وفاته ، ومازلت أتابع ما يُكتب عنه . وثمة كلام كثير قيل عنه منه أنه جوال فلسطين ومغنيها . شاعر صعلوك شاعر مزاجي . عاشق للمرأة . لا يكترث كثيراً للعائلة . و ...و ... وأطرف ما سمعته كان من " أبو زياد " .
أبو زياد لاجئ فلسطيني من مخيم الجلزون . التقيت به في أيار من هذا العام في المعهد الوطني لأمراض السكري ، وقد تجاذبنا أطراف الحديث لساعة أو يزيد وأتينا فيها على ذكر القيسي ووالدته حمدة ، وعلى زيارة القيسي ، بعد ( أوسلو ) ، لمخيم الجلزون .
هل يجوز لي أن اكتب ما قاله لي أبو زياد ؟ ( وأنا أقرأ عن طفولة القيسي تذكرت ما نشرته في " الفجر " 1979 عن طفولة المخيم ) .
سأنفق يومين وانا أقرأ كتاب محمد القيسي " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " .
هل كان موت أُمّي هو ما ذكّرني بالقيسي وأُمّه حمدة ؟
لماذا تذكرت " أم سعد" ولم أتذكر "حمدة " ؟ ولولا موت أُمّي ، ربما ما تذكّرت حمدة .
حين يكتب المرء عن الأم في الأدب الفلسطيني لا بد من قراءة محمد القيسي أيضا ، إذ لا تكتمل الصورة دون ذلك .
وأنا أقرأ في " كتاب الابن " أثرت أسئلة عديدة أبرزها :
- لماذا لم يشع كتاب القيسي هذا وينتشر؟ - لماذا لم تعد وزارة الثقافة في فلسطين طباعته وتوزعه كما وزعت " البئر الأولى " لجبرا إبراهيم جبرا ، بخاصة في ذكرى النكبة واللجوء . وكثيرة هي الكتب التي أتت على النكبة ومنها "رجال في الشمس" و " ماء السماء و " العشاق " . ومن قصص سميرة عزام " الساعة والإنسان " و " دروب جميلة " لأكرم هنية ، وروايات حسن حميد . وسيكتب عن تجربة مشابهة رسمي أبو علي في " الطريق إلى بيت لحم " .
- ولماذا لم يلتفت الدارسون بما فيه الكفاية لهذه الكتب ؟ لماذا لم يترجم بعضها إلى الإنجليزية ولغات أخرى ؟
" كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " هو كتاب سيري للكاتب . حقا إنه لم يكتب على غلافه عبارة " سيرة ذاتية " ، ولكنه كتب : " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " ، فالكتاب هو سيرة ذاتية لمرحلة من حياة القيسي هي حياته في قريته كفر عانة ( 1948 ) ومخيم الجلزون . إنه يروي عن طفولته وشبابه ويكاد يتوقف أمام العام 1967. لولا إشاراته المتكررة إلى زمن الكتابة : نهاية ثمانينات ق 20 وبداية تسعينيات ق 20 . وهذه الإشارات لما كان عليه في الزمن الكتابي لا تشغل حيزا من الكتاب الذي وقع في مائتين وعشر صفحات من الحجم المتوسط .
وسيكتب القيسي في كتابه عن أمّه حمدة . هل كانت حياتها أقل قسوة من حياة " أم سعد " في رواية كنفاني؟
لن يتردد القارئ بالقول : لا ، فحياتها أقسى بكثير من حياة " أم سعد " . موت الرجل في العام 1948، وموت ابنتيها : زكية وبهية ، ثم ..ثم عملها في البيوت خادمة لتعيل ابنها وبناتها .
