القاص #ناصر_الجاسم في مجموعته تلك تُسرد الأحداث داخل سور تم تشييده سلفاً بعيداً عن التكوينات الاجتماعية مدنية كانت أم حضارية، وذلك من خلال ما يعرف بالتجاوز الأسطوري بين "الجنية" كوجود غيبي معني بخلق الرعب في وجدان الخيال الجمعي وعند استلهام مضمونية الفعل لـ "عشتروت" تلك الأسطورة الكنعنانية "أخت بعل" التي نزلت من جبل صافون لتخوض بدم ضحاياها. وبالمقابل نجد:
"الجنية التي سكنت قاع النبع منذ انشقاقه وصارت تختار ضحاياها من السابحين والسابحات لتتلبسهم"
والتقابل يتمثل في خروج الدم:
"شققتُ جلدي بشريحة زجاجية فنزف دمي وفشلت في إخراج الجنية" ص13
وقد احتمل العنوان ابتداء جاهزية تنأى عن الاستقرار من خلال ملمحيها الأزليين وهما "النوم" و"الماء" تبعاً لما يكسو ذلك من مظاهر الديمومة والاتساع لعالم من الرؤى ومفازات من الواقع، لذا كان النوم تعبيرا عن راكد الزمن المتحول نحو الظلام "الخرمس" والمحصلة لن يكون "النوم" أكثر من ملاذ في حالة الفقد لتلك الأنثى الغائبة من واقع الحاكي المنتج للنص من خلال إظهار دأبه القائم على تجربة حياتية لا تتعدى مهنة الرعي. وقد يلوح في أفقه التفاؤل كزائر ضلّ طريقه فيحلم بصباحات مضمّخة بالقصائد وعشب المراعي رغم بذرة الفناء التي تنزّ داخله:
"أمسيت أرقب تنفس المراعي وبعض الخبيث يسكن صدري وفمي" ص11.
آفاق جديدة من الصمود في وجه الزائر اللعين تجعل حدّة الصراع تغالب النفس لإظهار رغبة الوجود من خلال "بعض" والتي ترتسم هنا للقلة والتفريق، وهل من الممكن أن تستمر الحياة في ظلّ انتظار الخطر المحدّق والترقب القلق المستمر؟ بالتأكيد ذلك ما سوف يحدث لأن المجموعة القصصية تلك من الناحية المضمونية تعنى برسم الشخصيات أكثر من عنايتها بصنع الأحداث المتلاحقة أو إرسال الأفكار من خلال الانبثاق الاستبدالي بين الحاكي والشاعر كشخصية مجاورة وذلك ما حقق حوارية جدلية لا يترتب عليها وقائع ونتاجات كما في حبكة النص التقليدي وإن بدت الشخصية مازومة تنعى نفسها إلى مصير مجهول فذلك كله جزء من الهم المحمول داخل ثنايا النفس لخلق سوداوية محدقة بالجو المحيط وبروز الشخصية تم من خلال الإصابة بذلك "الخبيث" في حين لم يتم تغليب الشخصية بعمل أكبر ولا غير مهنة "الرعي" و"نفث" سحب الدخان:
"تكاسلت عن التدخين وعن الغناء للشياه" راق لي منظر الغيوم الغامقة السوداء". ص 11
ذلك هو البعد الظاهري لحياة الشخصية أما البعد المضمر هو أن الراعي رغم هامشيته لا يخفي مسؤوليته عن حيوات هشة وصغيرة تشاركه عالمه الأثير:
"الخراف البيض في المراعي تحتفل برذاذ المطر على طريقتها الخاصة.. كان معي عصفور خائف يحاول بمنقاره التقاط بعض حطام دبوة مفتتة يابسة وجماعة من النمل تجر هيكل يعسوب جميل الجناحين إلى جحورها الضائعة" ص11.
