ستكون حكايتنا الليلة من صنف أثاث الذاكرة المعاد انتاجه بقوة الحنين ، مصلوبة فوق صورة استعادية ، وقعت على مبعدة من منتصف تسعينيات القرن البائد ، حين حطّت كمشة حقائب جديدة في واحد من زواغير ربة عمون في جبل اللويبدة بعمّان :
إنّها صورة أرسلها صاحبي الشاعر الملحن المغني الطبيب سعد الصالحي .
بدا أنّ مكان الأثر هو مقهى “ السنترال “ الذي يرتفع سلة أشبار فوق طقطقة مواعين فول هاشم المشهور، وعياط أبي عرب المحبب .
هناك ، كان الناس يسهرون حتى الفجر ، وترتيلة فيروزية مبهرة تصلح لأن تكون مفتتح بكاءٍ وأمل “ صبح الصباح ، فتّاح يا عليم ، والجيب ما فيهشي ولا ملّيم ، بس المزاج رايق وسليم ، باب الأمل بابك يا رحيم “.
في الصورة ، يظهر علي عباس علوان وعيسى حسن الياسري وسعد جاسم وحازم لعيبي أخو شاكر لعيبي وهادي الحسيني وأنا ، وواحدٌ اسمه صباح وجان دمو “ هو يسكن قبراً مرمياً في أستراليا حتى اللحظة “.
لم تتبدل حياة جان هنا عن حياته في بغداد . صعلوك نبيل حافٍ ، لكنه كان مستعداً لأن يمنحك قميصه الوحيد ، كي تشتري بخراجه لفّة فلافل ، أو ربعية عرق موّال ، لكن ليس لصبغ قندرة حتماً . كان الشاعر المؤجل أبداً تلقائياً متناغماً مع ذاته . هو من صنف الكائنات المسالمة التي لا تدوّخ رأسها بهاونات الأسئلة الكونية الثقيلة. لم يقم بشغل يستدعي جهداً بدنياً .
جلّ كدّه وكدحه الفكري وقع في باب الشعر والترجمة والتنظير الشفاهي ، وتنبيه المريدين والغاوين صوب قراءات مفيدة ومبهرة ، ولم يترك خلفه أثراً سوى مجموعة شعرية صغيرة ، كان عنوانها في أصل المخطوط “ أسمال الملوك “ ثم انشالت مفردة “ الملوك “ من العنوان، وبقيت أسمالهم “ وقهقهات الولد ذو السن الوحيدة .
طبعت “ أسمال “ طبعة شعبية مدموغة بفقر الحصار الهمجي اللعين في “ دار الأمد “ ببغداد العباسية المريضة أيامها ، وصاحبتها الطيبة حكمية الجرار .
حين حلّ جان دمو بعمّان، صار يغزو كلّ مطالع شهر ، بيت حكمية في جبل الحسين ، مطالباً إياها بربح الكتيّب الذي لم يبع ، وبطريقة جميلة حميمة ، ليس بمقدورك أن تردّها ، حتى لو كان قلبك من حجر .
في واحدة من فلتات جان وكشوفاته المذهلة ، ثمة بيت مهجور منزرع فوق احد منسرحات جبل اللويبدة البديع ، اتخذ منه والصعاليك مأوى آمناً.
كان هو ونصيف الناصري وهادي الحسيني وإياد صادق ورضا ذياب ، وضيوف طوارىء تعتعتهم الأيام وزرعت في جيوبهم ثقباً أبدياً . صارت تلك الدار مزاراً ومناماً مشاعاً لمن لا منام تحت يمينه ولا غطاء ، أو هو من صنف الصعاليك المتبطلين المتعففين .
لا أحد يعرف من هو مالك هذه الدار المشاعة . ثمة ثقب عال في جسد أحد حوائط الملاذ ، تنزل منه مياه عذبة لا تعرف منابعها . أحدس الآن أنّه من منسيات دفتر الغفلة . ثمة شجرة ليمون ضخمة تكلكل كما أمّ حنون ، على براميل الماء التي تنترس من دفق ثقب الجبل المريب . سلام على الربع كلّهم . سلام على البلاد العليلة ، التي نفتقدها وهي نائمة بين الأضلع . سلام علينا ومن مثلنا ، وقد صيّرتنا الليالي السود اليابسات ، كتبةَ مراثٍ توجع القلب وتقصّر العمر .
