كان الفقيه يعاملني بلطف ويشركني في إعداد سبوب أقدمه للنساء اللاجئات إليه لدفع بعض الأمراض
في كتاب الفقيه المزمزي، كنت أكبر تلامذته سنا، وكان بعضهم يتابع دراسته بالمدرسة العمومية، ولا يرتاد الكتاب إلا خارج أوقات تلك الدراسة، وكنت أتكفل أحيانا بإيصال بعض التلاميذ إلى منازلهم.
وكان الفقيه يعاملني بلطف، ويشركني في إعداد «سبوب» الذي يقدمه للنساء اللاجئات إليه لدفع بعض الأمراض عن أطفالهن، وكان لدي نموذج واحد ووحيد من «سبوب» المعالج لكل الحالات، وكان يتكون من مربع مقسم إلى مربعات داخلية صغيرة، يضم المربع الكبير آيات قرآنية يتم توزيع كلماتها على المربعات الصغيرة، وكان يوصي طالب العلاج بإذابة «السبوب» وخلط مائه بالفيجل وصلبان، ودهن جسد الطفل المريض بهذا الخليط.
خلال فترة ارتيادي الكتاب، كنت أشعر بين الحين والآخر بالحزن والحسرة، وأنا أراقب أقراني في ذهابهم إلى المدرسة وإيابهم منها، وعلى الرغم من أنني كنت أجيد الكتابة والقراءة، فقد كنت اعتقد أن المدرسة تقدم أشياء أخرى مثل الأناشيد والحساب، بل وتعلم اللغة الفرنسية. وقد حاولت بجهدي الخاص أن أفك بعض حروف هذه اللغة، عندما قارنت كلمة «شرطة» في سيارة البوليس، بما يقابلها باللغة الفرنسية، ومع أني فشلت في مقابلة كل حرف بالعربية بمثله بالفرنسية، فقد اعتقدت أن حرف «الشين» الفرنسي هو «p»، لأنه كان يقابل مثيله العربي «ش»، في تلك السيارة.
لقد أمضيت سنة «بيضاء» تقريبا من حيث التعليم المدرسي، لكنني من ناحية أخرى عشت سنة زاهية، تمتعت فيها بقسط وافر من الحرية، وأعفيت خلالها من متاعب الدروس والامتحانات، بالإضافة إلى هذا وذاك، ارتويت من الفرجة كما ينبغي وتعددت أشكال وألوان هذه الفرجة.
كانت ذاكرة الفقيه المزمزي غريبة الأطوار، فقد كنت أنسل خلسة خارج الكتاب بعد الظهر، ولا أعود إلا في اليوم الموالي دون أن يظهر على الفقيه ما يشير إلى أنه انتبه لغيابي بالأمس. وعندما كنت انسل من الكتاب، أتجه أحيانا شرقا إلى الأرض العارية التي كانت تفصل يومئذ بين درب الشرفاء ومدرسة «كريت» للبنات، وكان جزء من تلك الأراضي يستغل ملعبا لكرة القدم، تتبارى فيه فرق الأحياء، وكانت الأجزاء الأخرى تحتضن أشكالا متنوعة من الحلقة، يستعرض فيها نجوم الكوميديا إبداعاتهم العفوية، يقدم فيها رواد العيطة والمولعون بتراث الحسين السلاوي، ما يروي عطش الجمهور العاشق.
في هذه الأجواء، تعرفت على الكوميدي الشعبي الشهير «نعينيعة»، وتتابعت مباريات الملاكمة، واستمعت إلى ترانيم باعة الحجاب المدسوس في المعدن.
وفي أحيان أخرى، كنت أتجه غربا عند مغادرتي الكتاب، وأقصد ملعب كرة القدم، الذي أصبح لاحقا يدعى ملعب «الفداء»، وفي هذا الملعب تجرى مباريات شيقة، وفيه عرفت فريق «الحياة» الذي حمل في ما بعد اسم «نجم الشباب»، وهناك عرفت فرقا أخرى لم نعد نسمع بها مثل «كوكب السعد».
ولم نكن في هذا الملعب نتابع مباريات كرة القدم فحسب، بل كنا نتزحلق في بعض منحدراته، فوق طينه الأصفر الموحل، مفترشين قطعة من الكرتون أحيانا، أو ملتصقين بالوحل مباشرة في أحيانا أخرى. ويبدو لي الآن أن تلك السنة لم تكن في الواقع سنة «بيضاء» بل كانت «وردية» عز نظيرها.