وهنا يحكم الحاكي قبضته على فضاء النص عبر حالة سيكوسيمائية تقوم على سطوة الشخصية الحاضرة أبداً في ذهن المتلقي منذ قوله "أمسيت" وفي قوله "جسدي المنصوب على ربوة" ص11.
والتشكيل البصري المقصود هدفه مدّ مساحة الرغبة داخل مخيلة المتلقي نفسه ليعاضد الموقف الفعلي للشخصية التي تنتصب واقفة على ربوة رغم مساحة الألم المتسربل داخلها ودليل ذلك أن الإحساس الوجداني لم تنطفئ جذوته داخل أخاديد الروح المتعبة برغائب عدة يأتي عبر سلم أولوياتها أنثى غادرت عالمه منذ متى؟ الإجابة تأتي من خلال العودة للخلف، الفلاش باك Flash back أو ما يسميه توماشفسكي العرض المتأخر أو لنقل نبش الذاكرة:
"كنت قبل الغيوم أرسم بصمة حذاء أنثى مطبوعة على لحم صدري" ص11.
وفعل الكينونة يبرز المستويات المتعددة للشخصية من حيث هي شخصية مليئة بالتفاؤل، تمارس الحب لأنثى هاربة منه إليه عبر تأويل أسطوري مبرر لحالة أفروديت الخارجة من الرأس في حين أن أنثاه تركت بقايا قدمها على صدره مكمن العلة ومستودع الألم في حياته وذلك حين استحضار واقعة الفعل ابتداء عبر ضمير المتكلم ليوحي ظاهرياً بالتمسك بما هو خاص بالنسبة إليه مثل الأنثى التي أشعلت داخله عند رحيلها نحو النبع غريزة المغامرة وتعطيل الزمن:
"ابتدأت الطريق إلى النبع بحرق زجاج ساعتي بقداحة سجائري" ص 12.
وتلك إشكالية الزمن الذي لم ينجح هو في مصالحته فأحرق ساعة معصمه بقداحة السجائر التي بحوزته لذلك صار يعيش الزمن الصادم وقضايا الموت والحياة والوجود لا يمكن تقديمها للوجدان الجمعي عبر تقريرية ساذجة لذلك لجأ القاص إلى الفانتازيا الشكلانية:
"فتشت عن قدمي الشاعر في النبع واصدتهما وشددتهما بيدي إلى القاع، فعجبت لاستسلامه ولم أسأله عن السبب، عرفتُ أنه ينتظر الجنية مثلي". ص13
وبالإضافة إلى التيمتين الرئيستين الماء كرمز للنقاء ووسيلة طبيعية للحفظ والنوم كمرادف طبيعي للفناء الأبدي من حيث هو غياب لذا هو رديف للموت يأتي بالإضافة إلى أن هناك تيمات تتوزع على النصوص مثل.. الخرمس.. والذي يعني حلول الظلام في ليلة غاب قمرها، ومتى يكون ذلك؟ بالتأكيد عندما تمارس الأشاء الجميلة والحميمة الهروب الجماعي من حياتنا عند ذلك يتحول البياض إلى سراب قد يصعب الإمساك به:
"مددت يدي لأمسك بالبياض المولي الأدبار، أحاول عبثاً القبض عليه قبل أن يأتي الخرمس" ص15
ومن هنا فإن عوامل الحدث منشأها الظلام الذي سوف يرخي سدوله على المكان وإذ ذاك لا يمكن للرائي أن يسعد بقبس من نور ومنه يتولد الضياع الذي يسكن الأشياء مجتمعة فتمارس الهروب الجماعي إلى ما لا نهاية:
"لمحت صفوفاً بشرية تركض خلف مجنون يحاول أن يركب عنزة" ص16
والجنون هروب الحاكي إلى تيار الوعي بدلاً من الاتكاء المستمر على ضمير المتكلم إلا أنه ليس هناك خط واضح لصنع الحدث وهو ما يعرف لدى النقاد بالتعاقب "الدياكروني" "الزمن" لأن مثل ذلك المسار نجده مصاحباً للنص السردي ذي المسار الواقعي إذ فضاء النصوص من جميعها يأتلف عبر شكل تراتيبي يصنعه "الميتافيزيقي" و"الماورائي" من دون بهجة تسكن الشخصية القصصية بل سوداوية قاتمة تجللها فسيفساء لفظية هائلة وذلك حين الحديث عن محصلة اليوم:
"حرثت أسناني المطلية بلون الشاي والنيكوتين بفرشاة طبية" ص 19
بيد أن الشخصية الطافحة أبداً على قضاء النص لا تختفي الانقسام المسكونة فيه منذ بواكير يومها حين قولها عبر ضمير المتكلم:
"استيقظت من نومي واستيقظ معي.. عرفت أنه توأم يشبهني" ص19.