الزمان
إنّها صورة أرسلها صاحبي الشاعر الملحن المغني الطبيب سعد الصالحي .
بدا أنّ مكان الأثر هو مقهى “ السنترال “ الذي يرتفع سلة أشبار فوق طقطقة مواعين فول هاشم المشهور، وعياط أبي عرب المحبب .
هناك ، كان الناس يسهرون حتى الفجر ، وترتيلة فيروزية مبهرة تصلح لأن تكون مفتتح بكاءٍ وأمل “ صبح الصباح ، فتّاح يا عليم ، والجيب ما فيهشي ولا ملّيم ، بس المزاج رايق وسليم ، باب الأمل بابك يا رحيم “.
في الصورة ، يظهر علي عباس علوان وعيسى حسن الياسري وسعد جاسم وحازم لعيبي أخو شاكر لعيبي وهادي الحسيني وأنا ، وواحدٌ اسمه صباح وجان دمو “ هو يسكن قبراً مرمياً في أستراليا حتى اللحظة “.
لم تتبدل حياة جان هنا عن حياته في بغداد . صعلوك نبيل حافٍ ، لكنه كان مستعداً لأن يمنحك قميصه الوحيد ، كي تشتري بخراجه لفّة فلافل ، أو ربعية عرق موّال ، لكن ليس لصبغ قندرة حتماً . كان الشاعر المؤجل أبداً تلقائياً متناغماً مع ذاته . هو من صنف الكائنات المسالمة التي لا تدوّخ رأسها بهاونات الأسئلة الكونية الثقيلة. لم يقم بشغل يستدعي جهداً بدنياً .
جلّ كدّه وكدحه الفكري وقع في باب الشعر والترجمة والتنظير الشفاهي ، وتنبيه المريدين والغاوين صوب قراءات مفيدة ومبهرة ، ولم يترك خلفه أثراً سوى مجموعة شعرية صغيرة ، كان عنوانها في أصل المخطوط “ أسمال الملوك “ ثم انشالت مفردة “ الملوك “ من العنوان، وبقيت أسمالهم “ وقهقهات الولد ذو السن الوحيدة .
طبعت “ أسمال “ طبعة شعبية مدموغة بفقر الحصار الهمجي اللعين في “ دار الأمد “ ببغداد العباسية المريضة أيامها ، وصاحبتها الطيبة حكمية الجرار .
حين حلّ جان دمو بعمّان، صار يغزو كلّ مطالع شهر ، بيت حكمية في جبل الحسين ، مطالباً إياها بربح الكتيّب الذي لم يبع ، وبطريقة جميلة حميمة ، ليس بمقدورك أن تردّها ، حتى لو كان قلبك من حجر .
في واحدة من فلتات جان وكشوفاته المذهلة ، ثمة بيت مهجور منزرع فوق احد منسرحات جبل اللويبدة البديع ، اتخذ منه والصعاليك مأوى آمناً.
كان هو ونصيف الناصري وهادي الحسيني وإياد صادق ورضا ذياب ، وضيوف طوارىء تعتعتهم الأيام وزرعت في جيوبهم ثقباً أبدياً . صارت تلك الدار مزاراً ومناماً مشاعاً لمن لا منام تحت يمينه ولا غطاء ، أو هو من صنف الصعاليك المتبطلين المتعففين .
لا أحد يعرف من هو مالك هذه الدار المشاعة . ثمة ثقب عال في جسد أحد حوائط الملاذ ، تنزل منه مياه عذبة لا تعرف منابعها . أحدس الآن أنّه من منسيات دفتر الغفلة . ثمة شجرة ليمون ضخمة تكلكل كما أمّ حنون ، على براميل الماء التي تنترس من دفق ثقب الجبل المريب . سلام على الربع كلّهم . سلام على البلاد العليلة ، التي نفتقدها وهي نائمة بين الأضلع . سلام علينا ومن مثلنا ، وقد صيّرتنا الليالي السود اليابسات ، كتبةَ مراثٍ توجع القلب وتقصّر العمر .
الزمان