هل كان القيسي يمرّ على مخيم الجلزون ، بعد 1993 ، مرور الكرام لحبه حمدة التي لا يريد أن يتذكر عملها خادمة لتربيته ؟
ربما يجيب أبو زياد عن هذا السؤال ، غير أن القيسي في " سيرة الطرد والمكان " يجيب عن هذا ، لكنه يجيب وهو جالس وحيدا في الرصيفة يكتب ، فلا يراه أحد من أهل الجلزون ، ولا يرى أحداً ، وإذا ما كتب فقد لا يقرأ أي لاجئ في الجلزون كتابه ؟ ربما سيقرأه زياد خداش فقط .
وسيصر القيسي في كتابه على أنه يكرر الكتابة عن فترة حياة الجلزون وعن أمّه ، وسيتساءل :
- لماذا؟
ألأنه يريد أن يتطهر ؟ ألأنه يريد أن يجعل من حياته مثالا ً لحياة اللاجئ الفلسطيني ؟ حتى العام 1982 لم أعرف القيسي إلا شاعراً ، شاعرا ًصعلوكاً في شوارع عمان ومقاهيها ، وسأتصعلك معه أنا وفخري صالح وحسان أبو غنيمة والوحيد الذي كان متزوجا هو القيسي ، ونحن كنا عزاباً . كأن هناك قطيعة بين القيسي والبيت والعائلة .
في كتابه " كتاب الابن " سيوضح الكاتب سبب كراهيته للسقف . إن السقف هو سقف بيته في المخيم ، ولهذا انطلق في الدنيا كالمهر ، وإذا كانت حوريّة أم محمود درويش في " تعالم حوريّة " هي من أوصته بهذا ، فإن سقف الزينكو الزيتي في المخيم ، السقف الواطي ، هو الذي كرّه الشاعر بالبيوت والغرف الضيقة ، وجعله يحب الشوارع والمقاهي والسفر والترحال .
إن " كتاب الابن " يجيب متأخرا ً عن أسئلة كانت تراودني مبكراً . وسأزور بيت القيسي في شتاء العام 1981 ، وسأظل ساهرا فيه ، بصحبة فخري صالح وحسان أبو غنيمة ، حتى ساعات الفجر .
في " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " لا يقرأ المرء عن نكبة 1948 وحسب ، عن سنوات اللجوء الأولى ، عن طفولة القيسي وعن حبه الأول وقصيدته الأولى وعلاقته برام الله ، عن صعلكته وزعرنته – كما كتب هو الذي كان يحمل " موس الكبّاس " في جيبه ويهدّد به من يختلف معه – وإنما يكتب القيسي عن أسلوبه في الكتابة .
في مقالتي " غسان كنفاني : فارس .. فارس "( الأيام"10/7/2011 ) أتيت على جانب مهم من كتابة المقالة لدى غسان وهو البعد المعروفي فيها ، فهي مقالة لا تخلو من إشارات لكتب وقصص وروايات وأمثال شعبية ، بل وحكايات شعبية ، وسأعرف وأنا أقرأ كتاب القيسي أن جبرا إبراهيم جبرا له باع في هذا الأمر ، فقد أشار القيسي إلى مقالات جبرا وإثرائه لها برموز ثقافية وأسطورية عالمية ، وقد سار هو على نهجه ، فكتاب القيسي " كتاب الابن " يحفل بالإشارات إلى الرموز الإنسانية وبالقصص التراثية كقصة الطائر الأخضر ، ولا تختلف روايته " الحديقة السرية " ( 2002 ) عن هذا . من بدأ هذا الأسلوب في أدبنا : هل هو جبرا إبراهيم جبرا أم غسان كنفاني أم إميل حبيبي؟ ربما احتاج الأمر إلى حفر ، وإلى إعادة قراءة لهؤلاء الثلاثة ، وهو أسلوب سيواصله خيري منصور وفاورق وادي وآخرون .