والشخصية المجاورة والبديلة تلك تمارس الهذيان والتحدث في الممنوع وارتكاب المخالفات المرورية حتى يفجأ باستيقافه من قبل رجل المرور لكن ذلك كله لا يمنعه وقرينه من الذهاب لمقبرة لم تكتمل بناء أساساتها والرغبة المضمرة أنها المال الأخير واللائق لتلك الشخصية المليئة بالانكسارات وصدئها هو أنين الشكوى المنبعث عبر خيط السرد الخافت الذي يعبر عن تلك الانفعالات المحتدمة ومدى سطوتها على النفس عند ذلك تتوجه بالحوار إلى مجهول وما من طريقة لكبح سورة الألم الممض سوى ذلك طالما صاحبه "القرين" تركه يواجه لجة الأسف الكئيب لوحده إذاً لا مناص من تقديم ابتسامة ساخرة باردة مثل ذلك الواقع وإمعاناً في الخيبة لم تكن موجهة لأحد ولم يحفل بها أحد حتى القابع بقربه:
"تفاجأت بقبور طرية رتبت بإهمال.. ابتسمت ولم يبتسم معي" ص 21
"قصة الملف السري لرصاصة" ص23 ليست نغمة نشاز لإضبارة من الأدب البوليسي لكنه نوع من الفانتازيا المتحذلقة التي تبعد جحيم الواقع في ما يتعلق بمصائر الشخصيات والنص يتحدث عن صدمة المدينة بكل ويلاتها عبر ثنائيات متعددة السفر أو البقاء، الحب أو الحرمان، الأرصفة أو الموانئ وثنائية الوجود الموت والحياة ولغة التضاد هذه تصنع مفارقة متوقعة حين تعثر على طابور من الجثث الواقفة بلا هدف أو معنى من هنا تظهر قسوة المدينة كونها جذوة من النار تؤمها الفراشات ببصيرة ساذجة لتحترق في أتونها والمفارقة الدالة هو تشكل ملامح معنوية ونفسية لكل شخصية الباعث لها هو التشرد، الضياع، الشتات، التهور، المرض، الهزيمة، الخوف، القلق.
