شوقي بغدادي - الكاهنة.. نازك الملائكة، قضية الشعر العربي المعاصر

أبداً، لا نتعود على الموت. يظل مفاجأة باستمرار، حتى ولو كان الشخص العزيز على فراش المرض القاتل منذ سنوات فكيف إذا كان اسمه نازك الملائكة؟!.

يغدو الموت جريمة حين يقترب من مثل هذه الأسماء اللطيفة التي كانت تعزّينا بصوتها الرقيق المرتعش، من لذة الشعر أن بؤسنا ليس ثقيلا الى الحد الذي كنا نتصوره ما دام هناك شعر مُنعش الى هذا الحد الخارق.

أذكرها الآن بكل جوارحي. منذ ستين عاماً وأنا في ريعان العمر أقارب ما يهب على البلاد من نسمات شرقية آتية من صوب العراق، لم يكن يدهشني اسم مثل اسم نازك الملائكة. كان لجيلنا من المؤمنين بآلهة الشِعر ان هذا الاسم أشبه ما يكون لكاهنة بُعثت حية في معبد سومري عتيق، جاءت كي تعلمنا صلوات الحب، والجمال والحزن، وبالتالي الفرح بالحياة وأن فيها محطات استراحة بهذه الروعة تأخذنا إليها كلما ضاقت بنا سُبل العيش.

وازداد إيماني بها أعمق فأعمق حين اجتمعت بها عام 1957 في مؤتمر الأدباء العرب في القاهرة. وكنا معا نزلاء في فندق واحد اسمه على ما أذكر سميراميس على شاطئ النيل.

كانت لا تتكلم كثيراً، فإذا فعلت ارتعش جسدها مع كل كلمة كانت تنطق بها، فإذا بالحاضرين يصمتون لا لشيء سوى أنهم شعروا أنهم فقدوا القدرة على الكلام أمام كاهنة الحب والشِعر. وحين كان يأتي دورها للإلقاء في مهرجان الشعر كانت تبدو كمن يوشك ان يتحول الى طيف يهم بالطيران بعيداً، غير أنه يبدو في الوقت ذاته مرتعدا كأنه فرخ في تجربته الأولى للطيران.

لم يكن بين الحاضرين، نساء ورجالاً، امرأة من هذا النوع العجيب. كنا جميعا نبدو عاديين إلا في ساعات معينة متوهجة بنيران الشِعر، إلا نازك فقد كانت تبدو باستمرار امرأة غير عادية في جلوسها، وحريتها، وحركاتها، وعلى الكلام أو في مرابع التسلية التي كانوا يأخذونها إليها أحيانا.

أين هي نازك؟… هكذا كان أصحابها يسألون كلما غابت، فإذا حضرت سكتوا كأن كل شيء قد حضر معها.

لم يكن شِعرها وحده السبب في حضورها الرهيف وإنما في الهالة التي كانت تحيط بشخصها. وحين كنا نتناقش في أمور الشِعر كانت تصغي طويلا، فإذا شاركت بدا أن ليس ثمة مشكلة نختلف حولها ما دام هناك امرأة مؤمنة بما تقوله الى هذا الحد.

ماتت إذن نازك الملائكة. فماذا على الملائكة ان يصنعوا الآن كي يقنعوني ان الدنيا بخير، وأن الشعر العربي في صحة جيدة، وأنه ما يزال ديوان العرب؟!

ليكن الله في عوننا كي نتعود على مواجهة الركاكة والغثاثة قبل ان يلتحق من تبقى من رموز الجمال وهم قلة بنازك الملائكة…

***
عن:
أعلى