وسيفتح " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " سؤال إشكالية الشاعر الروائي في أدبنا على مصراعيه . مؤخرا ً اقترحت على أحد طلابي الكتابة في الموضوع . كم من شاعر تحول إلى كتابة الرواية ؟ محمد العدناني وهارون هاشم رشيد وسميح القاسم وعلي الخليلي وإبراهيم نصر الله ويوسف الخطيب وزكريا محمد و ... و ... وهم كثر ويصعب عدهم . والقضية لم تعد تقف أمام الشاعر /الروائي ، فهي تحيلنا إلى قضية الشعر / النثر ، ولمحمود درويش ومعين بسيسو ، ومؤخرا مريد البرغوثي ، لهؤلاء باع طويل متميز في هذا الشأن .
وأخيراً ً وليس آخرا ًسيفتح " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " سؤال رثاء الأقارب في أدبنا : من فدوى طوقان ومحمود درويش إلى مريد البرغوثي ومحمود شقير، ومن قبله : محمد القيسي .
أ . د. عادل الأسطة
- ( نُشرت في الأيام بتاريخ 31/7/2011 )
قبل أسابيع كنت أقرأ كتاب غسان كنفاني " فارس ..فارس " ( 1998 ) وسيجعلني أعيد النظر في الدراسات التي تناولت السخرية في الأدب الفلسطيني . كان غسان كاتب مقالة تتميز بالسخرية ، ولم تبرز السخرية في نصوصه القصصية والروائية والمسرحية ، ما جعل الدارسين لا يلتفتون إليه وهم يدرسون السخرية في الأدب الفلسطيني : فاروق وادي ، وسلمى الخضراء الجيوسي . وحين يقرأ المرء " فارس ..فارس " له ، فسيعيد النظر في أحكام الدارسين .
والأسبوع المنصرم ، وتحديدا بعد موت أمي ، أخذت أفكر في صورة الأم في أدبنا . ربما التفتنا إلى " أم سعد " في رواية غسان كنفاني " أم سعد " ، ومن المؤكد أننا لم ننس ، منذ عقود ، قصيدة درويش " أحن إلى خبز أمّي " و" تعاليم حوريّة " . هل أبالغ حين أزعم أن " تعاليم حوريّة " هي الأكثر مساسا ًلشغاف القلب من قصائد وطنية كثيرة لدرويش . وسيقودني التفكير بصورة الأم في أدبنا إلى " كتاب حمدة " لمحمد القيسي الذي توفي في آب من العام 2003 . كل آب أتذكره ، وقد أكتب مقالة عنه وعن المرحوم د . إحسان عباس ، وقد لا أكتب . هذا العام تذكرت حمدة والدة القيسي ، وكتابها ليس موجوداً في مكتبتي / لكن كتاب القيسي " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " (1997) يجثو على رفوفها - أي رفوف مكتبتي ، ولا أظن أنني قرأته من قبل . مثل كتب نشتريها لنقرأها ، ثم تأخذنا الأيام وتشغلنا كتب أخرى فنقرأها ولا نلتفت إلى كتب اقتنيناها من قبل .
ولأنني أعرف محمد القيسي شخصياً ، فقد صادقته في العامين 1980 و 1982 ، ولم ألتق ِ به منذ ذلك الحين ، فإنني أُتابع أخباره وما يكتب عنه . كنت أتابع أخباره قبل وفاته ، ومازلت أتابع ما يُكتب عنه . وثمة كلام كثير قيل عنه منه أنه جوال فلسطين ومغنيها . شاعر صعلوك شاعر مزاجي . عاشق للمرأة . لا يكترث كثيراً للعائلة . و ...و ... وأطرف ما سمعته كان من " أبو زياد " .
أبو زياد لاجئ فلسطيني من مخيم الجلزون . التقيت به في أيار من هذا العام في المعهد الوطني لأمراض السكري ، وقد تجاذبنا أطراف الحديث لساعة أو يزيد وأتينا فيها على ذكر القيسي ووالدته حمدة ، وعلى زيارة القيسي ، بعد ( أوسلو ) ، لمخيم الجلزون .
هل يجوز لي أن اكتب ما قاله لي أبو زياد ؟ ( وأنا أقرأ عن طفولة القيسي تذكرت ما نشرته في " الفجر " 1979 عن طفولة المخيم ) .