ومن خلال الفعل المؤثر في أحاديثه نشأت علاقات منطقية بين الشخصيات الواقفة في طابورها العريض محصلته الاستلاب الجمعي:
"حقائب السفر في يدي.. الأرصفة تتحرك تحت قدمي، الشوارع عطشى.. الموانئ قفار. طابور الجثث طويل.. أجمع دم الصرعى تذكاراً في منديل" ص23
ثمة ظلمة خائفة توغل في كأبة بعيدة في جوانح النفس مردها موت العلائق الإنسانية إن تلك النماذج التي تتشكل على هيئة شخوص واقعية وإن لاذ القاص بالضمائر ليعمم من مدلولها وليعمق من دلالتها في فضاء النص لكي تمكنه من تقديم الحوادث بصورة مركبة ومتداخلة وتجعلنا نـــ للفترة المعنية بذلك النوع من المعالجة حيث الفانتازيا تبسط ظلالها إنه الراهن من واقعنا العربي حيث الظل كاد أن يكون سنداً لصاحبه بدلاً من المارين في دروب الحياة وهم يمارسون لذة النظر المجانية كل ذلك عمق إحساس اللاجدوى داخل نفس البطل وجعلته ينثر قشور الكلام في وجوه تلك الأجساد الميتة رغم يقينيته بأن الحياة تدب داخلها:
"أدخل رأسي في جدران فضتْ بكارتها.. أستنشق المجهول، أكتشف أن الرصاص كالفاليوم يباع تحت الضوء وأن مدن الموت تشتهي مدناً أخرى والميتون يعانون ميتين: ص23
إن رحلة الندم والفزع والذعر والهلع هاجس مؤرق يداهم نفس البطل في كل آن وحين نكاد نلمح من حديث الشخصية أن بذرة الخوف هي جزء من تكوين الخلية لديه وما ذاك إلا لإحساسه المعمق بالبعد التاريخي الضارب بأخاديد الزمن بوجود الخطيئة على هذه الأرض وهي حادثة قتل هابيل وقابيل وما من شك بأن إحساس اللاجدى المصاحب لشعور الشخصية يعمق رؤاه بأن ما يحصل من خطايا هو عودة لإرث الماضي.
وإذا كانت الصورة السابقة قد آلت إلى دلالة حركية متصورة في شبه جاهزية داخل مخيلة المتلقي عن المدينة وحضور الممنوع فإن ثمة صورة نفسية مركبة تثير الكثير من دوائر الاشمئزاز تجاه تلك الذات غير المتصالحة مع واقعها:
"بحثتُ عن أسهل وأسرع طريقة مضمونة النتائج أصل بها إلى حقل دم فكانت نطح جدار الحمام بأنفي.. نطحتان وصارت عيوني وأنفي كالحنفية يبكون مجتمعين" ص26
بالتأكيد أنه عالم مؤرق ولذيذ الذي صنعه القاص ناصر الجاسم رغم قسوة تجاه أوجاع الحياة.
"الجنية التي سكنت قاع النبع منذ انشقاقه وصارت تختار ضحاياها من السابحين والسابحات لتتلبسهم"
والتقابل يتمثل في خروج الدم:
"شققتُ جلدي بشريحة زجاجية فنزف دمي وفشلت في إخراج الجنية" ص13
وقد احتمل العنوان ابتداء جاهزية تنأى عن الاستقرار من خلال ملمحيها الأزليين وهما "النوم" و"الماء" تبعاً لما يكسو ذلك من مظاهر الديمومة والاتساع لعالم من الرؤى ومفازات من الواقع، لذا كان النوم تعبيرا عن راكد الزمن المتحول نحو الظلام "الخرمس" والمحصلة لن يكون "النوم" أكثر من ملاذ في حالة الفقد لتلك الأنثى الغائبة من واقع الحاكي المنتج للنص من خلال إظهار دأبه القائم على تجربة حياتية لا تتعدى مهنة الرعي. وقد يلوح في أفقه التفاؤل كزائر ضلّ طريقه فيحلم بصباحات مضمّخة بالقصائد وعشب المراعي رغم بذرة الفناء التي تنزّ داخله:
"أمسيت أرقب تنفس المراعي وبعض الخبيث يسكن صدري وفمي" ص11.