جريدة الصباح
غشت 2019
في كتاب الفقيه المزمزي، كنت أكبر تلامذته سنا، وكان بعضهم يتابع دراسته بالمدرسة العمومية، ولا يرتاد الكتاب إلا خارج أوقات تلك الدراسة، وكنت أتكفل أحيانا بإيصال بعض التلاميذ إلى منازلهم.
وكان الفقيه يعاملني بلطف، ويشركني في إعداد «سبوب» الذي يقدمه للنساء اللاجئات إليه لدفع بعض الأمراض عن أطفالهن، وكان لدي نموذج واحد ووحيد من «سبوب» المعالج لكل الحالات، وكان يتكون من مربع مقسم إلى مربعات داخلية صغيرة، يضم المربع الكبير آيات قرآنية يتم توزيع كلماتها على المربعات الصغيرة، وكان يوصي طالب العلاج بإذابة «السبوب» وخلط مائه بالفيجل وصلبان، ودهن جسد الطفل المريض بهذا الخليط.
خلال فترة ارتيادي الكتاب، كنت أشعر بين الحين والآخر بالحزن والحسرة، وأنا أراقب أقراني في ذهابهم إلى المدرسة وإيابهم منها، وعلى الرغم من أنني كنت أجيد الكتابة والقراءة، فقد كنت اعتقد أن المدرسة تقدم أشياء أخرى مثل الأناشيد والحساب، بل وتعلم اللغة الفرنسية. وقد حاولت بجهدي الخاص أن أفك بعض حروف هذه اللغة، عندما قارنت كلمة «شرطة» في سيارة البوليس، بما يقابلها باللغة الفرنسية، ومع أني فشلت في مقابلة كل حرف بالعربية بمثله بالفرنسية، فقد اعتقدت أن حرف «الشين» الفرنسي هو «p»، لأنه كان يقابل مثيله العربي «ش»، في تلك السيارة.
لقد أمضيت سنة «بيضاء» تقريبا من حيث التعليم المدرسي، لكنني من ناحية أخرى عشت سنة زاهية، تمتعت فيها بقسط وافر من الحرية، وأعفيت خلالها من متاعب الدروس والامتحانات، بالإضافة إلى هذا وذاك، ارتويت من الفرجة كما ينبغي وتعددت أشكال وألوان هذه الفرجة.
كانت ذاكرة الفقيه المزمزي غريبة الأطوار، فقد كنت أنسل خلسة خارج الكتاب بعد الظهر، ولا أعود إلا في اليوم الموالي دون أن يظهر على الفقيه ما يشير إلى أنه انتبه لغيابي بالأمس. وعندما كنت انسل من الكتاب، أتجه أحيانا شرقا إلى الأرض العارية التي كانت تفصل يومئذ بين درب الشرفاء ومدرسة «كريت» للبنات، وكان جزء من تلك الأراضي يستغل ملعبا لكرة القدم، تتبارى فيه فرق الأحياء، وكانت الأجزاء الأخرى تحتضن أشكالا متنوعة من الحلقة، يستعرض فيها نجوم الكوميديا إبداعاتهم العفوية، يقدم فيها رواد العيطة والمولعون بتراث الحسين السلاوي، ما يروي عطش الجمهور العاشق.
في هذه الأجواء، تعرفت على الكوميدي الشعبي الشهير «نعينيعة»، وتتابعت مباريات الملاكمة، واستمعت إلى ترانيم باعة الحجاب المدسوس في المعدن.
وفي أحيان أخرى، كنت أتجه غربا عند مغادرتي الكتاب، وأقصد ملعب كرة القدم، الذي أصبح لاحقا يدعى ملعب «الفداء»، وفي هذا الملعب تجرى مباريات شيقة، وفيه عرفت فريق «الحياة» الذي حمل في ما بعد اسم «نجم الشباب»، وهناك عرفت فرقا أخرى لم نعد نسمع بها مثل «كوكب السعد».
ولم نكن في هذا الملعب نتابع مباريات كرة القدم فحسب، بل كنا نتزحلق في بعض منحدراته، فوق طينه الأصفر الموحل، مفترشين قطعة من الكرتون أحيانا، أو ملتصقين بالوحل مباشرة في أحيانا أخرى. ويبدو لي الآن أن تلك السنة لم تكن في الواقع سنة «بيضاء» بل كانت «وردية» عز نظيرها.
جريدة الصباح
غشت 2019