سأنفق يومين وانا أقرأ كتاب محمد القيسي " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " .
هل كان موت أُمّي هو ما ذكّرني بالقيسي وأُمّه حمدة ؟
لماذا تذكرت " أم سعد" ولم أتذكر "حمدة " ؟ ولولا موت أُمّي ، ربما ما تذكّرت حمدة .
حين يكتب المرء عن الأم في الأدب الفلسطيني لا بد من قراءة محمد القيسي أيضا ، إذ لا تكتمل الصورة دون ذلك .
وأنا أقرأ في " كتاب الابن " أثرت أسئلة عديدة أبرزها :
- لماذا لم يشع كتاب القيسي هذا وينتشر؟ - لماذا لم تعد وزارة الثقافة في فلسطين طباعته وتوزعه كما وزعت " البئر الأولى " لجبرا إبراهيم جبرا ، بخاصة في ذكرى النكبة واللجوء . وكثيرة هي الكتب التي أتت على النكبة ومنها "رجال في الشمس" و " ماء السماء و " العشاق " . ومن قصص سميرة عزام " الساعة والإنسان " و " دروب جميلة " لأكرم هنية ، وروايات حسن حميد . وسيكتب عن تجربة مشابهة رسمي أبو علي في " الطريق إلى بيت لحم " .
- ولماذا لم يلتفت الدارسون بما فيه الكفاية لهذه الكتب ؟ لماذا لم يترجم بعضها إلى الإنجليزية ولغات أخرى ؟
" كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " هو كتاب سيري للكاتب . حقا إنه لم يكتب على غلافه عبارة " سيرة ذاتية " ، ولكنه كتب : " كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان " ، فالكتاب هو سيرة ذاتية لمرحلة من حياة القيسي هي حياته في قريته كفر عانة ( 1948 ) ومخيم الجلزون . إنه يروي عن طفولته وشبابه ويكاد يتوقف أمام العام 1967. لولا إشاراته المتكررة إلى زمن الكتابة : نهاية ثمانينات ق 20 وبداية تسعينيات ق 20 . وهذه الإشارات لما كان عليه في الزمن الكتابي لا تشغل حيزا من الكتاب الذي وقع في مائتين وعشر صفحات من الحجم المتوسط .
وسيكتب القيسي في كتابه عن أمّه حمدة . هل كانت حياتها أقل قسوة من حياة " أم سعد " في رواية كنفاني؟
لن يتردد القارئ بالقول : لا ، فحياتها أقسى بكثير من حياة " أم سعد " . موت الرجل في العام 1948، وموت ابنتيها : زكية وبهية ، ثم ..ثم عملها في البيوت خادمة لتعيل ابنها وبناتها .
هل كان القيسي يمرّ على مخيم الجلزون ، بعد 1993 ، مرور الكرام لحبه حمدة التي لا يريد أن يتذكر عملها خادمة لتربيته ؟
ربما يجيب أبو زياد عن هذا السؤال ، غير أن القيسي في " سيرة الطرد والمكان " يجيب عن هذا ، لكنه يجيب وهو جالس وحيدا في الرصيفة يكتب ، فلا يراه أحد من أهل الجلزون ، ولا يرى أحداً ، وإذا ما كتب فقد لا يقرأ أي لاجئ في الجلزون كتابه ؟ ربما سيقرأه زياد خداش فقط .
وسيصر القيسي في كتابه على أنه يكرر الكتابة عن فترة حياة الجلزون وعن أمّه ، وسيتساءل :
- لماذا؟
ألأنه يريد أن يتطهر ؟ ألأنه يريد أن يجعل من حياته مثالا ً لحياة اللاجئ الفلسطيني ؟ حتى العام 1982 لم أعرف القيسي إلا شاعراً ، شاعرا ًصعلوكاً في شوارع عمان ومقاهيها ، وسأتصعلك معه أنا وفخري صالح وحسان أبو غنيمة والوحيد الذي كان متزوجا هو القيسي ، ونحن كنا عزاباً . كأن هناك قطيعة بين القيسي والبيت والعائلة .