آفاق جديدة من الصمود في وجه الزائر اللعين تجعل حدّة الصراع تغالب النفس لإظهار رغبة الوجود من خلال "بعض" والتي ترتسم هنا للقلة والتفريق، وهل من الممكن أن تستمر الحياة في ظلّ انتظار الخطر المحدّق والترقب القلق المستمر؟ بالتأكيد ذلك ما سوف يحدث لأن المجموعة القصصية تلك من الناحية المضمونية تعنى برسم الشخصيات أكثر من عنايتها بصنع الأحداث المتلاحقة أو إرسال الأفكار من خلال الانبثاق الاستبدالي بين الحاكي والشاعر كشخصية مجاورة وذلك ما حقق حوارية جدلية لا يترتب عليها وقائع ونتاجات كما في حبكة النص التقليدي وإن بدت الشخصية مازومة تنعى نفسها إلى مصير مجهول فذلك كله جزء من الهم المحمول داخل ثنايا النفس لخلق سوداوية محدقة بالجو المحيط وبروز الشخصية تم من خلال الإصابة بذلك "الخبيث" في حين لم يتم تغليب الشخصية بعمل أكبر ولا غير مهنة "الرعي" و"نفث" سحب الدخان:
"تكاسلت عن التدخين وعن الغناء للشياه" راق لي منظر الغيوم الغامقة السوداء". ص 11
ذلك هو البعد الظاهري لحياة الشخصية أما البعد المضمر هو أن الراعي رغم هامشيته لا يخفي مسؤوليته عن حيوات هشة وصغيرة تشاركه عالمه الأثير:
"الخراف البيض في المراعي تحتفل برذاذ المطر على طريقتها الخاصة.. كان معي عصفور خائف يحاول بمنقاره التقاط بعض حطام دبوة مفتتة يابسة وجماعة من النمل تجر هيكل يعسوب جميل الجناحين إلى جحورها الضائعة" ص11.
وهنا يحكم الحاكي قبضته على فضاء النص عبر حالة سيكوسيمائية تقوم على سطوة الشخصية الحاضرة أبداً في ذهن المتلقي منذ قوله "أمسيت" وفي قوله "جسدي المنصوب على ربوة" ص11.
والتشكيل البصري المقصود هدفه مدّ مساحة الرغبة داخل مخيلة المتلقي نفسه ليعاضد الموقف الفعلي للشخصية التي تنتصب واقفة على ربوة رغم مساحة الألم المتسربل داخلها ودليل ذلك أن الإحساس الوجداني لم تنطفئ جذوته داخل أخاديد الروح المتعبة برغائب عدة يأتي عبر سلم أولوياتها أنثى غادرت عالمه منذ متى؟ الإجابة تأتي من خلال العودة للخلف، الفلاش باك Flash back أو ما يسميه توماشفسكي العرض المتأخر أو لنقل نبش الذاكرة:
"كنت قبل الغيوم أرسم بصمة حذاء أنثى مطبوعة على لحم صدري" ص11.
وفعل الكينونة يبرز المستويات المتعددة للشخصية من حيث هي شخصية مليئة بالتفاؤل، تمارس الحب لأنثى هاربة منه إليه عبر تأويل أسطوري مبرر لحالة أفروديت الخارجة من الرأس في حين أن أنثاه تركت بقايا قدمها على صدره مكمن العلة ومستودع الألم في حياته وذلك حين استحضار واقعة الفعل ابتداء عبر ضمير المتكلم ليوحي ظاهرياً بالتمسك بما هو خاص بالنسبة إليه مثل الأنثى التي أشعلت داخله عند رحيلها نحو النبع غريزة المغامرة وتعطيل الزمن:
"ابتدأت الطريق إلى النبع بحرق زجاج ساعتي بقداحة سجائري" ص 12.
