أخذ المرآة التي طالما رسم نفسه وهو ينظر إليها، أسندها على طاولة الزينة المستندة إلى الحائط، نظر إلى ما ينطق به وجهه، أغمض عينيه مسترجعا سلسلة عذاباته، رفع الموس، خاطبته الأصوات التي طالما أفقدته صوابه، مد يده بالموس وقطع أذنه اليمنى ووضعها في لفافة ليقدمها إلى "حبيبته" التي طلبت ذلك في لحظة مزاح عبثية، الدماء كانت أغزر من محاولة حبسها، شارف على الموت فلم ينج إلا بمعجزة.
القرية الريفية الوادعة التي عشق مناظرها الطبيعية فانقطع كراهب ليرسمها انقلبت عليه بعد حادثة قطع الأذن، أغروا به صغارهم، حاصروا بيته يقذفونه بالحجارة والأصوات الهازئة، صار يعاني من نوبات صرع لا تتركه إلا بعد أن تحوله إلى بقايا كائن، دخل المصحة العقلية لفترة وبعد إحساسه بالتعافي خرج منها، انتقل إلى ريف آخر، استأنف حياته مع الرسم، فلا يمكن له أن يتخيل العيش بدون ريشته..!.
لم تطل به تلك الأيام "المشمشية"حتى أحس أنه فقد إيمانه حتى بالرسم، "لم تعد تهزه المناظر الطبيعية التي كانت تؤجج انفعاله في الماضي، وجد من الخير له أن يصمت على أن يعبر عن نفسه تعبيرا ضعيفا"، غزاه شعور ممض بفقدان القيمة وأن وجوده فقد مغزاه، ذهب إلى تلك الحقول التي طالما ثَبَّت مسند لوحاته على ترابها، استذكر من مروا بحياته، ودع أخيلتهم الوداع الأخير، أدار وجهه عاليا نحو الشمس، أطلق رصاصة نحو قلبه، سقط مغشيا عليه، لم تكن رصاصة الرحمة كما تمنى فلم تقتله على الفور ، احتضر لليلتين، تمكن أخوه "ثيو" من القدوم، جثا عند سريره، واضعا يده بيده، تذكرا أيام الطفولة معا، وفي انفراجة واهنة لشفتيه قال:" أتمنى لو أموت الآن يا ثيو"، ثم أغمض إغماضته الأخيرة، مؤملا في الموت أن يضع حدا لعذاباته ...!.
**************************
لقد أبدع "ايرفنج ستون" في كتابة السيرة الذاتية للرسام الهولندي "فان كوخ"(1853ـ 1890م)، من خلال اعتماده على ثلاثة مجلدات من رسائله إلى أخيه، وبتتبع أثره عبر هولندا وبلجيكا وفرنسا...!
ومضاتي في العادة أبطالها أشخاص عايشتهم ولي قصة معهم، فلما قرأت هذه السيرة المدهشة شعرت أن "فان كوخ" واحد مثلهم، عرفته جيدا، تحسست أوجاعه، تجولت معه في الحقول وهو يرسمها، حبست أنفاسي حين ضغط على الزناد، سيرته ذكرتني بسلسلة طويلة من الأرواح المعذبة: بمحنة رهين المحبسين أبي العلاء المعري، بأبي حيان التوحيدي حين حرق كتبه ضانّا بها على أهل عصره، بـ"مي زيادة" حين أدخلوها المصحة العقلية، بجنون نيتشه، بنوبات صرع ديستويفسكي...الخ.
**************************
السؤال: هل العصاب وسوداوية المزاج قدر لا فكاك منه لكل مبدع..؟!.
ربما الوحدة والعزلة واحتشاد جوامع النفس اللازمة لكل إبداع هي المسؤولة عن الجنون الذي يحاصر عقل المبدع، وكأن العبقرية لعنة على أصحابها وضرورة لتقدم البشرية، "فلا عظمة دون حبة جنون"..!.
المحزن أن هؤلاء المبدعين يفتقرون للتواؤم مع المحيط، لهم عالمهم الاستثنائي، منبوذين لا تتفطن لعظمتهم المجتمعات إلا بعد أن يشبعوا موتا ..!.
"فان كوخ" عاش حياته على حواف الجوع والحرمان والجنون، ليرسم مئات اللوحات التي لم يبع منها إلا واحدة قبل موته بثمن بخس، في حين بيعت بعده بملايين الدولارات، لتزين قصور التنابل من الأغنياء والمترفين...!.