في كتابه " كتاب الابن " سيوضح الكاتب سبب كراهيته للسقف . إن السقف هو سقف بيته في المخيم ، ولهذا انطلق في الدنيا كالمهر ، وإذا كانت حوريّة أم محمود درويش في " تعالم حوريّة " هي من أوصته بهذا ، فإن سقف الزينكو الزيتي في المخيم ، السقف الواطي ، هو الذي كرّه الشاعر بالبيوت والغرف الضيقة ، وجعله يحب الشوارع والمقاهي والسفر والترحال .
إن " كتاب الابن " يجيب متأخرا ً عن أسئلة كانت تراودني مبكراً . وسأزور بيت القيسي في شتاء العام 1981 ، وسأظل ساهرا فيه ، بصحبة فخري صالح وحسان أبو غنيمة ، حتى ساعات الفجر .
في " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " لا يقرأ المرء عن نكبة 1948 وحسب ، عن سنوات اللجوء الأولى ، عن طفولة القيسي وعن حبه الأول وقصيدته الأولى وعلاقته برام الله ، عن صعلكته وزعرنته – كما كتب هو الذي كان يحمل " موس الكبّاس " في جيبه ويهدّد به من يختلف معه – وإنما يكتب القيسي عن أسلوبه في الكتابة .
في مقالتي " غسان كنفاني : فارس .. فارس "( الأيام"10/7/2011 ) أتيت على جانب مهم من كتابة المقالة لدى غسان وهو البعد المعروفي فيها ، فهي مقالة لا تخلو من إشارات لكتب وقصص وروايات وأمثال شعبية ، بل وحكايات شعبية ، وسأعرف وأنا أقرأ كتاب القيسي أن جبرا إبراهيم جبرا له باع في هذا الأمر ، فقد أشار القيسي إلى مقالات جبرا وإثرائه لها برموز ثقافية وأسطورية عالمية ، وقد سار هو على نهجه ، فكتاب القيسي " كتاب الابن " يحفل بالإشارات إلى الرموز الإنسانية وبالقصص التراثية كقصة الطائر الأخضر ، ولا تختلف روايته " الحديقة السرية " ( 2002 ) عن هذا . من بدأ هذا الأسلوب في أدبنا : هل هو جبرا إبراهيم جبرا أم غسان كنفاني أم إميل حبيبي؟ ربما احتاج الأمر إلى حفر ، وإلى إعادة قراءة لهؤلاء الثلاثة ، وهو أسلوب سيواصله خيري منصور وفاورق وادي وآخرون .
وسيفتح " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " سؤال إشكالية الشاعر الروائي في أدبنا على مصراعيه . مؤخرا ً اقترحت على أحد طلابي الكتابة في الموضوع . كم من شاعر تحول إلى كتابة الرواية ؟ محمد العدناني وهارون هاشم رشيد وسميح القاسم وعلي الخليلي وإبراهيم نصر الله ويوسف الخطيب وزكريا محمد و ... و ... وهم كثر ويصعب عدهم . والقضية لم تعد تقف أمام الشاعر /الروائي ، فهي تحيلنا إلى قضية الشعر / النثر ، ولمحمود درويش ومعين بسيسو ، ومؤخرا مريد البرغوثي ، لهؤلاء باع طويل متميز في هذا الشأن .
وأخيراً ً وليس آخرا ًسيفتح " كتاب الابن :سيرة الطرد والمكان " سؤال رثاء الأقارب في أدبنا : من فدوى طوقان ومحمود درويش إلى مريد البرغوثي ومحمود شقير، ومن قبله : محمد القيسي .
أ . د. عادل الأسطة
- ( نُشرت في الأيام بتاريخ 31/7/2011 )