وتلك إشكالية الزمن الذي لم ينجح هو في مصالحته فأحرق ساعة معصمه بقداحة السجائر التي بحوزته لذلك صار يعيش الزمن الصادم وقضايا الموت والحياة والوجود لا يمكن تقديمها للوجدان الجمعي عبر تقريرية ساذجة لذلك لجأ القاص إلى الفانتازيا الشكلانية:
"فتشت عن قدمي الشاعر في النبع واصدتهما وشددتهما بيدي إلى القاع، فعجبت لاستسلامه ولم أسأله عن السبب، عرفتُ أنه ينتظر الجنية مثلي". ص13
وبالإضافة إلى التيمتين الرئيستين الماء كرمز للنقاء ووسيلة طبيعية للحفظ والنوم كمرادف طبيعي للفناء الأبدي من حيث هو غياب لذا هو رديف للموت يأتي بالإضافة إلى أن هناك تيمات تتوزع على النصوص مثل.. الخرمس.. والذي يعني حلول الظلام في ليلة غاب قمرها، ومتى يكون ذلك؟ بالتأكيد عندما تمارس الأشاء الجميلة والحميمة الهروب الجماعي من حياتنا عند ذلك يتحول البياض إلى سراب قد يصعب الإمساك به:
"مددت يدي لأمسك بالبياض المولي الأدبار، أحاول عبثاً القبض عليه قبل أن يأتي الخرمس" ص15
ومن هنا فإن عوامل الحدث منشأها الظلام الذي سوف يرخي سدوله على المكان وإذ ذاك لا يمكن للرائي أن يسعد بقبس من نور ومنه يتولد الضياع الذي يسكن الأشياء مجتمعة فتمارس الهروب الجماعي إلى ما لا نهاية:
"لمحت صفوفاً بشرية تركض خلف مجنون يحاول أن يركب عنزة" ص16
والجنون هروب الحاكي إلى تيار الوعي بدلاً من الاتكاء المستمر على ضمير المتكلم إلا أنه ليس هناك خط واضح لصنع الحدث وهو ما يعرف لدى النقاد بالتعاقب "الدياكروني" "الزمن" لأن مثل ذلك المسار نجده مصاحباً للنص السردي ذي المسار الواقعي إذ فضاء النصوص من جميعها يأتلف عبر شكل تراتيبي يصنعه "الميتافيزيقي" و"الماورائي" من دون بهجة تسكن الشخصية القصصية بل سوداوية قاتمة تجللها فسيفساء لفظية هائلة وذلك حين الحديث عن محصلة اليوم:
"حرثت أسناني المطلية بلون الشاي والنيكوتين بفرشاة طبية" ص 19
بيد أن الشخصية الطافحة أبداً على قضاء النص لا تختفي الانقسام المسكونة فيه منذ بواكير يومها حين قولها عبر ضمير المتكلم:
"استيقظت من نومي واستيقظ معي.. عرفت أنه توأم يشبهني" ص19.
والشخصية المجاورة والبديلة تلك تمارس الهذيان والتحدث في الممنوع وارتكاب المخالفات المرورية حتى يفجأ باستيقافه من قبل رجل المرور لكن ذلك كله لا يمنعه وقرينه من الذهاب لمقبرة لم تكتمل بناء أساساتها والرغبة المضمرة أنها المال الأخير واللائق لتلك الشخصية المليئة بالانكسارات وصدئها هو أنين الشكوى المنبعث عبر خيط السرد الخافت الذي يعبر عن تلك الانفعالات المحتدمة ومدى سطوتها على النفس عند ذلك تتوجه بالحوار إلى مجهول وما من طريقة لكبح سورة الألم الممض سوى ذلك طالما صاحبه "القرين" تركه يواجه لجة الأسف الكئيب لوحده إذاً لا مناص من تقديم ابتسامة ساخرة باردة مثل ذلك الواقع وإمعاناً في الخيبة لم تكن موجهة لأحد ولم يحفل بها أحد حتى القابع بقربه:
"تفاجأت بقبور طرية رتبت بإهمال.. ابتسمت ولم يبتسم معي" ص 21
"قصة الملف السري لرصاصة" ص23 ليست نغمة نشاز لإضبارة من الأدب البوليسي لكنه نوع من الفانتازيا المتحذلقة التي تبعد جحيم الواقع في ما يتعلق بمصائر الشخصيات والنص يتحدث عن صدمة المدينة بكل ويلاتها عبر ثنائيات متعددة السفر أو البقاء، الحب أو الحرمان، الأرصفة أو الموانئ وثنائية الوجود الموت والحياة ولغة التضاد هذه تصنع مفارقة متوقعة حين تعثر على طابور من الجثث الواقفة بلا هدف أو معنى من هنا تظهر قسوة المدينة كونها جذوة من النار تؤمها الفراشات ببصيرة ساذجة لتحترق في أتونها والمفارقة الدالة هو تشكل ملامح معنوية ونفسية لكل شخصية الباعث لها هو التشرد، الضياع، الشتات، التهور، المرض، الهزيمة، الخوف، القلق.