يا لمفارقة الحياة المؤلمة....!!!.
"الجاهلون والمخدوعون والسطحيون هم السعداء وحدهم بيننا"..!.
القرية الريفية الوادعة التي عشق مناظرها الطبيعية فانقطع كراهب ليرسمها انقلبت عليه بعد حادثة قطع الأذن، أغروا به صغارهم، حاصروا بيته يقذفونه بالحجارة والأصوات الهازئة، صار يعاني من نوبات صرع لا تتركه إلا بعد أن تحوله إلى بقايا كائن، دخل المصحة العقلية لفترة وبعد إحساسه بالتعافي خرج منها، انتقل إلى ريف آخر، استأنف حياته مع الرسم، فلا يمكن له أن يتخيل العيش بدون ريشته..!.
لم تطل به تلك الأيام "المشمشية"حتى أحس أنه فقد إيمانه حتى بالرسم، "لم تعد تهزه المناظر الطبيعية التي كانت تؤجج انفعاله في الماضي، وجد من الخير له أن يصمت على أن يعبر عن نفسه تعبيرا ضعيفا"، غزاه شعور ممض بفقدان القيمة وأن وجوده فقد مغزاه، ذهب إلى تلك الحقول التي طالما ثَبَّت مسند لوحاته على ترابها، استذكر من مروا بحياته، ودع أخيلتهم الوداع الأخير، أدار وجهه عاليا نحو الشمس، أطلق رصاصة نحو قلبه، سقط مغشيا عليه، لم تكن رصاصة الرحمة كما تمنى فلم تقتله على الفور ، احتضر لليلتين، تمكن أخوه "ثيو" من القدوم، جثا عند سريره، واضعا يده بيده، تذكرا أيام الطفولة معا، وفي انفراجة واهنة لشفتيه قال:" أتمنى لو أموت الآن يا ثيو"، ثم أغمض إغماضته الأخيرة، مؤملا في الموت أن يضع حدا لعذاباته ...!.
**************************
لقد أبدع "ايرفنج ستون" في كتابة السيرة الذاتية للرسام الهولندي "فان كوخ"(1853ـ 1890م)، من خلال اعتماده على ثلاثة مجلدات من رسائله إلى أخيه، وبتتبع أثره عبر هولندا وبلجيكا وفرنسا...!
ومضاتي في العادة أبطالها أشخاص عايشتهم ولي قصة معهم، فلما قرأت هذه السيرة المدهشة شعرت أن "فان كوخ" واحد مثلهم، عرفته جيدا، تحسست أوجاعه، تجولت معه في الحقول وهو يرسمها، حبست أنفاسي حين ضغط على الزناد، سيرته ذكرتني بسلسلة طويلة من الأرواح المعذبة: بمحنة رهين المحبسين أبي العلاء المعري، بأبي حيان التوحيدي حين حرق كتبه ضانّا بها على أهل عصره، بـ"مي زيادة" حين أدخلوها المصحة العقلية، بجنون نيتشه، بنوبات صرع ديستويفسكي...الخ.
**************************
السؤال: هل العصاب وسوداوية المزاج قدر لا فكاك منه لكل مبدع..؟!.
ربما الوحدة والعزلة واحتشاد جوامع النفس اللازمة لكل إبداع هي المسؤولة عن الجنون الذي يحاصر عقل المبدع، وكأن العبقرية لعنة على أصحابها وضرورة لتقدم البشرية، "فلا عظمة دون حبة جنون"..!.
المحزن أن هؤلاء المبدعين يفتقرون للتواؤم مع المحيط، لهم عالمهم الاستثنائي، منبوذين لا تتفطن لعظمتهم المجتمعات إلا بعد أن يشبعوا موتا ..!.
"فان كوخ" عاش حياته على حواف الجوع والحرمان والجنون، ليرسم مئات اللوحات التي لم يبع منها إلا واحدة قبل موته بثمن بخس، في حين بيعت بعده بملايين الدولارات، لتزين قصور التنابل من الأغنياء والمترفين...!.
يا لمفارقة الحياة المؤلمة....!!!.
"الجاهلون والمخدوعون والسطحيون هم السعداء وحدهم بيننا"..!.