ومن خلال الفعل المؤثر في أحاديثه نشأت علاقات منطقية بين الشخصيات الواقفة في طابورها العريض محصلته الاستلاب الجمعي:
"حقائب السفر في يدي.. الأرصفة تتحرك تحت قدمي، الشوارع عطشى.. الموانئ قفار. طابور الجثث طويل.. أجمع دم الصرعى تذكاراً في منديل" ص23
ثمة ظلمة خائفة توغل في كأبة بعيدة في جوانح النفس مردها موت العلائق الإنسانية إن تلك النماذج التي تتشكل على هيئة شخوص واقعية وإن لاذ القاص بالضمائر ليعمم من مدلولها وليعمق من دلالتها في فضاء النص لكي تمكنه من تقديم الحوادث بصورة مركبة ومتداخلة وتجعلنا نـــ للفترة المعنية بذلك النوع من المعالجة حيث الفانتازيا تبسط ظلالها إنه الراهن من واقعنا العربي حيث الظل كاد أن يكون سنداً لصاحبه بدلاً من المارين في دروب الحياة وهم يمارسون لذة النظر المجانية كل ذلك عمق إحساس اللاجدوى داخل نفس البطل وجعلته ينثر قشور الكلام في وجوه تلك الأجساد الميتة رغم يقينيته بأن الحياة تدب داخلها:
"أدخل رأسي في جدران فضتْ بكارتها.. أستنشق المجهول، أكتشف أن الرصاص كالفاليوم يباع تحت الضوء وأن مدن الموت تشتهي مدناً أخرى والميتون يعانون ميتين: ص23
إن رحلة الندم والفزع والذعر والهلع هاجس مؤرق يداهم نفس البطل في كل آن وحين نكاد نلمح من حديث الشخصية أن بذرة الخوف هي جزء من تكوين الخلية لديه وما ذاك إلا لإحساسه المعمق بالبعد التاريخي الضارب بأخاديد الزمن بوجود الخطيئة على هذه الأرض وهي حادثة قتل هابيل وقابيل وما من شك بأن إحساس اللاجدى المصاحب لشعور الشخصية يعمق رؤاه بأن ما يحصل من خطايا هو عودة لإرث الماضي.
وإذا كانت الصورة السابقة قد آلت إلى دلالة حركية متصورة في شبه جاهزية داخل مخيلة المتلقي عن المدينة وحضور الممنوع فإن ثمة صورة نفسية مركبة تثير الكثير من دوائر الاشمئزاز تجاه تلك الذات غير المتصالحة مع واقعها:
"بحثتُ عن أسهل وأسرع طريقة مضمونة النتائج أصل بها إلى حقل دم فكانت نطح جدار الحمام بأنفي.. نطحتان وصارت عيوني وأنفي كالحنفية يبكون مجتمعين" ص26
بالتأكيد أنه عالم مؤرق ولذيذ الذي صنعه القاص ناصر الجاسم رغم قسوة تجاه أوجاع الحياة.
النوم في الماء/ إضبارة الموت والأشياء المتحولة- عبد الرحمن المجماج
المدونة الرسمية للقاص والروائي السعودي ناصر سالم الجاسم @w5c4zf
naser-al-jasem.blogspot.com